الله تعالى تدخّل تارة في تحديد الأهدى سبيلاً، مباشرةً، وأخرى فتح نوافذ ومنافذ توصل إلى معرفة ذلك: فاما تدخله مباشرةً فعن طريق إرسال الرسل وتكليمهم أو إنزال الوحي عليهم وتسليحهم بالمعجزات والبيّنات، إضافة إلى تجلّيه لهم بأنحاء من التجليات (وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِني كَيْفَ...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)(1)
من البصائر: (أَهْدَى سَبِيلاً) مجرد عن معنى التفضيل
ومن البصائر: انه قد يقال في قوله تعالى (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) ان المراد من (الأهدى): المهتدين سبيلاً في مقابل الضُّلّال سبيلاً؛ وذلك لأن الأصل في أفعل التفضيل وإن كان اشتراكهما في مبدأ الاشتقاق وتفاضلهما في الدرجات كقولك زيد أعلم من عمرو أي ان كليهما ذو علم لكن زيد أكثر علماً أو عمرو أقوى من بكر أو القمر أجمل من النجم وهكذا، إلا انه قد يتجرد افعل التفضيل عن معنى التفضيل ويراد به ثبوت الأصل في هذا الطرف وفقدانه في الطرف الآخر كقولك: علي عليه السلام أعدل من فلان فانه لا يراد به ان فلاناً عادل وعلي أعدل منه بل المراد ان علياً عادل وذاك ظالم غير عادل، وعلى هذا فالمراد من الآية هو: فربكم أعلم بمن هو مهتدٍ ممن هو ضال عن سواء السبيل.
والصحيح عدم تجرّده وان الاضلاع أربعة
لكن ذلك غير صحيح، والصحيح هو إبقاء (أهدى) في الآية الشريفة على مقتضى الأصل في افعل التفضيل إذ لا وجه لرفع اليد عنه إلى التجوز، بل ان إبقاء (أهدى) على الأصل فيها هو الأنفع والأكثر فائدة بل وهو الظاهر من سياق المراد من الآية الشريفة.. توضيحه:
ان (أَهْدَى سَبِيلاً) تدل بالدلالة المطابقية على الأكثر اهتداء أو الأحسن اهتداء أو الأفضل هداية، وتدل بالدلالة الالتزامية أو بمفهوم المخالفة على معانٍ ثلاث أخرى فتكون الأضلاع التي تشير إليها الآية الكريمة أربعاً:
الضلع الأول: (أَهْدَى سَبِيلاً).
الضلع الثاني: المهتدي إلى سواء السبيل.
الضلع الثالث: الضال سبيلاً.
الضلع الرابع: الأضل سبيلاً.
ويكون المراد بالآية الشريفة بلحاظ ما سبقها: ان كُلَّاً يعمل على حسب شاكلته: أي نيته وحالته وملكته وصفاته الراسخة ومزاجه وغير ذلك مما سبق والشواكل مختلفة – كما هو بديهي – بالأنواع وبالدرجات أيضاً، والله تعالى هو المطلع على الخفيات وعلى شواكل كافة الناس بمختلف درجاتها وعلى تشابك أنواعها وتداخلها وتزاحمها ولذلك فانه الأعلم بالأنواع الأربعة: الأكثر اهتداء والمهتدي والضال والأكثر ضلالة؛ إذ لا يمكن ان يحيط بكل ذلك على حقيقته إلا المطلع على الشواكل النفسية والروحية والفكرية والجسدية على حقيقتها وعلى حسب درجاتها وأعماقها وأغوارها وتموجاتها أيضاً.
وعلى ذلك: فقد يوجد مرجعان أو قائدان أو رئيسان أو صديقان أو شريكان يبدو لنا ان هذا أفضل من ذاك حيث نظرنا إلى لسان أعماله ومفاد أقواله، لكنّ الله تعالى هو المحيط بشواكلهما فهو الأعلم بالأفضل منهما فلعل من بدا هو الأفضل يكون المفضول أو فاقد الفضل أساساً لأن شاكلته هي التي عليها المدار وبها الاعتبار إذ ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))(2)
ثم ان من الواضح: ان المؤمن المتقي الورع العامل المعطاء أهدى سبيلاً من المؤمن غير العامل، ولكن قد يسأل عن العامل غير المؤمن، والمؤمن غير العامل أيهما أهدى سبيلاً؟ ذلك ما يجيب عنه علم الكلام والعقائد وقد نتكلم حوله في بعض البحوث القادمة بإذن الله تعالى.
لا توجد صراطات مستقيمة
البصيرة الثانية: ومن هذه المعادلة (وهي انه يوجد هناك من هو أهدى سبيلاً ومن هو مهتد ومن هو ضال ومن هو أضل) نكتشف انه ليست فكرة (الصراطات المستقيمة) صحيحة وسيأتي في الدرس القادم التوقف عند هذه البصيرة مفصلاً بإذن الله تعالى.
المرجعية لخالق الكون في تشخيص الأهدى سبيلاً
البصيرة الثالثة: انه مادام ان الله تعالى هو الأعلم بمن هو أهدى سبيلاً، فالمرجعية لا بد ان تكون إليه، فمنه جل اسمه يُعلم الأهدى سبيلاً من المهتدي من الضال من الأضل، وسيأتي لاحقاً الاستدلال على ذلك عبر الاستناد إلى مفردة (ربكم) في الآية الشريفة كما سيظهر، على انه من المسلّمات فان موسى النبي على نبينا وآله وعليه السلام رغم وفور علمه وحدّة ذكائه وقوة فراسته إلا انه كان كما قال القرآن الكريم: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرينَ)(3).
ولذلك كان اللازم ان يرجع حتى عقلاء البشر وعلماؤهم إليه جل اسمه في تحديد من هو (أَهْدَى سَبِيلاً) من الأصناف الثلاثة الأخرى، ولذلك كان أمر النبوة والإمامة بالتعيين من قِبَل الله تعالى لا بانتخاب البشر واختيارهم قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُون)(4).
نوافذ لاكتشاف الأهدى سبيلاً
البصيرة الرابعة: ان الله تعالى تدخّل تارة في تحديد الأهدى سبيلاً، مباشرةً، وأخرى فتح نوافذ ومنافذ توصل إلى معرفة ذلك: فاما تدخله مباشرةً فعن طريق إرسال الرسل وتكليمهم أو إنزال الوحي عليهم وتسليحهم بالمعجزات والبيّنات، إضافة إلى تجلّيه لهم بأنحاء من التجليات (وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي)(5) (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً)(6).
واما فتحه للنوافذ المعرفية والمنافذ العلمية فعبر طرق كثيرة أهمها (الآيات) و(الروايات) ثم (الأفعال).
الآيات والروايات روابط بين الخلق والخالق
فالآيات والروايات هي الروابط بين البشرية وبين الإله العلي القدير وهي المنافذ إلى المعارف والحقائق والدقائق واللطائف والرقائق والطرائف والبطون.. ولعله يأتي الكلام عنها لاحقاً. ويكفي قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(7) فالنافذة المعرفية هي الكتاب مع بيان الرسول صلى الله عليه واله وسلم وشرحه له ولو كان الكتاب مستغنياً عن الشرح والبيان لكان قوله – والعياذ بالله (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) لغواً، وقوله تعالى (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(8) والآية وإن نزلت في أمر من الحوادث الواقعة لكن العبرة بعموم اللفظ، على ان المناط قطعي، بل يكفي ان النافذة الوحيدة للحوادث الواقعة هو (الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وقال الرسول الأعظم ((أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا))(9) فمن أراد العلم من غير باب علي عليه السلام ضل وزل.
وقال علي عليه السلام: ((يَاكُمَيْلُ لَا تَأْخُذْ إِلَّا عَنَّا تَكُنْ مِنَّا))(10).. إلى غير ذلك.
الأفعال أيضاً منافذ لكشف الشواكل
والأفعال هي الأخرى – وإن كان بمستوى أخفض – من النوافذ التي تكشف، على نحو البرهان الإني، عن الشاكلة النفسية، فمثلاً: من يثور على زوجته ويعنّفها وقد يسبها لمجرد انها لم تطبخ هذا اليوم الطعام مع انها قد تكون مريضة أو متعبة أو مبتلاة بأمر آخر أهم، أو يعاقبها لأن الطعام كان غير ناضج أو قليل الملوحة (ماصخاً) أو شبه ذلك، فان ثورته تكشف عن شاكلة نفسية طاغوتية – بدرجة أو أخرى – إذ تحكمت فيها القوة الغضبية بدل الحكمة والرحمة، خاصة وانه ليس من واجب المرأة شرعاً طبخ الطعام أو كنس الدار أو حتى حضانة الطفل بل لها شرعاً ان تمتنع أو ان تطالب بأجرة المثل على كل ذلك، بل انها في الواقع هي المتفضلة على الزوج بتكفلها إدارة المنزل في مختلف أبعاده، ومع ذلك وبدل ان يكون أسير إحسانها، تجده متعالياً عليها بل وثائراً ومتنمراً.. وهذا مثال بسيط لكنه يكشف عن ظاهرة عامة في البشر..
وإذا أردنا ان ننتقل إلى مثال آخر أبعد غوراً وأعمق دلالة فان في عبودية معاوية لبطنه الدلالة كل الدلالة، وتكشف الحادثتان الآتيتان اللتان تفصل بينهما أكثر من ثلاثين سنة عن شاكلته النفسية في عبوديته المطلقة لبطنه فكيف بسائر أهوائه وشهواته؟:
الحادثة الأولى: ان الرسول صلى الله عليه واله وسلم أرسل إليه يستدعيه في أمر ولكنه لم يستجب متذرعاً بانه مشغول بالطعام! ولعله بعث الرسول إليه مرة ثانية فتعلل بالطعام وسوّف الاستجابة ولعل ذلك تكرر مرة ثالثة أيضاً، حينئذٍ دعا عليه الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقوله (لا أشبع الله بطنه)(11) والغريب في معاوية سفاهته المطلقة عكس ما يدعى من ذكائه وفطنته، فانه لا يخلو اما ان يعتقد بان الرسول صلى الله عليه واله وسلم نبي مرسل من قبل الله أو يعتقد بانه مجرد ملك فإن كان يعتقد بانه رسول ولا يستجيب لأمره بالمجيء متذرعاً بالانشغال بالأكل فهو من أفسق الفساق وأسفه السفهاء وإن كان لا يعتقد بنبوته ويرى انه مجرد حاكم منتصر وملك فان من السفاهة المطلقة إهمال أوامره بهذه الطريقة.. وعلى أي فان هذه الحادثة تكشف عن عمق عبوديته لبطنه حتى انه لم يهتم بإغضاب مثل الرسول الأعظم لمجرد الانشغال بشهوة بطنه.
الحادثة الثانية: - وقد نقلناها سابقاً – ان معاوية استضاف مجموعة فرأوا في مائدته طعاماً فريداً في لطافته ولما سألوا معاوية عنه تبجح بانه طعام نادر لا يوجد له نظير على موائد الملوك وقال: انه قد اعدّ من أمخاخ عشرة آلاف عصفور! وتصوروا المبالغ التي كان يصرفها معاوية من بيت مال المسلمين واليتامى والفقراء والأرامل والبؤساء، على مائدته التي كانت هذه العصيدة إحدى ما تتزين به المائدة! فكم طباخاً كان قد ضم مطبخه؟ وكم صياداً كان يصيد له؟ وكم وكم وكم!
الإشكال على مرجعية الآيات والروايات بتعارضها وخطأ الإفهام فيها
وعوداً إلى مرجعية الآيات والروايات نقول: انه قد يعترض على مرجعية الآيات والروايات بوجود التعارض في بعض الروايات، والتشابه في الآيات، والخطأ في إفهام المجتهدين إضافة لتعارضها؟.
الجواب: الحجج النوعية لا تسقط عن الحجية بذلك
والجواب عن ذلك واضح؛ فان الحجج لا تسقط، في بناء العقلاء، عن الحجية لوجود احتمال الخطأ في فهم المجتهدين لها أو لتعارض بعض تلك الحجج مع بعض أحياناً أو لوجود متشابهات فيها؛ ألا ترى ان خبر الثقة حجة لدى كافة عقلاء العالم مع ان الثقة قد يكذب، إذ ليس هو بمعصوم، وقد يُخطأ، ولكنه لا يسقط عن الحجية بذلك إلا لو قام دليل على العكس في مورد خاص، وكذلك حجية البينة والظواهر إلى غير ذلك.
والحاصل: ان الحجية تتعايش مع احتمال الخلاف ومع تحقق التعارض أحياناً بين بعضها، غاية الأمر ان المتعارضين (لو ثبت تعارضهما ولم يكن هناك جمع دلالي بينهما) يسقطان عن الحجية وهذا إنما يكون لو لم يكن لأحدهما مرجح ثم على فرض فقده لو لم نقل بالتخيير بينهما كما نراه انه هو الأصل الأولي لدى التعارض وليس التساقط، ويراه القوم الأصل الثانوي في خصوص الأخبار نظراً لروايات الترجيح ثم التخيير بين المتعارضة، المتواترة(12) حسب ما قاله الشيخ الانصاري.
مقارنة بين الرجوع للأطباء والرجوع للفقيه
وبعبارة أخرى: ان بناء العقلاء على ان الظواهر حجة وعلى ان اجتهاد المجتهدين المتخصصين حجة، ولذا تجدهم يوجبون الرجوع إلى الأطباء مثلاً ولا يجوّزون العدول عن الأطباء بتبرير انهم كثيراً ما يخطأون أو يتناقضون، بل يُلزم العقل والعقلاء بالرجوع إليهم إلا فيما لو علمنا خطأهم، والسر هو مجموع أمرين:
الأول: ان رأي المتخصصين (ومنهم الأطباء ومنهم الفقهاء) كاشف نوعي عن الواقع وانه يغلب معه الظن بالإصابة وهو يتعايش مع احتمال الخلاف فالأخذ به ترجيح للراجح وتركه ترجيح للمرجوح.
البديل عن الرجوع للمجتهد تحكيم رأي العوام غير المتخصصين
الثاني: ان البديل عن الرجوع إلى المتخصص هو تحكيم آراء العوام في الطب والفقه والهندسة وغير ذلك وهل يعقل قبول ذلك؟ أي هل يقبل عاقل بان نترك الرجوع للأطباء لأنهم يخطأون ويتناقضون ونرجع بعد ذلك في كافة المسائل الطبية للبقال والعطار والحلاق وسائر من لا اختصاص لهم بالطب؟ أو نلزمهم بالاحتياط وهو الموقع في أشد العسر والحرج، على ان وجهه وكيفيته مجهولة في كثير من الأحيان.
والعجب ان كل مثقف تطرح عليه شبهة تناقض المتخصصين أو خطأهم يرفض الإعراض عنهم (عن الأطباء والمحامين والمهندسين.. الخ) واللجوء إلى العوام والمشعوذين، ولكنه عندما يصل الأمر إلى التفسير أو علم الكلم أو علم الأصول أو علم الفقه ترى بعضهم يطالب بإلغاء مرجعية المجتهدين لأنهم يخطأون أحياناً ويتناقضون!! ويستند إلى ان الحق كل الحق لكل أحد في ان يحتكم إلى عقله في الفقه والكلام وغير ذلك مع ان المسألة علمية وليست من دائرة المستقلات العقلية، كسائر العلوم الإنسانية، حيث المرجع فيها عقلاً هو المتخصص وليس العقل نفسه فانه لا ينال المسائل العلمية بذاته بل عبر أدوات الحصول على العلم.
نعم لو ترك ذلك المثقف أعماله وانشغل بالدراسة الحوزوية وأصبح مجتهداً في الفقه أو غيره فله حينئذٍ الاجتهاد في الفقه كسائر المجتهدين، ولكن الغريب انهم يطالبون بفتح باب الاجتهاد لهم وهم غير مجتهدين! ويطالبون بالاعتراف بحقهم في الاجتهاد في كافة مسائل الدين مع انهم غير متخصصين!
وكلمتنا واضحة إذ نقول: باب الاجتهاد مفتوح كباب الطب وعليه: فتفرغ لدراسة الطب أو الفقه وأدرس وطالع وحقق حتى تصل إلى مرحلة الاجتهاد ثم بعد ذلك لك ان تجتهد في الفقه كما لك ان تجتهد في الطب وغيره.. إنما الإشكال كل الإشكال ان لا تدرس ثم تطالب بمنحك الحق في الاجتهاد!.
إذا تأثر الفهم عن الشاكلة فليس حجة
ثم انه يمكننا ان نعرض المسألة في إطار أوسع نقول: ان المراد من (يعمل) في قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) إذا كان هو الأعم من يفهم – كما قويناه سابقاً – فيكون المراد أيضاً ان كلّا يفهم على شاكلته، فكيف تكون أفهام المجتهدين حجة؟ وألا ينتج ذلك ما يذهب إليه الهرمينوطيقيون؟
وقد أجبنا عن ذلك بوجوه عديدة في كتاب (نقد الهرمنيوطيقيا) وكان من الوجوه ان أفهام المجتهدين كواشف نوعية، وان تأثير الشاكلة ليس بنحو العلة التامة بل هو بنحو المقتضي.. وانه مع ذلك فقد قرر الله تعالى مرجعيات وموازين ومقاييس بها يمكننا ان نكتشف مدى سلامة التفكير وتأثره عن الشاكلة أو المحيط وغيرهما وعدمه..
ولنختم باقتطاف مقطع من الكتاب ثم سنضيف إليه في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى ما لم نذكره في الكتاب:
(5- لا معيار موضوعياً لتمييز الحق من الباطل
المعنى الخامس من معاني النسبية: أن يراد أنه حيث لا يوجد معيار موضوعي، لتمييز الحق من الباطل، فإنه لا محيص لنا عن القول بأن كل (الأفهام) و(المعارف) على تعاكسها وتناقضها هي (حق) وهي (صواب).(13)
المعيار الموضوعي للتمييز بين الحق والباطل
ويمكن أن تناقش هذه المدرسة من مدارس النظرية النسبية، بالآتي:
أ ـ إنه خلط بين (عالم الثبوت) و(عالم الإثبات)، فهو كقولك: حيث لا (معيار موضوعياً) لتمييز العادل من الظالم، أو الطويل من القصير، أو الحلو من الحامض، أو الليل من النهار، أو العلم من الجهل؛ فالكل إذن (عدول) و(علماء)!! وكل شيء إذن (طويل) و(حلو) أو (نهار)!!
وبعبارة أخرى: (الحقُ حقٌ ثبوتاً) و(الحقيقة هي هي، وعلى ما هي عليه، في الواقع ونفس الأمر) وهذا مما لا يتبدل أو يتغير في عالم (الوجود العيني) ولو فرض أننا فقدنا (التمييز) و(معاييره) في عالم (الوجود الذهني).
ب ـ إنه لا يعقل(14) أن لا يوجد معيار موضوعي للتمييز بين الحق والباطل؛ فإن الكون كله قد بُنيَ على وجود حقائق من جهة ووجود معايير موضوعية إلى جوارها من جهة أخرى، فكيف يفتقد خصوص (الحق والباطل) أو الصدق والكذب (المعيار الموضوعي)؟ وهذا ما يشهد به منهج (البرهان الفرضي) و(البرهان الاستنباطي) و(الاستقراء المعلل) حيث يشهد التتبع، بوجود (الموازين لكل شيء) وكلما ازددنا تتبعاً ودقة وعمقاً، ازددنا أدلة وشواهد وازددنا اقتناعاً، ومن ذلك:
المرجعيات والمقاييس التكوينية والعملية والفكرية
(الميزان) للأجرام والأثقال، فإنه هو المقياس الموضوعي، على اختلاف أصنافه: بين ما يوزن به (الذهب) فيحدد لك حتى وزن المثاقيل والغرامات، أو ما توزن به (الفواكه والأطعمة)، فيعطيك الوزن بالأرطال والكيلوات، أو ما توزن به (الأحجار الكبيرة)، فتحدد لك الوزن بالأطنان وهكذا... وعلى اختلاف أشكاله من ذي الكفتين والقبان إلى سائر أنواعه.
(الميزان) للمواقيت والارتفاعات والجغرافيا، وذلك كالاسطرلاب، والبروج، والشمس والأرض، بحركتها وظلالها وغير ذلك، والنجوم.
(الميزان) للدوائر والقسي، وذلك كـ(الفرجار) وغيره.
(الميزان) للأعمدة، كـ(الشاقول).
(الميزان) للخطوط، كـ(المسطرة).
(الميزان) للشعر، كـ(العروض).
(الميزان) للفكر، كـ(المنطق).
وهكذا مما لا يعد ويحصى، من الموازين:
فـ(الميزان) لقياس ذبذبات الصوت وقوة الزلزلة هو مقياس (ريختر).
ولأمواج النور هو (الفوتون).
وكذا الموازين والمقاييس الموجودة أو التي توضع لتحديد حجم الكتلة، أو درجة الضغط والحرارة، أو مختلف أنواع المادة والطاقة.
ومنها: (موازين يوم القيامة) و(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ)(15) ومن أظهرها: ((السلام عليك يا ميزان الأعمال))(16)، مخاطباً أمير المؤمنين عليه سلام الله وملائكته والمرسلين، فإنه ميزان الأعمال وميزان الكفر والنفاق والإيمان كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله)(17). وللبحث صلة بإذن الله تعالى
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق