بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تبارك وتعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([1])
ما هو منشأ الحق والحكم ومصدرهما؟
هناك سؤالان أرّقا الكثير من المفكرين والمشرعين على مر التاريخ، سواء أكانوا ذوي دين او ليسوا كذلك.. ولا تزال الإجابة عنهما مختلفة الى يومنا هذا، والسؤالان هما:
1) ما هو منشأ الحق؟.
2) وما هو منشأ التشريع والحكم؟.
ذلك ان الحقوق المسلّمة أو المدّعاة كثيرة ومنها: حق الإنسان على الآخر أو حق الحيوان أو النبات أو الطبيعة على الإنسان أو حق الخالق على المخلوق او ما اشبه ذلك، فما هو منشأ الحق وما هي منطلقات الحق وما هي منطلقات التشريع؟ وبين المنشأ والمنطلق فرق قد نشير إليه لاحقا.
نقول: ان المناشئ المحتملة ـ والتي ذهب الى كل منها فريق ـ متعددة ومختلف فيها:
المالكية:
1) المنشأ الأول: منشأ المالكية، وفي قِمتّها مالكية الله تعالى لمخلوقاته فحيث ان الله تعالى مالك لنا ولكل شيء فله الحق في ان يشرع او يحكم او ان يعاقب او يثيب وغير ذلك وفي مراتب دانية نجد ان مالكيتي لهذه الدار مثلاً، هي منشأ حقي في التصرف فيها.
السلطة والقوة
2) المنشأ الثاني: منشأ السلطة والقدرة، فذو القدرة والسلطة، له الحق في الحكم والتشريع على حسب حدود سلطته وان لم يكن مالكا كالحكومات التي بيدها القدرة والسلطنة فلها – حسب رأي البعض - ان تشرع وتحاسب وتعاقب لأن بيدها السلطة والقدرة، فالقدرة هي منشأ الحق في نظر هؤلاء ولو كان صاحب القدرة ظالما ومستبدا، والسلطة متدرجة نزولاً ابتدءا من سلطنة الدولة ومروراً بسلطة الجماعات والأحزاب وانتهاءً بسلطنة رب الأسرة الصغيرة على عائلته فالأقوى هو من له الحق في ان يحكم وله الحق في ان يشرع ويحاسب ويعاقب ويفرض أحكامه وقوانينه.
العدل
3) المنشأ الثالث: العدل، فان الكثير من الحقوقيين يرون ان العدل هو منشأ التشريع والحكم ومصدره، فالزوج له حق على زوجته او بالعكس والأب على ابنه وبالعكس والأخ على أخيه بالعكس والجار على جاره وهكذا، وما ذلك إلا لأنه عدلٌ وليس لأن احدهم مالك او متسلط.
النَصَفة
4) المنشأ الرابع: النَصَفة، وهي أقل من العدل في الرتبة، مثلا اذا اختلط حقان أو مالان وكان لي (10دراهم) وكان لك (20 درهماً) وكانت جميعها في كيس فاذا سرق منها (10دراهم) فان مقتضى النَصفة ان تكون الخسارة مناصفة بيننا. وكثيرا ما تتطابق النَصفة مع العدل واحيانا تتخالف معه وقد اشار السيد الوالد (قدس سره) الى ذلك في فقه الحقوق كما أشار الشيخ الانصاري لموارد تخالف النَصَفة مع العدل.
الرحمة
5) المنشأ الخامس: الرحمة ـ وهو بيت القصيد ـ وذلك بمعنى ان المنشأ العام والقاعدة العريضة والجذر الأساس لكل الحقوق والاحكام الشرعية هو الرحمة، فان الله تعالى وإن كان مالكا، وله القدرة المطلقة، كما انه عادل إلى غير ذلك من الوجوه الا ان المنشأ الاساسي لأحكامه هو الرحمة ثم الرحمة.
والرحمة هي أعلى مرتبة حتى من العدل لان العدل فيه الصرامة التي قد لا تنسجم مع الرحمة كما ان مقصودنا من الرحمة: الرحمة التي هي فوق العدل لا الرحمة التي تناقض العدل فانها ليست رحمة على وجه الحقيقة بل هي نقمة.
المصلحة والمفسدة
6) المنشأ السادس: المصلحة والمفسدة، وقد بنا المتكلمون والأصوليون على ذلك فقالوا قولتهم الشهيرة: (الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها) وهنا نقول: إن التدبر في الآية الكريمة ونظائرها يقودنا الى اكتشاف منشأ آخر أسبق رتبة واهم من هذا المنشأ الأصولي المعهود فانه لا شك في صحة أن (الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها) لكن التبعية الأصلية (الطولية) هي للرحمة الإلهية فإنها هي المنطلق في التشريع كأساس عام.
أدلة وشواهد على منشأية الرحمة للتشريعات
1- الرحمة في التهرب من الخمس!
ولنمثل بأمثلة فقهية ليتضح بها الحال جلياً([2]) فالخُمس المصرح به في قوله تعالى مثلا (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)([3]) يعني إعطاء خمس الغنيمة ومطلق ما غنمه وربحه لله وللرسول (صلى الله عليه وآله) ولكن ليس ذلك من مقتضى النصفة جزما لان النصفة تقتضي ان يكون المال نصفه لله تعالى([4])، كما أن متقضى العدل ان يكون كله لله تعالى فان العبد وما يملك لمولاه كما هو واضح ثم ان كل ما يكتسبه الإنسان هو في الحقيقة من الله وبقدرة الله فان اليد والرجل وسائر جوارح الإنسان انما تعمل بإقدار الله وحسن توفيقه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)([5]) فكل الأسباب من الله تعالى.
فالخُمس ليس مقتضى النصفة ولا العدل، لان الله تعالى يملك كل ما ملّكنا، لكن مع ذاك فانه تعالى راعى في تشريعاته الرحمة واللطف فلم يوجب إلا الخمس.
2- الرحمة في سقوط الزكاة
مثال اخر: الزكاة في الأنعام الثلاثة (الإبل والبقر والغنم) فقد اشترط الشارع المقدس ان تكون سوائم ([6]) طوال الحول بحيث لا يتكلف المالك أجور تغديتها، فان رعت بعض السنة وسامت في البعض الاخر فان الزكاة تسقط عندئذ وهذا ليس من مقتضى النصفة ولا العدل بل هو من منطلق الرحمة ومقتضاها لان مقتضى العدل ان يدفع نصف الزكاة لو رعت نصف السنة مثلاً لكن الله تعالى يسقط الزكاة لمجرد ان ترعى الماشية بعض السنة فقط لئلا يقع الانسان في حرج من جهة اخراج الزكاة رحمة به وتكرما عليه !
كذلك من الشروط ان لا يكنَّ عوامل فان عملت الإبل مثلا في بعض السنة فان الزكاة تسقط عنها وان كانت في أكثر السنة غير عاملة.
3 - من مظاهر الرحمة وجوب الإحسان
من المعروف ان العدل واجب، لكن الاحسان ـ وهو من مصاديق الرحمة وهوفوق العدل ـ مستحب، لكن السيد الوالد يرى ان الاحسان واجب في الجملة ويستند في ذلك الى ادلة عديدة ومنها:
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)([7])
فقد وقع الاحسان متعلقا لمادة الامر وهي اقوى في الدلالة على الوجوب من صيغته كما توجد هناك ايات اخرى ايضا يمكن الاستناد اليها أشار إلى بعضها في قوله:
تحت عنوان الإحسان: (وهل الإحسان واجب ام لا ؟ ظاهرهم عدم الوجوب لكن لا يبعد ذلك في الجملة فان النظام الاجتماعي لا يكون متكاملا الا بالاحسان فيكون واجبا بقدر قيام النظام الاجتماعي.
ويؤيده السياق في الآية المباركة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)([8]) بل وسائر الآيات كقوله تعالى: (وَأَحْسِنُوا...) وغير ذلك)
4- الرحمة في الحيل الشرعية!
مثال اخر: باب الحيل الشرعية([9]) وقد يتحرج البعض من هذه التسمية الا ان الواقع هو انها باب للرحمة فمثلا لو أراد الإنسان ان يتهرب من الخمس فهناك عدة ابواب للتهرب فمع ان هناك مصلحة اجتماعية كبرى في دفع الناس للخمس لكن الله تعالى رحمة بعباده فتح تلك الأبواب
فمثلا لو كان يمتلك مليون دينار وكان يوم غدٍ هو رأس سنته الخمسية، وكان عليه بعد غد سداد دين ما، فان له ان يسدد دينه الآن كي لا يبقي المال عنده حتى يجب عليه ان يخمسه في اليوم التالي، فيربح بذلك – حسب تصورهِ([10]) (200) الف؟ وما السماح له بذلك إلا رحمة به.
وصفوة القول: ان المنطلق الأعظم في التشريعات الالهية هو الرحمة للناس، ولكن هذا الامر وهذا المنطلق رغم أهميته القصوى لم يُعطَ حقه من البحث والدراسة تفسيريا وفقهياً وأصولياً وكلامياً، كما لم يتخذه المبلغون والخطباء والكتاب، عنواناً عريضاً في مسيرتهم التبليغية فلم يبلغوه للناس كما ينبغي ولم يبين للناس، نعم يُشار كلامياً وأصولياً الى عنوان المصلحة والمفسدة وان الأحكام تابعة لهما، في حين ان الرحمة هي ابعد من ذلك وفوق ذلك وأكثر جذابية من ذلك فانها تؤكدهما وتزيد.
الحكومات مظاهر العنف والنقمة!
وفي المقابل تجد الأنظمة الوضعية ترشق شعوبها بسهام الضرائب باستمرار، وما ذلك إلا لأنها لا تنطلق من منطلقات الرحمة حتى وان أحسنا الظن وقلنا أن منطلقاتها ليست الأنانية ولا الجشع او الظلم وان القدرة تميل الى التمركز، فان غاية الأمر ان تكون منطلقاتها المصلحة او العدل في أحسن الأحوال، لكن اين الرحمة؟.
كما نجد في المقابل أيضاً ان الحكومات منطلقة من منطلق السلطة، تنسف حتى أوليات حقوق الناس كحق المالكية على ممتلكاتهم فان من اللافت والمؤلم أيضاً ان الكثير من حكومات دول العالم تعتبر أي بناء داخلي في البيت او ترميم او استحداث مرافق جديدة في ساحة المنزل أو بداخله خلاف القانون فليس من حق احد ان يبني غرفة إضافية أو يغير من هندسة بعض أبواب غرفه أو جدرانها! او غير ذلك، بل لا بد من استحصال الموافقات الرسمية (الاجازة) ودفع الضريبة على ذلك كله!
ومن المعلوم ان ذلك ليس بدواعٍ امنيةٍ بل بهدف إعمال الحاكمية والسلطنة وارواء ظمأ الاستعلاء في أنفس الحكام وأخذ الضرائب على الناس لان الضرائب ـ كما يزعمون ـ من مصلحة البلد!! مع انها غالباً لا تكون إلا لتكريس سلطة الحاكم وجهازه، وتشييد دعائم استبداده ودكتاتوريته.
لكن الله تعالى مع انه المالك الحقيقي وهو مالك المُلك وبيده جميع الممالك والسلطات والقدرات، الا ان تشريعاته لم تنطلق من منطلق مالكيته وسلطنته وان كانتا ثابتتين او حتى من عدله وان كان مسلماً صحيحاً، بل انطلقت من منطلق رحمته الواسعة وتكرمه على بني الانسان، بل وعلى المخلوقات جميعا.
5- حرمة الاضرار بالكافر
ومن هنا نجد ان الله تعالى يُشرِّع إعطاء الحق حتى لمن يضاده في ملكه ويكفر به فقد افتى علماؤنا ومنهم السيد الوالد (قدس سره) بعدم جواز الإضرار بالكافر اما انطلاقا من القاعدة المعروفة (لا ضرر ولا إضرار في الإسلام)([11]) أو لغيرها وما ذلك إلا لان الله تعالى لم ينطلق في احكامه وتشريعاته من منطلق مالكيته وانه حيث ان الكافر لما كان يضاد الله في ملكه فلا حق له، كلا بل جعل له حق التمتع بمختلف الحقوق المشروعة في هذه الحياة الدنيا
يقول السيد الوالد (قدس سره) في كتاب الفقه تحت عنوان الإضرار بالنفس والغير ([12]) (والاضرار المحرم يشمل المؤمن والكافر المحترم ([13]) بل والحيوان كما يشمل الإضرار المالي والبدني والنفسي والعرضي والفكري وهو داخل في الإضرار النفسي...)
ان الكافر يعيش في مملكة الله تعالى ويعصيه في كل ان وحال مادام باقيا على كفره فضلا عن سائر معاصيه وموبقاته ومع ذلك فان له حقوقه في الاسلام.
6- حرمة الإضرار بالحيوان
كما ان الاضرار بالحيوان يعتبر من المحرمات في الاسلام فلا يجوز ان يؤذي ويضر الإنسان بحيوان فكيف بتعذيبه؟.
7- حرمة مجادلة أهل الكتاب إلا بالاحسن
مثال اخر: لا تجوز مجادلة اهل الكتاب بما يستفزهم مع انهم انكروا أصل الدين الإسلامي لقوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([14]) وذلك من منطلق الرحمة أيضاً، كحكمة من الحِكَم، اذ لعلهم يرجعون يوما الى الحق واتباع سبيل المؤمنين.
ايضا يقول السيد الوالد (قدس سره) بعد ذكر هذه الآية (والظاهر ان المراد بالاحسن الحسن او هو على سبيل الاستحباب، ومجادلة أهل الكتاب بما يستفزهم محرم شرعا لانه يوجب تبعيدهم عن الله وعن أحكامه)([15]).
8- حرمة الدعاء على المؤمن
مثال اخر: لا يجوز الدعاء على المؤمن الا بمقدار ظلمه كما لو ضرب او سرق شيئا فيمكن عندئذ ان تدعو عليه بمقدار ذلك فاذا تجاوز الداعي ذلك المقدار فانه محرم عليه.
والحاصل: ان الاطار العام والمنطلق الأكبر التشريع الإسلامي في مختلف الحقوق التي جعلها الله تعالى لبعض الناس على بعض وفرضها لهم هو الرحمة وكذلك (الرحمة) هي المنطلق والاطار للحقوق التي جعلها للحاكم على المحكوم وللمحكوم على الحاكم وكما انها (الرحمة) هي المنطلق لتشريعه كافة الواجبات والمحرمات. فالمنطلق هو الرحمة في التشريعات الالهية وليس خصوص المصلحة وان كانت متحققة على اية حال الا انه لا يوجد تهافت وتضاد بينهما في البين إذ انهما يجتمعان عادة.
نعم قد يترك الشارع المصلحة لصالح الرحمة وكن كيف؟ لنمثل لذلك بمثال:
نماذج من تقديم الرحمة على المصلحة
أ- هدم الدار أو توسيع الطرق؟
من الواضح ان تطور المدن يستدعي توسيع الطرق فلا بد حينئذٍ من شراء البيوت المجاورة لإنجاز ذلك والطرق السريعة هي في مصلحة اهل البلاد بلا شك، فاذا كان هناك بيت في الطريق يأبى صاحبه ان يبيعه ليكون من الطريق ولو أعطوه اضعاف قيمته المعروفة، فان الحكومات عادة تفرض هذا الامر عليه بالقوة وبقرار قسري وليس من حقه ان يعترض أو يرفض فتشتري منه بيته بقوة القانون المبرّر لذلك هو مقتضيات المصلحة العامة.
لكن منطلق الرحمة يقتضي([16]) عكس ذلك وهو ان لا يؤخذ بيته منه بالقوة، وهذا منطلق اسلامي – إنساني ولكننا تركنا العدل والإحسان والرحمة جميعاً وقد أخذ بعض الدول المتحضرة بجوانب من ذلك فتقدموا علينا، ومن ذلك القرار الذي اتخذته احدى تلك الدول في هذا الحقل بالذات فقد أرادوا شق طريق سريع رئيس فاشتروا كافة البيوت والمعامل التي تقع في الطريق لكن أرباب احدى البيوت رفض رفضاً قاطعا مهما ضاعفوا له الثمن! وكلما حاولوا معه لم يجدِ، فما كان منهم إلا ان امالوا كل الطريق السريع عندما يصل إلى بيته بما يشبه نصف القوس وصار منزله في وسطه! كل ذلك من اجل بيت رفض صاحبه ان يبيعه لتلك الدولة ثم بعد ذلك اصبحت تلك الدولة تفتخر وتتبجح بالمستوى الكبير الذي وصلت إليه من الرحمة ومن رعاية حقوق الانسان! لمجرد موقف واحد لا يدرى أكان لأغراض سياسية في تنافس الأحزاب للوصول للسلطة أم للتسويق العالمي؟ فما بالك بمن يراعي الرحمة في كل تشريعاته حقاً وصدقاً؟
ان الاسلام راعى تلك الرحمة العظمى في كل احكامه وتشريعاته ومقرراته لكننا مقصرون أولاً: في الانبعاث عن ذلك والالتزام به وتطبيقه عملياً وثانياً: مقصرون في عرض ذلك وتسويقه وتصويره للآخرين بشكل يتناسب مع تلك الرحمة الكبرى...
ووقد سبق ان المصلحة وان كانت موجودة في كل الاحكام ومن ورائها الا ان الجوهر والاس لكل ذلك هو الرحمة، الامر الذي يمس شغاف القلوب ويهز الوجدان فتخبت لربها راضيةً مرضيةً مصدقةً بما جاء من عنده.
ب- العفو بدل القصاص
مثال آخر: اذا عفوت عن شخص اعتدى عليك فقد انطلقت من منطلق الرحمة مع انه لا يجب عليك ان تعفو عنه الا ان هذه فضيلة كبرى وقد قال تعالى: (وان تعفوا أقرب للتقوى) مع ان المصلحة في القصاص (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ...)
وقد ذهب السيد الوالد في الفقه الى ان العفو عن المجرمين واجب في الجملة، ومن الطبيعي ان ذلك ليس في حقوق الناس إلا لو رضوا هم ومن المرجح ان يسترضوا أي ان تسعى الحكومة الإسلامية لإرضاءهم بالعفو، بل هو في حقوق الله تعالى والتي يمكن فيها العفو وليس ذلك دائما بطبيعة الحال فمثلا لو كان عندنا عشرة الاف سجين فان من مقتضى الرحمة ان نعفو في عيد الغدير او الاضحى عن مجموعة كبيرة منهم (كألفين أو خمسة آلاف) ممن لا يستلزم إطلاق سراحهم خطراً أو ضرراً كبيراً.
ولذا يقول (قدس سره): (يقول تعالى (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)([17]) اذا فسرنا العفو في الآية المباركة بالعفو عن المجرمين([18]) لان ذلك اقرب الى نفوذ الاسلام لم يبعد وجوبه([19]) خصوصا انه وقع في سياق الامر بالعرف فالواجب على الانسان ان يأمر بالمعروف الذي لا يبعد ان يكون المراد منه الاعم من النهي عن المنكر لانه ايضا من اقسام الامر بالمعروف وان يعرض عمن جهل عليه فلا يقابله بالمثل ويعفو فلا يعاقبه لان هذا هو طريق جلب الناس الى الاسلام والفضيلة وذلك واجب شرعي على كل احد في نطاق مقدوره حسب ماجرت عليه السيرة منذ زمن الرسول الله (صلى الله عليه وآله) لكن الكلام بعد محل أخذ ورد...)([20])
وجلب الناس إلى الإسلام منطلقه الأساسي الرحمة بهم والرفق والعطف عليهم كي لا يخسروا دنياهم واخراهم معاً فالرحمة إذاً هي سيد المنطلقات في الأحكام والتشريعات الإلهية حتى (العفو) فانه ناتج منها ونابع عنها وراجع إليها. فتأمل
وذلك الأعرابي المعروف وقصته الشهيرة حيث جذب عباءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاثر على عنقه الشريف لكن الرسول قابله بمنتهى العطف والرحمة ولم يسمح لأصحابه بإبعاده ولا حتى بتوبيخه بل أعطاه الرسول (صلى الله عليه وآله) مالا وجاد عليه فانقلب أي انقلاب، وما أكثر أمثال ذلك (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)([21])
ج- التعامل بالرحمة مع الموظفين
كنت أتحدث مع احد العلماء المدراء حول منطلقات الرحمة في التعامل مع الموظفين والعاملين وانه لا تنبغي الصرامة معهم في إجراء اللوائح والأنظمة الداخلية والعمل معهم بمر الحق والتشدد معهم في الالتزام بالضوابط وإلا فالإنذار والفصل أو الطرد أو غير ذلك وقلت له: كان السيد الوالد يعتقد ان الموظف او العامل في مكاتب المرجعية لا ينبغي ان يطرد من العمل حتى وان قصر وتكاسل عن العمل بمقتضى مسؤولياته واُنذر اكثر من مرة بل ينبغي نصحه بالحسنى مرة إثر أخرى، وذلك لان هذا الشخص على اية حال يعيل أسرة وطرده يحرمه ويحرمهم من الرزق فينبغي ان يتعامل معه بالرحمة والشفقة وليس بالحق والعدل – وهذا هو الأصل الذي لا يخرج عنه إلا كاستثناء لا العكس.
فقال: سبحان الله هذا هو أسلوبي ايضا وطالما حصلت لي مشاكل مع الأخوة مدراء الأقسام في المؤسسة التي اشرف عليها لان بعض العاملين يقصرون في أداء مهامهم بشكل واضح فيرى المدراء ضرورة فصلهم فأقول تريثوا ولا تستعجلوا!!
الغرب يأخذ محاسن الاسلام ولا يدين به!
الحضارة الغربية أخذت منا بعض محاسن اسلامنا كالشورى والتعددية ولو بشكل ناقص فتقدموا بذلك، وللسيد الوالد كتاب باسم (الغرب يتغير) تنبأ فيه بحدوث تغيرات في الغرب وبالفعل بدأ بعضها يحدث الان، ومن متغيراته انه بدأ يأخذ ببعض قوانين الاسلام في الاقتصاد إضافة إلى بعض قوانينه في السياسة والاجتماع بينما نحن نتراجع الى الوراء.
ففي الاقتصاد بدأوا يدرسون الاقتصاد الاسلامي بعد حدوث زلزال الازمة الاقتصادية العالمية وقد قنّنوا وخططوا وسمحوا بتأسيس بنك لاربوي([22]) رأس ماله مليارات الدولارات([23]) كخطوة في هذا الطريق لانهم يعتمدون منهج التغيير التدريجي ولعلنا لو عرضنا الاقتصاد الإسلامي بشكل متكامل فانهم سيتدرجون الى اعتماد النظام الاسلامي في أغلب قطاعاتهم الاقتصادية
كذلك بعض الدول المتحضرة([24]) ارجعت (الفائدة) الى ما يقرب من الصفر في التعاملات البنكية والمصرفية.
وهناك الكثير من الأصوات في تلك الدول تنادي بانتهاج منهج الرحمة بشكل أساسي وجوهري وفيهم كتاب ومفكرون وسياسيون ورجال اعمال وغير ذلك، والكثير منهم قد ينطلق من منطلقات الرحمة بالفعل وبحسن نية الا ان ما يؤسف له هو ان حكوماتهم تجيّر ذلك سياسيا لصالحها ولصالح تكريس سلطاتهم وقوتهم وامتدادها كأذرع ناعمة للسيطرة على سائر الشعوب.
د- الرحمة باعشاش العصافير
مثال آخر: لو عششت العصافير على شجرة واقعة في طريق او في أرض يراد بناء معمل أو مسكن عليها ولا بد من قطع تلك الشجرة لإكمال العمل واتمامه، فهناك اصوات ومنظمات انسانية عندهم تنادي بمنع عملية القطع الى ان تكبر صغار العصافير وتطير مبتعدة عن ذلك المكان!!
وهذا مثال واقعي وليس هو مجرد فرضية بل ان مثل هذه الامور أصبحت ظاهرة شائعة عندهم، ومن ذلك سنّ قوانين تمنع إصطياد الحيوانات القريبة من الانقراض او الرفق حتى بسمك القرش او تأسيس المستشفيات الخاصة بالحيوانات حتى ان كثيراً من منظمات المجتمع المدني عندهم لا همّ لها الا الرفق بالحيوان ورعاية حقوقه.
وهذه منطلقات رحمة (وان كان مما يؤخذ على بعضها انها أهملت حقوق الإنسان بل صارت على حسابها أحياناً) لكن الكلام في أصل هذا المعنى وهو الانطلاق من منطلق الرحمة الشاملة حتى للحيوان والنبات وهو ما نادى به الاسلام بأعلى الأصوات وحث عليه بأبلغ الكلمات عبر الكثير الكثير من النصوص والروايات ولو عرف اصحاب تلك المنظمات برحمة الاسلام كمبدأ وقوانين وكتطبيق في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) والأمير (عليه السلام) لاعتنقوا السلام جزما كما حدث ذلك بالفعل لكثير منهم ولكن المشكلة حقا هي ان الآخرين اخذوا بنماذج ومصاديق من الرحمة وبدأوا يتبجحون بها ويدعون الناس إلى دينهم عبر ذلك كله كذاك الذي دخل السجن وغسل ارجل بعض السجناء الفقراء والعجزة وفيهم مسلم او امراة مسلمة! بمثل هذه القصة وامثالها حاولوا ان يسوّقوا انفسهم كمجالي ومظاهر الرحمة وفي المقابل اصبحنا إلا من خرج بالدليل لا نعرف إلا العنف وسحق الحقوق والاستبداد والاستئثار والخشونة والغلظة والنزاع والمهاترات!
وقد اقر الإسلام للحيوان حقوقاً هامة لا بد من مراعاتها من العصفور والهرة إلى غيرها من الحيوانات خصوصا الأليفة منها لكل منها حقوق وليس من حق الإنسان ان يظلمها متذرعاً بانه سيد المخلوقات وانه مالكها فله الحق في قتلها او تعذيبها او حبس الماء والطعام عنها الى ان تموت... ليس من حقه ذلك وقد بلغ من عظيم اهتمام الإسلام بحق الحيوان ان ورد في الحديث عَنْ حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: ((إِنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ عَطَشا))([25])
الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم
وبالتالي فان قاعدة الإسلام الأساسية هي الرحمة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([26]) فاذا عدنا الى العمل بقواعد الإسلام الأساسية ومنها الرحمة والشورى والحريات والتعددية (التنافس الايجابي)، فان حضارتنا ستبدأ بالازدهار من جديد وسنعود سادة العالم في التقدم والازدهار والأخلاق والفضائل وفي مختلف الحقول.
وقد قال امير المؤمنين (عليه السلام): ((اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ فَلَا يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُكُم...))([27]) وهذه عبارة رائعة ودقيقة تلخص سرّ سقوط حضارة بأكملها وقيام اخرى مزدهرة، فان تقدم الغرب علينا ما هو إلا للعمل ببعض قوانين القرآن الكريم من الإتقان والشورى والتنافس وشبه ذلك.
(وكلمات الامير (عليه السلام) لا يوجد لها نظير في العالم كله فان كل كلمة من كلماته جوهرة فريدة لا تضاهيها الجواهر واللئالي والدرر بأكملها، ولو طالعنا كتاب نهج البلاغة لادركنا جليا استحالة ان يأتي بشريٌ إلا خاتم الأنبياء محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) فانه أي الرسول لهو معلمه ومربيه - بمثل ما اتى به أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام).. فلاحظ مثلا قوله (عليه السلام):
((الْبُخْلُ عَارٌ وَالْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ وَالْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ [حَاجَتِهِ] حُجَّتِهِ وَالْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِه))([28]) وقوله ((قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُه))([29]))
ما هو السر في اقتران الرحمة بالهدى في القرآن الكريم؟
وهناك آيات كثيرة تكشف عن مدى مركزية (الرحمة) في منظومة القيم السماوية منها (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُون)([30]) والمتتبع للآيات الكريمة يجد ان الكثير من الآيات تذكر الهدى ثم تعطف عليه الرحمة فلماذا؟ فمثلا:
قوله تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)([31])
و(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)([32])
(مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)([33])
فلماذا؟ ألا يكفي قوله تعالى (وهدى)؟ لعلنا سنفصل ذلك لاحقاً لكن نشير هنا إشارة: ان الله تعالى يزيد من رحمته لطفا وتحننا منه تعالى فهو أوسع دائرة من الهدى كما ان الرحمة لها الموضوعية وهي المنطلق.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق