القتال بين المسلمين يمكن أن يُعالج عن طريق الصلح إذا كانت الأسباب مهيئة لهذا الغرض، أما في حال ظهور مجموعة من العلائم تبين أن الأطراف الأخرى لا تستطيع الوصول إلى الحلول الكافية في إطفاء نار الفتنة قبل اللجوء إلى طريق آخر يتيح لهم التخلص من الوضع العالق بين الطرفين، فههنا تكون الدعوات المنادية بوقف القتال لا قيمة لها أمام قوم هم للشر أقرب منهم للخير.
ولهذا وجب على جميع الفرق سواء المشاركة في الحدث، أو تلك التي يحق لها التوسط بين الطرفين من أن تأخذ الحذر وتكون قريبة من نبذ تلك الدعوات، وذلك لأجل درء المخاطر الناتجة من الطرف المعتدي، وأنت خبير من أن تجنب هذا النوع من القتال قد يجعل اشتراك الفئة المعتدى عليها مع الفئة الباغية في نفس الإثم المتفرع على هجرهم لنهج القرآن الكريم وتعطيل آية عظيمة من آياته.
وهذا هو الهجر الحقيقي الذي يُصنّف على أنه من الكبائر الملازمة لجميع الأطراف بسبب ابتعادهم عن كتاب الله تعالى، والالتفاف على آية من آيات درء المخاطر "كما سيمر عليك في هذا البحث" ولهذا ترى أن كثيراً من الناس قد يقع في اللبس أحياناً وذلك عند ظهور المؤشرات الحاصلة بسبب التزاحم الذي يترك أثره في إرجاع أمر القتال بين الأطراف المتنازعة إلى غايات غير معرّفة، وبالتالي تظل جميع الفئات التي هي خارج دائرة القتال تنظر إلى شيءٍ مجهول لا يحق لهم الخوض في تفاصيله أو الأخذ بما هو مشاهد من اختلاف المسميات التي يصعب عليهم من خلالها تمييز الحق من الباطل الذي يقربهم إلى ترجيح أي من الفريقين يصدق عليه مصطلح البغي.
وبنحوٍ من هذا اللبس يعتقد المحققون أن الصفة الكمالية التي يهبها الله تعالى لأصحاب الحق لا يستقيم لها الثبات والبقاء إلا إذا استمرت موجباتها في تأييد الدخول الفعلي إلى ميادين القتال دون النظر إلى المصاديق اللاحقة المخصصة له، وكأن هذا الصنف من المحققين قد وصل إلى هذه النتيجة جرّاء فهمه لقوله تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة 251.
ولذلك نشأ عن هذا الظن أن القتال جزء لا يتجزأ من استقامة الحياة على الأرض واستقرارها على الوجه الأمثل علماً أن الإنسان الذي يركن إلى هذا القصد لا بد أن يقع في أخطاء كثيرة لا حصر لها، باعتبار أن الحرب لها طرق مختلفة واتجاهات شتى تتفرع على تحرير الأراضي المغتصبة، إضافة إلى جلبها لكثير من المنافع وكذا في دفعها للمكاره والأضرار وصولاً إلى أرقى أنواع الحروب التي تُرد أسبابها إلى ما يفرضه الشارع من إظهار العقيدة والدفاع عنها، أما الحروب التي تكون تابعة لأمر الحاكم المستبد وإرضاء غروره فهذه مما لا ريب في وقوعها بعيدة عن الجوانب الإيمانية، ولا يمكن أن نجري عليها الآية آنفة الذكر.
من هنا يجب إخراج الحروب العبثية المجانبة للحق عن الشرعية، أما إذا كانت الحرب تابعة لما هو مقرر في الشرع من جلب المنافع أو دفع المضار كما بينا فههنا قد يخرج السبب عن العبثية، ويصبح الأمر واجباً مقدساً، وربما لا يُفهم هذا المعنى من قبل كثير من الناس الذين لا يروق لهم مشاهدة المناظر غير المألوفة من سفك الدماء أو تناثر الأعضاء بعد أن كانت على وضعها الطبيعي، وكذا ما يحدث للأطفال والنساء وكبار السن من متاعب لا حدود لها.
ولا يخفى على المتلقي من أن هذا المعنى إذا صدق عرفاً بموازاته لأمر الله تعالى وانطباقه على الحق المبين، فمما لا شك فيه قد يرغم المشاهد شرعاً من أن ما ثبت في خياله من المناظر المؤلمة سوف يأخذ الجانب الآخر لهذه الرؤية، حتى تصبح تلك المناظر من الأشياء الحسنة المستساغة، وبالتالي يُبدل ذلك الحال إلى برد وسلام، وهذا التقدير قد لا يلامس أذواق أصحاب القلوب الضعيفة الذين لا يمكنهم رؤية المناظر التي بيناها بسبب عدم ممارستهم لهذه الأفعال، وقد يُعد هذا حق من حقوقهم إذا ما نظرنا إلى الضعف والفتور الذي يلاحقهم بسبب بُعدهم عن التجارب الميدانية التي يكون لها أثر في إضفاء صفة الجلادة على الإنسان ما يجعله على يقين من أن مقرراته السابقة لا وجود لها إلا في مخيلته التي لا تقوده إلى الرؤية الحقيقية، أما إذا اجتمعت هذه المقررات ولم تُجدِ نفعاً فمن الطبيعي أن ترى هذا الصنف من الناس يدعون بين فترة وأخرى إلى عدم مهاجمة الفئة الباغية، لأن ذلك يجعل الأمور تأخذ المعنى المعاكس للسلم بموجب النظرة الملازمة لأصحاب القلوب الضعيفة الذين لا يروق لهم رؤية الدماء وكذا ما يحدث للأطفال والنساء أو كبار السن الذين هم بمنأى عن القتال كما أسلفت.
ومن هنا نجد أن هذا الصنف الذي لا يستحق العيش الكريم قد جعل تلك الأسباب أقرب إلى الذريعة التي تبنّى من خلالها الدعوة إلى وقف القتال، معللاً ذلك بالأضرار الناتجة عنه دون التوجه الحقيقي إلى التفريق بين ما شرعه الله تعالى، وبين ما في قلوبهم البعيدة عن الإيمان، ولو تعمّق هؤلاء الناس في دراسة الأساليب العليا لظاهرة القتال الحق فبلا أدنى ريب سوف تبدل نظرتهم، ويكون ما يجري أمامهم أقرب إلى الرشاد منه إلى الاعتداء، وبطبيعة الحال لو أردنا تعريف السبب المباشر المدّعى من قبل الناس الذين لا نزال نتحدث عن ضعفهم، لوجدناه يعود إلى قلة التصدي لما يُفرض جرّاء القتال دون التوسع بمعرفة أهدافه، مما يباعد بينهم وبين الركون إلى العادات المألوفة من قبل الناس الذين هم في الجانب الآخر من هذا النهج.
من هنا نرى أن القرآن الكريم قد بيّن هذا المعنى بألطف بيان، وذلك في قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) الحجرات 9. وكما هو ظاهر فإن تصدير الآية بقوله تعالى: (وإن) فيه لمحة بيانية تدل على أن هذا التعبير فيه إشارة إلى ندرة وقوع القتال بين طوائف المسلمين، وهذا نظير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) الحجرات 6. وفي هذا دليل على أن مجيء الفاسق بالنبأ لا يقع إلا قليلاً، باعتبار أن النبأ يكون قريباً للصدق أكثر من الخبر، وكأن في البيان إشارة إلى الاحتراز منه على الرغم من كونه من الأنباء، وليس من الأخبار التي تتقارب مع رؤية الفاسق في كثير من الأحيان فتأمل ذلك.
فإن قيل: ما ذكرته من الناحية البلاغية صحيح، إلا أن الواقع على الأرض خلاف ذلك، أي إن الاقتتال بين طوائف المسلمين هو الأمر المشاهد أكثر من قتالهم مع غيرهم؟ أقول: هذا عين الصواب ولكن القرآن الكريم يراعي الواقع القريب من التصديق الإيماني الذي يكون عليه الجزاء، باعتبار أن ما وقع أو ما يقع هو خلاف الحقيقة التي ترجى، وتكون على مساس من الفرض الشرعي سواء اتخذته الفرق المتنازعة ذريعة أو تجاوزته إلى الحد الذي لا يرتبط بالوسائل المؤدية إلى الغايات وإن كانت نادرة جداً، وهذا المعنى قريب من قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56.
ولا يخفى على من له أدنى بصيرة من أن العبادة الاختيارية لا تصدق على أغلب الناس، فتأمل تطابق المعنى بين الآيتين لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ويشهد بعضه على بعض، ولهذا قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) النساء 82. وفي هذا رد على من يذهب إلى أن الاختلاف الواحد يفي بالغرض فلمَ أشار تعالى بالكثرة إلى الاختلاف فتأمل ذلك بلطف.
فإن قيل: قوله تعالى: (طائفتان) فيه إشارة إلى المثنى، ثم بعد ذلك جمع فقال: (اقتتلوا) وكان المفروض أن يقول: اقتتلا نسبة إلى الطائفتين؟ أقول: إن من يتزعم الطائفة هو شخص واحد ويكون أمر القتال عائداً إليه، ولهذا كانت الإشارة إلى الطائفتين بحكم من يتولى شؤونهما، ولكن الدخول الفعلي في القتال لا يقتصر على من يتولى شؤون الطائفتين، وإنما يمتد ليشمل جميع أفرادهما، وبسبب دخول الجميع في القتال انتقل التعبير من المثنى إلى الجمع، فقال تعالى: (اقتتلوا) وبهذا تظهر النكتة في قوله: (فأصلحوا بينهما) لأن الصلح يتعلق بالزعيمين أيضاً دون باقي الأفراد.
اضف تعليق