وصف الله سبحانه جهنم بـ(الأم)، وهذا الوصف زيادة من التأكيد على مصير أهل النار، فهي ملجأهم، ومستقرُّهم، يعودون لها كما يعود الولد الصغير إلى أمّه، إذا ما أراد الأمان والاستقرار، فلا استقرار لهم، ولا أمان، إلا في نار وصفها الله بالحامية؛ تمييزا لها عن نار الدنيا...
{الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}.
قبل الحديث عن الأبعاد الدلالية لسورة القارعة، لا بدَّ من التأصيل لبعض ألفاظ الآية.
(القارعة) في اللغة هي: الضرب بشدَّة واعتماد، نحو: (قَرَعَ البابَ)، أي: ضربها بشدَّة، وسُمِّيت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر بالقارعة أيضا، قال تعالى: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ). أمّا (الفراش المبثوث)، فهو الحيوان الذي يتهافت في النار، وسمّي بذلك؛ لتفرّشه وانتشاره، وقال بعضهم: هو الجراد الذي ينفرش، ويركب بعضه بعضا، وهم غوغاء الجراد، وهذا حال الناس يوم القيامة، قال تعالى: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ).
وسمّي يوم القيامة بالقارعة؛ لأنّه يوم التضارب والتداق، إذ يتضارب الكون ويضطرب، بقرع الأنجم، والكواكب ببعضها، لحدِّ الانتشار، قال تعالى: (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ)، ففي يوم القيامة تُقرَع القلوب بالفزع، ويُقرع أعداء الله بالعذاب، وأوّل قرعٍ للخلق، هو الصيحة التي تُميت الجميع، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ).
ونلحظ أنَّ يوم القيامة سُمّي أيضا بـ(الحاقة)، التي تعني :الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، والملفت للنظر أنَّ سورة القارعة جاءت على طريقة سورة الحاقة، قال تعالى: (الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)، على أنَّ سورة القارعة جاءت بعد سورة الحاقّة، وهذا يعني أنَّ القرآن هيّأ الأذهان ليوم لا مفرّ منه، وأنّه واقع لا محال، فترك الناس على رغبة لمعرفة صفات هذا اليوم، فجاء بعدها ذكر القارعة، على أنَّه لم يترك ذلك بعيدا لينساه الناس، فنجد تلميحا من القرآن لهذا اليوم في سورة الحاقة نفسها، إذ قال: (الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ)، فذكر اسم القارعة، لكنَّ القرآن لم يفصِّل القول فيها، إلا في سورة جاءت بعد زمن، ولهذا ذهب المحققون إلى أنَّ (القارعة) أشدُّ من (الحاقّة)؛ لأنَّها نزلت بعدها؛ وأنّ النازل في الوقت المتأخر، لا بدَّ أن يكون المقصود فيه زيادة التنبيه. وقد جاءت لفظة (القارعة) في سورة (الحاقة) في موضع المضمر؛ لتدلَّ على معنى القرع في الحاقّة، وزيادة في وصف شدتها.
ويبدو أنَّ وصف القرآن للناس بالفراش المبثوث، الذي هو غَوْغَاءُ الْجَرَادِ، وَهُوَ مَا يُتَفَرَّشُ، أَيْ: يَبْسُطُ ذِرَاعَيْهِ، وَيَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقيل هُوَ صغارها، جاء لوصفهم بالكثرة، والانتشار، والضعف، والذلَّة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار. قال جرير:
إنّ الفرزدقَ ما علمتَ وقومَهُ-----مثلُ الفراشِ غشين نار المصطلى
فقد شبَّه جريرُ الفرزدقَ وقومه بالفراش، في الذل، والجهل، والتطفل على غيرهم، كما يغشى الفراش رأس المصطلى، ويحوم حولها. وربَّما ألقى بنفسه إلى النار، وفي أمثالهم: (أضعف من فراشة، وأذل، وأجهل)، ودليل هذا أنَّ القرآن وصفهم في موضع آخر بالجراد المنتشر، إذ قال: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ)، فلا اختلاف بين الوصفين؛ لأنَّ المطلوب هو المعنى، وهو مجيؤهم على كثرة، وتموّج، وتسارع، والعرب تقول في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاؤوا كالجراد، ولهذا نجد القرآن استعمل كلمة (الأجداث)، جمع (جَدَث)، وهو القبر، مع هذه الصفة التي وصف بها الناس، وهي خروجهم من القبر، فالجَدَثَة في اللغة، هي صَوْتُ الحافِرِ والخُفِّ، ومَضْغُ اللَّحْمِ، ففيها ضرب شيء على شيء، وهذا ما يحدث في تسارع الناس أثناء خروجهم من القبور، إذ يضربون بأيديهم وأرجلهم الأرض، يحيط بهم الفزع، فيتوجهوا إلى جهات شتّى، أو إلى منازلهم المختلفة، إمّا سعيدة، وإمّا شقيّة. وهذا يدلُّ على أنَّ القرآن أراد حالة الكثرة والتسارع في وصفه الناس بالفراش المبثوث، أو الجراد المنتشر، وهو لا يمنع، من أنَّ اللفظين، قد جاءا مختلفين؛ ليناسبا حالة السورتين اللتين ذُكِرا فيهما.
وذُكِر أيضا حال الجبال يوم تقع القارعة، إذ تصبح كالعهن المنفوش، أي: كالصوف ذي الألوان المختلفة، المفكوك بعضه عن بعض، وهذا يتلاءم مع هول ذلك اليوم، إذ نجد أنَّ القرآن أعطى الجبال ميزة القوة، والصلابة، وقد ذكر ذلك في أكثر من موضع، قال تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً)، (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ)، (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً)، (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).
هذه الآيات وغيرها، تدلُّ على أنَّ الجبال وُصِفت بالقوّة والصلابة في القرآن، هذه القوّة وهذه الصلابة ستصبح يوما ما، - بقوة الله وعظمته- كالصوف في هوانه وضعفه؛ لهول ذلك اليوم الموعود، فلنا أن نتصور حال الدنيا التي أصبحت بها الجبال بهذا الشكل من الهوان، وهو أيضا رمز لقدرة الله سبحانه، وعظمته، ولأجل هذا تكرر الفعل (يكون) في الآيتين، (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)، فهذا التكرار له ما له في هذا المقام، إذ هو أبلغ في التحذير، والإنذار، والتبليغ.
وممّا ذكرته الآية الكريمة أيضا كلمة (الموازين)، إذ الملحظ أنَّها جاءت جمعا، لا مفردا، فلم يقل: ومن ثقُل ميزانه، والمتعارف عليه أنَّ لك شيء ميزان واحد، والمناسب أن يكون للأعمال ميزان واحد، فَلِمَ جاءت جمعا؟
الجواب على هذا يكون من وجهين:
-الأوّل: أن يكون المقصود هو الموزون، وليس الميزان، أي الموزون من الطاعات، والمعاصي، وهي كثيرة، وليست شكلا واحدًا.
-الآخر: لعل القصد أنَّ يكون لكل عمل ميزان خاص به، سواء أكان العمل صالحا أم طالحا، فللصلاة ميزانها، وللصوم ميزانه، وهكذا. والواضح أنَّه أطلق الثقل للميزان تجوِّزا، فالمناسب هو أن ينسب إلى ما في الميزان، أو إلى الكفَّة، وقد أظهر تلك العلاقة، كعلاقة الظرف بالمظروف. أو لعل المطلوب هو الكفّة، فأطلق على الكلِّ باسم الجزء.
ويلحظ أيضا أنَّ القرآن لم يجعل وقوع الرضا في المستقبل، فلم يقل: فسوف يكون في عيشة راضية، أو سيكون في عيشة راضية. ومردّ هذا إلى أنّه يريد أن يجعله من قبيل الواقع الحاصل؛ وسبب هذا أنَّ الإنسان المؤمن يحصل له الرضا في الحياة الدنيا، حين يشتد إيمانه بالله سبحانه، فهو يشعر أنَّه في نعمة من الله، راضٍ بقضاء الله، مطمئنٌّ له، فلا يشعر فيها بضيق ممَّا أصابه، فالإيمان بالله، والتقريب إليه، يدفع إلى الطمأنينة والسلام.
والحقيقة أنَّ القرآن الكريم كثير ما يذكر حوادث على سبيل التحقيق، والاختصار، فيوردها وكأنّها تحققت، ومن هذا قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، والواضح أنَّ الساعة لم تقترب، وأنَّ القمر لم ينشق بعد، لكنَّ القرآن ذكرها بهذه الصور؛ ليؤكد أنَّها متحققة، وأنَّها واقعة لا محالة، وهذا ما جاء في (العيشة الراضية) للمؤمنين، إذ اختصر التعبير؛ لوضوح فوزهم، وأنّهم داخلوها، ولا شكَّ في ذلك.
ويدلُّ قوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)، أنَّ للكافرين أو المشركين أعمالا جيدة أيضا، لكنّ القرآن وصفها بالخفيفة، أي: لا قيمة لها؛ لأنَّ الأعمال في الدنيا إذا لم يطلب بها وجه الله، فلا وزن لها، على أنَّ الله يوفي العاملين بها أجورهم عليها في الحياة الدنيا، فلا يُظلم عنده أحد، وليس لهم في الآخرة من شيء، إلا ما وعد الله به الضالّين، قال تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
وقد وصف الله سبحانه جهنم بـ(الأم)، وهذا الوصف زيادة من التأكيد على مصير أهل النار، فهي ملجأهم، ومستقرُّهم، يعودون لها كما يعود الولد الصغير إلى أمّه، إذا ما أراد الأمان والاستقرار، فلا استقرار لهم، ولا أمان، إلا في نار وصفها الله بالحامية؛ تمييزا لها عن نار الدنيا، وكأنَّ حرارتها أشدُّ منها، وأعظم.
وخلاصة ما جاء بالسورة، أنَّها جاءت إنذارا وتبشيرا بالقيامة، لكنَّ الإنذار هو الغالب عليها، فهي تذكر الإنسان بالقارعة الكبرى، وهي يوم القيامة، وتحفّزه للاستعداد لها، بتكثير الأعمال الصالحة، لكي يثقل عنده ميزان الحق، فتخف عنه قرعة يوم القيامة، ليصبح في عيشة راضية.
اضف تعليق