بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)[1]
بصائر الوحي في آيات الشك والريب
الكثير من البصائر يمكننا ان نستلهمها من هذه الآية الشريفة ونظائرها، ولكننا سوف نقتصر في هذا البحث على ذكر أهم البصائر التي تكشف الكثير من الحقائق عن (الشك) في نطاق البحوث المعرفية عن مديات قيمته ومدى نجاعته.
البصيرة الأولى: فوارق الريب عن الشك
لقد توهم بعض اللغويين ان الريب يرادف الشك ففسره به، لكن الصحيح هو أن الريب يغاير الشك بانه يستبطن معاني أخرى ذات دلالات أعمق، وذلك هو ظاهر الآية الشريفة إذ عبرت بـ(وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) إذ ظاهرها انه ليس شكاً فقط بل هو مريب أيضاً.
وفقه اللغة هو ما يقودنا إلى ذلك أيضاً فلقد فسر اللغويون الريب بالمعاني التالية:
1- الريب: التهمة والظنة.
2- انه شك معه خوف.
3- انه قلق النفس واضطرابها.
وهذه المعاني دقيقة جداً فإنها تفصح عن جوانب من خفايا النفس الإنسانية ومطاويها، وتوضيحه:
الشك الساذج والمعقد المتشابك
إن الشك تارة يكون شكاً ساذجاً عادياً، لكنه تارة أخرى يقترن بالظِنَّة أي بسوء الظن بالطرف الآخر الحامل للمبدأ أو للفكرة المشكك فيها أو الحامل للموقف المناقَش فيه، فيكون مقروناً باتهامه في نواياه، وعندئذ يكون الشك أخطر ويكون رفعه وإزالته أصعب.
الشك المقترن بالظِنَّة وسوء الظن
أ- فانه إذا طرح مفكر من المفكرين فكرة استراتيجية في مجتمع راكد رافض معارض ما أو طرح رسول من الرسل عقيدةً ما (كتفاهة عبادة الأصنام وبطلانها) فإذا اقترن الشك في فكرته؛ بسوء الظن به وانه يتغذى من فتات موائد الأعداء أو انه مدسوس أو عميل لجهات خارجية وانها هي التي تغذيه بالأفكار والاطروحات، أو حتى لو جرى اتهامه بانه ليس سليم النوايا في طرح هذه الأفكار والقيم والمبادئ بل انه يستهدف منها الوصول إلى مآرب أخرى وانها حلقات في سلسلة مخطط لها للاستحواذ على عقول الناس ومن ثمّ ابتلاع ثرواتهم، فلا شك ان الفكرة حينئذٍ ستواجه جداراً سميكاً من الصد والأفكار وستبتلى بمعارضة شديدة صارخة صاخبة، ولذلك نجد ان المشركين لم يكتفوا بالتشكيك بما جاء به رسل الله بل انهم شفعوا ذلك بسلاح التهمة وإثارة كوامن سوء الظن (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)[2] و(يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)[3] (وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ)[4] و(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[5].
الشك المصحوب بالخوف
ب- كما ان الشك تارة أخرى يكون شكاً مصحوباً بخوف، وذلك هو ما يحدث للكثيرين عند مواجهة (التغيير) خاصة إذا كان التغيير جذرياً أو على مديات واسعة؛ فان الإنسان بطبعه يخاف من المجهول، والتغيير سواءً أكان في الدين والمعتقد أم كان في الانتماء من مرجعية أو نقابة أو حزب إلى جماعة أخرى أم كان في نمط الحياة الخاصة أو العامة، يستبطن عادة المجهول بدرجة أو اخرى.
والكثير من الناس يعارض التغيير لا لمجرد الشك في جدوائيته بل وللخوف أيضاً مما قد يأتي به، ومنطقهم في ذلك هو ان (المألوف) و(الدارج) وما اعتدنا عليه إنما هو نمط واضح بيّن الأبعاد معروف غير مجهول فانه ظاهر المساوئ والثمار والمنافع ففوائده معروفة وأضراره أيضاً معروفة وقد ألفناها وتعايشنا معها سنين طويلة، أما التغيير فانه غريب مجهول ولا نعلم الكثير من أبعاده وخفاياه وجوانبه وزواياه فلعله يستبطن أخطاراً غير متوقعة أو أضراراً أكبر مما ألفناه، ولذلك يعارض كثير من الناس التغيير لا لمجرد الشك في الأدلة والحجج والبراهين العلمية الداعية للتغيير بل لتدخل عنصر آخر وهو الخوف الجِبِلّي في النفس الإنسانية.
الشك المستبطن للقلق والاضطراب
ج - والشك قد يتزامن مع القلق والاضطراب أيضاً، وذلك فيما إذا تجذر الشك في النفس وكان القرار مصيرياً والأمر حيوياً، فمثلاً: نجد ان من يريد تغيير دينه فانه يعيش حالةً من القلق النفسي والاضطراب الفكري والمعرفي، بل حتى من يفكّر في مقاطعة جماعته أو حزبه أو عشيرته أو أمتّه أو حتى في هجرانهم أو الابتعاد عنهم فانه يعيش فترة من الشك والاضطراب والقلق والخوف أيضاً.
وكل ذلك يختلف من فرد إلى آخر على حسب اختلاف النفسيات: مدى قوة نفسه أو هشاشتها ومدى جرأته وشجاعته أو جبنه وخوفه، وأيضاً على حسب درجة خطورة الموقف الذي يواجهه وعلى حسب محتملات المخاطر والأضرار التي قد تجول بباله وتتصارع في جنبات عقله ونفسه.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة والشواهد:
رفض التغيير من النظام الاستبدادي إلى الشوريّ
1- فان الكثير من الناس يرفض التحول من النظام الملكي إلى الاستشارية الإسلامية أو إلى الديمقراطية العصرية، لا لمجرد تشكيكه في فوائدها أو الأدلة المسوقة عليها لدى المفاضلة بين هذين النوعين من الأنظمة بل وأيضاً: لخوفه من المجهول وأُنسه بحياته بحلوها ومرّها وألفته بها، على العكس تماماً من عملية التحول الكبير باتجاه النظام الديمقراطي فانه (يخاف) منه ويقلق ويضطرب لمجرد التفكير الجاد فيه؛ ذلك انه يرى في استمرار الوضع المألوف، دِعةً وسكوناً واستقراراً بينما يرى، لدى التفكير في التغيير، اضطراباً عنيفاً في نفسه وقلقاً عميقاً في فكره وعقله، لذلك يرجِّح الواقع بكل آلامه ومراراته على المجهول ومفاجآته رغم كل احتمالات ثمراته.
معارضة إلغاء الجواز والجنسية
2- والكثير من الناس عندما تطرح عليه فكرة ضرورة إلغاء الجوازات والجنسية والحدود والجغرافية، فانه يصاب بالرعب فتكون معارضته – أو شدتها - لا للشك – أو لمجرد الشك - في فوائدها أو أضرارها إذ قد يتضح له بالبرهان الفوائد وان الاضرار ليست إلا وهمية لكنه مع ذلك يعيش القلق والخوف الموهوم من هذا التغيير الكبير.
التحفظ على التغيير في نظم الحوزة والجامعة
3- وكذلك عندما تدعو قلة من العلماء والحكماء والمفكرين، الجامعةَ أو الحوزةَ أو الأحزابَ والتنظيمات إلى اعتماد مبدأ شورى القيادات والسير قدماً في طريق التداول السلمي للسلطة فان الموقف الطبيعي لأغلب الناس من طلاب أو غيرهم هو الرفض؛ إذ انهم يرون المألوف مأنوساً اما التغيير فهو يستبطن المجهول ويصاحب القلق والظِنة والتهمة لدعاة التغيير: من هم؟ ولماذا؟ ولعل لهم مطامع ذاتية؟ أو ارتباطات أجنبية؟ أو غير ذلك.
وهذه الحقيقة، وهي ان الريب يزيد على الشك بانه شك مع خوف أو قلق واضطراب وتهمة وظنة، يجب ان يضعها دعاة الإصلاح والتغيير مدّ النظر عند مواجهة أمواج التشكيك من شرائح مختلفة من الناس، فيعرفوا انهم لا يواجهون مشكلة واحدة هي الشك والتشكيك، ولو كان الأمر كذلك لكان من السهل نسبياً معالجتها، بل انهم يواجهون مشكلتين: الشك والتشكيك من جهة والخوف والقلق والظنة من جهة أخرى وعلاج الثانية أصعب لذلك فانه يتوقف على طرق أكثر تطوراً وأساليب أكثر حكمة وبصيرة.
ولا فرق في ذلك (أي ثنائية الشك مع الخوف والقلق) بين التغيير نحو الأحسن الأسلم وبين التغيير نحو الأسوأ الأفدح، فان الكلام هو ان المشككين في التغيير (الإيجابي أو السلبي) قد يستبطن تشكيكُهم الخوفَ والقلقَ والاضطرابَ والظِنَّةَ والتهمةَ، ولا ريب انها إذ كانت في مواجهة التغيير السليم الواقعي كانت خاطئة خطرة، وانها إذا كانت في قبال التغيير السلبي المنحرف كانت هي الصحيح بل الضرورة أيضاً.
الغرب واستراتيجية الاستجابة الشرطية السلبية تجاه الإسلام
ولذلك نجد ان الغرب، حيث عرف مفكروه الاستراتيجيون عمق معادلة الشك والريب، نجدهم لا يواجهون الإسلام والقرآن والرسول وأهل البيت عليهم السلام بسلاح التشكيك فقط لأنهم يعرفون مسبقاً انهم في هذا الحقل خاسرون فان الإسلام أقوى حجةً وأسطع برهاناً وأقرب وجداناً من المسيحية واليهودية والبوذية والإلحاد وغيرها، بل انهم إلى جوار ذلك يستثمرون استثمارات كبرى في إثارة كوامن الخوف والقلق والظنة والتهمة في نفوس شباب الجامعات والنخبة بل والناس عامة ضد الإسلام والمسلمين.
ومن أبرز الشواهد على ذلك صناعتهم لداعش والنصرة ومن قبل الطالبان والقاعدة ومن قبلها الوهابية والتي تتعهد، بتخطيط بعيد استراتيجي من الأعداء وبعلم أو جهل من هؤلاء العملاء ومن يدور في فلكهم من البسطاء، بإيجاد ترابط جذري، عبر معادلة الاستجابة الشرطية، بين المسلم والإرهاب وبين الإسلام والتوحش، وليست أفلام حرق الناس أحياء أو قتلهم بطرق هوليوودية بشعة على أيدي الدواعش إلا نماذج مؤلمة تعلن عن هذه الحقيقة المرة بأعلى الأصوات.
والفلسفة وراء ذلك كله هو إيجاد تموجات من القلق والخوف والاضطراب لدى الناس في أرجاء العالم لا من مبادئ وقيم الإسلام المحمدي العلوي الحسيني المهدوي فقط بل من كل شيء يمتّ إلى الإسلام بصلة.
وهذا ما يفتح لنا الأبواب على سعتها لوضع الاستراتيجيات الناجعة والحلول السليمة الناجحة التي تتكفل بمعالجة ظاهرة التشكيك وتتصدي لأمواج الشك التي تعصف بالمجتمع بين حين وآخر: التشكيك في التقليد أو الخمس أو في العلماء والخطباء أو حتى التشكيك في وجود الله تعالى!
البصيرة الثانية: فلسفة الموقف القرآني الرافض للشك والتشكيك
قد يتساءل البعض عن السبب في موقف الآيات والروايات الشريفة الصارم والنهائي من الشك والتشكيك فان الملاحظ ان الآيات كافة والروايات كذلك – حسب استقراء ناقص لكن موسع – تذم الشك والتشكيك وتدينه وتعتبره رذيلة، مع ان الشك قد يكون نافعاً أحياناً كما سبق بل ان التطور العلمي في العصر الحديث هو رهين التشكيك – بدرجة أو أخرى – فلولا التشكيك في هيئة بطلميوس وفي ان الأفلاك هي كأقشار البصل وفي استحالة الخرق والالتيام وغير ذلك لما أمكن كشف حقيقة الأفلاك ومن ثم غزو الفضاء والهبوط على سطح القمر والمريخ وغير ذلك.
والجواب: ان ذلك الموقف السلبي الصارم، يعود إلى وجهين:
أ- لأن الشك بما هو هو، نقصٌ وعمىٌ
الوجه الأول: لأن الشك بنفسه وحسب طبعه الأولي نقص فانه يعني الجهل بالحقيقة فالشك بما هو هو ليس فضيلة إذ انه يعني العمى عن رؤية الواقع وهل الجهل والعمى فضيلة! نعم قد يكون الشك طريقاً لتلمس الواقع ويكون إحدى حلقات الوصول إليه، لكن ذلك لا يحوّل الشك بما هو هو وفي حد ذاته إلى فضيلة أبداً، بل يكون ذلك الشك الموصِل هو الاستثناء الذي يحتاج إلى الدليل.
القيمة المعرفية للشك هي القيمة المعرفية للأحلام وقراءة الكف والفنجان!
والذي يشهد لذلك الأشباه والنظائر مثل: (الأحلام) وقراءة (الكف) أو (الفنجان) و(الفال) و(التنجيم) وأشباه ذلك فانه لا شك في ان الأحلام قد تكون صادقة أحياناً وان قارئي الكف والفنجان قد يصيبون كبد الحقيقة ويكشفون لك المستقبل بدقة وكذلك قارئو الأبراج وغيرها، ولكن مع ذلك لا يرى العقلاء هذه الأمور طرقاً للوصول إلى الحقيقة بل انهم يردعون عنها ويسفهّون من يتعاطاها [6] ولكن لماذا؟ لأنها قد اختلط صوابها بخطئها وحقها بباطلها فان العقلاء وإن لم ينكروا انها قد تصيب وتوصل للواقع أحياناً ولكن مع ذلك لا يُجوّز العقل الاعتماد عليها أبداً ولا يراها العقلاء حجة أصلاً؛ وذلك لأنها كثيراً ما (بل ذلك هو الأكثر) تخطئ وتجرّ إلى التهلكة فكيف يصح اعتبارها حجة؟ فمثلاً قد تكتشف العجوز قارئة الفنجان ان السارق للدار هو فلان وقد يكون الأمر كذلك أحياناً لكنها في كثير من الأحيان تخطئ وتتهم بريئاً فيعاقب كسارق من غير جرم ولا جريرة، وهكذا وهلم جرّا، ولذلك أغلق العقلاء هذه الأبواب بالمرة.
وكذلك (الشك) فانه بطبعه جهل ونقص وعمىً، وكونه يقع أحياناً طريقاً للوصول إلى الحقيقة لا يشفع له لدى العقلاء إذ ما أكثر ما كان طريقاً لسحق الحقيقة أيضاً، فيبقى هو الاستثناء الذي لا بد من البحث عن ضوابطه، وهو ما سيأتي في البحوث القادمة بإذن الله تعالى.
الأحلام وأشباهها كاشفة قليلاً ما، أما الشك فلا!
بل ان الفارق بين الشك والريب من جهة وبين الأحلام والكف والفنجان والتنجيم من جهة أخرى، هو ان الشك جهل وعمى ولا توجد فيه جنبة إرادة الواقع أصلاً، أما الأحلام ونظائرها مما ذكرناه ومما لم نذكره فانها قد تكون كاشفة عن الواقع في الجملة (بدرجة 5% أو 10% أو ربما حتى 40% أو أكثر في بعض الأشخاص) ولكن على الرغم من وجود جهة الكاشفية عن الواقع في الأحلام في الجملة، مع ذلك لا يراها العقلاء حجةً ولا طريقاً ولا يعيرونها بالاً ولا اهتماماً، فما بالك بالشكوك وهي التي لا توجد فيها جهة المرآتية للواقع أصلاً؟
وأما وقوعها مقدمة أو حلقة في سلسلة قد توصل إلى كشف الحقائق فذلك هو الاستثناء وهو خاص بالمعتقِد بالباطل ثم شكّ فيه؛ فان هذا الشك هو من المقدمات وله القيمة من حيث آليته ومقدميته، عكس من كان معتقداً بالحق ثم شك فيه فان هذا الشك هو العدو للحقيقة وهو الذي يمكن أن يوصف بانه ضد القيمة حقاً، كما سيأتي تفصيل الكلام عن ذلك بإذن الله تعالى.
ولا بد من التنبيه إلى ان التنجيم له معاني متعددة هو ببعضها كفر وببعضها حرام غير موجب للكفر وببعضها جائز لكنه غير حجة، وقد ذكرناها في بعض الكتب [7] تبعاً للشيخ (قدس سره) والذي ذكر له عدة معاني.
هذا كله من جهة ومن جهة أخرى فان الشك إذا تجذر وتطور فانه يتحول إلى حالة مرضية، ولذلك عبّر عنه بعض علماء النفس بان الشك شعور مرضي عفوي وتلقائي.
قال له الفقيه: لقد سقطت عنك الصلاة!
ومن الطريف ان ننقل ههنا ما يكشف بوضوح عن الوجه المرضي للشك المتجذر، فقد جاء شخص إلى أحد الفقهاء وطرح عليه مشكلته وهي انه مصاب بالشك والوسوسة في الطهارة وانه إذا أصابت نجاسة مّا بعضَ بدنه فانه يغمسه في الماء مرة ومرتين وثلاثة ولكنه لا يطمئن مع ذلك لطهارته! ثم انه لكي يطمئن بالطهارة يرمي بنفسه في الحوض ويغوص فيه مراراً ثم يجد انه لا زال شاكاً في الطهارة؟ فما العمل؟
أجابه الفقيه بجواب مذهل؛ قال له: لقد سقطت عنك الصلاة! ذهل الرجل وقال غير معقول؟ فقال: بل هو معقول تماماً إذ ان الرسول (صلى الله عليه واله) يقول: ((أن القلم رفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ)) [8] وأنت، حسبما تصف، من حالاتك، مجنونٌ فالصلاة ساقطة عنك!
ومن الواضح ان الفقيه لم يكن يقصد سقوطها عنه حقيقةً، بل كان يقصد إلفاته إلى بشاعة مرضه النفسي وانه خطير خطير وانه قد يؤدي به إلى الجنون الحقيقي الذي يسقط عنه الصلاة الواجبة.
وقال الفقيه الآخر: صلّ بلا نيّة!
كما ينقل عن المرجع الأعلى السيد أبي الحسن الاصفهاني انه جاء رجل وسأله عن حل لمعضلته الغريبة وهي انه مصاب بالوسوسة في النية فكلما أراد ان ينوي الصلاة لا يمكنه ذلك أي لا تتأتّى منه النية ولا تنعقد نيته! فقال له السيد: إذاً صلِّ بلا نية! وهنا صُدِم الرجل وقال لا يعقل ان أصلي بلا نية وكيف أجرد ذهني من نية الصلاة وأنا أعلم بانني أريد أن أصلي! فقال له السيد: ها أنتذا قد التفتّ إلى واقع الأمر فان النية أمر خفيف المؤونة وهي تعني مجرد الالتفات إلى أنك عازم على هذا العمل وقاصد إليه لا أكثر.
ب – ولأن القرآن ينطلق من موقع المحيط بالحقيقة
الوجه الثاني: ان القرآن الكريم والرسول الأعظم وأهل بيته الكرام، ينطلقون من منطلق الحق؛ فانهم يرون الحق والباطل بوضوح وجلاء كما يرى أحدُكم يَدَهُ! ومن الطبيعي ان من يعرف الحق ويراه كما يرى السماء والأرض أو كما يرى داره وزوجته وأولاده، فانه إذا رأى غيره يشكّك في الواقع والحقيقة فلا مناص إلا من ان يذمّهُ على ذلك ويقرّعه ويؤنّبه؛ ألا ترى مثلاً الأب الذي يعتقد بوجود الجاذبية فانه إذا رأى ولده الصغير أو أخاه الكبير المبتلى بمرض التشكيك، يشكك في وجود الجاذبية ويقول من قال ذلك؟ انني لا أراها ولعلها مجرد أوهام وهل تكفي سقوط تفاحة نيوتن دليلاً على وجود الجاذبية دائماً! فلِأُجرِّب ولأرمِ نفسي من أعلى السطح لأرى هل الجاذبية حقيقة واقعية أم لا؟ فما هو موقف الأب أو الصديق حينئذٍ؟ هل تراه يمتدح له الشك ويتحدث له عن قيمته المعرفية وان العلم الحديث ابتنى على التشكيك في الثوابت؟ أم انه لا يرى محيصاً إلا ان يذمّ الشك ويعتبره جهلاً ومنقصة بل انه يجب عليه ان يذمه أشد الذم وبأبلغ العبارات ويردعه عن الاعتناء بهذا الشك ونظائره.
وكذلك المعلم في المدرسة لو رأى بعض تلامذته يشكك في المعادلات الرياضية من الجبر والمقابلة أو حتى الضرب والتقسيم والجمع والطرح، فهل عليه ان يزيّن له الشك حينئذٍ ويحسنّه في نظره؟ أو عليه ان يبرهن له صحة تلكم المعادلات؟ فان بقي شاكاً فعليه ان يحذّره من هذا الشك أشد التحذير وان يسفّه تشكيكاته أيضاً وذلك ليرجعه إلى أحضان الفطرة السليمة الرافضة لاعتبار الشك كقيمة، أو إذا لم يمكن له إصلاح هذا الطالب لتجذر الشك فيه كحالة مرضية مزمنة فانه يذمه أيضاً ليحصِّن سائر الطلاب من عدوى فايروس الشك الذي قد ينتشر بين سائر الطلبة انتشار النار في الهشيم.
الشكوك والظنون لواقح الفِتَن!
ولذلك كله نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ((فَإِنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَوَاقِحُ الفِتَنِ وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن)) [9].
و(اللقاح)، كما هو معروف، ما يلقّح الأثمار على الأشجار فيوجب انعقاد حبوبها ونضجها، وقد يكون اللقاح بما علق بأرجل النحل، واللقاح هو غبار أصفر يتكون في الجزء الأعلى من السَّداة ويتكون من حبات دقيقة هي خليات مولدة ذكرية، أي أن اللِّقاح هو وصل العنصر الذكري وهو اللَّقاح بالعنصر الانثوي أي البويضة، وقد يطير اللقاح مع الهواء، ولعل ذلك هو المراد بـ(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) [10] فانها تلقح الشجر والسحاب كما قال عدد من المفسرين.
وأما (الفتنة) فهي الزلزال الاجتماعي الذي يستبطن الهرج والمرج وسفك الدماء وهتك الأعراض وغيرها، والفتن كامنة في النفوس كجندي ينتظر الإشارة أو كبذرة تترقب المحرك والمهيّج، ومحرّكها ومهيّجها ولقاحها هو الشكوك والظنون.
فمثلاً إذا شكّت الرعية في نزاهة القادة وظنوا بهم السوء، اضطربت أنفسهم ثم لا تزال الشكوك والظنون تعتمل في نفوس الناس، لو لم يبادر القادة للإصلاح، وتضطرب وتزداد وتتفاعل وتهتاج أكثر فأكثر إلى أن تتحول إلى فتنة عامة تعم البلاد وتدمر الأخضر واليابس، كما حدث ذلك في ليبيا وسوريا وغيرهما، نعم إذا قيّض الله للشعب حينئذٍ قادة أكفاء حكماء عقلاء نزيهين استطاعوا أن يكسب ثقة الناس فانهم يمكنهم حينئذٍ الرجوع بالبلاد، لو بعد جهاد مرير، إلى ربوع الأمن والاستقرار.
ومكدرة لصفو المنائح والمِنَن!
وأما قوله صلوات الله عليه: ((وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ المَنَائِحِ وَالمِنَن)) فيوضحه المثال التالي فلو أن رجلاً رزق امرأة صالحة وأولاداً أتقياء فكان يعيش حياة ملؤها البهجة والسعادة ولكن وبمرور الزمن وبتخطيط جارٍ حسود أو بتدخل شيطان مريد، إذا بدأت بذور الشك في الرجل تجاه المرأة تنمو وتنمو وتنمو، أو العكس، فإن حياتهم تتكدر وتتكدر حتى انها بالتدريج قد تتحول إلى جحيم لا يطاق، فالزوجة الصالحة منحة من الله وهي والأولاد منّة أمتن بها الله علينا لكن الذي ينغِّص ذلك والذي يحوّل السعادة إلى تعاسة هو الشكوك والظنون، فالشكوك والظنون إذاً هي التي تهدم صرح الحياة السعيدة وتفتح الأبواب على الجحيم كأقوى ما يكون.
كما سبق قوله (عليه السلام): ((لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا، ولا تكفروا فتندموا)) [11] ولعل الوجه في قوله: ((لا ترتابوا فتشكّوا...)) وليس العكس، هو: ان الشك كثيراً ما ينشأ من الظِنِّة بالغير أو الخوف منه فإذا أساء رجل الظن برجل شكك في مبادئه أو قرارته بالتبع، كما ان العكس في صورة أخرى، صحيح أيضاً.
البصيرة الثالثة: تقنّع الشكاك بقناع المنكرين النافين!
وهناك بصيرة دقيقة رائعة في قوله تعالى: (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) وهي ان الكفر والإنكار أمرٌ والشك والتردد والتحير أمر آخر، ولكن الغريب ان كثيراً من (الشكّاك) لا يعلنون عن أنفسهم كشكّاك، بل يفصحون عن ذواتهم كمنكرين وكفار!
وتوضيحه: ان كثيراً ممن ينكر وجود الله تعالى أو رسالة النبي (صلى الله عليه واله) أو إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أو أية حقيقة ميتافيزيقية أو علمية أخرى، هو مجرد شاك والشاك عليه أن يقول أنا شاك ولا أدري، لكنه يتظاهر بانه ملحد أو كافر أو منكر، وذلك يعني أنه ينفي، وأحياناً نفياً قاطعاً، وجود الله تعالى أو غير ذلك من الحقائق مع انه يجب أن لا ينفي كما لا يثبت فيقول لا أدري فقط!
ولعل السبب في ذلك يعود أن الشاك كثيراً ما يرى من العارِ عليه أن يقول أنا مجرد شاك فان هذا يعني انه جاهل ولا يعلم!! وهذه منقصة في أنظار الناس وفي منظاره أيضاً لذلك فانه يلبس قناع العالمِ بالعدمِ المنكرِ للأمر الذي شك فيه فيكون قد عرّف نفسه كالعالم بالعدم، وذلك كله يستبطن في حد ذاته ارتكازية كون الشك منقصة.
وقد كشف الكفار القناع عن أنفسهم بل انهم فضحوها عندما إدّعوا هذا مرةٌ وذاك مرة أخرى فقالوا: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) فإذا كانوا شُكّاكاً وجب ان يقتصروا على (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [12] وإذا كانوا كفاراً منكرين وجب ان يقتصروا على (إِنَّا كَفَرْنَا...) لكنهم لجهلهم أو لشدة قلقهم واضطرابهم ارتبكوا فلم يميزوا بين الحالتين وانهما ضدان لا يجتمعان فوصفوا أنفسهم بالمتضادين!
التزوير في تصوير المشكِّك نافياً
واكتشافنا لهذه الحقيقة، كثير النفع في معرفة طرق المعالجة وسبل التصدي لموجات التشكيك فان نوع التعامل والتعاطي والنقاش مع الشاك يختلف عن نوع التعاطي والتحاور مع المنكر النافي، هذا من جهة ومن جهة أخرى: فان ذلك يكشف لنا بعض التزوير، العمدي أو السهوي الذي يقع في الإحصاءات العالمية عن عدد الملحدين أو الكفار في العالم فقد قيل بان عددهم يزيد على المليار مثلاً لكن الواقع هو أن ذلك نوع من التعمية والتسطيح فان هؤلاء بعضهم المنكر والملحد وكثير منهم شاك متردد!
كما ان الأمر في الجانب الآخر أيضاً كذلك إذ قد يكون الشخص مؤمناً حقاً وقد يكون شاكاً لكنه يصور نفسه على أنه مؤمن ويتظاهر بالإيمان، وأين هذا من ذاك! ولعل من وجوه ذلك قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [13] فتأمل، وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق