منظومة الحياة السعيدة تبتني على تحقق الركنين معاً، وان العدل مهما بلغت قيمته فان السعادة لا تتحقق به وحده بل لا بد من شفعه بالإحسان، فان حلاوة الحياة وجمالها إنما تكون فيما إذا تكللت العدالة بالإحسان، وزينتها وروعتها لا تتحقق إلا بان تطير الأمم وتحلق بجناحي العدل والإحسان معاً...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
والبحث يقع في فصلين: الأول: مسائل من فقه المجتمع يمكن ان تستنبط من الآية الكريمة. الثاني: العدل والإحسان في منظومة الحياة باعتبارهما كجناحي الطائر.
الفصل الأول: تعرف الأشياء بأضدادها
ان هنالك الكثير من الأحكام الفقهية التي يمكن استنباطها من الآية الكريمة، وقد سبقت الإشارة إلى العديد منها ونضيف هنا: ان القاعدة العامة تشير إلى ان الأشياء تعرف بأضدادها كما تعرف بأمثالها، فلو لم نكن رأينا السواد والبياض معاً لما أدركنا معنى السواد أصلاً، ولو لم نكن قد شاهدنا الأعمى والبصير، كما لو كنا عُمياً منذ الولادة لما أدركنا للبصر معنى ولا فهمنا للإبصار مغزى؛ فان المبصرين لو لم يكونوا قد رأوا العميان أو لم يعهدوا أبداً غمض العين لما أدركوا قيمة البصر ولا معناه، وإنما عرفوا قيمته عندما شاهدوا ضده وهو العمى أو عانوا من عدم الإبصار في حالك الظلام، وكذلك الخير والشر والغنى والفقر والبخل والجود، فـ(تعرف الأشياء بأضدادها) أما في أصل هويتها أو في حدود ماهيتها أو في جلاء صورتها.
أحكام فقهية تستنبط من آية العدل والإحسان
وفي الآية الشريفة نجد ان الله تعالى لم يقتصر على قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) بل أضاف إلى ذلك النهي عن الضد إذ يقول: (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ولذلك فوائد عديدة وهي تتنوع بين أصولية وفقهية وسوسيولوجية وسيكولوجية وغيرها، وسنقتصر الآن على بعض الثمرات الفقهية؛ ذلك ان الفقيه قد يتردد في صدق عنوان العدل على نوع أو مصداق، لكنه قد تتضح له الرؤية وتنجلي عنه الشبهة إذا عطف بصره على الضد وتدبر في مدى صدق عناوين المنكر والبغي والفحشاء وعدمه، ولنستشهد على ذلك بشواهد من فقه المجتمع وقعت محل الابتلاء الشديد:
تعاطي المخدرات أو تسويقها والإتجار بها
أولاً: تعاطي المخدرات، أو تسويقها والإتجار بها وبيعها، فقد يقال: بان الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، فللشخص ان يتعاطاها إذ لا يوجد دليل خاص على تحريمها؟
وقد يجاب: بان هنالك مجموعة من الأدلة يمكن ان يستدل بها على تحريمها:
ومنها: انها ملحقة بالخمر والمسكر في الحرمة، لا لتنقيح المناط الظني فانه ليس بحجة، بل للمناط المصرح به في بعض الروايات كقوله (عليه السلام) كما في الكافي بسند صحيح ((إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُحَرِّمِ الْخَمْرَ لِاسْمِهَا وَلَكِنْ حَرَّمَهَا لِعَاقِبَتِهَا فَمَا فَعَلَ فِعْلَ الْخَمْرِ فَهُوَ خَمْرٌ))(2) ومن الواضح ان الخمرة توجب ستر العقل وكذلك المخدرات حيث تغطي على العقل وتحجبه، فان (التخمير التغطية ومنه رَكْوٌ مخمّر أي مغطّى) و(سميت بذلك لمخامرتها العقل)(3).
ومن الواضح ان عاقبة تعاطي المخدرات هي نفس عواقب شرب الخمور. فتأمل.
ومنها: انها ضارة بصحة الإنسان وجسده وعقله و((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ))(4) خاصة بناء على مسلك شيخ الشريعة الاصفهاني من ان (لا) أريد بها النهي، وكذلك الأمر بناء على ان المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، بمعنى ان الحكم الضرري غير مجعول، مع الالتزام بان لا ضرر تفيد جعل الحكم أيضاً، على مبنى، نعم قد يعترض بان الإضرار القليل بالنفس والاضرار التدريجي وإن كانت محصلته النهائية بعد زمن طويل ضرراً بالغاً، لا دليل على حرمتهما، وهنا محل أخذ ورد يترك لمظانه.
ومنها: وهذا هو موطن الشاهد ومحل البحث؛ الاستدلال بالشطر الثاني من الآية الكريمة فان تعاطي المخدرات (منكر) بنظر العرف قطعاً، ولا يوجد للشارع مصطلح خاص فيه وليس من دائرة الحقائق الشرعية والمخترعات الشارعية، فالمراد به هو معناه العرفي وتعاطي المخدرات منكر عرفاً، ولئن شُكّ في كونه منكراً فلا شك في كون تسويقه وإغراء الشباب به وبيعه لهم، منكراً عرفاً بل ويصدق عليه (البغي) إذ هو اعتداء عليهم وظلم لهم بل ويصدق عليه الفحشاء أيضاً فانه تجاوز للحدّ وإفساد للعباد والبلاد.
خفض العملة
ثانياً: خفض سعر العملة، كما سبق، والآية الكريمة تصلح دليلاً إذ لا ريب في انه منكر عرفاً بل هو بغي وفحشاء، ألا ترى ان خفض سعرها يشكل سرقة مقنّعة؟ فان الحكومة قد لا يمكنها ان تسرق أموال الناس جهاراً إذ ان الناس سيقاومون ذلك عادة، لكن سرقة القوة الشرائية أمر خفي إلى حد ما. وقد لا يدرك كثير من الناس معناه وآثاره ولذا فانه لا يواجَه عادة بمقاومة تذكر، لذا تجد ان الحكومات خاصة المعاصرة تلجأ إلى خفض قيمة العملة والسرقة من القوة الشرائية بدل فرض الضرائب الإضافية أو مصادرة أموال الناس مباشرة، ولكن الخفض (منكر) قطعاً و(بغي) إذ انه يعني ان راتب المليون، مثلاً، الذي كانت تعطيه الحكومة للموظف أو الجندي والحارس والضابط أو المعلم والمدير والذي كان يمكنه به ان يؤمِّن احتياجاته من مأكل وملبس ومسكن ومركب.. الخ لمدة شهر، فانه بعد تخفيض العملة بنسبة 20% مثلاً لا يمكنه ان يغطي احتياجاته إلا لمدة 24 يوماً مما يعني ان الحكومة سرقت منه جهد ستة أيام وانقصت من راتبه المقرر بذلك القدر.
ولقد كان من العسير على الحكومات ان تسرق العملات الذهبية أو الفضية أو النحاسية من الناس وذلك لانكشاف هذا النوع من السرقة فوراً، لكن تحويل النقود إلى ورقية وإن كانت له فوائد كبيرة إلا انه استبطن أضراراً كبرى أيضاً، ومنها تمكين الحكومات والبنوك المركزية من سرقتها ببساطة تامة ومن دون ان تثير ردود فعل قوية من عامة الناس، وأما الخاصة فان من الممكن إرضاؤهم بإشراكهم في بعض الغنائم أو بمنحهم بعض الامتيازات أو تهديدهم بالعصى الحارة إن لم تنفع معهم الجزرة الحلوة.
الإكراه الاجوائي
ثالثاً: الإكراه الاجوائي، فقد ارتآى السيد الوالد (قدس سره) حرمته، استناداً إلى انه نوع من الإكراه بالحمل الشائع الصناعي فتشمله أدلة حرمة الإكراه، ونضيف: ان الشطر الثاني من الآية الكريمة شامل له أيضاً فانه (منكر) و(بغي) على الناس من دون ريب.
والإكراه الاجوائي يمكن ان يتجسد في حالات كثيرة وصور متنوعة، فلو اتفق الأطباء جميعاً في احدى البلاد على رفع أسعار معاينتهم للمرضى فوق الحد المتعارف، فقد يُتوَهَّم انه مشمول لقاعدة الناس مسلطون من جهة وانهم لم يفعلوا محرماً من جهة أخرى لأنهم لم يكرهوا أحداً على مراجعتهم إذ للمريض ان يُحجِم عن الذهاب إليهم، لكن الواقع هو انه نوع من الإكراه المسمى بالاجوائي فان المرضى مضطرون إلى الرجوع إلى الأطباء فيكون التواطئ لفرض تعريفة مرتفعة وقيمة غالية، استغلالاً سيئاً لحاجتهم ومصداقاً (للمنكر) عرفاً و(للبغي) على الناس بل و(الفحشاء) أيضاً.
وكذلك لو اتفق أصحاب الحافلات وسيارات الأجرة على رفع القيم، أو اتفق أرباب الدور على بيعها أو تأجيرها بأغلى من سعرها، فوق الحد المتعارف.. وهكذا وهلم جرا.
إيقاف الناس في طوابير طويلة
رابعاً: إيقاف الناس والمراجعين في صفوف طويلة أو في قاعات الانتظار بغية التبجح بكثرة المراجعين، وتوضيح ذلك: ان الطبيب – الإنسان يراعي حقوق الإنسان والمرضى قدر المستطاع ولذلك فانه يحدد للمريض وقتاً للمريض الثاني فالثالث وقتاً آخر بعد سابقه بخمس دقائق أو عشرة أو ربع ساعة، حسب خبرويته بالحالات، ولذلك فان المرضى لا يزدحمون في قاعة الانتظار في المطب والمشفى ولا تضيع أعمارهم وأوقاتهم في صفوف انتظار طويلة، ولكن بعض الأطباء يعطي للكثير من المرضى وقتاً واحداً هو الساعة الثامنة مثلاً، ويستهدف بعضهم من ذلك ان يزدحم المطب بالمراجعين كي يتوهم المراجع انه طبيب مهم مرغوب فيه لذا ازدحم مطبه عكس ما لو دخل المراجِع فوجد مريضاً واحداً قبله فقط!
أقول: قد يقال بان تعمد ذلك قد يعدّ عرفاً من المنكر والبغي فانه استغلال لحاجة المرضى بغير وجهٍ حق بل لمجرد التفاخر والاستعلاء، مع ان المرضى عادة يتألمون من تضييع ساعات طويلة في الانتظار وكثير منهم يتضررون بذلك ويقعون في أشد الضيق والعَنَت إضافة إلى انه نوع إضاعة لأوقاتهم دون ريب، فهو بغي عليهم وعدوان، نعم ربما تكون الأعراف مختلفة والحالات متنوعة فقد لا يصدق عليه المنكر في عرفٍ أو حالة ويصدق عليه ذلك في عرف آخر أو حالة أخرى.
الصلاة فرادى رغم وجود الجماعة
خامساً: الصلاة فرادى في المسجد رغم وجودِ صلاةِ جماعةٍ قائمة، فانه قد يكون حراماً إذا عدّ هتكاً عرفاً، وذلك جارٍ حتى وإن اعتقد المنفرد عدم عدالة الإمام، وذلك لأن العدالة شرط علمي وليست شرطاً واقعياً فصلاة المأمومين صحيحة وإن كان الإمام فاسقاً ما داموا لا يعلمون بفسقه، فصلاته منفرداً هتك له، وأما النهي عن المنكر فانه داخل في دائرة التدرج إذ لا يجوز نهيه العلني مادام يمكن ردعه سراً، على انه قد لا تشكّل هذه الطريقة ردعاً بل قد تنتج نقيضاً، وعلى أي فان الحالات مختلفة باختلاف نوع أئمة الجماعات ونوع الحضور وتلقيهم عن انفراد شخص بالصلاة، ونوع الشخص المنفرِد وانه شخص عادي، كبقال أو عطار، أو شخصية مهمة، وانه يحتمل في حقه عقلائياً ان يكون انفراده لكونه في عجلة من أمره أو شبه ذلك أو كونه ظاهراً في عدم إيمانه بعدالة الإمام، وصفوة الكلام: انه متى عُدّ منكراً عرفاً أو بغياً شمله قوله تعالى (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
الفصل الثاني: العدل والإحسان جناحا السعادة وركنا السيادة
إن المفكر من الناس إذا تدبر في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) وفي السرّ الكامن خلف الأمر بهذا الثنائي معاً، قد يكتشف وجوهاً رائعة متنوعة تكشف الستار فيما تكشف عن ان منظومة الحياة السعيدة تبتني على تحقق الركنين معاً، وان العدل مهما بلغت قيمته فان السعادة لا تتحقق به وحده بل لا بد من شفعه بالإحسان، فان حلاوة الحياة وجمالها إنما تكون فيما إذا تكللت العدالة بالإحسان، وزينتها وروعتها لا تتحقق إلا بان تطير الأمم وتحلق بجناحي العدل والإحسان معاً، وكذلك الشعوب، والعشائر والأحزاب والشركات والعوائل والأفراد أيضاً.
الحياة الزوجية في ظل ثنائي العدل والإحسان
ويكفي ان نسلط العدسات الآن على الحياة الزوجية كانموذج بارز وكشاهد صدق على ذلك إذ نجد انها لا تحلو ولا تصفو ولا تزهو إلا بالإحسان بعد العدل: فعلى سبيل المثال فان المشهور ان الرجل له على المرأة حق الاستفراش وله عليها حق ان لا تخرج من المنزل إلا بإذنه، فله ان يمنعها من الخروج دائماً، ولكن هل تصفو الحياة بذلك؟ أم لا تزهر وتثمر وتحلى إلا بالإحسان وان يسمح الرجل لها بان تخرج لزيارة والديها وأقربائها وللاشتراك في المجالس وشبه ذلك مما جرت عليه الأعراف؟ والعكس بالعكس فان المشهور ان المرأة لا يجب عليها القيام بأي نوع من أنواع الخدمات المنزلية من طبخ أو كنس أو رعاية للأطفال وشبه ذلك، فذلك هو مقتضى العدل ولكن هل تصفو الحياة الزوجية وتزهر وتزهو بتشبث كل من المرأة أو الرجل بمرّ الحق؟ كلا.. إنما تزهر الحياة وتسعد بالتزام الرجل بالإحسان إلى المرأة والتزام المرأة بالإحسان إلى الرجل، فإحسانه أن يوسع عليها ولا يضيّق وإحسانه ان تخدم أسرتها ولا تمتنع.
وذلك كله على المشهور؛ أما السيد الوالد فانه يرى ان الرجل وإن كان له على المرأة حق أن لا تخرج إلا بإذنه لكنه مأطّر بإطار (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(5) وليس من المعروف ان يمنعها من زيارة والديها وأقربائها بالقدر المتعارف أو من سائر الشؤون العرفية كالزيارة مثلاً بالمعروف، وأما السيد العم فانه يرى ان حق الرجل على المرأة بان لا تخرج إلا بإذنه إنما هو طريقي إلى الاستفراش وان حقه هو هذا الأخير فقط فإذا لم يعارض خروجُها حقَّه في الاستفراش، كما لو لم تكن له رغبة الآن، فليس له الحق في منعها من الخروج.
وعلى أي فان الشاهد ان حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل، مما لا شك في انها من مقتضَيات العدل حسب ما قررته الشريعة الغراء ولكن ذلك لا يكفي بل لا بد من شفعها بالإحسان ثم الإحسان ثم الإحسان كي تسعد الحياة الزوجية؛ ولعل ذلك من أسرار ورود ثنائية العدل والإحسان في الآية الكريمة باعتبارها متعلَّقه لمادة الأمر فتدبر.
صاحبا الرياض والمناهل، أسمى مثال للعدل والإحسان
وختاماً: فان من أروع القصص التي تجسد بكاملها كلا جناحي العدل والإحسان وتمنحنا انموذجاً فريداً من مظاهر السمو الروحي والخلق الملائكي لعلمائنا الأبرار، قضية السيد علي صاحب الرياض (المتوفى 1231) مع ابنه السيد محمد المجاهد صاحب المناهل والمفاتيح (المتوفى 1242) فلقد كان الأب وابنه كلاهما من فطاحل العلماء، وكانا يسكنان في كربلاء، ورغم ان الابن كان من تلامذة الأب، إلا انه سرعان ما اشتد عوده وغزرت معارفه ورسخ علمه، حتى بلغ مرحلةً استظهر معها والده انه، أي ابنه، أعلم منه، وعندما استظهر الوالد ذلك امتنع عن الفتيا إذ كيف يفتي وفي البلد من هو أعلم منه؟ وذلك مما يكشف لنا عن مدى ورعه وتقواه إذ ان رجوع الناس إلى الإنسان، مصدر عزّ وفخر والمرجعية مكانة عظمى، لكنه تنازل عن ذلك كله، طوعاً وبمبادرة ذاتية، فور ان علم ان هناك من هو أعلم منه رغم كونه تلميذه وابنه؟ فذلك هو مقتضى العدل والحكمة ووضع الأشياء مواضعها، إلا ان الابن، صاحب المناهل السيد محمد المجاهد الذي لقب بالمجاهد لأنه انطلق إلى جهاد الروس عندما احتلوا إيران زمن فتح علي شاه، لم يكن يقل عن أبيه ورعاً وزهداً، فلما علم ان والده امتنع عن الفتيا ولم يكن يمكنه ان يُرجِع الناس إلى والده قهراً ولا كان بإمكانه ان يثني والده عن عزمه جزماً لأنه كان يرى تعيّن تقليد الأعلم ولو احتياطاً، لذلك وجد الابن المخلص الوحيد في ان يسلك طريق الإحسان بعد ان سلك والده طريق العدل.. وهكذا قرر ان يخرج من كربلاء نهائياً، كي تبقى المرجعية لوالده، فهاجر إلى أصفهان، فانه حيث لم تكن وسائل التواصل حينذاك موجودة، لذلك كان لا بد للاب من ان يفتي حينئذٍ إذ انسدّ باب الوصول للأعلم مع هجرة الولد إلى مكان بعيد ناءٍ! وهكذا امتثل الولد لقوله تعالى: (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)(6) وبقي في أصفهان مدة ثلاث عشرة سنة رغم صعوبة فراق الابن لأبيه خاصة مثل ذلك الوالد العظيم، حتى إذا بلغه نبأ وفاة والده عاد إلى كربلاء فكانت المرجعية العليا له بعد وفاة والده قهراً بعد ان رفضها في حياته طوعاً.
والآن.. ألا نتجسد جميعاً مدى روعة هذا الانموذج التي يجسد العدل في جانب والإحسان في جانب؟ فهكذا الحياة كلها إنما تحلو وتصفو وتزدهر وتتكامل بالعدل والإحسان.
اللهم ربنا وفّقنا لكي نكون في طليعة من يعدل في بريتك وبلادك ويحسن إلى خلقك وعبادك، وممن تنتصر به لدينك وتحيي به ما اندثر من سنن نبيّك (صلى الله عليه وآله) ولا تستبدل بنا غيرنا وعجل لوليك الأعظم الفرج في عافية منّا يا خير المسؤولين وأوسع المعطين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق