q

عدم رؤية الأشياء بصورتها المتكاملة في هذه النشأة يرجع إلى التكوين الجزئي الذي استقرت عليه إذا علمنا أن الظهور الفعلي لهذه المسلمة لا يمكن أن يصل إلى ذروته النهائية، وهذا ما يشهد به الفرق بين النشأة الأولى وما يقابلها من النشأة الأخرى التي يرد فيها كل شيء إلى نسبته.

وقد يتضح هذا المعنى من خلال الآيات التي تبين النوعية المثالية لجميع ما هو مشاهد في الآخرة أو يعلم بالضرورة، كمعرفة الله تعالى التي تتجلى يومئذ دون الرؤية البصرية التي تنسب إليه زوراً وبهتاناً، ولا يخفى أن هذا الأمر يعد من أعظم الأمور التي بينها سبحانه في كتابه المجيد، كما في قوله: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22.

والآية تبين مدى تقطع الأسباب في هذه النشأة ورجوعها في الآخرة إلى الحق سبحانه أي بعد انقضاء أمدها وتعلق الإنسان بها علماً أن وجودها لا يتقارب مع الظهور النهائي لفاعليتها المرئية، ولهذا تكون النشأة الآخرة كاشفة لأصلها وإن شئت فقل مرجعة إياها إلى مسببها الأول الذي نشأت منه، ومن هنا ظهرت نتائجها النهائية للإنسان في يوم البعث وما وراء ذلك اليوم كون الأمر لم يقتصر على علم الإنسان وإنما يرجع إلى مسبب الأسباب مع تجرد الأول عن هذا الملاك، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله) الانفطار 19. وكذا قوله: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) غافر 16.

من هنا نعلم أن هناك حقيقة أخرى تكمن في تكامل الأشياء في هذه النشأة إلا أن الغفلة الإنسانية قد حالت بينها وبين الوصول إلى معرفتها، وهذا ما يفهم من معنى الغطاء إذا علمنا أن المصطلح لا يتطابق إلا مع الأشياء الظاهرة بالفعل، ومنطوق الآية يشهد بهذا الوصف إذا أضيف إلى المفهوم المحض المستخلص من السياق، وقد يؤيد هذا المعنى بقوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون) السجدة 12.

وفي الآية ما يدل على ظهور الملكات على وجهها دون لبس أو شك، ويمكن أن يرد هذا المفهوم إلى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون... لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) المؤمنون 99- 100. وفي المنطوق ما يدل على أن الحقائق بدأت تظهر للإنسان عند مقاربة الموت وقبل الدخول الفعلي إلى عالم البرزخ، وقد يعضد هذا المعنى بقوله سبحانه: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27. وبهذا تظهر النكتة في الآية اللاحقة أي في قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) الأنعام 28.

وتأسيساً على ما تقدم نعلم أن جميع الأشياء سوف تظهر على حقيقتها التي لم يصل الإنسان إلى اكتشافها نظراً إلى ما ران على قلبه من الآثام إذا ما استثنينا الأوحدي من الناس، ومن الشواهد على ما نحن فيه قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف 172. وعند تأمل هذا التفصيل نعلم أن الإنسان لا يزال قاصراً عن الوصول إلى معرفة الظهور الكلي للأشياء ابتداء من يوم ولادته وحتى خروجه من هذه الدنيا، ولهذا نسبه تعالى إلى عدم الإدراك وذلك في قوله: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78. ولما يبلغ الإنسان مبلغاً من العلم نلاحظ أن الحق سبحانه يوجهه إلى قصور آخر يظهر من خلاله عدم علمه بحقيقة الأشياء، كما في قوله جل شأنه: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) الروم 7.

وعند تأمل هذا الوجه نفهم أن الإنسان لم يصل إلى التكامل المطلق في هذه النشأة ما يجعلنا على يقين بأن وجوده في هذه الأرض لم يكن على حقيقته التي هي عند الله تعالى، ومن هنا كان نسيانه يرجع إلى عدم تحقق العلم لديه بالأصول الثابتة وذلك نسبة إلى تراكم الأحداث التي تظهر أمامه في هذه النشأة، أما ما يقاس إلى دوره في التكليف بناء على العهد الذي تقدم ذكره فهذا من المحال إذا رجعنا إلى الهيئة التكوينية التي نشأ بواسطتها، ومن هنا يمكن ملاحظة الفرق بين التكليف المطلق وبين الحجج التي بينها سبحانه في آية الذر آنفة الذكر، هذا من جهة التكوين البدائي دون جهة الإنزال التي ذكرها تعالى بقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21.

ومن بين تلك الأشياء تظهر حقيقة النسب الإلهية التي أودعها سبحانه في هذه الأرض وتعبدنا بها، علماً أن ما ينزل من الخزائن إلى الأرض ما هو إلا أحد الأجزاء التي ادخرها تعالى عنده ثم جعل إنزالها متفرعاً عن موجودات أعظم وأقدس، وهذا ما بينه بقوله: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96. ومن أجل الأشياء تجسيداً لهذا الإنزال هو بيت الله تعالى الذي يمتد أصله إلى البيت المعمور، وسيمر عليك تفصيل هذا المعنى في تفسير آية البحث:

تفسير آية البحث:

قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة 125. ذكرنا في بحثنا أن جميع الأشياء في هذا العالم ما هي إلا أمثلة لأشياء أجل وأقدس منها بل هي الفرع المقابل للأصل الذي تتنزل منه، وقد دلت الآية 21. من سورة الحجر آنفة الذكر على ذلك، وبناء على هذا يتحصل أن كل ما نشاهده في عالم المادة لا يخرج عن كونه علامة ظاهرة على وجود الخالق سبحانه الذي يتجلى لخلقه بخلقه ولهذا قيل إن لكل جزء من أجزاء الكعبة وأركانها أصلاً ثابتاً عند الله تعالى، وقد بينا ذلك في الآية 96. من سورة النحل التي أوردناها في بحثنا والتي فيها دلالة على بقاء الأشياء عند الله تعالى ونفادها عما سواه، ومن هنا تترتب على جلالة الأشياء المقدسة هذه الأهمية التي نشاهدها في هذا العالم، وما بيت الله الحرام إلا أحد هذه المقدسات المتجسدة في عالم المادة، ولهذا السبب جعله سبحانه مثابة للناس وأمناً، ولأجل هذا تكون العلاقة بين البيتين أي البيت المعمور وبيت الله تعالى الذي في الأرض كالعلاقة بين الأصل والفرع، ولذلك بوأ الله تعالى لإبراهيم مكان البيت وعرفه إياه وفي هذا دلالة على أن الموضع المشار إليه لم يكن تعيينه وليد اللحظة، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج 26. والآية تثبت أصل البيت ومكانه المقرر قبل البناء المادي.

(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً) من آية البحث. (وإذ) ظرفية أي اذكروا وقت جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً، وبهذا يكون التقدير مشتملاً على كثير من المعاني المحذوفة والتي يستدل عليها بلفظة (وإذ) ومنها فرض الحج وفعل ما هو مقرر من المناسك، ثم عطف تعالى على هذا الجعل اتخاذ مقام إبراهيم للصلاة كما في قوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) من آية البحث.

والبيت يعني المرجع الذي يجتمع فيه أهله، والمصطلح يعطي هذا المعنى بجميع أبعاده وصولاً إلى بيت الشعر الذي تجتمع فيه الحروف والكلمات، وإذا أطلق في القرآن الكريم فلا يراد منه إلا بيت الله، وهناك إضافات أخرى يفهم معناها بواسطة الدلالة الإلزامية، كالإضافة إلى ياء المتكلم أو إلى أوصاف أخرى كالحرام والمحرم والعتيق، كما في قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) المائدة 2. وكذا قوله: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم 37. وقوله سبحانه: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) الحج 29.

أما معنى مثابة أي مرجع والمراد ههنا الرجوع المتكرر إلى البيت وثاب أي رجع، ويستعمل المصطلح في الخير والشر، ومن الأول ما ذكر في آية البحث ومن الثاني قوله تعالى: (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون) المطففين 36. أوردت اسم السورة على الحكاية، ومنه قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل) المائدة 60. والباقي ظاهر.

* من كتابي: السلطان في تفسير القرآن

اضف تعليق