أحد أهم ملامح الكون والحياة هو حالة التغيير والتبدل والتكامل أحياناً التي تتشكل في عملية الحركة الدائبة والمستمرة، فكل شيء يتحرك ليتحول إلى شيء جديد بعد أن تتفاعل مجموعة العناصر المختلفة في أجواء وظروف متعددة لتخلق وجوداً آخر لم يكن من قبل، وقد قال الفلاسفة قديماً: إن التغير قانون الوجود وإن الاستقرار موت وعدم، ومثلوا لفكرة التغير بجريان الماء فأنت لا تنزل النهر الواحد مرتين فإن مياهاً جديدة تجري من حولك(1).
فالتغيير ظاهرة طبيعية تخضع لها جميع مظاهر الكون انبثاقاً من البعد الحركي والزماني الذي يشكلها في تلك الحالة. ولا تتوقف حالة التغير على البعد المادي في الكون فالتغيير يشمل البعد المعنوي في حركة الحياة ثقافياً واجتماعياً وتاريخياً، فإذا كان هذا الإنسان في عمق الحركة الكونية فإنه لاشك يتفاعل مع حركة المتغيرات ليخلق لنفسه سلوكاً جديداً يتناسب مع واقعه الجديد: «إن تسويغ العمل الإنساني يرتكز على الصيرورة -التغير- لأن الكون الثابت لا يدفع الإنسان إلى العمل التطوري». (2)
فالتغيير سنة ثابتة من السنن الإلهية تفرض نـــفسها على حيــاة الإنسان بحيث لا يمكن أن يخترق هذا القانون الإلهي ويقاومه ويختار الجمود والبقاء على نفس حالته وقد قال تعالى في كتابه الحكيم: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (3) فالأمم لا تستطيع أن تغير واقعها إلاّ بعد أن تغير من ذاتها وتجاري القانون الفطري الإلهي.
وهذا هو مقصد الكلام والدراسة: فهم سنة التغيير في الحياة وامتلاك القدرة على التنبؤ بما يمكن أن يقع حتى يمكن استباق الأحداث للسيطرة عليها ومن ثم التحكم السليم في إدارة الحياة. ولكي نستطيع فهم جوهر عملية التغيير بشكل أدق لابد من معرفة بعض العناصر الأساسية التي تشكل عملية الحركة الإنسانية الدائبة:
الدوافع الذاتية لعملية التغيير
الإنسان كائن عاقل ومختار والسلوك الصادر عنه ينبع من الشعور الواعي والتفكير المسبق عادة، لذلك يحاول أن يتكيف مع المتغيرات بإحساسه العقلاني وليس مجرد تكيف غريزي وانعكاس جبلّي كما هو في الحيوانات، فهو يختار ويقرر بنفسه ما يريد، لذلك تختلف استجابة كل إنسان عن الإنسان الآخر تجاه الظروف التي تواجهه على عكس الحيوان الذي تكون استجابته غريزية متشابهة. ومن ثم فإن الإرادة الإنسانية تلعب الدور الأساسي في صنع المتغيرات وفي احتوائها لصالحه، ولذلك فإن الإنسان قادر بطبيعته الحرة على الاستجابة المرنة لمختلف التأثيرات وتجديد وابتكار أساليبه الخاصة حسب الظروف التي يمر بها، أي إن «التكيف التجديدي المقرون بخاصية التثقف يعكس المرونة التي تتسم بها وسائل التكيف الخاصة بالإنسان»(4).
وهذا الأمر هو أحد عوامل نشوء ثقافات إنسانية متعددة وحضارات تاريخية متنوعة.
وكذلك فإن السمة الإنسانية المميزة والمنبعثة من عقله هو البحث عن الكمال والتغير نحو الأحسن فتبعثه على السعي المستمر والحركة الدائبة ولعل في الآية القرآنية: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) (5) تعبير عن هذا المعنى، فالحركة تعني التغيير وفي الإنسان فإن التغيير يعني في الغالب التصاعد والارتقاء نحو مرتبة أعلى. والذي يغذي هذا الميل الإنساني نحو الارتقاء نحو مرتبة أعلى. والذي يغذي هذا الميل الإنساني نحو الارتقاء والتصاعد هو طبيعة التعلم البشرية التي تجعل من الإنسان كائناً لا يتوقف عن اكتساب المعرفة والعلم فمهما توصل إلى معارف فإنه يبحث عن الأفضل باستمرار، فطبيعة المعرفة البشرية هذه هي عملية تغيير تنشد إلى التكامل، بالإضافة إلى ما قد تصنعه هذه المعارف المكتسبة من تأثيرات في إيجاد أجواء جديدة تحفز على التفاعل والتلاقح بين القديم والجديد من جهة وبين الثقافات الإنسانية المختلفة من جهة أخرى.
ونعرف من كل هذا أن الإنسان بطبيعته الفطرية والتكوينية كائن متحرك بإرادة حرة يسعى بقوة للكمال والتكامل، وهو يعيش حياة تصاعدية ومتعددة مبنية على التنافس الفعال من أجل سبق الآخرين والتفوّق عليهم، وكل هذا يعني أن روح التغيير موجودة في أعماق التشكل البشري وأنه سنة تاريخية واجتماعية لا يمكن إلغاؤها فالتغيير يعني الحياة والتطور كماء النهر الجاري والجمود والركود يعني الموت والتخلف كالمستنقعات الراكدة فإنها لا تحمل معها إلاّ الفساد والمرض.
الجمود مهلك الحضارات
والتاريخ البشري أرانا الكثير من النماذج التي تمثلت بأمم وحضارات ارتفعت في بعض المراحل الزمنية وارتقت ولكنها ركدت وجمدت في مراحل أخرى وسقطت، يقول الإمام السيد محمد الشيرازي: «أما المجتمع الراكد فهو الذي يقف في مكانه بدون تجديد في فكر أو صنعة.. في المجتمع الراكد يركد كل شيء ويسير الزمان ببطء وتخلو الحياة عن التجدد ويكون كل فكر جديد وحركة جديدة موضع الاعراض.. المجتمع المـــتصاعد لابد أن يــــكون التصاعد مـــن ذاته وكل جديد يزيد الاجتماع تصاعداً وتحركاً إلى الأمام..»(6).
والأمم التي لا تستجيب للتغيير فإنها تحكم على نفسها بالموت، فانحطاط أغلب الحضارات وانقراضها يبدأ عندما لا تفهم بأنها يجب أن تغير من واقعها استجابة للمستجدات التي واكبت الحركة البشرية المتصاعدة، أو إنها تبدأ بالحركة المتسافلة نحو الاندثار عندما تختار عناصر الانحطاط والتراجع وهنا يقول القرآن الكريم: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميرا)(7)، ويقول في هذا المجال آرنولد توينبي الذي قام بدراسة إحدى وعشرين حضارة من الحضارات وحاول أن يصل إلى معرفة القوانين العامة التي تتحكم في قيامها وتطورها وانحلالها: «إن تاريخ كل أمة من الأمم إنما هو استجابة لتحدي الظروف التي وجدت فيها وإن الإنسان حقق الحضارة استجابة لتحدي موقف ذي صعوبة خاصة»(8).
ولهذا فإن الإنسان أو المؤسسة أو المجتمع أو الأمة أو الحضارة يفقد القدرة على التغيير لأنه لا يستطيع أن يستوعب المتغيرات أو لا يمتلك المرونة اللازمة للتكيف مع الواقع الجديد وبالتالي فإنه يتخلف عن الآخرين ويبقى راكداً في مشاكله وأزماته.
وقد بحثت العلوم الإنسانية وخصوصاً علما الاجتماع والإدارة نظرية التغيير باعتبار أن عملية التغيير هي من أهم العمليات الديناميكية التي تؤثر في أسلوب وتشكيلة الجماعات والمؤسسات والمجتمعات، وقد وضعوا معايير لقياس الأداء والقدرة والنجاح حسب ما تملكه تلك النماذج المذكورة من قدرة على استيعاب المتغيرات التي تحيط بها. ويعرف علم الإدارة التغيير بأنه: «تحول في وضع معين عما كان عليه من قبل وقد يكون التحول في الشكل أو النوعية أو الحالة وهو أمر محتم إذ لا شيء يمكن أن يثبت على واحد بصفة دائمة ومن ثم فإن المنشأة تحوطها باستمرار عوامل التغيير»(9).
التغيير الثقافي أولاً
وتختلف حصيلة التغيير فقد يستهدف هذه العملية تغيير ثقافي يبحث عن محصلة جديدة من الأفكار والرؤى والأساليب الحيوية يمكن أن توفر المناخ الصحيح لــلتكيف السلــــيم مع المتغيـــرات والمستجدات التي عصفت حديثاً بأسس الجماعة أو المجتمع لذلك فإن «التغيير الثقافي يعتمد على الصراع والبقاء ومن المحتمل أن بعض الثقافات كانت بين الحين والآخر تتوارى عن مسرح التاريخ نتيجة لضعف قدرتها على التكيف وانقراض مجتمعاتها»(10).
ولاشك فإن التغيير الثقافي هو من أهم أنواع التغيير إذ أنه تحديث جذري يطال كافة المستويات، لأن الثقافة هي الأساس السلوكي للإنسان والإنسان لا يتحرك إلاّ ضمن التوجيهات الذاتيــــة التي يرسمهـــا المخزون الفكري المتراكم له، لذلك فإنه لا يمكن إحداث التغيير إلاّ من خلال اختراق الشبكة الثقافية المحركة للسلوك، إذ أن «لكل مجتمع ثقافته التي تميزه عن غيره من المجتمعات فضلاً عن أن الثقافة توجه وتضبط سلوك الأفراد في المواقف الاجتماعية المختلفة»(11) ويرى بعض علماء الاجتماع أن الاحتكاك الثقافي هو العامل الأساسي في تغير الثقافات، ويشير عالم الاجتماع ولاس (Wallace) إلى وجود دورة للتغير الثقافي تشمل خمس مراحل: «مرحلة الثبات والاستقرار وهي التي تكون قائمة قبل حدوث التغير، مرحلة تزايد الاحتياجات عندما تأخذ الاحتياجات بالتزايد وتعجز الأنماط الثقافية القائمة عن ملاحقة هذه الاحتياجات، مرحلة التحريف حينما يتجه المجتمع إلى استيراد أنماط ثقافية من مجتمعات أخرى يتصور بأنها كفيلة بإشباع الاحتياجات غير أنه يفاجأ بحدوث تعارض بين القديم والجديد مما يترتب عليه صعوبة امتصاص وهضم العناصر الجديدة، مرحلة الإحياء حين يحاول المجتمع أن يعيد توازنه بإحياء العناصر الثقافية القديمة مع الاستفادة من العناصر الحديثة التي أثبتت فعاليتها، مرحلة الاستقرار عندما ينجح المجتمع في إعادة التوازن بين عناصر ثقافته»(12).
معوقات التغيير
ولكن تبقى هناك مجموعة من المعوقات التي تعرقل عملية التغيير وتقف سداً حائلاً أمام استمرارها؛ منها أن الإنسان والمجتمع أحياناً يترع إلى البقاء على القديم ولا يحب التجديد لذلك فهو يحاربه ويتمرد عليه، ويرجع الإمام الشيرازي مقاومة المجتمع للتغيير والتجديد إلى عدة أسباب منها: التقدم فالتغيير قد يوجب تحطيم امتياز أصحاب الامتيازات، لذا يخاف الراكدون من إجازة الجديد لأنه قد يفتح الباب على جديد آخر مما يؤدي إلى تحطم المجتمع –حسب زعمهم-، فيقف الإنسان أمام التجدد أحياناً خوفاً من تحطم ما اعتاده ولذا كان الجاهليون يقولون: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (13). طبعاً أكثر الأفكار لا تكون كاملة عند ظهورها وإن بعض الناس لا يعترفون بتفوق المفكر الذي أبدع فكراً جديداً إلاّ بعد شروط ومراحل يقول الإمام الشيرازي: «اللازم على المفكرين والعقلاء في المجتمع أن يتعاملوا مع الجديد على الأصل أي أصالة الحرية إلاّ إذا كان ضاراً فيمنع»(14).
على أن من أهم الأسباب التي قد تعوق التغيير السليم هو السطحية في إدراك هذه العملية مما يحولها إلى انتكاسة تحمل معها الكثير من السلبيات فتصبح تخلفاً، ونرى ذلك جلياً في تلك المجتمعات التي تستورد التكنولوجيا الحديثة وهي تحمل في كيانها ركاماً هائلاً من التخلف المعنوي، وهذا أمر أحدث فجوة كبيرة في داخل تلك المجتمعات بحيث خلفت هذه الفجوة مشكلات ثقافية جديدة لذلك فإن «أية ردة فعل يظهرها المجتمع يجب أن تنطوي على قيمة تكيفية أو انسجامية مباشرة للإنسان في الوقت الذي يكتسي فيه مخطط الحياة شكلاً ثقافياً»(15).
وهذا يثبت أن التغيير الثقافي السليم يبدأ نفسياً وفكرياً ومعنوياً قبل أن يكون مادياً أو شكلياً، فعلى سبيل المثال التحول الذي يمكن أن تتبعه بعض الجماعات والمؤسسات في تطوير كيانها عبر استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة يمكن أن يتحول إلى عبء كبير إن لم يرافقه تطوير في السلوك العلمي والفكري لهذه المؤسسات، فإذا كان المنهج الاستبدادي والفردي يسيطر على روح هذه المؤسسات فإن أكثر ما استثمرته سوف يستنزف ويضيع بمرور الزمن لأن التغيير يبدأ من روح الإنسان ونفسه وعقله لا بالشكليات المادية التي هي مجرد وسائل تخدم العمل وليس كل العمل.
لذلك يرى علماء الاجتماع أن التقدم المادي يجب أن يساوقه تغيير معنوي: «إن عناصر الثقافة تتغير بنسب متفاوتة فالعناصر المادية في التراث الثقافي تتغير بسرعة أكبر من العناصر المعنوية لذلك كان على المتغير المتابع وهو الجوانب المعنوية أن تتغير بنفس السرعة حتى لا يحدث تخلف ثقافي ويطلق على فترة التخلف هذه اسم التكيف المتأخر أو سوء التكيف ويترتب عليها في الغالب حدوث اضطراب في العلاقات الاجتماعية أو انحلال اجتماعي»(16).
فالمؤسسة أو الجماعة التي تحتاج إلى التغيير ونفض غبار الجمود والركود لابد أن تنظر أولاً إلى التغيير الثقافي وإيجاد آلية ثقافية جديدة تعتمد على التربية الفكرية والنفسية للفرد حتى يمكن أن يتكيف مع الأهداف الجديدة التي وضعتها المؤسسة، فإذا قررت المؤسسة أن تغير منهجيتها من الأسلوب الفردي أو الاستبدادي إلى الأسلوب المؤسساتي أو الشورى فلابد أن يكون التغيير جذرياً يشمل العناصر النفسية والفكرية وليس مجرد تغيير شكلي وإلاّ فإن هذا التغيير يصبح تخلفاً.
التغيير الجذري في السلوك الحركي
إن استكمال عملية التغيير الثقافي في الجماعات والمؤسسات تحتاج إلى عملية إتمام تفرضها ضرورات تغيير الأساليب الإدارية والتنظيمية التي تتبعها، فمهما امتلكت هذه الجماعات من أفكار قيمة أو إمكانات كبيرة أو قدرات عالية فإنها تصبح عاجزة إذا عجزت أساليبها الإدارية والتنظيمية، وهذا يستدعيها لإجراء تغيير شامل في أساليبها العملية حتى توجد التوازن المطلوب بين الأهداف التي خططت لها وبين الإمكانات والكفاءات التي تمتلكها.
إن الخسائر الكبيرة التي تواجهها بعض التنظيمات والمؤسسات ترجع بشكل كبير إلى سيطرة حالة الجمود على معظم فعاليتها، فهناك ثغرة كبيرة تحفر نفسها في البنيان الحركي وهو عدم استيعاب المناخ المحيط وعدم إدراك انسيابية الزمان الذي يرسم آثار التغيير على كل مكان يمر عليه. فالبعض يصرّ بقوة على مقاومة تحديات التغيير مستخدماً نفس أخطاء الماضي التي مرّ بها هو وأقرانه، ولكن الزمان العاصف بقوة لا يستطيع أن يتحداه إلاّ من يمتلك عوداً طرياً ليناً فيتجاوب مع الصحيح ويتحدى الخطأ..
فالتغيير الجذري في السلوك الحركي للمؤسسة يبدأ أولاً بعملية تغيير الأفكار التي تشكل البنية الأساسية لعملية التحرك، فقد تتم عملية التغيير البنائي بصورة جيدة لكن الخلل البنيوي قد يجعل البناء منحرفاً، فعلى سبيل المثال فإن الإدارة التي تستمدّ وسائلها وأدواتها وأسلوب عملها بشكل عام من فكرة أساسية وهي سيطرة الاستبدادية الفردية على كل الأمور فإن هكذا إدارة لا تستطيع أن تخفف من المساوئ والقيام بعملية التغيير بالشكل المطلوب ما لم تغير البنية الفكرية التي تحركها. وعندما تمتلك المؤسسة البنية الفكرية الصالحة تبدأ عملية التغيير التنظيمي التي تشمل الهيكلية العامة لها «ويقصد بالتغيير التنظيمي إحداث تعديلات في بعض الأهداف والسياسات تستهدف ملائمة أوضاع التنظيم وأساليب العمل مع التغييرات والأوضاع الجديدة في المناخ المحيط بالتنظيم وذلك بغرض إحداث تناسق وتوافق بين التنظيم والظروف البيئية التي يعمل بها، أو استحداث أوضاع وأساليب تنظيمية جديدة تحقق للتنظيم سبقاً على غيره وتمكنه من الحصول على مكاسب وعوائد أكبر»(17).
سلبيات التغيير الإجباري
إن المشكلة الأساسية التي قد تواجه عملية التغيير المنهجي هو ذلك التحول الإجباري الذي تفرضه الظروف، فيكون التغيير أثراً انعكاسياً للتحولات الفعلية فتضطر المؤسسة إلى اتخاذ بعـــض الإجراءات الــــسريعة لاستيعاب هذا التغيير، ولاشك فإن التغيير الإجباري يحمل معه الكثير من المساوئ والثغرات لأنه قرار لا ينبع من ظروف عادية حكمتها الدراسة المنطقية بل هو قرار انفعالي تمثل برد فعل مباشر وغير مدروس في الغالب. وكذلك فإن هذا النوع من التغيير لا يمتلك مقومات الاستمرار فبمجرد انتهاء الضغوط التي أجبرت المؤسسة على التغيير يبدأ التراجع إلى منطقة الصفر وإلغاء القرارات السابقة إذ أن عملية التحول لم تكن قد اتخذت الطريق الصحيح في تنضيجها وبلورتها.
ويعتقد بعض علماء الإدارة والاجتماع أن المنهج الصحيح في عملية التغيير يبدأ من خلال منطق الهجوم باتجاه التحولات لا الدفاع: «الأسلوب التقليدي في مواجهة التغيير يتمثل في محاولة سد الثغرات أو ترميم الأضرار التي يسببها التغيير، الأسلوب التقليدي دفاعي في طبيعته ويتخذ شكل ردّ الفعل، الإدارة تنتظر حتى يحدث التغيير ثم تحاول بعد ذلك البحث عن وسيلة للتعامل مع الأوضاع الجديدة، وغالباً في الأسلوب التقليدي تكتفي الإدارة بمحاولة التخفيف من الآثار السلبية الناشئة عن التغيير ولكنها تفشل في الاستفادة من الفرص الجديدة التي يتيحها التغيير»(18).
لذلك فإن هكذا تغيير مصيره الفشل وحصيلة من النتائج السلبية التي تزرع الخيبة والفشل والإحباط. ويمكن أن توحي بعض تجربة الحركة الإسلامية المعاصرة بقراءة مستنبطة من واقعها الذي عصفت به المتغيرات فكانت استجابتها السريعة وغير المدروسة سبباً لاتخاذ العديد من القرارات الخاطئة في منهجية العمل، فمثلاً أسلوب العنف الذي اتخذه البعض لاحتواء تلك التغييرات الكبيرة التي أفرزتها الصحوة الإسلامية من أجل حصاد سريع لمكاسب كبيرة، أجهض هذا العنف الصحوة الإسلامية في بعض المناطق وأفقدها قدرتها على صنع الهدف المرسوم لأن قرار التغيير كان مجرد رد فعل سريع على متغيرات كبيرة كانت حاصل مجموعة متسلسلة من العناصر التاريخية والثقافية المتفاعلة عبر عقود مديدة من الزمان مرت على أجيال كثيرة مختلفة فلا يمكن حصدها بهذه السهولة إلاّ بعد تحرك مدروس قائم على فهم المتغيرات وإدراك العناصر المكونة لها وامتلاك البصيرة والوعي بالتجارب الحضارية ليمكن التنبؤ وتوقع ما يمكن أن تحدثه هذه المتغيرات من آثار، ومن ثم إيجاد الفعل المناسب لعملية التغيير: «الأسلوب الأفضل في مواجهة التغيير هو عن طريق توقع التغيير (التنبؤ) والإعداد المسبق للتعامل مع الظروف الجديدة، وهذا هو الأسلوب الحديث وهو هجومي في طبيعته وفي تبادر الإدارة للاستفادة من التغيير حين يحدث»(19).
ومن هنا فلعل أفضل طريقة لإيجاد تغيير يتناسب مع المتغيرات والتحولات هو التغيير المخطط والذي يعني «الإجراء الهادف إلى إحداث تعديل معين ومحسوب في التنظيم وفقاً لخطة زمنية على أساس تفكير وتقدير لتكلفة التغيير ومتطلباته والفوائد المترتبة عليه، وبذلك نستبعد التطورات الفجائية أو التغييرات الانفعالية غير المدروسة، إن تلك الفورات التنظيمية والتغييرات غير المنظمة لا تمثل أكثر من ردود أفعال منعكسة»(20)، وبذلك فإن التغيير المخطط يستبعد الآثار السلبية التي يمكن أن تفرزها عملية التغيير ويوفر غطاءً صالحاً لامتلاك واستثمار المستقبل عبر استباق معرفة الأحداث وماهيتها ونتائجها قبل وحين وقوعها.
ومن كل هذا يمكن التوصل إلى بعض الخطوات الأساسية التي يمكن أن تبرمج عملية التغيير وتضعها في الطريق الإيجابي الذي يقود نحو أهداف المؤسسة:
الخطوات الأساسية نحو التغيير
أولاً: أن تمتلك المؤسسة بقيادتها وكوادرها الوعي العميق لحركة الحياة والفهم التحليلي لمعطيات الصراع الإنساني والحضاري، وهذا يعني أن تسعى المؤسسة للحصول على معلومات وبيانات ومؤشرات ترفدها باستمرار بالحقائق والوقائع التي يمكن أن توفر لها المعرفة التحليلية اللازمة لفهم وإدراك عمق الظواهر وجوهرها ومن ثم قراءة ما وراء السطور. هذه الدراية تعطي للمؤسسة ميزة السبق والمبادرة في صنع المستقبل وعدم الركون إلى الاستجابة الآنية للحدث بعد وقوعه فقط.
ثانياً: وجود القدرة على التغيير والمرونة على التكيف يتحقق في الغالب مع وجود الاستعداد لكافة الاحتمالات والطوارئ، ووضع الأسوأ من الاحتمالات في موضع الدراسة والتخطيط، وحينها فإن المؤسسة تكون مهيئة لمواجهة أي طارئ واستيعابه بسهولة وهدوء.
ثالثاً: لابد من التدرج في عملية التغيير وعدم استخدام أسلوب الصدمة المفاجئة لإحداث وفرض تغييرات شاملة في مرة واحدة. فالثقافة الإنسانية كما قلنا سابقاً هي حصيلة تراكم تاريخي متشبث في أعماق النفس لا يمكن تغييره بسهولة إذ «إن الكائنات البشرية تملك إرثاً اجتماعياً كما تملك إرثاُ بيولوجياً والثقافة هي راسب التاريخ فهي تضم تلك الجوانب من الماضي التي ظلت قائمة حتى عصرنا الحاضر فالتاريخ يمثل أكثر من زاوية شيئاً أشبه ما يكون بالمنخل أو المصفاة»(21).
بل لابد من التدرج الطبيعي القائم على مبدأ الإقناع والتبصير فقد يؤدي التغيير القسري الشامل إلى ردود فعل عكسية ويولد آثاراً سلبية يمكن أن تخلق مشكلات ثقافية ونفسية جديدة. وقد تعددت النظريات التي تبحث في الأسلوب الأفضل لعملية التغيير السليم، «فهناك نظرية التغيير المتدرج الذي يبدأ بالأمور البسيطة ثم يتدرج إلى أمور أصعب ونظرية التغيير المرحلي التي تقسم التغيير إلى مراحل بالتتابع وبمنطق تراكم الآثار الناتجة عن التغييرات المرحلية يتحقق الهدف النهائي لعملية التغيير، والتغيير الثوري الشامل الذي يستهدف تحقيق التغيير دفعة واحدة اعتماداً على منطق البتر والحسم وليس التفاوض والإقناع»(22).
رابعاً: يكون التغيير مثمراً عندما يستطيع أن يؤثر تأثيراً عاماً على كافة مستويات المؤسسة وخصوصاً الأعضاء باعتبارهم الجسم المترابط الذي يشكل مسمى الجماعة، وحينئذٍ فإن أي محاولة تغيير لا تأخذ في الاعتبار مشاركة الأفراد الفعالة في التخطيط واتخاذ القرار والتنفيذ تكون ضعيفة على المدى البعيد، هذا لأن التغيير سوف يكون مفيداً عندما يسكن في روح وفكر وسلوك كل فرد من أفراد الجماعة، وقد تكون الآية القرآنية:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تلميحاً إلى التغيير الجذري الذي يتم بالمشاركة الفعلية للمجموع.
ويبقى الاختيار بين الجمود والتجدد والثبات والتغيير هو القرار الفاصل الذي يحدد المصير النهائي للجماعات والحضارات، وهو اختيار يقود نحو الموت أو الحياة، فإما أن يستجيب لتحديات التغيير ويكسر قيود الجمود فيبقى في معركة الحياة رقماً كبيراً لا يستهان به يرسم للعالم صورته الثقافية المتألقة التي فرضت نفسها مثالاً للتقدم والتكامل، أو ترهبه التحديات فيستكين لرهان القدر ويعيش راكداً في الأقبية الخلفية للعالم.
اضف تعليق