من أهم مصاديق العدل والذي يقابله في الجانب الآخر البغي والمنكر والفحشاء، الذي نهى عنه تعالى محافظة الحكومة على قيمة العملة في حدها الطبيعي المتقوم بحجم وكمية الغطاء الذي تستند إليه وبمعادلة العرض والطلب بحسب قواعد السوق الحرة من دون تدخل خارجي وتلاعب بأي واحد من الركنين: العرض والطلب...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1).
والبحث يدور، في هذه الحلقة، عن محورين: محور الإحسان كشرط من شرائط قبول الأعمال، ومحور العدل على مستوى أحد أهم مفرداته ومصاديقه وهو (قيمة العملة):
شروط الصحة وشروط القبول
المحور الأول: الإحسان، باعتباره شرطاً من شرائط قبول العمل، ولتوضيح هذا المفهوم لا بد ان نستحضر ان الشروط على قسمين: شروط الصحة، وشروط القبول.
أما شروط الصحة، فهي تلك الشروط التي يفسد العمل من دونها ويبطل، كالطهارة من الحدث الأكبر والأصغر في الصلاة؛ إذ تبطل الصلاة من دون الوضوء أو الغُسل لمن أجنب مثلاً.
وأما شروط القبول، فهي تلك الشروط التي يصح من دونها العمل ويسقط التكليف ولا يستحق العبد العقاب مع إتيانه الواجب من دونها، ولكنه لا يُقبل منه العمل بمعنى انه لا يستحق به الثواب على الله تعالى (أي الاستحقاق الثانوي إذ الاستحقاق الأولي على الله جل وعلا غير ثابت لمخلوق أبداً) كما يفسّر العمل غير المقبول أيضاً بانه العمل الذي لا يورث القرب إلى الله تعالى وان كان دافعاً للعقاب مع امتثال الأمر المتعلق به.
والمثال المعروف لذلك حضور القلب في الصلاة إذ تصح الصلاة من دونه ولا تبطل ولكنها لا تعدّ مقربّة إلى الله تعالى بنفس نسبة عدم حضور القلب ولا موجبة للمثوبة بنفس النسبة.
والمثال الآخر المشهور أيضاً ولاية أهل البيت (عليهم السلام) فان المشهور بين الفقهاء استناداً للروايات الكثيرة عدم قبول الأعمال إلا بها فهي شرط القبول لدى المشهور وقال الأقل بانها من شروط الصحة وان العمل من دونها باطل.
والأبيات التالية تصوّر شرطية المحبة في قبول الأعمال:
لو أن عبـداً أتى بالصالحاتِ غداً
وودَّ كـل نبيٍّ مـرسـلٍ وولي
وصام ما صام صواماً بلا ضـجر
وقـام ما قام قوامـاً بلا مـلل
وحج ما حجَّ من فرض ومن سُنَنٍ
وطاف ما طاف حافٍ غيرَ مُنتعل
وطار في الجوِّ لا يـأوي إلى أحد
وغاص في البحر مأموناً من البلل
يكسو اليتامى من الديباج كُلِّهِمُ
ويُطـعم الجائعـينَ البُرَّ بالعَـسَل
وعاشَ في النـاس آلافاً مـؤلفة
عار من الذنب معصوماً من الزلل
ما كان ذلك يـوم الحشر ينفعه
إلا بحُـبِّ أمير المـؤمنين عـلي
وتدل على اشتراط الولاية في قبول الأعمال الروايات الكثيرة الواردة من طرق الخاصة والعامة كـ(يَا عَلِيُّ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ)(2)، والإيمان شرط قبول الأعمال، و(يَا عَلِيُّ طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَقَ فِيكَ وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَبَ بكَ)(3)، وبالإسناد عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لنا علي بن الحسين (عليه السلام): (أَيُّ الْبِقَاعِ أَفْضَلُ؟ فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ رَسُولِهِ أَعْلَمُ، فَقَالَ: أَمَّا أَفْضَلُ الْبِقَاعِ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عُمِّرَ مَا عُمِّرَ نُوحٌ (عليه السلام) فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ وَلَايَتِنَا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئاً)(4) و(كتاب سلام ابن أبي عمرة، عن أبي حمزة قال: (كُنْتُ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، قَدْ يَصُومُ الرَّجُلُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَتَصَدَّقُ وَلَا نَعْرِفُ مِنْهُ إِلَّا خَيْراً إِلَّا أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ!
قَالَ: فَتَبَسَّمَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ أَنَا فِي أَفْضَلِ بُقْعَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، لَوْ أَنَّ عَبْداً لَمْ يَزَلْ سَاجِداً بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ حَتَّى يُفَارِقَ الدُّنْيَا لَمْ يَعْرِفْ وَلَايَتَنَا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئاً)(5).
روي بالإسناد عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (يَا مُعَلَّى لَوْ أَنَّ عَبْداً عَبَدَ اللَّهَ مِائَةَ عَامٍ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى يَسْقُطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَيَلْتَقِيَ تَرَاقِيهِ هَرَماً جَاهِلًا بِحَقِّنَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ)(6)
روي بالإسناد عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن الحسين بن علي c قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الْزَمُوا مَوَدَّتَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ يَوَدُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَتِنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْتَفِعُ عَبْدٌ بِعِلْمِهِ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ حَقِّنَا)(7)
ويمكن التمثيل لشرط القبول بأمثلة عرفية قريبة إلى الذهن فلو انك طلبت من صديقك قرضاً بلا فائدة، فأقرضك باحترام فقد أكمل الإحسان وحظي عمله لديك، ولدى الله تعالى، بالقبول التام، ولكنه لو أقرضك مع إهانة فانه وإن قضى حاجتك إلا انه حيث أهانك، لا يحظى عملُه لديك بالقبول ولا يفيده ذلك قرباً إليك ولا يستحق به المثوبة حيث احبط عمله بهتكك.
مثال آخر: شراء الإنسان للفاكهة، مشروط بكونها صحيحة غير فاسدة، فعدم فسادها شرطٌ للزوم العقد إن اعتبرنا الصحة شرطاً ارتكازياً، وأما إن كانت قيداً فانه لا يكون صحيحاً من دونها فهي حينئذٍ شرط صحته، لكن نظافة الفاكهة شرط القبول والرغبة لا شرط اللزوم والصحة، والمثال للتقريب إلى الذهن فقط.
الإحسان شرط من شروط قبول الله للطاعات
والمستفاد من بعض الروايات ان الإحسان إلى الإخوان شرط قبول الأعمال بمعنى انك مهما صلّيتَ وصمتَ وزكّيت وخمّست وحججت واعتمرت وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، إلا ان ذلك إذا تجرد عن مسك الختام بالإحسان إلى الإخوان، كان غير مقبول عند الله تعالى، بمعنى انه لا يقربك إليه، ولا يحببك لديه ولا تستحق به عليه الثواب الذي ألزم به نفسه تفضّلاً، وهذا يعني انك إذا أردت القرب إلى الله تعالى عبر عباداتك فلا يمكن لك ذلك إلا بشفعها بالإحسان إلى الإخوان كما انك إذا أردت ان تكسب محبته لك أو تحصل على ثوابه فلا محيص لك إلا عبر سلوك طريق الإحسان.
فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه الصلاة والسلام (إِنَّ خَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ قَضَاءُ حَوَائِجِ إِخْوَانِكُمْ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ مَا قَدَرْتُمْ، وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ مِنْكُمْ عَمَلٌ، حَنُّوا عَلَى إِخْوَانِكُمْ وَارْحَمُوهُمْ تَلْحَقُوا بِنَا)(8).
والرواية صريحة في عدم قبول أي عمل من الإنسان إذا لم يقضِ حوائج إخوانه ولم يحسن إليهم، مما يعني انك إذا أردت ان تختم أعمالك، بل أي عمل لك، بالقبول الإلهي فأحسن إلى بعض الإخوان أو أقض حاجته، والحاجة قد تكون توفير قرض له وقد تكون التوسط لتزويجه أو لإطلاق سراحه من السجن إن كان مظلوماً، أو لحل مشكلته العالقة في دائرة من الدوائر، وقد تكون الإصلاح بينه وبين جاره أو شريكه أو زميله أو قريبه، وقد تكون حتى بتقديم الطعام له أو غسل الأطباق في منزله أو في المنزل كنوع من الإحسان للمرأة ولأهل الدار، فذلك هو صريح قوله (عليه السلام) (وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ مِنْكُمْ عَمَلٌ).
وأما مفردة (إِنَّ خَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ قَضَاءُ حَوَائِجِ إِخْوَانِكُمْ) فتعني انك إذا اردت ان تختم أعمالك بالقبول بان تغلق ملفات أعمالك وهي مقبولة فأحسن للإخوان وأقض حوائجهم، و(خَوَاتِيمَ) استعارة من ختم المظروف فان الملوك والشخصيات والمسؤولين، وربما غيرهم أيضاً، كانوا إذا أرادوا إرسال رسالة وضعوها في مظروف وأغلقوه وختموا عليه بختم، وذلك أولاً: كي يُحفظ ويُصان من ان يُستطلع ما فيه ويُتجسس عليه إذ ان ذلك سوف ينكشف إذا كُسِر الختم، وثانياً: كي تكون للرسالة رسمية واعتبار وحجية وقبول، وإلا لم يقبلها الطرف الآخر أو عدّ إرسالها من دون ختم انتهاكاً لحرمته أو إهمالاً لواجب أخلاقي عرفي عقلائي، وكذلك أعمالك الصالحة من صلاة وصيام وغيرها إذا أردت إرسالها إلى ربّ السماء سليمة مصونة محفوظة فأختمها بالإحسان وقضاء حوائج الإخوان كي تكون معتبرة – رسمية – وكي تحظى بالقبول والحفظ والصون.
العدل على مستوى بعض المفردات: قيمة العملة
المحور الثاني: العدل على مستوى بعض مفرداته وتمظهراته
إن من أهم مصاديق العدل والذي يقابله في الجانب الآخر البغي والمنكر والفحشاء، الذي نهى عنه تعالى بصريح القول (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(9) محافظة الحكومة على قيمة العملة في حدها الطبيعي المتقوم بحجم وكمية الغطاء الذي تستند إليه وبمعادلة العرض والطلب بحسب قواعد السوق الحرة من دون تدخل خارجي وتلاعب بأي واحد من الركنين: العرض والطلب، ولا بد من ان نوضح ذلك بشيء من التفصيل المبسط فنقول: ان السرقات على قسمين:
السرقات المكشوفة
القسم الأول: السرقات الصريحة المكشوفة وهي معروفة إذ ان كل لص يدخل الدار أو الشركة، عَنوة أو خِلسة، فيسرق منها أموالاً أو مجوهرات أو وثائق فهو سارق مكشوف، وكذلك كل حكومة تصادر أراضي الناس أو شركاتهم أو تتهدد من لا يشركها في أرباحه، فهي سارقة دون ريب، وهذا النوع من السرقات يعرفه كافة الناس، لذلك فان الكل يشعر به ويعرف مدى قبحه وبشاعته ويقاومه إن استطاع.
السرقات المقنعة
القسم الثاني: السرقات المقنعة، وهي على أقسام ومنها سرقة القوة الشرائية للعملة، وهذا النوع من السرقات أشد خطورة من النوع الأول إذ لا يعلم غالب الناس بوقوعه وإذا علموا به لم يدركوا انه يشكل سرقه من أموالهم ولكن بقفاز حريري، وعلى سبيل المثال: فانك لو كنت تمتلك مائة مليون دينار وكان يمكنك ان تشتري بها منزلاً من مأة متر مثلاً، فان السارق المكشوف إذا سرق منك خمسين مليون دينار فرضاً فلا يمكنك ان تشتري حينئذٍ إلا خمسين متراً، أما السارق المقنع، الحكومات الديمقراطية منها والمستبدة إذا خفضت قيمة العملة بقرار أو طبعت كميات أكبر من النقد، فإنها بدل ان تسرق من العملة نفسها تسرق من قيمتها وذلك بخفض قوتها الشرائية، فعلى الرغم من ان المأة مليون دينار لا تزال بيدك الآن (ولذا قد لا تشعر بان سرقة قد حدثت) إلا انك لا يمكنك ان تشتري بها إلا خمسين متراً فيما لو انخفضت قيمتها إلى النصف.
عوامل انخفاض العملة
ولانخفاض العملة أسباب عديدة قد تصل إلى عشرة أسباب، لكننا هنا نستعرض عاملين من أهم عواملها والتي تشكل سرقات الحكومات المقنعة من أموال الشعب، وهما كالآتي:
خفض العملة بقرار من الحكومة
أولاً: خفض العملة بقرار من المصرف المركزي، وذلك كما تصنعه الصين إذ خفضت قيمة اليوان بقرار سلطوي لأجل مصالح تصديرية لكن ذلك يعني في الوقت نفسه السرقة من مليار واربعمأة مليون صيني، من القوة الشرائية للأموال التي تصل بأيديهم.
والمثال الآخر: خفض المصرف المركزي العراقي قيمة الدينار والذي يرى الخبراء انه ناتج عن سوء التدبير وضعف الكفاءة في إدارة الموارد واستثمارها، حيث كان كل ألف ومأتي دينار يعادل دولاراً واحداً، (وفي عمق الزمن كان الدينار أقوى فأقوى) ثم خفض المصرف المركزي العراقي قيمة الدينار حتى أصبح كل ألف وخمسمأة دينار يعادل دولاراً واحداً(10) (مما سبّب غلاء السلع والخدمات وارتفاع أسعار كل شيء، الذي يعد الوجه الآخر لانخفاض قيمة الدينار) وذلك يعني انك إذا كنت تستطيع ان تشتري سابقاً منزلاً بمأة وعشرين مليون دينار فانك لا تستطيع ان تشتريه الآن إلا بمأة وخمسين مليون دينار أي أن قوة الـ150 مليون تنزّلت إلى قوة 120 مليون فقط، ولئن كانت الحكومة الصينية تفلسف ذلك بـ(التزاحم) مع مصلحة التصدير (لأن خفض قيمة العملة يساعد على زيادة نسبة الصادرات رغم انها ليست صحيحة لأن مقدار السرقة من عامة الشعب عبر خفض قيمة العملة لهو أكبر حجماً بكثير من المنافع التي يحصل عليها المصدّرون(11)، إضافة إلى انه لا تجوز السرقة من شخص لمصلحة شخص آخر وغير ذلك مما تجد تفصيله في بحوث الاقتصاد) إلا ان الحكومة العراقية لا تمتلك مثل هذه الحجة؛ إذ انها لا تعتمد على تصدير خدمات وسلع غير النفط كمصدر أساسي لتنشيط الاقتصاد كما انها لم تعتمد سياسة تصديرية نشطة تستمد قوتها من خفض قيمة العملة.
طباعة النقد بأكثر من الغطاء المتوفر
ثانياً: خفض العملة عبر طباعة الحكومة للنقد بأكثر من الغطاء المتوفر له، فلو فرض ان الحكومة كانت تمتلك مليون كيلو من الذهب(12) وكان كل كيلو يُقيّم بعشرين ألف دولار مثلاً(13) فذلك يعني ان لها ان تطبع عشرين مليار دولاراً أو ما يعادلها، فلو استخرجت مليون كيلو آخر من الذهب كان لها ان تطبع عشرين مليار أخرى أو ما يعادلها، لكنها إذا لم تستخرج ذهب أصلاً ومع ذلك طبعت عشرين مليار دولار أخرى إضافية، فان قيمة الدولار ستنخفض حينئذٍ إلى النصف أو أكثر، بحسب تدخل عوامل أخرى، سيكولوجية وغيرها، وتشير إلى جانب من ذلك معادلة فيشر MV=PT وM تشير إلى متوسط كمية النقود في الاقتصاد خلال فترة معينة، لأن الورق لا قيمة له بل قيمته بالغطاء والخلفية وما يحمي ظهره، وعلى ذلك تتوزع قيمة المليون كيلو على أربعين مليار بدلاً من توزعها سابقاً على عشرين مليار، وبعبارة أخرى: بطباعة الحكومة عشرين مليار أخرى، يزيد عرض النقد إلى الضعف من دون زيادة واقعية في الغطاء والمستند، وكلما زاد العرض ارتفع السعر فتنخفض بذلك القيمة إلى النصف، في صورة تحييد سائر العوامل(14) تماماً، فهذا نوع مشهور من سرقة القوة الشرائية لدى الناس، وذلك لأن من كان يمتلك ألف دولار مثلاً فان قيمته تنخفض إلى النصف، أي 500 دولار، نتيجة طباعة المصرف المركزي للعملة الإضافية بمقدار 20 مليار، وتَحِلّ هذه الفاجعة بأموال كافة الناس على امتداد الوطن.
انخفاض الدولار أربعين مرة!
ويعد ذلك من الأسباب الأساسية الكامنة وراء انخفاض قيمة الدولار المتواصل، حتى لقد انخفضت قيمته منذ عام 1973 وحتى الآن أربعين مرة، أي أربعين ضعفاً، بحسب العديد من الخبراء! وهذا يعني ان أربعين ألف دولار الآن تساوي ألف دولار فقط من قيمته السابقة، بعبارة أخرى: إذا كان بمقدورك ان تشتري بالألف دولار عام 1973 سيارة واحدة فخمة فانك لا تستطيع ان نشتريها الآن إلا بأربعين ألف دولار! بعبارة ثالثة: كان يمكنك عام 1973 ان تشتري بأربعين ألف دولار أربعين سيارة أما الآن فلا يمكنك ان تشتري بها إلا سيارة واحدة! وهكذا حلّ هذا البلاء على قيمة المنازل والأراضي وغيرها.
فك أمريكا ارتباط الدولار بالذهب
ويعود ذلك إلى ان الرئيس الأمريكي نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971ثم استقر الأمر عام 1973(15)، وكانت أمريكا قد تكفلت في بريتون وودز نهاية الحرب العالمية الثانية بان توفّر دولارات بقدر ما تملكه من الذهب، وتعطيها لدول العالم الصناعي (وغيره بالتبع) كي يكون الدولار هو العملة المتداولة والسائدة عالمياً وتكفلت لدول العالم متى أرادت استرجاع الذهب، بان تعطيها من الذهب بمقدار ما تُرجع تلك الدول من الدولارات إلى أمريكا، لكن الذي حدث ان أمريكا قامت بخيانة الدول الصناعية الأوروبية ودول العالم فطبعت من الدولارات بأكثر مما تمتلكه من الذهب، أي طبعت أوراقاً مالية من دون غطاء، أي انها أعطت لأوروبا أوراقاً (دولارات) بلا غطاء من الذهب، مما شكّل ذلك سرقة خفية من أموال العالم(16)، فلو فرضنا أمريكا كانت تمتلك خمسة ملايين كيلو من الذهب كان لها ان تطبع مائة مليار دولار، لكنها، سرّاً وخيانة، طبعت مأتي مليار مثلاً، لتمول حرب فيتنام وغيرها، وعندما اكتشفت الدول الأوروبية ذلك تعالت أصواتها محتجة على هذه السرقة المقنعة وهنا طالب شارل ديغول الرئيسُ الفرنسي، الرئيسَ الأمريكي بمقتضى الاتفاقية السابقة بان يرجع إليه الذهب، أي بان تستلم أمريكا دولاراتها وتعطي معادلها ذهباً لفرنسا وبالقيمة الصحيحة الأصلية الذهب، لكن نيكسون أعلن، بكل صلافة، فك ارتباط الدولار بالذهب وان أمريكا لم تعد متكفلة بالعمل بوعدها وعهدها واتفاقها السابق بتسليم الذهب مقابل استرجاع الدولار (كونها مخادعة لا تملك تلك الكمية من الذهب إذ انها طبعت دولارات أكثر بكثير من الذهب المتوفر لديها) وهكذا انكشفت السرقة الأمريكية، وانخفضت قيمة الدولار نتيجة انكشاف الأمر، ولأسباب عديدة أخرى.
كيف يشكل خفض العملة، سرقة حكومية؟
ولكي يتضح أكثر كيف ان الحكومات تسرق من أموال الشعب عبر خفض قيمة العملة، نذكر وجهاً آخر للسرقة إضافة إلى ما سبق وهو ان الحكومة لو كانت تدفع للموظفين، من جنود ومعلمين وموظفين في الوزارات وأشباههم وهم يتراوحون بين مآت الآلاف إلى الملايين، مثلاً ما يعادل تريليون دينار أي مليار دولار (على فرض ان سعر الدولار ألف دينار) فان الحكومة حيث انها دولة ريعية تعتمد على النفط فإنها تبيع النفط وهو ملك الشعب فتحصل على مليارات الدولارات، ومنها ما يعادل مليار دولار = تريليون دينار المخصصة للموظفين، لكنها مع تخفيض سعر الدينار إلى النصف مثلاً (عبر طبع الدينار بمقدار الضعف، أو عبر قرار من المصرف المركزي) فإنها ستشتري بالمليار دولار تريليونين من الدنانير فتدفع تريليوناً منها للموظفين(17) وحيث انخفضت قيمة الدينار إلى النصف فهذا يعني ان الموظف الذي كان يستلم مليون دينار سابقاً يستلم الآن في الواقع نصف مليون دينار فقط وإن كان الحجم مليوناً لكن القوة الشرائية هي بمقدار نصف مليون فقط.
بعبارة أخرى: كان سابقاً بمقدوره ان يشتري بالمليون ديناراً مائة متر من الأرض (على أساس كل متر عشرة آلاف دينار) لكنه الآن لا يستطيع ان يشتري إلا 50 متراً (لأن الدينار انخفضت قيمته إلى النصف بينما بقيت قيمة الأرض على حالتها الطبيعية).
وذلك كله طبعاً مع تحييد سائر العوامل ذات المدخلية في ارتفاع وانخفاض قيمة الأرض أو سائر السلع والخدامات، وإلا فان الغلاء قد يكون أكثر، لعامل سيكولوجي مثلاً، وقد يكون أقل لزيادة عرض الاراضي مثلاً(18).
تتمة: من 1 إلى 22 يوليو من عام 1944 في غابات بريتون وودز في أمريكا تمّ تثبيت سعر صرف الدولار الأمريكي أمام الذهب لكي يعادل كل دولار 35 أوقية من الذهب وقد حضر المؤتمر 730 مندوباً يمثلون 44 دولة لوضع مخطط لأجل استقرار النظام العالمي المالي والفوركس وتشجيع نمو التجارة الدولية بين الدول الصناعية الكبرى، وقد جرى في المؤتمر تحديد سعر لكل عملة مقابل كل من الدولار والذهب، وقد أُسِّس على ضوء مخططات بريتون وودز كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير كأذرع تنفيذية لتلك الاتفاقيات، وقد استمر العمل بهذا النظام حتى 15/ أغسطس / 1971 عندما أعلن نيكسون فيما أسمي بصدمة نيكسون وقف العمل بقاعدة تبديل الدولار بالذهب (وهو أهم ركن من أركان نظام بريتون وودز) ثم وبحلول 1973 استبدل نظام بريتون وودز بحكم الأمر الواقع إلى نظام تعويم العملات الورقية الساري المفعول حتى الآن.
وكانت قاعدة تبادل الذهب هي المتبعة عالمياً منذ 1876 حتى الحرب العالمية الأولى فكان الذهب هو الذي يدعم سعر العملات لذا تمتعت العملات بعصر من الاستقرار حتى ذلك الحين.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق