بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(1)
لنبتدأ كل عمل بذكر الله ولنختتم به ولنضمّنه في الأثناء!
إن احدى أهم البصائر التي يمكن ان نستلهمها من هذه الآية الكريمة هي: ان كل أمر دنيوي فان المطلوب ان نبتدأه بذكر الله تعالى وان نختتمه بذكر الله تعالى وان يتخلله ذكر الله تعالى ويتوسطه كذلك، فقد إبتدأ النبي صالح دعوة قومه بـ(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ثم ختمها بـ(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) كما توسط بين الدعوة لعبادة الله تعالى وبين الدعوة لاستغفاره والتوبة إليه، قوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) فهذا الأمر الدنيوي المتوسط قد توسطه ذكره تعالى وملأ أركانه بالضمير (هُوَ) ثم الضمير المستتر في (أَنشَأَكُمْ) ثم الضمير المستتر في (اسْتَعْمَرَكُمْ) أيضاً.
ومما يستفاد من ذلك ان الحركة التبليغية ينبغي أن تكون بهذا النمط أيضاً ذلك ان الله تعالى (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(2) و(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)(3).
ولتكن سيرتنا كذلك في كافة المسائل الاقتصادية بل في كل عمل ونشاط وحركة وقول أو فعل أو حتى نية وتفكير.
سادس وجوه الجمع بين طوائف الروايات الذامّة والمادحة للفقر والغنى
ثم انه قد سبق الكلام عن وجوه ست للجمع بين طوائف الروايات الذامّة للغنى والمادحة له أو الذامة للفقر والمادحة له، وكان آخر الوجوه هو: (النقطة الأولى: ان المستظهر هو ان مقتضى القاعدة الأولية هي: ان نحثّ الأغنياء ليعيشوا عيشة الزهاد والفقراء وان ينفقوا أموالهم بسخاء وان نحضّ في المقابل الفقراء ليصبحوا أغنياء وان يتعلموا ويسلكوا سبل الثروة والأثرياء!.
وذلك يعني، وبعبارة أخرى: ضرورة أن يبتني المخطط الاقتصادي –الاجتماعي– التربوي الإسلامي العام على دَفْع الفقراء ليقلعوا من حضيض الفقر وينهضوا من قاع الحاجة ليصلوا إلى مستوى الأغنياء، وفي المقابل: دَفْع الأغنياء لينزلوا من (عرش) الثروة والغنى إلى (فرش) الزهد والفقر أو العيش عيشة الفقراء.
فهذا المزيج الإبداعي من الحركة المتصاعدة للفقراء والحركة المتنازلة للأغنياء هو الأفضل من بين كافة المناهج الاقتصادية – الاجتماعية، للناس بشكل عام وللأغنياء والفقراء جميعاً بشكل خاص.
وبعبارة أخرى: أ- ان يتغير اتجاه الأثرياء فبدل التوجه نحو زيادة ثرواتهم وكنزها يوماً بعد يوم أكثر فأكثر عليهم ان يتحولوا نحو انفاقها على المجتمع الذي يدينون له بثروتهم: على التعليم والمدارس والمكتبات، وعلى المعنويات والمساجد والحسينيات، وعلى الفقراء والمياتم والمستشفيات.. وغير ذلك.
ب- وان يتجه الفقراء للإقلاع بقوة نحو الثروة والثراء)(4).
خياران: إما أن تنفق كل ما تملك وإما أن تعيش كما الفقراء!
ونضيف هنا ان دعوتنا هذه لا تعني بالضرورة ان يتحول الأغنياء إلى الفقراء بل وكما سبق: (ان نحثّ الأغنياء ليعيشوا عيشة الزهاد والفقراء وان ينفقوا أموالهم بسخاء) بل لقد كانت الدعوة تضع أمام الأغنياء أحد خيارين: (وفي المقابل: دَفْع الأغنياء لينزلوا من (عرش) الثروة والغنى إلى (فرش) الزهد والفقر أو العيش عيشة الفقراء) وهذا يعني انه:
أ- قد يكون من الأفضل ان يبذل الغني أمواله حتى يصل إلى درجة ان يتحول إلى فقير ان احتاج المجتمع إلى ذلك، وذلك هو ما قد يستظهر من جملة من الآيات والروايات كقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(5) والإيثار فوق المواساة بمراتب، والإيثار يعني ان تؤثر غيرك على نفسك بما يحتاجه وإن كان ذلك يشكّل كل ما تملك! فهذه الآية الكريمة تصلح شاهداً على هذا الشق من وجه الجمع السادس.
ب- وقد يكون من الأفضل (العيش عيشة الفقراء) ولا يستلزم هذا الخيار إنفاق كل الثروة بل قد يستبقي منها شيئاً لنفسه، لكنه في الوقت نفسه يزهد في فاخر المسكن والمشرب والملبس والمطعم وغيرها، ولكن قد يبقى السؤال عن جدوائية ذلك! فنقول:
الحكمة في دعوة الأغنياء ليعيشوا عيشة الفقراء
ان من الواضح ان الزهد في مباهج الحياة الدنيا جميعاً يصقل الروح ويسمو بالنفس إلى أفق الكمال الأعلى، فيهُونُ على الأغنياء حينئذٍ إنفاق أي قدر من المال احتاجته الأمة أو الفقراء في قادم الأيام حتى وإن اقتضى الأمر إنفاق أموالهم جميعاً فيكونون كخازن المال لحاجة غيره في الوقت المعلوم، والذي تومئ إليه الرواية التالية أيضاً: "مَيَاسِيرُ شِيعَتِنَا أُمَنَاؤُنَا عَلَى مَحَاوِيجِهِمْ فَاحْفَظُونَا فِيهِمْ يَحْفَظْكُمُ اللَّهُ"(6) و"إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمُ اللَّهُ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ"(7).
ويزيد الأمر إيضاحاً ان من اعتاد أن يركب أفخم السيارات وان يسكن القصور ويلبس ويأكل ويشرب الأفضل فالأفضل، يصعب عليه جداً ان ينقلع عن كل ذلك لينفق أمواله إن احتاجته الأمة، وهي عادة محتاجة، لبناء مستشفيات أو مدارس أو مساجد أو حسينيات أو مياتم أو تأسيس معاهد أو غيرها، عكس من عاش عيشة الفقراء وإن كانت له تجارة تدر عليه الملايين فان إنفاقه لها بأكملها أو بأكثرها أو بأي قدر منها يكون أسهل بدرجة كبيرة.
الأكثر تطوراً: اعطوا الفقراء الشبكة لا السمكة!
وهذا كله وإن كان صحيحاً، ولكن هنالك طريقة أخرى أكثر تطوراً ونفعاً، ولو في جملة من الحالات، وهذه الفكرة الآتية هي التي تعتبر المكمل الاستراتيجي للوجه السادس والتي نوصي اخوتنا العلماء والخطباء والمفكرين والكتاب وغيرهم بتثقيف الناس عليها والتركيز عليها أشد التركيز، والفكرة هي:
أن نحرّض الأغنياء لكي يعطوا الفقراء الشبكة لا السمكة، وهذا يعني انهم بدل ان يحتكروا الأموال الطائلة ويستثمروها لتزداد يوماً بعد يوم، بدل ذلك عليهم ان يبذلوها للفقراء لتكون لهم كرأسمال يستثمرونه ليدر عليهم ما يكفل حياتهم طوال السنة وقد يستدعي ذلك توفير الاستشارات المجانية لهم وإرشادهم وأيضاً توفير بعض الآليات الضرورية لهم كي يقفوا على أقدامهم.
وهذا يعني ان تاجراً يملك مليار دولار فرضاً يمكنه ان يوفر الرأسمال الكافي الوافي لعشرة آلاف شخص يعيلون عشرة آلاف عائلة على افتراض ان الرأسمال الوافي لتجارة مربحة نسبياً هو مائة ألف دولار، وان فرضناه أقل أو أكثر فأقل وأكثر.
والآن نسأل أيهما أفضل: ان يمتلك رجل واحد المليارات ويزداد ثراء يوماً بعد يوم؟ أو ان يحوله إلى رأسمال لعشرة آلاف عائلة ينتشلها من الفقر بشكل دائم!
ولَكُم ان تتصورا حالة عامة الناس لو التزم كافة الأغنياء بذلك (وأبقوا لأنفسهم سهماً كسهم الآخرين فقط)، ألم يكن الفقر يقتلع من جذوره حينئذٍ؟ وألا تشهد على ذلك، في بُعد من أبعاده على الأقل، الرواية المعروفة "مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ"(8) و(ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع)؟.
وذلك كله بالضبط هو معنى ان تعطي الفقير شبكة ليصطاد بها الأسماك على مرّ الأيام بدل ان تعطيه سمكة يأكلها وينتهي به الأمر إلى الاستجداء يوم غدٍ من جديد! فالشبكة هي الرأسمال للعمل أو الحرفة وقد تكون –في مصاديق أكثر تواضعاً- ماكينة خياطة أو جراراً أو ثوراً يحرث به الأرض أو جهاز حاسوب يقوم عبره بسلسلة من الأعمال في حقل البرمجيات أو غيرها أو قد تكون (الشبكة) هي رأسمال يشتري به قطيعاً من الغنم أو قطعة أرض يزرعها أو متجراً يتخذه منطلقاً أو رأسمالاً يتاجر به بأنحاء أخرى كثيرة.
تبرع بأموالك لمؤسسة خيرية ثم استثمرها لصالحهم!
وهناك فكرة أخرى مقاربة للفكرة السابقة وهي: ان يهب الثري أمواله كلها لمؤسسة خيرية تقوم بالنيابة عنه بالعمل على ضوء المقترح السابق.
كما يمكن ان يكون هو المستثمر لها لكن لا على انها أمواله بل على انها أموال الصندوق الخيري أو المؤسسة الخيرية.
كما يمكنه ان يؤسِّس بنفسه مؤسسة خيرية ويهب أمواله كلها لها ويكون هو الذي يدير عملية الاستثمار أو يفوضه للغير.
كما ان من الطرق أن يؤسس بأمواله صندوقاً للإقراض الخيري اللاربوي يتكفل بتوفير القروض اللاربوية لعامة المحتاجين.
(وقف الأموال) حسب تخريج بعض الفقهاء
كما يمكن ان (يَقِف) الثري أمواله على مؤسسة خيرية أو على المؤسسة التي انشأها هو، وذلك بناء على راي بعض الفقهاء كالسيد الوالد قدس سره الذي ذهب صناعياً إلى صحة ان يقف المالك (مالية المال) أي قيمته المالية وجوهره وروحه السارية وقوته الشرائية لا حجمه ومشخصاته الفردية.
توضيح ذلك: ان المشهور هو ان الوقف (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) وهذا التعريف مستفاد من بعض الروايات المقاربة له في المضمون فعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ"(9) وقد استفاد الفقهاء منه ان قوام الوقف ببقاء الأصل والانتفاع بالثمرة كوقف الدار للسكن أو البستان للانتفاع بثمره وهكذا وانه لا يصح وقف ما يتوقف الانتفاع به على زوال عينه أو يتوقف على تحولها وانتقالها كالأموال النقدية.
ولكن وفي المقابل استظهر بعض الأعلام –كما سبق- استناداً إلى "الْوُقُوفُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقِفُهَا أَهْلُهَا"(10) صحة ذلك لأن وقف القيمة الشرائية هو نوعُ وقفٍ عرفاً وهو مصداق "عَلَى حَسَبِ مَا يَقِفُهَا أَهْلُهَا".
وأما تحبيس الأصل فانه صادق بالحمل الشائع أيضاً إذ الاصل هنا هو القوة الشرائية والروح السيالة فقد حبسها هي دون المشخصات الفردية، إلا ان يدعى الانصراف فتأمل.
فإذا ذهبنا إلى هذا الرأي صحَّ ان يقف الإنسان أمواله وينصب نفسه أو غيره من الاكفاء ولياً عليها، ثم وحسب ما يراه الولي من المصلحة يتاجر بها لصالح الفقراء والأيتام والأرامل أو المؤسسات الإنسانية أو الدينية أو يفوض لغيره استثمارها؛ وإلا كان الحل بالطرق السابقة عبر الهبة أو غير ذلك.
الثري الذي تبرع بـ30 مليار دولار!
والغريب والمؤسف معاً ان الآخرين سبقونا في هذا المضمار أيضاً، فلقد تبرع أحد كبار أثرياء الغرب بعشرات المليارات من ثروته لصالح مؤسسة خيرية تهتم بشؤون الصحة والتعليم: فقد تبرع في البداية بمبلغ 30 مليار دولاراً وشجع شخصاً آخر فتبرع بـ29 مليار وتبرع غيرهما بمليار فصارت مؤسسة خيرية رأسمالها 60 مليار دولاراً! ثم تبرع بباقي ثروته التي وصلت في إحدى مراحلها إلى 85 مليار دولار(11)، وتفرغ لإدارة المؤسسة الخيرية واستثماراتها وأما أولاده فقد خصّص لكل واحد منهم مليون دولار فقط! والمليون لمن لا يملك شيئاً مبلغ كبير لكنه لا يعد رقماً بالنسبة لمن يملك عشرات المليارات من الدولارات، كما يندر أن يفعل أحد مثل ذلك.. وكان منطقه ان على أولادي أن يشقوا دربهم بأنفسهم وان الفقراء أولى بأموالي منهم!
ولو كان أثرياؤنا السابقين إلى مثل هذه الخطوة، لَكُنّا أقرب إلى رحمة الله تعالى من جهة ولحظيت بلادنا بالأمن والرخاء أو لكانت أكثر استقراراً وازدهاراً ولكنّا بين الأمم أعلى كعباً وأكثر عزةً.
الوجه السابع: معادلة التزاحم بين الدنيا والآخرة
وهناك وجه سابع للجمع بين طوائف الروايات وهو:
ان الروايات في مجملها مبتنية على معادلة التزاحم بين الدنيا والآخرة، فان تلك التي تحرض على الزهد وتذكر محاسن الفقر وتحث عليه تتجه بوصلتها نحو توفير ضمانات أكثر للآخرة ولإحراز الأجر الأعظم والمقام الأسمى هنالك، واما تلك التي تحض على الغنى والثروة فإنها تتجه نحو ما يصحّ أو يحسن ان يكون للإنسان من النصيب في دار الدنيا قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا)(12).
ومن تلك الآيات التي تتحدث عن النصيب في دار الدنيا قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(13) فهي (زِينَةَ اللهِ) وقد أخرجها الله لعباده فهي إذاً أمر حَسَن (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) فقد خلقت لهم بالأساس لا لغيرهم لكن دنيا الامتحان اقتضت ان يشركهم فيها غيرهم في الدنيا أما في الآخرة فهي (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لهم.
فزينة الحياة الدنيا هي لعباد الله فذلك حَسَن لكن الأحسن هو ما أشارت إليه آيات أخرى كقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(14) فهذه هي الفضيلة العظمى والميزة الكبرى وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ)(15) و(أَمْوَالَهُمْ) جمع مضاف يفيد العموم فقد اشترى الله كل أموالنا وليس بعضها وذلك في مقابل ان لنا الجنة، ونِعمتِ المعاملة المربِحة هذه! إذ الدنيا أيام زائلة والآخرة باقية دائمة، ثم أين نعيم الدنيا من نعيم الآخرة!.
الموازنة بين الدنيا والآخرة عبر فلسفة التحذير من الدنيا
والمشكلة العظمى التي تُعد من أفدح أخطائنا هي: اننا لا نوازن بين الدنيا والآخرة الموازنة الصحيحة، ولذا تجد كفة الدنيا ترجح لدينا في أغلب مراحل الحياة ومفاصلها.
ولأن الإنسان يصعب عليه أن ينفق ما جمعه بكد اليمين وعرق الجبين وبكل صعوبة ومشقة ولأنه يميل إلى الدنيا وإلى التشبث بالمادة والماديات بشكل كبير بل وبنحو متزايد لذلك كان التحذير الشديد في الروايات من الثروة والمال:
ومنها: "أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى (عليه السلام) يَا مُوسَى (عليه السلام) لَا تَفْرَحْ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَلَا تَدَعْ ذِكْرِي عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُنْسِي الذُّنُوبَ وَإِنَّ تَرْكَ ذِكْرِي يُقْسِي الْقُلُوبَ"(16).
ومنها: "مَا قَرُبَ عَبْدٌ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا تَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ وَلَا كَثُرَ مَالُهُ إِلَّا اشْتَدَّ حِسَابُهُ وَلَا كَثُرَ تَبَعُهُ إِلَّا وَكَثُرَ شَيَاطِينُهُ"(17).
ومنها: "مَا أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةُ غَنِيٌّ ولَا فَقِيرٌ إِلَّا يَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْهَا إِلَّا الْقُوتَ"(18).
ومنها: "تَحَسَّرَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَامَ تَأَسُّفُكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَيْسَ تَأَسُّفِي عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَهِدَ إِلَيْنَا وَقَالَ لِيَكُنْ بُلْغَةُ أَحَدِكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ وَأَخَافُ أَنْ نَكُونَ قَدْ جَاوَزْنَا أَمْرَهُ وَحَوْلِي هَذِهِ الْأَسَاوِدُ وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: هُوَ دَسْتٌ وَسَيْفٌ وَجَفْنَةٌ"(19)
وغير ذلك.
معادلة "اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً"
والرواية التالية توضح المعادلة بين الدنيا والآخرة والإعداد لتلك وقضاء ضروري الوطر من هذه، بشكل دقيق، فقد ورد: "اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً"(20) ولكن ظاهر الرواية قد يبدو متناقضاً إذ من يعلم انه يموت غداً ينشغل بتصفية أموره وإرضاء خصومه وتسديد ديونه وقضاء حقوق الله الواجبة عليه والاستعداد للآخرة ولا تراه ينشغل بمتجره أو مصنعه أو مخبزه أو غير ذلك، أما الذي يبقى أبداً ويعيش لألوف بل ملايين السنين فانه يجب ان يدّخر ما يكفيه لملايين السنين وليس ما يكفيه ليوم أو سنة، فكيف التوفيق؟
معنى الرواية وحل التناقض البدوي المتوهم
والجواب دقيق وسهل ويوضح لنا معادلة الدنيا والآخرة في الوقت نفسه ومن جوانبه: ان على المرء ان يعمل عمل من يعيش أبداً لا ان يدخر من الثروات ما تكفي للعيش أبداً، والفرق كبير فمن يعيش أبداً عليه أن يوفر ما يرجع به إلى كفاية بان يكون له مصدر رزق يدر عليه باستمرار كأرض يزرعها أو شركة يديرها، لا ان يدخر الأموال بعد الأموال، بل انه كلما حصل على ربح من حاصل عمله أو تجارته انفقه لآخرته فكان بذلك قد جمع الخير من طرفيه وامتثل قوله (عليه السلام): "اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً".
ولكن تلك هي القاعدة الأولى، أما القاعدة الثانية التي تكتمل بها المعادلة والصورة الكاملة فهي: ان وزن الدنيا بالنسبة للآخرة، وزن ضئيل حقير محدود فعلى المؤمن ان يعطيها وزنها لا أكثر من ذلك؛ ألا ترى حالة من عزم على السفر غداً إلى بلد ناء كالصين مثلاً وحجز التذاكر وأعد كل شيء لهجرة بلا عودة، فما الذي يعمله؟ هل تراه يدخر ثرواته ههنا ويكنزها أو انه سينقلها معه إلى البلد الذي سيهاجر إليه؟ لا شك انه سينقلها معه إلى البلد الآخر أو يبعثها مسبقاً إليه، ولكنه من جهة أخرى لا يغفل عن انه بشر يجب أن يلبي حاجاته في هذا اليوم المتبقي من المأكل والمشرب والملبس! فهكذا حال الدنيا بالنسبة للآخرة:
إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ...حَلَّ فِيهِ رَاكِبٌ ثُمَّ رَحَل
ولو ساد هذا المنهج لما بقي فقير على وجه الأرض
ولو ان هذا المنهج (منهج المعادلة في ظل باب التزاحم بين الدنيا والآخرة مع إعطاء كل منهما حجمه ووزنه الذي يستحقه) و(منهج الحركة المتعاكسة للأغنياء باتجاه الفقر أو العيش عيش الفقراء وللفقراء باتجاه الغنى) كان هو الحاكم في العالم لما بقي فقير على وجه الأرض قط إذ (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع) "مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ"(21) ولكن المنهج السائد اليوم هو منهج الطمع والحرص والجشع وهو منطق السوق وقواعده والفرد وانانيته، ولذا نجد ان من الطبيعي جداً بعد ذلك ان تكون من أبشع إفرازات الحضارة المادية (والاخرين الذين قلدوها في العمل والسيرة واختطوا خطواتها في المسيرة) هي: الفقر المخيم على ربوع العالم والمرض والبطالة وغير ذلك من المآسي بل الفجائع.
إحصاءات مفزعة
والأرقام التالية تكشف لنا عن بعض الحقائق المرّة التي تحكم العالم نتيجة تلك المنهجية المادية البغيضة: (وتُقَدِّر منظمة الصحة العالمية أن 100 مليون فرد يغرقون في الفقر كل عام لأنهم اضطروا إلى دفع كلفة الخدمات الصحية التي تلقوها مباشرة)(22) والرقم غريب حقاً ومؤلم إلى أبعد الحدود بل قد يبدو خيالياً لولا ان منظمة معتمدة دولياً هي التي قامت بتقدير ذلك الرقم المذهل.. تصوروا مائة مليون يغرقون في مستنقع الفقر كل سنة لمجرد انهم اضطروا للاقتراض لتسديد فاتورة علاج ضروري احتاجوا إليه أو احتاجه قريب أو عزيز والسبب هو: ان أكثر الناس يعيشون على حافة الفقر ثم يهوون إليه بأبسط ضغط وأقل كلفة إضافية!
و: (في ليبيريا مثلاً، هناك طبيب واحد لكل 100.000 من السكان، أي أقل من 50 طبيباً لمجمل السكان "أدنى بحوالي 330 ضعفاً مما هو الحال في فرنسا". وتفاوتات في إمكان الحصول على الدواء بعد ذلك: فليس هناك أي علاج نوعي خاص بمرض فيروس إيبولا، ولكن علاجات اختبارية أجريت على مرضى نُقلوا إلى الخارج أو جرت معالجتهم في البلدان النامية أو المتحقّقة النموّ)(23).
و: (في أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء لا يزال معدّل وفيات الأطفال لما دون سنّ الخامسة هو 98 في كل ألف ولادة، أي أرفع من معدلات وفيات الأطفال في البلدان النامية أو المتحققة النمو، بخمس عشرة مرة)(24) وموت طفل واحد في الأسرة مؤلم مقرح يترك جروحاً في القلب قد لا تندمل مدى الحياة، فكيف بأمة يموت ما يقارب العشرة بالمائة من أطفالهم دون سن الخامسة!
التاجر الذي كان يتشدد في الحساب ثم ينفق بلا حساب!
وعوداً إلى الرواية السابقة "اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً" فان القصة التالية تفصح لنا عن المعادلة التي ترفع التناقض المتوهم، بوجه آخر رائع، فقد نقل السيد الوالد (قدس سره) ان أحد رجال الدين انشغل بتشييد صرح ديني مكلف فسأل عن الأثرياء من أهل الخير والبذل والعطاء فارشدوه إلى أحدهم واثنوا عليه وعلى يده الكريمة المعطاء وانه رجل سبّاق إلى العطاء.. فشد العالم رحاله إلى منطقة التاجر وعندما وصل إليها سأل عنه فقيل انه في متجره بالسوق فقصده، ولما وصل أكرمه التاجر وقدم له كرسياً واستأذنه في أن يكمل جرد الحسابات مع موظفيه ثم ينصرف إليه.
يقول العالم: كانوا بالقرب مني ولقد هالني ما سمعت إذ رأيت التاجر شديد المداقّة حتى على الفلس الواحد، يلاحقهم على أبسط الأمور ولا يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها عليهم وشدّد في الحساب على من فرّط حتى بحبة حنطة أو فنجان شاي مثلاً!
يقول العالم: فتندمت على المجيء إليه أشد الندم إذ اكتشفت من طريقة تعامله وتشدده انه بالغ البخل شديد الطمع فكيف يبذل ما كنت أؤمله من أموال طائلة لمشروع خيري بعيد؟
يقول: فاستأذنت للانصراف لكن التاجر ألح عليَّ بالبقاء ثم أكمل الحسابات وجاء إليَّ وسألني عن أي أمر أو خدمة يمكنه ان يقدمها! فقلت كنت قد جئت لغرض لكن بدا لي وتغير رأيي، فألح عليَّ ان أخبره فرفضت فقال – متوسماً – الظاهر انك جئت لأمر مشروع خيري لكنك حيث رأيت مني ما رأيت عَدَلت! فقلت نعم! فقال: كلا.. ان لكل شيء محلاً وموضعاً فانني وحسب مقتضى الحكمة اضبط الأمور أشد الضبط لأن الانفلات والتسيّب يبدأ صغيراً وينتهي كبيراً، ومن جهة أخرى فان مقتضى الإحسان والكرم أن أنفق بلا حساب، ولولا ضبطي الأمر التجارية بكل دقة لما أمكنني الإنفاق بكل سخاء! فهذا إذاً مقدمة لذاك! ثم سألني عن المشروع وتبرع بمبلغ كبيراً جداً!
وبتلك المعادلات الدقيقة والتوازنات الحكيمة يمكن ان يتم إعمار الأرض على أفضل وجه قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق