هل الأصل في الإسلام جواز سب الآخرين وشتمهم؟ أو الأصل الحرمة؟ أو التفصيل بين أنواع الآخَر: من كونه مؤمناً أو فاسقاً أو منافقاً أو أهل بدعة وضلالة أو كافراً؟ وقد مضى ان طوائف الآيات والروايات هي، مبدئياً، أربعة إذ سبق: (طوائف الآيات والروايات في قضية...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1)
هل الأصل في الإسلام جواز سب الآخرين وشتمهم؟ أو الأصل الحرمة؟ أو التفصيل بين أنواع الآخَر: من كونه مؤمناً أو فاسقاً أو منافقاً أو أهل بدعة وضلالة أو كافراً؟
وقد مضى ان طوائف الآيات والروايات هي، مبدئياً، أربعة إذ سبق:
(طوائف الآيات والروايات في قضية السباب ان المستظهر ان الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) هي على طوائف بل طبقات ومراتب:
الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.
الطائفة الثانية: ما يدل على جواز(2) سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.
الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) تقع ضمن هذه الطائفة، وإنما قدمناها بالبحث لحكمةٍ سوف يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وهذه الطائفة اما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة.
الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم)(3).
(لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ)
ومن الروايات الدالة على النهي عن سباب الآخرين قوله عليه السلام في الصحيح ((عَنْهُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه واله وسلم فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ: لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ))(4)
والرواية صحيحة السند، و(لَا تَسُبُّوا) نهيٌ وهو ظاهر في الحرمة و(الناس) عام يشمل كافة الأشخاص، والمراد اما عامة البشر لأن الناس في اللغة والعرف يراد بهم كل إنسان، واما خصوص أهل العامة إذا ثبت ان للناس اصطلاحاً آخر في لسان الشارع وهو أهل العامة أي انه وضع بالوضع التعيني لهم، والمستظهر انه لا يرفع اليد عن المعنى العام للناس (الشامل لكل البشر) إلا مع وجود قرينة على إرادة المعنى الأخص لعدم ثبوت النقل في لسانهم عليهم السلام ثم ان غاية الأمر القول بالاشتراك اللفظي ولكن التعليل في الرواية يصلح قرينة على التعميم إذ سبّ كل إنسان يستجلب العداوة وليس سبّ أهل العامة فقط، بل العلة معممة ومخصصة، والظاهر ان (فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ) عِلّة بشهادة الارتكاز والوجدان والفهم العرفي فتدبر.
وهذه الرواية تضيف مفهوماً جديداً على المستفاد من الآية الكريمة؛ فإن الآية حرّمت سبّ الذين يعبدون من دون الله إذا أدى سبهم إلى ان يسبوا الله عدواً بغير علم، والرواية الكريمة تنهى عن السب أيضاً إذا أدى إلى استجلاب عداوة الناس، وهذا يعني النهي عن سب الناس وإن لم يستجلب سبهم لنا بل استلزم فقط عداوتهم لنا في قلوبهم؛ وذلك لأن الكثير من الآخرين إذا سببتهم فقد لا يسبونك ولا يسبون الله ولا المعصومين عليهم السلام ولا العلماء الربانيين: إما لأن ثقافتهم لا تتناغم مع السباب واما لكونهم عاجزين عن السب لخوفهم منا فرضاً (إذا كانت القوة القاهرة لنا) فيكنّون العداوة لنا حينئذٍ أو لأنهم جرى دأبهم على رد السباب بالأفعال والتخطيط الاستراتيجي البعيد المدى ضدنا، أو لغير ذلك..
والحاصل: ان سبب النهي عن سباب الناس أمران: الأول: هو ما ذكرته الآية الكريمة (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) والثاني: هو ما ذكرته الرواية الشريفة ((فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ)) فأيّ منهما تحقق سرى النهي.
سبّ الرموز الدينية أو السياسية أو الاجتماعية
هذا كله من جهة ومن جهة أخرى فان النهي في ((لَا تَسُبُّوا النَّاسَ)) عام يشمل سبّ الرموز (الدينية) للطرف الآخر كما يشمل سب الرموز (السياسية) كرؤساء الدول أو المنظمات الدولية أو (الاجتماعية) كرؤساء العشائر ومؤسسات المجتمع المدني مثلاً أو (العسكرية) أو (الاقتصادية) لهم، فان سب كل أولئك مشمول للرواية الكريمة ((لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ)) نعم لو فرض انك إذا سببته لا ينزعج بذلك أبداً ولا يعاديك بل فرضنا انه يزداد لك حباً(!) فان هذا النوع من السباب خارج حينئذٍ عن دائرة هذه الرواية ولكنه يندرج تحت دائرة روايات أخرى أو تحت الأصل الأولي العام من الطائفة الأولى من طوائف الروايات.
وسيأتي حول الرواية مزيد توضيح بإذن الله تعالى فأنتظر.
(وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ)
ثم ان هناك رواية ثالثة(5) تضيف مفهوماً جديداً ومحذوراً آخر يُنتج حرمة السب حينذاك أيضاً، والرواية هي: ((عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم : مُدَارَاةُ النَّاسِ نِصْفُ الْإِيمَانِ وَالرِّفْقُ بِهِمْ نِصْفُ الْعَيْشِ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام: خَالِطُوا الْأَبْرَارَ سِرّاً، وَخَالِطُوا الْفُجَّارَ جِهَاراً، وَلَا تَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَيَظْلِمُوكُمْ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ مِنْ ذَوِي الدِّينِ إِلَّا مَنْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَبْلَهُ، وَصَبَّرَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يُقَالَ [لَهُ] إِنَّهُ أَبْلَهُ لَا عَقْلَ لَهُ))(6) وهذه الرواية تفيد حرمة مطلق الميل عليهم (وسيأتي تفصيل معناه بإذن الله تعالى) إذا أدى ذلك إلى ظلمهم لنا، ومن الواضح ان ظلمهم لنا أعم جداً من سبهم لنا لأن السب هو أحد أنواع الظلم، فكل ما أدى إلى ظلمهم لنا بسبٍ أو مصادرة أموال أو سجنٍ أو نفي أو تعذيب أو تخويف أو غير ذلك، فهو منهي عنه، إلا ما دخل في باب التزاحم وأحرز الفقيه الجامع للشرائط أهميته وأولويته من درجة ظلمهم لنا (وسيأتي بإذن الله تفصيل ذلك في ضمن الطائفة الرابعة من الأخبار).
والرواية الشريفة تفيد وجوب مخالطة الأبرار بالخلطة الحسنة، سراً (والتقييد بالسرّ يراد به صورة التقية أي صورة ما لو اضرّ بنا الأشرار لو ظهرت العلاقة الحسنة بين الأبرار، كما تدل على وجوب المخالطة الحسنة في الظاهر مع الفجار، وهل تَرى ان سبابهم أو سباب رموزهم هو من المخالطة الحسنة؟ بل حرّم الإمام عليه السلام مطلق الميل عليهم (وقد فسرها البعض بمعارضتهم إرادة للغلبة عليهم بأي نحوٍ من الأنحاء – وسيأتي) إذا استلزم ظلمهم لنا كما سبق.
الحذر والتوقي من المضاعفات المستقبلية
بل ان الغريب ان هذه الرواية اما عامة للمستقبل أو هي خاصة به بقرينة قوله عليه السلام: ((فَإِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ...)) فان ظاهره ان النهي عن سبنا لهم إذا استلزم ظلمهم لنا في المستقبل أو ولو في المستقبل (والأول على تخصيص المراد بالرواية بالمستقبل والثاني على التعميم).
وذلك يعني ان سبّ بعض الفجار أو الميل عليه بما يستلزم ان يظلمنا أو أولادنا في المستقبل، محرّم علينا.. ومفاد الرواية ان النجاة في ان لا تميل عليهم وإن كنت قادراً حتى يظنونك أنك أبله إذ انك قادر على الميل عليهم والانتقام منهم ولا تفعل! لكنك لست بأبله إنما تأتمر بأمر الأئمة الهداة وتنظر للمستقبل والعواقب الآتية فانك وإن كنت الأقوى الآن إلا ان (والدَّهْرُ بالإِنْسَان دَوَّارِيُّ) وستنقلب الأحوال (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ)(7) فتحين ساعة انتقامهم حينئذٍ لا سمح الله، والحاصل ان الإمام عليه السلام نهانا عن ان نميل عليهم إذا استلزم ذلك ظلمهم لنا في الحال أو في الاستقبال ولعله يأتي مزيد بحث حول الآية الشريفة.
ثم ان هناك رواية أخرى (رابعة) تضيف مفهوماً جديداً بل مفاهيم جديدة والرواية هي:
(يَا مُوسَى... أَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ)
((عَنْ حَبِيبٍ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ فِيمَا نَاجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام يَا مُوسَى اكْتُمْ مَكْتُومَ سِرِّي فِي سَرِيرَتِكَ وَأَظْهِرْ فِي عَلَانِيَتِكَ الْمُدَارَاةَ عَنِّي لِعَدُوِّي وَعَدُوِّكَ مِنْ خَلْقِي وَلَا تَسْتَسِبَّ لِي عِنْدَهُمْ بِإِظْهَارِ مَكْتُومِ سِرِّي فَتُشْرِكَ عَدُوَّكَ وَعَدُوِّي فِي سَبِّي))(8).
أقول: والمستفاد من الرواية أمور:
كتمان السر وإظهار المداراة واجبان
الأول: ان كتمان السر واجب (ومنه بيان المناقب إذا كان الطرف الآخر لا يتحملها حيثما يؤدي إلى مضاعفات سلبية) وان إظهار المداراة لعدو الله وعدوك(9)، واجب(10)، وان استسبابهم حرام أي فعل ما يستلزم سبهم لنا من سبهم أو سب رموزهم أو غير ذلك إذا استلزم سبهم لله تعالى، ووجه الوجوب: ظهور صيغة الأمر (أكتم، أظهر) في الوجوب وظهور صيغة النهي (لا تستسب) في الحرمة، وقد فصّلنا في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) ان الأصل في الأوامر والنواهي هو المولوية دون الإرشادية، بل فصّلنا ان الأصل في الإرشادية منها الوجوب أو الحرمة الإرشادية كما أوضحنا ذلك في مباحث (البيع) أيضاً عند الحديث عن النهي في قوله صلى الله عليه واله وسلم (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(11).
مداراة أعداء الله ومداراة أعدائك
الثاني: ان المداراة واجبة لفريقين: أولهما أعداء الله تعالى، وثانيهما: أعداء الشخص نفسه، فيما إذا قلنا بان المراد من ((وَعَدُوِّكَ مِنْ خَلْقِي)) عدو المكلف نفسه لا عدو موسى خاصة وانه عليه السلام ذكر لأنه طرف الخطاب لا لحصر الحكم به، إذ الأصل في خطاب الأنبياء عموم الحكم دون خصوصه إلا ان يدل دليل خاص على ذلك. فتأمل.
وعلى أي فان استظهرنا التعميم، كما قد تشهد به روايات الروايات العامة الأخرى – وسيأتي بحثها مستقلاً إذا شاء الله تعالى – فانه تجب مداراة أعداء الدين كما تجب مداراة الأعداء الشخصيين، وذلك مما لا شك فيه إذا استلزم ترك مداراتهم للضرر علينا فان التسبيب إلى الإضرار بالنفس أو العِرض حرام وإن توسَّطَ الفاعلُ بالاختيار فتدبر، وقد فصّلنا ذلك في مبحث حرمة الإعانة على الإثم من مبحث (الأصول) باب التزاحم فراجع(12).
منهج المداراة للعدو منهج الأديان السماوية كلها
الثالث: ان المستظهر من ضم هذه الرواية إلى سائر الروايات، ان منهج مداراة الأعداء هو منهج عام في كل الشرائع السماوية وليس خاصاً بالدين الإسلامي فقط، ولذلك ينقل الإمام الباقر عليه السلام هذه الوصية من الله تعالى لموسى في التوراة الأصلية، وذلك مما يحكم به العقل، كأصل عام وقاعدة عامة، فالخروج عنها هو المحتاج للدليل، والعقل هو الحاكم على طبق مثل الرواية التالية: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم : إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَ لَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ))(13)
إذا سببت آلهتهم فقد أشركت بالله تعالى!
ثم انه لعل الكثير منا يجد من الغريب ان يُعَدَّ سب آلهة الكفار ورموزهم نوعاً من الشرك بالله تعالى إذا استلزم سبهم لله تعالى، ولكن ذلك هو صريح الرواية التالية: ((عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه واله وسلم : إِنَّ الشِّرْكَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ؟، فقَالَ عليه السلام: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَسُبُّونَ مَا يَعْبُدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسُبُّونَ مَا يَعْبُدُ الْمُؤْمِنُونَ فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ لِكَيْلَا يَسُبَّ الْكُفَّارُ إِلَهَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ قَدْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَالَ: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) ))(14)
وبعبارة أخرى: ان الشرك على قسمين: 1- الشرك المباشر 2- الشرك غبر المباشر أو الشرك بالواسطة، فالأول: هو ان يسب الشخصُ اللهَ تعالى – والعياذ بالله – مباشرةً، والثاني: هو ان يسب كافراً فيسب ذلك الكافر الله تعالى، فحيث كنت أنت السبب الباعث له ليسب الله تعالى فأنت، حسب الرواية، مشرك بالشرك الخفي بالله جلّ اسمه.
ويحتمل في التعبير عنه بالشرك الخفي كونه شركاً تنزيلياً لأن هذا(15) فعل المشرك فمن فعل ما يسبّبه كان بمنزلته، وقد يكون شركاً حقيقياً ببعض مراتبه إذ انه يضاد توحيد العبادة والطاعة، ولعله يأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
فقد ظهر بذلك ان مطلق سب الآخرين إذا استلزم سب الله تعالى أو عداوتهم لنا أو ظلمهم لنا، فهو منهي عنه في الشريعة، فلا بد لمن يريد الاستثناء من إقامة الدليل، وسيأتي بحثه بإذن الله تعالى.
الاعتراض بوجود روايات كثيرة تتضمن السباب والشتائم!
ولكن قد يناقش ذلك بمناقشة معروفة وهي: انه قد كثر السبّ في الروايات الشريفة وفي تراثنا وقد صدر من الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم ومن الائمة الأطهار عليهم السلام، فكيف يقال بحرمة سبّ الآخرين (رؤساء كانوا أم رموزاً أو شبه ذلك)؟
والروايات الناقلة لبعض السباب الصادر من الرسول صلى الله عليه واله وسلم أو الآل الأطهار عليهم السلام بعضها صحيحة السند، وبعضها معتبرة بشكل عام، فلئن نوقش في إسناد بعضها فلا مجال للمناقشة في إسنادها جميعاً أو في صدور بعضها إجمالاً.
كما ان بعض الروايات مما أتفق علماء الشيعة والسنة على نقله.. فماذا نصنع إذاً؟
نماذج من الروايات
ولننقل نماذج من هذه الروايات:
فمنها: (ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية من قوله: ((وَأَنْتَ الْجِلْفُ الْمُنَافِقُ، الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ، الْقَلِيلُ الْعَقْلِ، الْجَبَانُ الرَّذْل))(16) حسب نقل ابن أبي الحديد، وقد ورد في نهج البلاغة ((وَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ))(17) وكلامه عليه السلام اما سبّ له أو بمنزلته.
ومنها: (قول النبي صلى الله عليه وآله لعمرو بن عبد ود العامري: ((مَنْ لِهَذَا الْكَلْبِ))(18) وسبّه لأخي عثمان في وجهه، في المسجد الحرام بقوله: ((مَا مَنَعَكُمْ أَنْ يَقُومَ رَجُلٌ مِنْكُمْ إِلَى هَذَا الْكَلْبِ فَيَقْتُلُهُ))(19)
ومنها: تعبيره عن مروان وهو طفل رضيع بقوله: ((الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون))(20)!
ومن اللطيف ان نشير إلى انه قد ثبت علمياً ان الوزغ (المسمى سامُّ أَبْرَص أو أبو بريص) حامل لفايروسات وبكتيريا متنوعة، والغريب انه لا يتأثر بها لكنه ينقلها للغير فتسبب الأمراض الكثيرة، وقال بعض العلماء ان من خصائصه انه يتقيأ على الطعام أو غيره ولعله يقصد انه ينفث سمومه على الطعام أو على الناس في أوقات مختلفة، وتشبيه مروان بن الحكم بذلك لأنه كان ينفث سمومه في المجتمع ويحيك الدسائس وغيرها.
ومن المهم الإشارة إلى ان هذا الحديث (أي تعبير النبي صلى الله عليه واله وسلم عن مروان بن الحكم بالوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون) قال عنه الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
كما ان الرواية موجودة في الكافي الشريف ((عَن أَبَانٌ عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: لَمَّا وُلِدَ مَرْوَانُ عَرَضُوا بِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَأَرْسَلُوا بِهِ إِلَى عَائِشَةَ لِيَدْعُوَ لَهُ، فَلَمَّا قَرَّبَتْهُ مِنْهُ قَالَ: أَخْرِجُوا عَنِّي الْوَزَغَ ابْنَ الْوَزَغِ، قَالَ زُرَارَةُ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَلَعَنَهُ))(21).
ومنها: ما ورد في نهج البلاغة من كلام له عليه السلام قاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له بحيث يسمعه: (لا حكم إلاَّ لله)، وكان من الخوارج
اسْكُتْ قَبَحَكَ اللهُ(22) يَا أَثْرَمُ(23)، فَوَاللهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً(24) شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ، حَتَّى إِذَا نَعَرَ(25) الْبَاطِلُ نَجَمْتَ(26) نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ)(27).
ومن الملاحظ و الغريب : ان بعض الناس يشاهد هذه الروايات المتضمنة للسباب أو شبهه، فيعمل بها ويغفل عن الروايات الأخرى الناهية عن السباب، وبالعكس، مع ان اللازم الواجب دراسة كافة الروايات كمنظومة متكاملة.
الواجب دراسة كافة الروايات كمنظومة متكاملة
فان الواجب هو دراسة الروايات كمنظومة فقهية – فكرية – علمية متكاملة، والإحاطة بكافة طوائفها ثم البحث عن وجوه الجمع بينها وصولاً للمراد الجدي النهائي للمعصومين صلوات الله عليهم؛ إذ مجموع كلامهم ككلام الرجل الواحد في المجلس الواحد، يفسِّر بعضه بعضاً ولا يناقض بعضه بعضه الآخر، وهذه المهمة لا يمكن ان يقوم بها إلا المجتهد الجامع للشرائط بعد الإحاطة الكاملة بكافة طوائف الآيات والروايات (وهي بالمئات) ثم استكشاف مخرجاتها والمحصلة النهائية منها بعد مقارنة بعضها ببعض، وملاحظة نسبتها إلى بعضها الآخر فهل هي التباين؟ أو من وجه؟ أو العموم والخصوص المطلق؟ أو هي على أنواع؟ وهل هي داخلة في دائرة التخصيص؟ أو الحكومة؟ أو الورود؟ أو بالتفصيل؟ وهل يلزم انقلاب النسبة من ملاحظة بعض مجاميع الروايات منسوبة لبعض آخر منها أو لا؟ وهل هي بعد ذلك كله مندرجة أصلاً في باب التعارض؟ أو في باب التزاحم؟ أو بالتفصيل؟.
والمرجعية في دراسة طوائف الروايات لمراجع التقليد
وهذا المهمة اعتبرها الأئمة عليهم السلام مما يجب ان يرجع فيها إلى الفقهاء العدول إذ وردت الروايات الكثيرة المصرحة بذلك ومنها قوله عليه السلام ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ))(28) وقد فصّلنا الحديث عن هذه الرواية الكريمة في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) فراجع. وقد سبق قولنا:
(متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟ والواجب على الفقيه في مقام الاستنباط أمران(29): أولاً: استفراغ الوسع في استنباط الحكم الشرعي ووجوه الجمع بين طوائف الروايات (فانها حسب التحقيق أكثر من طائفتين).
ثانياً: ثم الواجب عليه تنقيح الموضوع وانه هل هذا هو المطلوب في هذا الزمان وهذا المكان وفي هذه البيئة؟ وهل هو مطلوب من هذا الشخص وبالنسبة إلى هذه الجهة أو الفئة أو الدولة أو الشخص؟، أو عكسه هو المطلوب؟ إذ على الفقيه دراسة كافة مقتضيات باب التزاحم في الموضوع وكافة تأثيرات سباب الآخرين من أشخاص وحكومات على الدين وأهله وأتباع أهل البيت عليهم السلام في شتى البلاد حقوقياً، أمنياً، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكن ذلك للفقيه عادة إلا باستشارة مجموعة معتنى بها من أهل الخبرة بأوضاع البلاد وأوضاع المسلمين والناس في كل مكان، وذلك يعني وجوب استشارة خبراء بعلم الاجتماع وبعلم النفس الاجتماعي وبعلم السياسة وشبه ذلك كي يكون تنقيحه للموضوع وللحادثة الواقعة مبرءً للذمة إن شاء الله.
ويؤكد ذلك بل يبرهنه ان السباب إذا كان شخصياً (كما لو اجتمع جمع في غرفة مغلقة) فقد يقال ان تشخيص الموضوع راجع حينئذٍ للمكلف نفسه وذلك طبعاً بعد أخذ الحكم الكلي من الفقيه الجامع للشرائط، ولكن الأمر يختلف في السباب النوعي أعني السبّ الذي ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات فانه يترك تأثيره على عامة الشيعة دون شك فهو من الحوادث الواقعة فلا بد فيه من الرجوع إلى المرجع الجامع للشرائط.
ومما يؤكد ذلك ويبرهنه أيضاً: ان الروايات التي ورد فيها بعض ما يقال انه سباب، تحتاج إلى تنقيح فقهي وانها هل كانت بنحو القضية الخارجية؟ أو كانت بنحو القضية الحقيقية؟ ان ذلك مما لا يمكن للعاميّ البت فيه ولو فعل لفعل محرماً بل المرجعية هي للمرجع الجامع للشرائط)(30).
غالب الروايات مجرد نقل أفعال، والفعل لا إطلاق له ولا جهة
والآن لا بد من تحليل هذه الروايات ودراستها لنجد انها هل تقع في مواجهة الروايات الناهية عن السباب أو لا، فنقول:
ان العمل أولاً لا جهة له، فلا يمكننا الاستدلال به إلا إذا أحرزنا جهته وانه صادر لكونه حكماً أولياً؟ أو حكماً ثانوياً؟ أو حكماً ولائياً؟ أو انه كان من الأهم في باب التزاحم (بعد الإحاطة بكل الظروف الموضوعية والذاتية) وهل ان القضية كانت من قبيل القضية الحقيقية أو الخارجية؟ وهل كان الإمام عليه السلام في مقام الفتوى أو مقام التعليم(31) إلى غير ذلك.
وثانياً: ان الفعل (فعل المعصوم عليه السلام) لا إطلاق له فانه ليس لفظاً ليكون له عموم أو إطلاق بل هو دليل لُبّي، بل السيرة لو ثبتت فهي دليل لبّي لا إطلاق له، فكيف نعمم الفعل إلى أشخاصنا وأزمنتنا إلا بنحو تنقيح المناط وهو ظني بل هو من أردأ أنواع القياس.
وتوضيح ذلك: ان كل الموارد الماضية والعشرات غيرها إنما هي مثلاً سباب صادرة من المعصوم بالنسبة إلى شخص معين أو جهة معينة في زمن معين وظروف اجتماعية – سياسية – حقوقية خاصة، فمن أين يحرز الانسان اتحاد ظروفه مع ظروف الامام وموقعه مع موقعه؟ نعم لورود لفظ وأمر من المعصوم عليه السلام مثل (سبوا الناس) – كما ورد بالفعل بالنسبة إلى أهل البدع وسنبحثه مستقلاً – فهذا هو الذي يجب ان نلاحظ نسبته مع الروايات الناهية عن سبّ الناس وطريقة معالجتها أو الجمع بينها، اما الأفعال فلا إطلاق لها ولا جهة.
ثلاثة أمثلة لكون الفعل لا جهة له ولا إطلاق
ويمكن توضيح ذلك عبر مثال عرفي وآخر روائي وثالث فقهي:
لو باع أحدهم عليه السلام ثوبه في ساعة معينة
المثال العرفي: لو ان النبي الأعظم صلى الله عليه واله وسلم باع أو أشترى كتاباً أو ثوباً – فرضاً – في يوم الجمعة صباحاً الساعة العاشرة، فهذا فعل وعمل لكنه أ- لا جهة له أي لا يدل فعله هذا على استحباب بيع الكتاب أو شراؤه يوم الجمعة الساعة العاشرة صباحاً، كما لا يدل على وجوبه؛ إذ لا يعلم انه باعه أو اشتراه لأجل أحدهما؟ أو لأجل حاجة شخصية؟ أو لأجل ضرورة واضطرار؟ أو لأجل عنوان ثانوي طارئ كنذر أو قسم أو وعد أو غير ذلك.
ب- ولا إطلاق له إذ لا يدل على رجحان هذا العمل في سائر ساعات الجمعة وفي سائر الأيام، ولا على استحبابه للرجال والنساء والعلماء والجهال والكبار والصغار.
دخول الإمام الكاظم عليه السلام مزرعة الـعُمَري بدون رضاه
المثال الروائي: وردت في الروايات قصة أحد أحفاد عمر مع الإمام الكاظم عليه السلام قال الشيخ المفيد: (أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد عن جده عن غير واحد من أصحابه و مشايخه أن رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه السلام ويسبه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام. فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن العمري فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا توطئ زرعنا! فتوطأه أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده، وباسطه وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ فقال له: مائة دينار، قال وكم ترجو أن تصيب فيه؟ قال: لست أعلم الغيب، قال: إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟ قال: أرجو فيه مائتي دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن عليه السلام صرة فيها ثلاث مائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو، قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه فتبسم إليه أبو الحسن عليه السلام وانصرف، قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. قال فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك قد كنت تقول غير هذا! قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام فخاصموه وخاصمهم فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره))(32)
والشاهد هنا ان الإمام عليه السلام دخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا! لكن الإمام استمر في وطأ زرعه بالحمار حتى وصل إليه! فهذا فعل من أفعال الإمام ولكنه لا جهة له ولذا لا يجوز الاقتداء به إلا إذا علمنا الجهة وعلمنا انطباقها علينا؛ وذلك لأن الدخول في ملك الغير بدون رضاه حرام (خاصة مع نهيه الصريح) والإضرار بزرعهم حرام، فلا يجوز لنا ان نفعل ذلك استناداً إلى ان الإمام عليه السلام فعل ذلك، كما انه لا يجوز لنا فعل أشباهه كالدخول في محلات الغير ومنازلهم دون رضاهم – إذ الفعل لا إطلاق له أيضاً.
والحاصل: ان جَهة فعل الإمام مجهولة لنا إذ لا يعلم هل انه فعل ذلك نظراً لولايته؟ أو فعل ذلك نظراً لمالكيته (حسبما ثبت من ان ملكنا مجازي هو في طول ملك الرسول صلى الله عليه واله وسلم وآله، وملكهم في طول ملك الله تعالى) أو نظراً لقانون الأهم والمهم؟(33) فان كانت جهة فعل الإمام الكاظم عليه السلام الوجه الأخير تعدّى ذلك إلينا وسرى وأمكننا ان نفعل كما فعلوا، ولكن حيث لا تعلم جهة الفعل فلا يمكننا ان نقوم بمثله أبداً.
وسبّهم عليه السلام لأشخاص أو أقوام إنما هو من هذا القبيل؛ إذ لا تعلم جهة فعلهم إذ الجهات المحتملة في فعلهم قد تبلغ عشرة، وعلى غالبها لا يجوز لنا ان نفعل كما فعلوا وعلى بعضها فقط يجوز، فلا يجوز الاقتداء بهم إلا بعد إحراز الجهة – وسيأتي ذكر الجهات العشر في الدرس القادم بإذن الله تعالى... ويوضح ذلك أكثر المثال التالي:
إجراء الإمام عليه السلام الحدود، والقول بحرمة إجرائها علينا
المثال الفقهي: لا شك ان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أقام الحدود ابّان حكومته على أناس منهم شارب الخمر ومنهم فاعل الزنا ومنهم غير ذلك، ولا شك في صدور هذه الأفعال منه (لتواترها وصحة سند بعضها وصراحة دلالتها) ولكن هل يجوز لكل عامي وخاصي ورجل وامرأة وعالم وجاهل ان يتأسى به قائلاً ان الإمام أجرى الحدود فيجوز لي (أو يجب عليَّ) ان أجري الحدود كذلك (كما يقول البعض: ان الإمام عليه السلام سبّ أناساً فيجوز أو يجب عليَّ أن أسب أناساً كما فعل عليه السلام!) الجواب كلا! وذلك لأن جهة فعل الإمام مادامت غير معلومة فلا يجوز ذلك إذ ان جهة فعله قد تكون: أ- كونه إماماً معصوماً وان هذا المنصب خاص به فلا يجوز ذلك حتى للفقيه المبسوط اليد ويحرم عليه إجراء الحدود.
ب- أو الجهة: كونه حاكماً عادلاً مبسوط إليه (فعلى هذا يجوز للفقيه المبسوط اليد كذلك، دون عامة الناس.
ج- أو الجهة: كون إجراء الحد من شؤون الحسبة وانه يوجد قدر متيقن فرضاً، فعلى هذا لا يجوز إلا للقدر المتيقن (وهو المجتهد الجامع للشرائط مبسوط اليد).
د- أو الجهة: ذلك مع عدم وجود قدر متيقن فيجوز للكل، بل قد لا يجوز حينئذٍ أيضاً نظراً لما التزم به المشهور من عدم صحة إجراء الحدود في زمن الغيبة.
إذاً: فعل المعصوم بما هو فعل لا جهة له ولا إطلاق له، فلا يصح الاستدلال به على وجوب أمر أو جوازه لنا أو حرمته (إذا تركه) مادام لم نحرز الجهات السابقة وغيرها كـ: انه هل فعل ذلك لعنوان أولي أو لعنوان ثانوي؟ وهل ينطبق العنوان الثانوي علينا أم لا؟ وهل كان بنحو القضية الخارجية أو القضية الحقيقية؟ وهل انه كان لموقعه ومنصبه أو خصوصياته الأخرى (ككونه عارفاً بكافة الموازين) مدخلية أم لا..
والخلاصة: ان مجرد الفعل لا يحتج به إلا بعد إحراز جهته وإحراز إطلاقه.. وللبحث تتمة بإذن الله تعالى.
الحداثويون أيضاً يسبّون ويشتمون!
ومن المهم الإشارة إلى ان بعض الحداثويين يعترضون على الرسول والائمة عليهم السلام وعلى تراثنا بانه حافل بالسباب والشتائم؟
ولكننا نقول: ان أولئك لا يصح لهم الاعتراض أبداً؛ إذ نجيبهم بالنقض أولاً وبالحل ثانياً:
اما الجواب النقضي: فان كثيراً منهم بأنفسهم – بل و ديدن كثير من عقلاء العالم من اصحاب الايديولوجيات – أيضاً يسبون ويشتمون وإن كان (المتعلَّق) والمشتوم مختلفاً؛ ألا ترى انهم يشتمون الكثير من الناس بعبارات مختلفة كـ: (الرجعي، المتخلف، المتحجر!) بل وبعبارات أقسى كالدوغمائي! بل وبعبارات أقسى كالإرهابي! بل انهم إذا وصفوا شخصاً أو جهة بالإرهابي اعتبروها أكبر منقصة وأعظم مثلبة، بل اعتبرَ كثيرٌ منهم ذلك سبباً لتجريد من وَصَمُوهُ بالإرهاب من بعض حقوقه أو حتى من كافة حقوقه، والشواهد والقصص كثيرة في هذا الحقل وليس ههنا محل استعراضها.
واما الجواب الحلي فسيأتي عندما نتطرق لوجوه السباب الموجودة في تاريخنا سواء الصادرة على لسان الرسول صلى الله عليه واله وسلم وأهل بيته او الموجودة في القرآن الكريم – إن عدّت سباباً حسب الخلاف المبنوي – فانتظر.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق