بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)([1])
الحديث يدور بإذن الله تعالى حول شبه جملتي (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وسنتناول بإذن الله تعالى بالنقد والتحليل بعض الحجج المبتدعة الباطلة التي يستدل بها بعض أصحاب المذاهب المبتدعة، وذلك بعد ان نتوقف عند بصيرة قرآنية هامة، وهي:
الجمع بين (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) و(أَنْ تَبَرُّوهُمْ) و(قَاتِلُوا)
انه تعالى يقول: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ولكن يبرز هنا سؤال على ضوء إشكال متوهم وهو: ان هذه الآية لا تنسجم من جهةٍ مع آيات أخرى من قبيل (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)([2]) مع أنهم كفار وليست هذه شدة بل هي رحمة، وفي الجهة المقابلة نجد مثل قوله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) ([3]) فان هذا القتال ليس رحمة بل هو نقمة عليهم، فكيف التوفيق؟
الجواب: هناك وجوه عديدة للجمع، نذكر منها:
1- تقييد العام بالخاص
الوجه الأول: ان يقال أن قوله تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) قاعدة واصل عام، لها مستثنيات منها الآية: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)([4])؛ اذ ان الكفار على أقسام: فمنهم من قاتلنا ومنهم من لم يقاتلنا ومنهم من أخرجنا من ديارنا ومنهم من لم يخرجنا، فمن لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجهم من ديارهم فلم يظلمهم في دينهم ولا في دنياهم فانه يستثنى من قانون وقاعدة الشدة في الآية الشريفة. إضافة إلى ان المستثنى هو نوع خاص من الشدة وهو (البرّ) و(القسط) لا مطلقها([5]).
وكذلك (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) فانه قانون عام، لكن خرج منه ما لو بغى أحدهم ولم يرضخ للإصلاح والصلح فانه يُقاتَل حتى يفيء الى أمر الله تعالى.
2- الخروج الموضوعي أو المنزَّل منزلته
الوجه الثاني: ان يقال بالخروج الموضوعي([6]) او المنزّل منزلته، وذلك بان يقال ان ذلك ليس استثناءا ليكون خارجا، بل هما من حيث الجوهر موضوعان مختلفان متباينان انطلاقا من قاعدة ان الحيثيات الدخيلة في ثبوت الحكم للموضوع هي حيثيات تقييدية فتكون هي جزء الموضوع ففاقدها([7]) موضوع آخر، أو من ان حيثية العنوان هي الموضوع واقعاً فالموضوع لا بلحاظه هو موضوع آخر.
توضيح ذلك: ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، ففي قوله (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) نجد ان الحكم بالشدة منوط بالكفار ولا ريب ان ذلك ليس لذواتهم – أي لكونهم بشراً وحيواناً ناطقاً - بل من حيث انهم كفار، أي لان الكفار ستروا الحقيقة وعاندوا الحق تعالى فكونوا ـ ايها المؤمنون ـ أشداء عليهم، لكنهم من حيثية جوهر ذواتهم أي إنسانيتهم أو من حيثيات أخرى طارئة كما لو أحسنوا إليكم فانه لا باس بالبر والإحسان اليهم فانها عناوين أخرى مزاحِمة.
فمثلا الفقير الفاسق فانه تحسن مساعدته من حيثية فقره وشدة احتياجه، اما من حيث فسقه وعصيانه فانه لا يحسن الإحسان إليه بل ينبغي مجابهته وردعه بالوسائل المشروعة، والفرق بين الحيثيتين فرق واضح وكبير اذ الحيثية في مساعدة الفقير حيثية تقييدية أي ان مساعدته إنما هي من حيث انه فقير وليس لأنه فاسق عاصي، بل ان في مثل ذلك تعود الحيثية التعليلية لو كانت إلى حيثية تقييدية وقد يقع التزاحم بين الحيثيتين.
وفي الآية الكريمة (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) نجد ان حيثية الكفر بماهي حيثية تقتضي الشدة على الكافر وليست هي علة تامة، فلو كانت فيه حيثيات أخرى مزاحمة ككونه رحما او من حيث انه انسان او غير ذلك فانه لا تتحدث عنه الآية الشريفة.
وكذلك (وَالَّذِينَ مَعَهُ) فان المعية قد تكون زمانية او مكانية او اقتصادية او غير ذلك، فاذا كنتَ بمعية شخص في تجارة ما فانه لا يستلزم ان توافقه سياسيا او فكريا بل قد تختلف معه اشد الاختلاف الا ان ذلك لا يمنع من المعية التجارية، والعكس بالعكس.
والحاصل: ان المعية لها أبعاد، والمعية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها أكثر من بُعد ولون فمن كان معه (صلى الله عليه وآله) زمانا او مكانا فان ذلك لا يمنع من ان يكون كاذبا او منافقا فلا تشمله الرحمة من حيث هذه الجهة.
وبتعبير أخر: الحيثيات التقييدية مفصّلة ([8]) اما في الجملة او بنحو الاقتضاء او شبه ذلك، سواء اقلنا بالاستثناء او الخروج الموضوعي أو ما يشبهه. فتأمل([9]).
واما التعبير المبسط فهو ما سبق في الوجه الأول: هناك استثناءات لـ(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) كما ان هناك استثناءات من (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وهكذا.
الشدة مع الكاذبين في شؤون الدين
ومن موارد الاستثناءات الحديث الآتي الذي سيكون منطلق حديثنا حول بعض الاستدلالات الواهية لبعض أصحاب المذاهب المبتدعة: والذي عبر عنه السيد الوالد في الفقه الحج([10]) بـ(صحيحة زرارة):
((كُنْتُ قَاعِداً إِلَى جَنْبِ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَ هُوَ مُحْتَبٍ([11]) مُسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةِ فَقَالَ أَمَا إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ يُقَالُ لَهُ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ ع إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الْكَعْبَةَ تَسْجُدُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَمَا تَقُولُ فِيمَا قَالَ كَعْبٌ فَقَالَ صَدَقَ الْقَوْلُ مَا قَالَ كَعْبٌ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) كَذَبْتَ وَكَذَبَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مَعَكَ وَغَضِبَ قَالَ زُرَارَةُ مَا رَأَيْتُهُ اسْتَقْبَلَ أَحَداً بِقَوْلِ كَذَبْتَ غَيْرَهُ...))([12])
ان الاصل هو الرفق واللين مع الآخرين لكن يستثنى من ذلك مثل هذا المورد وهو ما لو ابتدع شخص بدعة في الدين فانَ من الواجب ان نجبهه ونردّ عليه بكامل الحزم وبمقتضى الشدة على مستوى هذه الرواية بان نقول له: انت كاذب، فهذا المورد مستثنى من ذلك العام.
من الحجج الباطلة لبعض الفرق الضالة
ان الفرق الضالة والمنحرفة كانت ولا تزال تُستحدث باستمرار؛ وذلك لان الشيطان حي يمارس هوايته المفضلة في إغواء بني آدم ويلقي بشباكه الى اليوم الذي انظره الله فيه، لذا نجد انه وباستمرار يختلق ويبتدع بدعا جديدة، بل ان ذلك هو عمله ودأبه وديدنه في مقابل خط الأنبياء والصالحين على مر التاريخ.. وهكذا نشاهد في كل يوم خروج راية ضلالة وتظهر للناس في كل يوم أفك وبدعة وفي كل يوم فتنة وابتلاء وقد امتدت البدع لتحتضن حتى دائرة (الحجج و(الأدلة):
الاستخارة
فان ادعياء الضلالة يختلقون بدعا حتى في عالم الحجج للاستدلال على عقائدهم ومبتنياتهم، ومن ذلك ان بعض الضلاّل قالوا: ان الطريق الى معرفة الحق من الباطل ولكي تكتشفوا اننا على الحق هو الاستخارة!!
الأحلام
وقالوا: ان المنامات حجة في العقائد وهي من أهم الأدلة على صحة هذا المذهب أو الدين المختلق!
الكرامات المتوهمة
واستند البعض إلى ما يدّعي انه كرامة كدليل على حقانية مذهبه المختلق او ذلك الدين المدعى، ومن الكرامات التي يستندون إليها كثيراً هي حالات من شفاء المرضى..
الاستبصار
ايضا من حججهم التي اضلوا بها عدداً من الناس ما يسمى في علم النفس بـ(الاستبصار) أو ما يسمى بقراءة المستقبل إضافة إلى قراءة الأفكار وما يجول في الخواطر.
محاكمة الطرق الاربعة
بعد ان بينا الطرق والحجج المبتدعة في الاستدلال على المدعيات الكاذبة نأتي الى مناقشتها واحدة واحدة:
(الاستخارة) لم يستدل بها نبي ولا وصي ولا عالم ولا عاقل
ان اعتبار الاستخارة دليلا على حقانية مذهب أو دين أو حتى فكرة أو معلومة امر يرفضه كافة العلماء والمفكرين والعقلاء وعلى طول خط التاريخ، بل لم يستند إليها نبي او وصي، وهل سمعتم ان نبيا قال للناس: اني رسول الله اليكم وان كذبتموني فاستخيروا الله في ذلك!!
فان كانت الاستخارة دليلا من الأدلة لكان الاولى بالأنبياء والاوصياء ان يحتجوا بها ولو مرة واحدة! وهذه سيرة الانبياء والاوصياء بين ايدينا ولم نجد في كافة كتب التاريخ والتفسير ان نبياً أو إماماً قد استدل بالاستخارة!.
ثم هل يقبل اولئك المدّعون باللجوء إلى الاستخارة حتى في العلوم الدنيوية! ولكم ان تتصوروا مجموعة من الطلاب مع استاذهم في مختبر الجامعة وهم يدرسون تركيبات مختلفة للمواد الكيماوية ثم شكّوا في ان محلولا معيناً لو أضيف إلى الخلطة الكيماوية فانه قد يحدث انفجارا هائلا في تلك الجامعة أو قد يسفر عن مادة جديدة مفيدة، فهل يقول عاقل بحل المسألة بطريقة الاستخارة؟!!
ان التفكير بهذه الطريقة مرفوض عقلا وعقلائيا؛ بل ان العقلاء يحجرون على من يفكر بهكذا طريقة وقد يضطرون إلى إيداعه في مستشفى المجاذيب!
ان الأمور الخطيرة لا تعالج بهذا الشكل وان المسائل العقائدية من اخطر المسائل لأنها تحدد مصير الإنسان في الدنيا والآخرة فكيف يعقل ان نلجأ للاستخارة لمعرفة الحق من الباطل في أخطر المسائل الاعتقادية؟
ثم ان باب الاستخارة لو كان مفتوحاً في العقائد لما استقر حجر على حجر، بل ستتسلّح الأديان الباطلة بسلاح جديد وذلك لأن الخيرة قد تظهر لصالح أي دين منحرف، فاذا قلنا للناس استخيروا على احقية الاديان الرئيسية الثلاث: الاسلام والمسيحية واليهودية بل والبوذية والمجوسية بل وحتى العلمانية فان الاستخارة قطعا لا تبقى تظهر دائما بجانب الحق، بل ستظهر مرة مع هذا واخرى مع ذاك وثالثة مع اليهودية أو حتى مع من ينكر أصل وجود الله!! أو من ينكر أي بديهي آخر كاستحالة التناقض والدور والتسلسل أو من ينكر حتى الحقائق العلمية المسلمة كمن يستخير على انه هل الجاذبية موجودة أو لا؟ فعاد الأمر جذعة كما كان، وذلك لأن الله تعالى لم يجعل الاستخارة طريقاً إلى معرفة الحق أبداً.
كذلك نقول لمن يدعي ان الاستخارة لا تقبل الخطأ وهي طريق صحيح لمعرفة الحق من الباطل، نقول له: إذاً اصعد الى قمة جبل أو إلى أعلى السطح ولتأخذ استخارة على ان ترمي نفسك منه فان وافقت الخيرة فارمِ بها لنرى هل تتهشم عظامك ام لا؟!
والمؤسف ان بعض الفرق الضالة تسوّق هذا الأمر (حجية الاستخارة ومرجعيتها) مستغلة بساطة الناس وطيبتهم او جهلهم بأصل الدين وأسسه وقواعده والأدلة عليه([13]).
احذروا ان تكونوا كفاراً باختلاق الحجج المبتدعة!
و((عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) مَا أَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ كَافِراً قَالَ أَنْ يَبْتَدِعَ بِهِ شَيْئاً فَيَتَوَلَّى عَلَيْهِ وَ يَتَبَرَّأَ مِمَّنْ خَالَفَهُ))([14]).
ومن مصاديق ذلك ابتداع القول بان الاستخارة ونظائرها حجة في العقائد مثلا وان هذا الدين المدّعى أو المذهب هو الصحيح بدليل الخيرة أو المنامات والأحلام أو شبه ذلك فيتولى من كان معه ويتبرأ ممن يخالفه.
والحاصل: إن الاستخارة ليست حجة في أمور الدين أبداً، نعم دائرتها خاصة بالأمور الشخصية([15]) على القول بها ([16])؛ لان الأمور العقائدية يجب ان تستند الى أدلة عقيلة قطعية او سمعية قطعية.
الكرامات المتوهمة والأخبار بالمغيبات
قد تجد احدهم يخبر ببعض الأحداث المستقبلية فيكون الأمر كما قال!! أو يخبر عن بعض حالاتك العائلية والشخصية الخاصة أو حتى عن ما تشتهيه أو تفكر فيه، فيعتقد البسطاء الآخرون ان ذلك حجة بالفعل وانه على حق فيما يدعيه (من بدعة او ضلالة)
علم النفس الموازي
فنقول: من الناحية العلمية كما من الناحية الشرعية هذه ليست حجة بالمرة ويكفي ان نعلم بوجود علم يسمى بـ(علم النفس الموازي) وهو يُعنى بالإدراك فيما وراء الاحساس، إذ اننا ندرك الحرارة مثلاً عن طريق اللمس او نحس بجمال الطبيعة عن طريق النظر او نسمع الاصوات عبر الاذن لكن هناك (الإدراك وراء الحواس)، فقد يحس الانسان بالشيء من غير طريق الحواس المعروفة فينظر وهو مغمض العينين ويرى حتى ما وراء الجدار او يخبر عن المستقبل أو عن الماضي بما لم يشهده، فان ذلك علم له قواعده وأصوله وهو لا يصيّر من يتقنه نبيا أو وصيا أو حجة فيما يقول.
وعلم النفس الموازي له من العمر حوالي مائةُ عام ففي العشرينات من القرن الماضي وفي ولاية كارولينا في أمريكا اسس العالم (ج. ب. راين) أول مختبرا لعلم النفس الموازي في جامعة (ديوك بدرهام) وقد تطور هذا العلم كثيرا فيما بعد، فكما ان العلوم المادية تطورت الى ان وصل الإنسان الى الفضاء ونفذ في أقطار السماوات والأرض واصبح يبصر في الظلام ما لا يبصره بعينه المجردة، عبر منظار مزود بالأشعة تحت الحمراء، وكذلك علم النفس الموازي فانه يمنح الإنسان قدرة ان يحلّق فيما لا يمكن للإنسان العادي ان يحلّق فيه وذلك عن طريق قوة التركيز او عبر رياضات معينة تعطي للنفس قوة كبيرة أو عبر التواصل مع الجن والشياطين.
الكهانة:
وكان هذا معروفا عند العرب قديماً أيضاً وكانوا يطلقون عليه تسمية (الكهانة) والكل يعرف ان الكاهن مرتبط بالجن أو بالشياطين، وهم يأتونه بالأخبار لان لهم بعض القدرات الغيبية التي لم تعطَ للإنسان، فإذا قام الإنسان – الضالّ – بالتواصل مع الجن او الشياطين أو بتسخير الجن فانهم يأتونه ببعض الأخبار عن أفكار هذا وما جرى في بيت ذاك وما الذي سيحدث وما أشبه ومن الواضح انهم يمزجون حقا بباطل وصوابا بخطأ..
ومن سنن الابتلاء الكوني ان تكون هناك قدرات متفاوتة يستفيد منها الأشرار لأغراضهم الشريرة.
ولقد كان من أبرز شخصيات العرب شخص اسمه (شق)([17]) واخر اسمه (سطيح)([18]) وكلاهما كان كاهناً يخبر بالمغيبات وقد صدقت اخبارهما في كثير من الاحيان.
والغريب ان المعادلة التي يؤمن بها الكهنة وادعياء الفرق الضالة هي: اننا لا نتضرر شيئاً من دعاوانا واخباراتنا الغيبية فمن صدُق معه اخبارنا آمن بنا، ومن لم يصدق معه فلا ضر ولا ضير علينا؛ لأننا لم نخسر شيئا بل ربحنا من آمن بنا وكفى!! وهكذا المبطلون في هذا الزمن فانه يخبر بكذا وكذا فيصيب مع عشرة فيتصورونه نبياً أو سفيراً ويخطئ مع عشرة فيخسرهم لكنه لا يهمه ذلك بعد ان ربح العشرة الأوائل!
فلو تنبأ المخبر المدعي بعشرين حدثا لعشرين شخصا وصدق في بعضها وامن به خمسة منهم وأخفق في الباقي، فانه يعتبر ان الربح في هؤلاء الخمسة الذين امنوا به وبهم وأشباههم يصطنع له حزباً وفرقة ومذهباً وعساكر!
ان الإخبار ببعض المغيبات ومصادفتها للواقع ليس دليلا على الحقّانية وإلا لكان كل كاهن وساحر على حق، ولكان كل منجّم على حق ولكان كل قارعاً للكف أو الفنجان أو الرمل والاسطرلاب على حق، بل ان بعضهم يرمي الزيت على الماء فيقرأ طريقة تشكلاته وقد يصيب بعضها فيخبر بأنك سيولد لك ذكر وبنتان مثلاً وقد يحدث لك ولا يحدث لغيرك ما قاله، ولكن ما الذي يضره إذ ان شعارهم حجارة ببلاش عصفور بفلس!.
السحر الأسود
وهناك ما يسمى بـ(السحر الاسود) وهذا ما يمارسه أيضاً بعض رؤساء الفرق الضالة إذ يسحرون طفلاً أو شابة فيمرض ويشتد مرضه – وقد يكون مرض الصرع أو غيره حتى يصل الى حد الموت، ثم يأتي شخص إلى الاب أو الولي فيقول له: راجعت الاطباء ولم تصل الى نتيجة فتوسل بفلان (وهو رئيس فرقة ضالة) فانه يشفي ابنك، فاذا ما توسل عمدوا الى الطلسم او السحر فابطلوه فيشفى الطفل من فوره، ومن خلال هذه العملية يتوهم بعض البسطاء من الناس والذين لا يعرفون من أساليب المكر والخداع شيئاً، يتوهمون ان فلانا متصل بالفعل بالسماء وانه ولي من الأولياء أو سفير من السفراء أو حتى نبي من الأنبياء!.
الساحر ساتيا ساي بابا في الهند والكرامات العجيبة!
أحد أشهر شخصيات الهند اسمه (ساتيا ساي بابا) ولعله الان حي وهو من مواليد الهند 1926م وكان يدعي الخوارق والاتصال بالسماء ولعله كان يدعي الالوهية إذ كان الناس يسجدون له وكان يقوم ببعض الأفعال التي ظاهرها انها من الكرامات التي يعجز الآخرون عن القيام بمثلها.
وكان من أعماله ان يحوّل الماء المطلق في الكوز إلى عصير لذيذ أو إلى بنزين أمام اعين الناس! وكان يرش الماء من الكوز على الناس حتى لا يبقى فيه شيء ثم بعد ذلك يقلبه ويحركه ويجعله ينبع عصيرا فيرشه مرة اخرى على الناس([19])، وكان أحيانا يستخرج من يده ترابا ثم يعطيه للناس للبركة!
وقد وجه له استشاريان من جامعة (بنكلور) دعوة رسمية عام 1976م كي يقوم بكراماته المزعومة في ظروف محايدة تماماً – كي لا يقوم بحيلة كيماوية أو عبر خفة اليد وغيرها - الا انه رفض وأجاب بجواب استعلائي: انتم لا تعرفون الا المعادلات العلمية المادية وعقولكم ضيقة، ولا يقبل هذه الأمور الروحية إلا ذوي النفوس السامية العالية!
دعوة وتحدي
ونحن بدورنا ايضا نوجه دعوة الى كل من يدعي المهدوية او السفارة او شبه ذلك نقول لهم: تعالوا الى مكان معروف للكل كحرم ابي الفضل العباس (عليه السلام) او حتى تعالوا إلى احدى المستشفيات العالمية الشهيرة في لبنان أو ألمانيا أو غيرها وفي ظروف موضوعية مناسبة وسيقوم جمع من المحايدين بانتخاب مرضى ثبت علمياً مرضهم وليكونوا مثلاً مقطوعي اليد أو الرجل أو العين أو ليكونوا فاقدين لإحدى الكليتين ليشهد الكل كراماتهم!! وهل يستطيعون ان يصنعوا له يداً أو عيناً..
إذ من الواضح انه لا يجديهم شيئاً ان يحددوا شخصا سبق لهم ان سحروه ثم يأتون فيبطلون السحر ويعتبروا ذلك كرامة ! فهل يستطيعون ان يوجدوا عينا أو يداً لشخص فقدها؟ هذه هي الكرامة او اشباهها التي لا يمكن الشك فيها، أما ان يعملوا حسب قواعد علم النفس الموازي وهو علم ارضي مادي أو بالسحر الأسود أو بالرياضات الروحية ثم يدّعون ما يشاؤون لبسطاء الناس فان ذلك ليس إلا مجرد خدعة لا تنطلي على العقلاء.
الرياضة والتنويم المغناطيسي
ان النفس تمتلك قدرات كبيرة جداً ويمكن لمن ارتاض جيدا ووفق قواعد وأصول معروفة ان يعالج من كان يعاني من الصرع أو الوسوسة والهلوسة وغير ذلك ويرمم ذلك بقدرته الروحية.
كما ان من الممكن عبر التنويم المغناطيسي ان يستخرج المنوِّم من الشخص الآخر كل المعلومات الكامنة في خبايا باطنه وللاوعيه حتى المنسيّة منها ويخبره بأحداث من ماضي حياته وأسرته فيذهل لها وهو لا يعلم انه عبر التنويم المغناطيسي قد دخل إلى مخه وأخذ منه كافة معلوماته!
ان استخدام قواعد العلم الموازي او تسخير الجن او استخدام التنويم المغناطيسي او السحر او غير ذلك لا يعد من الأدلة والحجج بل ليس إلا مغالطة باردة! ومن الواجب على الجميع ان يرجعوا الى العلماء الصالحين والخبراء بشؤون الدنيا والدين وان يتعرفوا على الحجج الصحيحة المستقاة من الكتاب والسنة والعقل.
وعلى الجميع الحذر كل الحذر من الذين يأتون بالبدع ثم يتظاهرون بالصلاح وبالارتباط بالسماءً!
ومن المعروف أن الامام الحجة (عليه السلام) لعن العديد من الضالين، فما كان من احدهم عندما بلغه اللعن الا ان سجد لله شكرا امام الناس، فقيل له: ماذا تفعل؟ قال انتم لا تعرفون أي مقام شرفني به الامام (عليه السلام) قيل له وكيف ذلك؟ قال: لان اللعن هو الإبعاد والطرد فيعني ان الامام ابعدني عن غضب الله تعالى وعذابه أي عن النار!!
ختاماً: ان من يدخل في الدين ما ليس منه ويختلق حججاً لم يدل عليها الشارع الأقدس ولا العقلاء ويدعي مقامات غيبية كالسفارة ونظائرها، علينا ان نكون اشداء معه ونجهر للناس بانه كاذب مبطل ولا نسمح له بالعبث بدين الله تعالى قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).
وقد ورد في الرواية: ((بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفَ بِالشَّلْمَغَانِيِّ عَجَّلَ اللَّهُ لَهُ النِّقِمَةَ وَلَا أَمْهَلَهُ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَفَارَقَهُ وَأَلْحَدَ فِي دِينِ اللَّهِ وَادَّعَى مَا كَفَرَ مَعَهُ بِالْخَالِقِ جَلَّ وَتَعَالَى وَافْتَرَى كَذِباً وَزُوراً وَ قَالَ بُهْتَاناً وَإِثْماً عَظِيماً كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ وَضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبِيناً وَإِنَّا بَرِئْنَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ مِنْهُ وَلَعَنَّاهُ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ تَتْرَى فِي الظَّاهِرِ مِنَّا وَالْبَاطِنِ وَالسِّرِّ وَالْجَهْرِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَعَلَى كُلِّ مَنْ شَايَعَهُ وَبَلَغَهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَّا فَأَقَامَ عَلَى تَوَلَّاهُ بَعْدَهُ أَعْلِمْهُمْ تَوَلَّاكَ اللَّهُ أَنَّنَا فِي التَّوَقِّي وَالْمُحَاذَرَةِ مِنْهُ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ نُظَرَائِهِ مِنَ السَّرِيعِيِّ وَالنُّمَيْرِيِّ وَالْهِلَالِيِّ وَالْبِلَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَعَادَةُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا جَمِيلَةٌ وَبِهِ نَثِقُ وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ وَهُوَ حَسْبُنَا فِي كُلِّ أُمُورِنَا وَنِعْمَ الْوَكِيل))([20])
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق