بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى:
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)([1])
في هذه الآية الشريفة مجموعة من البصائر فيما يتعلق بالضلالة والضُلال نشير الى بعضها:
البصيرة الأولى: الخسران وأنواعه
البصيرة الأولى تتعلق بقوله تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) فلِم كان الاخسرون ـ وهم الجاهلون بالجهل المركب او الجهل الشبيه بالجهل المركب ـ اخسر أعمالا؟!
نقول: هناك ست جهات اجتمعت فجعلت منهم الاخسرين أعمالا وهي بالوقت نفسه تعد أنواعاً وصنوفاً من الخسران والخسارة وهي بإيجاز:
خسارة الأصل والأرباح والآمال والأعمار والتجربة
1) لأنهم خسروا الأرباح.
2) ولأنهم خسروا رأس المال.
3) ولأنهم خسروا الآمال.
4) ولأنهم خسروا الأعمال والأعمار.
5) ولأنهم لم يربحوا استثمارا علميا، فلم يربحوا في الحقل العلمي ازاء ماخسروه من الاعمال، وبالتالي لم يكسبوا التجربة.
6) وهناك جهة سادسة ستاتي قريبا ان شاء الله.
توضيح ذلك: ان الانسان يخسر تارة (الربح) لكنه لا يخسر (رأس المال) فهو في مقياس الربح والخسارة يعتبر خاسرا لكنه اقل الخاسرين ضررا.
وتارة يخسر الانسان (الربح وراس المال) وهذا أسوأ حالاً من سابقه.
وتارة ثالثة يخسرهما معا لكنه لا يخسر عمره كمن اعطى ماله لشخص آخر ليتاجر به فخسر الربح وراس المال، لكنه لم يخسر هو أوقاته وعمره إذ كان يستغلها مثلاُ في الدراسة أو العمل أو حتى في تجارة أخرى.
وفي المقابل هناك من يخسر الثلاثة معاً: ماله وربحه وعمره، كمن يقضي (20) سنة في تجارة خاسرة تماماً، وهذا هو مثل الضال الذي يقضي عمره في الضلال فانه يكون قد خسر المال والارباح والعمر.
إضافة إلى انه قد خسر من جهة رابعة: الآمال اذ كان يؤمل ان يجزيه الله تعالى الكثير عما قدم لكنه سيجد أعماله سرابا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا * وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)([2])
ثم ان الانسان قد يتاجر فيخسر لكنه يربح عوضاً عن ذلك التجربة، والتجربة ثروة وأية ثروة وفي الحديث ((وَ فِي التَّجَارِبِ عِلْمٌ مُسْتَأْنَفٌ...))([3]) وأقل ما فيها انه يعلم ان هذا الطريق مريب وان هذه الشركة او ذلك البلد لا ينبغي ان يتعامل معه.
اما الجاهل المركب فانه لا يربح حتى التجربة؛ لانه يتصور انه على حق وكلما عرضت له تجربه نافعة تجده يتعنت وتراه يلغيها من قاموس تفكيره وتدبيره.
ان الفشل قد يعتبر فرصة تقدم لمن إلتفت الى انه فشل وخسر واخطأ إذ انه سيحاول ان يتجنب تلك الأخطاء في المستقبل ويتوقاها كما ان في المخاطر أيضاً فرصا، فمن فشل في تجارة او في مسيرة او في طريق علِم من خلال ذلك ان هذا لم يكن طريقا مربحا فيكون هو أول المنتفعين بفشله كما انه قد ينفع الآخرين أيضاً إذ ينقل لهم التجربة المرة ويحذرهم من المخاطر الكبيرة.
لكن (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) لا يستفيدون من التجربة إذ انهم اما يرونها نجاحاً أو ان اذعنوا بانها فشل فانهم يقيّمونها على أساس انها تضحية! فالخسارة بالنسبة إليهم خسارة مزدوجة: فعلية ومستقبلية مالية وخبروية إذ لم يربحوا من الحكمة والتجارب ما يعوضهم عن الخسارة.
الجهة السادسة من جهات الخسارة
هذا فيما يخص الجهات الخمس من الخسارة اما الجهة السادسة فهي المستفادة من ظاهر الآية الشريفة اذ تقول الآية:
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) من هم هؤلاء؟ (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ) أي ان خسارتهم هي انهم كفروا بآيات الله تعالى، والفرق دقيق وكبير بين الكفر بالشيء والكفر بالآيات والعلامات الدالة على الشيء فانه تارة يكفر الإنسان بشيء خفي فهو خاسر بلا شك لكنه تارة اخرى يكفر بآية وعلامة واضحة على الشيء فهذا اكثر خسارة وأوضح خسرانا كما انه أشد لوماً واستحقاقاً للعتاب أو العقاب.
ويوضح ذلك ما لو كان هناك كنز خفي في باطن الأرض في أرض مزرعتي مثلاً وكنتُ لا اعلم به فاني وان كنت خاسرا بعدم استخراجه وتملكه إلا ان خسارتي تكون أشد إيلاماً وأوضح وأفدح لو كانت هناك اشارات وعلامات واضحة على ان هاهنا كنزا ومجوهرات وقد أباحها صاحبها لكل من أرادها ومع ذلك أغمضت النظر عنها ولم التفت لتلك العلامات.
فالآية المباركة توضح احدى جهات كون اولئك اخسر اعمالا لأنهم (كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ) فأي عذر يبقى لهم بعد ذلك؟
2) البصيرة الثانية: الضلال: بقاء الجوهر وفقد المقصَد!
البصيرة الثانية تتعلق بكلمة (ضل) في الآية المباركة اذ ان هناك نكتة دقيقة: حيث لم تعبّر الآية (فنيت اعمالهم) وانما عبرت بـ(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ).
ولعل النكتة في ذلك([4]) ان الضلال يدل على بقاء الجوهر والذات وإضاعة الهدف وفقد المقصد، فقولنا: فلان ضل في الصحراء فانه لا يعني انه هلك أو اضمحلّ أو فني بل لفظه (ضل) بما هي هي تعني انه موجود لكنه أخطأ في مقصده.
فقوله تعالى (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) يفيد حسب المستظهر ان السعي باق بذاته لكنه ضل مقصده وأضاع هدفه.
ولعل في ذلك اشارة دقيقة الى مسألة بقاء الأعمال وتجسمها، وقد ثبت ذلك علميا ايضا فمن كذب لا سمح الله كذبة واحدة فانها لا تفنى بمجرد الانتهاء من الكلام بل تبقى في الارشيف الكوني وهو (الاثير) الذي يختزن كل شيء ويحفظه وقد يخترع العلماء جهازا متطورا يلتقط الاصوات الموجودة في الاثير فسيلتقطون أيضاً – ولو بعد مليون سنة - تلك الكذبة بذلك الصوت الخاص من ذلك الكاذب المعين المحفوظة في طيات الاثير المحيط بالكون! بل حتى الحركات والسكنات والصور فانها تبقى محفوظة في الاثير ولا تضمحل ابدا!
واذا استغرب البعض من ذلك فان مما يقربه للذهن الفيديوهات التي تحفظ الصور المتحركة وتبث بعد عدة سنين او عدة عقود حركة فنيت ظاهراً منذ زمن بعيد وهي مع ذلك تُظهر الاشياء بأدق التفاصيل.
ان سعي الإنسان لا يفنى بل يبقى، بل حتى مثل التوبة فانها ترفع العقوبة بلا شك اذا قُبلت من صاحبها لكن الاثر الوضعي باق والتائب مهما كانت توبته مقبولة فان صفحته تبقى كمن سوّد صفحات ثم محاها بالممحاة فهل الصفحة البكر كالصفحة المستعملة الملوثة وإن نظفت بعد ذلك؟ نعم في الروايات الكريمات ذكرت طرق لإزالة حتى هذا الاثر الوضعي([5]).
ومحل الشاهد: ان السعي موجود بذاته لا يفنى وقد يراه الانسان أمامه لكنه سعي فَقَدَ مقصده الحقيقي واخطأ طريقه الى حيث الضياع والعذاب، الامر الذي يؤلمه أكثر ويؤرقه أكثر حيث يرى سعيه امامه وقد قاده الى ما لا يحمد عقباه وهذا هو الخسران الكبير بل الاخسر الاخسر.
مناشئ الضلال
بعد ان عرفنا من هم الاخسرون أعمالا، لا بد ان نبحث عن مناشئ الضلال ولِم يضل الناس فيكونون كفارا او يهودا ومسيحيين او أتباع لسفارة كاذبة أو دعوى مهدوية منتحلة بلا تثبت وتروي؟
نقول: مناشئ الضلال كثيرة نشير اليها إجمالا ونتوقف عند اثنتين منها:
1) الاستعلاء والاستكبار والغرور والإعجاب.
2) الجهل والغفلة أو ضحالة الخبرة والتجربة.
3) ردة الفعل... اذ كثيرا ما يضل الإنسان اثر ردة فعل عنيفة إزاء تصرف معين قد لا يرتبط بالدين أبداً فمثلا قد يرى رجل دين او سياسياً معيناً يخطئ خطأ ما، سواء أكان عامدا او ساهياً وهنا تجد ان البعض تحدث عنده ردة فعل اتجاه الدين... في حين انه لا ترابط بين الأمرين فهل يصح ان يكفر أحدهم بعلم الطب أو الهندسة بالمرة إذا شاهد أخطاء بعض الاطباء غير المهرة أو حتى لو كان بعضهم انتهازياً منحرفاً؟!
4) الانبهار.
5) ذُل الحاجة.
ولكل هذه مباحث كما ان هناك الكثير من المناشئ الأخرى وقد نتعرض اليها لاحقا ان شاء الله تعالى، لكن نتوقف هنا عند السببين الاولين فقط:
1) الاستعلاء والاستكبار والغرور والإعجاب.
السبب الأول: الاستعلاء والغرور والكبرياء، إذ يعتبر الاستكبار على الاخرين والاستعلاء عليهم من اهم مناشئ الانحراف والضلال، قال تعالى: (...فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ)([6]) وكان ذلك من العوامل الأساسية التي ساقت الكثير من الافراد والجماعات والشعوب نحو الضلال والانحراف.
مؤتمر الشياطين!!
احد المفكرين([7]) كتب كتابا تضمّن فكرة جوهرية واقعية لكن الأسلوب كان عبارة عن قصة تخيلية إذ اراد ان يقرب اعقد الافكار الفلسفية للأذهان بصيغة قصة متخيلة.
ومجمل القصة المتخيلة: انه قبل ملايين من السنين عقد اجتماع قمة وكان المؤسس والمدير لهذا المؤتمر هو ابليس بنفسه، وكان الحضور مردة الشياطين والابالسة!!.
افتتح طرح إبليس المؤتمر بقوله: ان الله تعالى اخرجنا من الجنة وطردنا ولعننا بسبب آدم ولا غير، والمهمة الكبرى لنا الآن هي ان ننتقم من آدم وأبنائه، والطريق الأعظم أن نسوقهم إلى جهنم لكن ما هي أنجع وأنجح الطرق لذلك؟
وهنا دار نقاش طويل وطرح كبار الشياطين ما عندهم من صنوف الحيل والطرق الابليسية، لكن ابليس كان كلما طرحت عليه طريقة وحيلة يقول هذه طريقة جيدة لكنها ليست بأنجع الطرق!
الى ان تفتق ذهن أحد كبار الابالسة طريقة مبتكرة إبداعية، فصفق له ابليس فرحا ورضا بهذه الحيلة العجيبة وصفق معه جميع الشياطين الحاضرين، وكانت الفكرة والطريقة هي: ان مفتاح الحل هو ان نبحث عن أقوى نقطة هداية للبشرية على مر التاريخ، ولا شك انها وجود الانبياء والمرسلين وأوصيائهم، والحل ان نستحدث خطاً موازيا لخط الانبياء وفي الاتجاه المعاكس تماماً.
فقالوا له: وكيف ذلك؟
فقال: من خلال دغدغة مكامن الكبرياء وحب الاستكبار في نفوس الناس وذلك من خلال خلق أديان وخلق مذاهب وفي طليعتها خلق فلسفة وعرفان تصرح بوحدة الوجود والموجود!.
وأضاف المارد: المسيحيون جعلوا الواحد ثلاثة لكن هذا لا يثير الاستكبار في النفوس إذ لا ربط للثلاثة بنا إذ هم حقيقة أخرى اما ان تقول انك أنت الله! وكل شيء هو الله تعالى! فهذا هو اقصى ما تطمح به الانانية الإنسانية وحب العلو والاستكبار في الأرض.
وحدة الموجود في كلمات ابن عربي وملا صدرا
يقول في الفتوحات المكية: "اما وصفه بالغني عن العالم، فإنما هو لمن توهم ان الله تعالى ليس عين العالم"([8])
فمن يرى ان الله عين العالم فلا يجد اثنينية في المقام ليوصف الله معها بالغني عن العالم!!
ويقول القيصري في شرحه على الفصوص: " انا واعيان العالم عين الله"!!
ومن جهة أخرى فان من الواضح ان اصحاب موسى لما عبدوا العجل كفروا، الا ان بن عربي يصحح عملهم ويرى ان الحق معهم.
فيقول([9]): (وكان موسى اعلم بالأمر من هارون ؛ لأنه علم ما عبده اصحاب العجل ([10]) لعلمه ان الله قد قضى بان لا يعبد الا اياه([11]) وما حكم الله بشيء الا وقع فكان عتب موسى على اخاه هارون لما وقع الأمر في انكاره([12]) وعدم اتساعه فان العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء"
وقال ملا صدرا في الأسفار([13]): "في إظهار شيء من الخبايا، فكما وفقني الله تعالى بفضله ورحمته الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيات الإمكانية والاعيان الجوازية([14]) فكذلك هداني بالبرهان النير العرشي الى صراط مستقيم من كون الموجود والوجود منحصراً في حقيقة واحدة شخصية لا شريك له في الموجودية الحقيقية!! ولا ثاني له في العين وليس في دار الوجود غيره ديار.. فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات!! فمن حيث هوية الحق هو وجوده ومن حيث اختلاف المعاني والاحوال المفهومة منها والمنتزعة عنها([15]) بحسب العقل الفكري والقوة الحسية فهو اعيان الممكنات الباطلة الذوات.. واذا كان الامر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي!! فهذا حكاية ما ذهبت اليه العرفاء الالهيون والأولياء المحققون"([16])
إذا: الموجود كله منحصر في واحد بالشخص([17]).. فنحن نقول: ان الله لا شريك له بينما يقول صدر المتالهين: ان الموجود – الذي هو كل ما ندركه من الأشياء - لا شريك له!!.
وقال ملا صدرا (كل ما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في مرايا أو ظلال)!([18])
وهنا نقول: نحن لا نقول ان كل الفلاسفة والعرفاء يقولون بوحدة الوجود والموجود بل ان بعضهم كذلك – كابن عربي وملا صدرا - ومن يقول بمثل هذا الكلام فان لنا الحق ان لا نرتضيه وندينه.
وقد جلست مع بعضهم عيانا فكانوا يصرحون بوحدة الموجود وان كل شيء هو الله تعالى وانه هو بنفسه الله كما انا كذلك وكل شيء!! فقلت له أيعقل ان تكون أنت، وأنت عين الفقر والحاجة، عين الله تعالى وهو عين الغنى والكبرياء!
وصفوة القول: ان احد مناشئ الضلال هو الاستكبار والاستعلاء إذ يرى في الإيمان بأمثال تلك النظريات عظمة وسمواً وكبرياء لا نظير لها ولا مثيل! فكيف يقبل منك ان تنزله من عليائه ولو أقمت له ألف دليل؟
ومن جهة أخرى: ثبت الاستقراء أن كثيراً ممن يتبع الفرق الضالة وينتمي لها فان العامل الأساسي له هو انه يحس عندئذ بالقيمة الزائفة، وقد يعطى بعضهم منصباً يشعره بالأهمية أو سلطة ورياسة على فرع أو جمع أو مكتب أو غير ذلك، كما ان بعضهم يلوحون لهم بالأحلام العريضة ويرونهم البوابة الخضراء إلى مستقبل مشرق أو انك إذا آمنت الآن فسيكون لك في دولة المهدي – عجل الله تعالى فرجه الشريف – مثلاً الموقع البارز والحفاوة البالغة و...!!
وغير خفي ان طريقة معالجة أو مواجهة هذا النوع من الضلال يختلف عن طرق معالجة المناشئ الأخرى.
2) الجهل الشامل
السبب الثاني: من مناشئ الانحراف هو الجهل، ومن المعروف ان الناس يكرهون الجهل ويحبون العلم لكن حسب التحقيق: فان الكثير من الناس يريد الجهل ويحبه ويرغب في ان يبقى جاهلا فيغلق سمعه وبصره عمدا (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)([19])
ان الكثير من الناس لا يريدون العلم ولا يحبونه أبداً وذلك لأنهم يرون ان مصالحهم سوف تنهار لو علموا بالحق أو اظهروا علمهم به... فمثلا لا يعجب الكثير ان تقول له: ان صلواتك كلها باطلة... لان ذلك يقتضي ان يعيد صلاته لخمسين سنة فائتة! وهو لا يريد ذلك ولذا يصم سمعه عن سماع الحقيقة. او قد لا يريد البعض ان يعرف ان زوجتة هي اخته من الرضاعة إذ عليه حينئذٍ ان ينفصل عنها وكيف يسهل عليه ذلك! وبالتالي فان الكثير من الناس خصوصا في الاعتقادات لا يحبون المعرفة ولا يرغبون في العلم أو الإذعان بانهم على باطل.
كما ان العديد من الناس لا يريد ان يسمع ولا ان يعلم أو يذعن ان الفيلسوف الفلاني كملا صدرا والعارف الفلاني كابن عربي، كان يؤمن بوحدة الوجود والموجود وغير ذلك إذ انه كان يعتبره قديساً لسنوات طويلة فكيف يسمح بان ينهار امامه في لحظات؟! انه لا يريد ان يعرف لذلك يصرّ على الإنكار والمكابرة!
الجهل بفقه الحديث
ثم ان الجهل انواع: الجهل الفكري والجهل الاعتقادي والجهل الاقتصادي وقد نتحدث عنها لاحقاً إذ شاء الله تعالى، وهناك (الجهل بفقه الحديث) وهذا الاخير طالما تمسك به المبطلون فتراهم يأتون إلى الروايات من غير بصيرة بمعناها ولا بفقه الحديث فيذرونها ذرو الريح ويخلطون بعضها مع بعض ليخرجوا بنتيجة توافق أهواءهم الباطلة (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)!
والذين يدعون السفارة هم من هذا القبيل وقد يدعي احدهم انه ابن الامام المهدي (عليه السلام) ويستند إلى أدلة روائية تكشف عن جهله بأبسط قواعد علم الحديث بل بأبسط القواعد والأصول الأدبية والفكرية والاعتقادية. هذا الضلال والانحراف والجهل الغريب هو ما يشير اليه الامام علي (عليه السلام) في حديث له حيث يقول: "ورجل قمش جهلا" قمش أي جمع من هنا وهناك جهلاً ومنه سمي القماش قماشاً لأنه جمع قطع القماش من هاهنا وهناك والتشبيه جداً دقيق في من يجمع ويخبط بالروايات خبط عشواء فلا يكون نصيبه إلا الانحراف والضلال.
ادعاء السفارة والبنوة للامام المهدي (عليه السلام) ([20])
لقد تمسك بعض مدعي السفارة عن الامام المهدي فيما تمسكوا به برواية رواها الشيخ الطوسي في الغيبة وهي:
(يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((يَا عَلِيُّ إِنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً وَمِنْ بَعْدِهِمْ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيّاً فَأَنْتَ يَا عَلِيُّ أَوَّلُ الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَاماً سَمَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سَمَائِهِ عَلِيّاً الْمُرْتَضَى وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ وَالْفَارُوقَ الْأَعْظَمَ وَالْمَأْمُونَ وَالْمَهْدِيَّ فَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِأَحَدٍ غَيْرِكَ يَا عَلِيُّ أَنْتَ وَصِيِّي عَلَى أَهْلِ بَيْتِي حَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ وَعَلَى نِسَائِي فَمَنْ ثَبَّتَّهَا لَقِيَتْنِي غَداً وَمَنْ طَلَّقْتَهَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهَا لَمْ تَرَنِي وَلَمْ أَرَهَا فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وَأَنْتَ خَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي- فَإِذَا حَضَرَتْكَ الْوَفَاةُ فَسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِيَ الْحَسَنِ الْبَرِّ الْوَصُولِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِيَ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ الزَّكِيِّ الْمَقْتُولِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ ذِي الثَّفِنَاتِ([21]) عَلِيٍّ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُوسَى الْكَاظِمِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ عَلِيٍّ الرِّضَا فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الثِّقَةِ التَّقِيِّ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ عَلِيٍّ النَّاصِحِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ الْفَاضِلِ فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَحْفَظِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ إِمَاماً ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيّاً (فَإِذَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ) فَلْيُسَلِّمْهَا إِلَى ابْنِهِ أَوَّلِ الْمُقَرَّبِينَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسَامِيَ اسْمٌ كَاسْمِي وَاسْمِ أَبِي وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَحْمَدُ وَالِاسْمُ الثَّالِثُ الْمَهْدِيُّ هُوَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ))([22])
الرواية غير تامة سندا ولا دلالة
وهذه الرواية تمسك بها مؤخرا من لا يفرق بين المبتدا والخبر، فخرج بنتيجة منحرفة مفادها ان للامام المهدي ابنا يظهر قبله يمهد له وعلى الناس ان يطيعوه ويرجعوا اليه.
الجواب: ولكن الحقيقة ان هذه الرواية لا يصح الاستدلال بها أبداً لوجوه كثيرة نذكر منها:
1) ان سند الرواية غير تام فان الحر العاملي في "الايقاض من الهجعة في برهان الرجعة " يقول ان الشيخ الطوسي انما ذكر هذه الرواية في كتاب الغيبة من باب الالزام للمخالفين لأنها وردت من طرق المخالفين والشيخ الطوسي اراد اثبات الغيبة والرجعة عليهم فاستدل بهذه الرواية.
والحاصل: ان في سند الرواية مجاهيل اضافة الى وجود بعض العامة في سندها.
2) لو تنزلنا واعتبرناها سندها فنقول: المشهور الذي كاد ان يكون اجماعا ان خبر الثقة ليس بحجة في الاعتقاديات أبداً وقضية السفارة عن الإمام الثاني عشر والنيابة الخاصة له على الخلق كلهم وكون البنوة دليلاً على ذلك، هي من المسائل الاعتقادية المهمة.
فكيف يبعث الله سفيرا الى الناس كافة ثم يقيم عليهم دليلاً ضعيفاً لا يعتبره مشهور العلماء وفيهم كبار الزهاد والأتقياء والورعين – على مر التاريخ – حجةً؟
والحاصل: انه ينبغي ان تكون الحجة في قضية الإمامة والنيابة الخاصة واضحة بينة اوضح من الشمس فكيف يستدل بهذه الرواية على ان له (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ابن الآن وانه هو اليماني وهو سفيره ونائبه الخاص؟!
كما جاء في الرواية ((فَقَالَ إِنَّ أَمْرَنَا قَدْ كَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ ثُمَّ قَالَ يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ هُوَ الْإِمَامُ بِاسْمِهِ وَ يُنَادِي إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَرْضِ كَمَا نَادَى بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ))([23])
3) سلمنا لكن ماهو ربط الرواية بما تعتقدون... فالنبي (صلى الله عليه وآله) قال – حسب الرواية -:... من بعده اثنا عشر مهديا... وما تدعونه هو من قبله لا من بعده!،
4) لو تنزلنا ايضا نسال هل ولد للإمام المهدي (عليه السلام) ولد الآن؟ ان الرواية لا تصرح بذلك ولاتقول ان الامام له ولد الان، نعم هي تصرح ان في وقت حضور وفاته (عجل الله تعالى فرجه الشريف) (وهي بعد الظهور المبارك والظهور لا نعلم متى هو لعله بعد سنة أو ألف سنة أو مليون سنة أو أقل أو أكثر لا يجليها لوقتها إلا هو) سيكون له ولد([24])، اما قبل ذلك او الان فليست في الرواية حتى اشارة الى ذلك.
5) لو فرضنا ان له (عليه السلام) ابنا الان، فما هو الدليل على ان هذا المدعي للسفارة هو ابنه ما الدليل على ذلك؟ وهو ما أشرنا إليه سابقاً من مغالطة الاسم والمسمى والصغرى والكبرى.
6) قرينة السياق: ان النبي (صلى الله عليه وآله) يصرح ان الامام الحسين (عليه السلام) اذا حضرته الوفاة فليسلمها الى ابنه، وهكذا الامام السجاد والباقر الى اخر الائمة (عليهم السلام)... فالمقصود هو الابن المباشر الا الامامين الحسنين فانهما اخوان للدليل الخاص كما هو واضح.
فكيف يدعي هذا المدعي انه الابن الخامس للامام المهدي (عليه السلام)؟ وانه الخلف له من بعده، والحال ان الرواية تتحدث بظاهر لفظ (ابنه) وبسياقها عن الابناء المباشرين للائمة (عليهم السلام) وليس عن الاحفاد واحفاد الاحفاد فلم تقل الرواية فليسلمها الى حفيده او بن حفيده!!
7) ان الرواية معارضة بالأصح منها سنداً والمشهورة والثابتة لدى عامة الشيعة من ان الإمام المهدي (عليه السلام) يسلم الإمام للإمام الحسين (عليه السلام) من بعده وليس لأحد أبناءه...
والمأساة كل المأساة ان الضالين والمبطلين يتخذون – على مر التاريخ - جهل الناس بفقه الحديث وبأوليات المسائل طريقا لإضلال الناس وغوايتهم.
أعاذنا الله وإياكم من شرورهم وشِرارهم
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق