المقدمة
جرى التطرق إلى العلاقة بين الدولة والشعب، وأطر هذه العلاقة والضوابط والأسس التي يجب أن تبتني عليها العلاقة بين الدول والشعوب.
وقد تبين أن أداء الأمانة يستوجب البحث تفصيلاً في أساليبه وما يرتبط به، من خلال مصاديقه الاستدلالية، وإسقاطه على الأداء للأمانة واشتراطاته، في الحكم وأثره في شرعية الحاكم والدولة.
والتفصيل بدور الجيش والقوات المسلحة لجهة بيان مسئولياتها وحدودها وأطرها القانونية في مسيرة الحكم.
الغاية
بيان مفهوم الأداء للأمانة عرفاً، وإلقاء الضوء على أشكال هذا الأداء ومصاديقه من الأدلة النقلية الشريفة، والعقلية المبرهنة، وارتباطها بشؤون الحكم، وشرعية الحاكم والدولة.
وإلقاء الضوء على موقع الجيش في الحكم الرشيد، وحدوده ومسئولياته وضوابطه وأطره القانونية، والإجابة على التساؤلات ذات الصلة بالموضوع.
المبحث الأول: بصائر قرآنية
البصيرة الأولى: الدلالة الدقيقة لاختيار مفردة أداء الأمانة
من البصائر القرآنية في الآية الكريمة، أبعاد وأغوار ودلالات كلمة (تؤدوا)، والتي قد يكتشف بعضها بالتدبر والتأمل. فإن هذه الكلم انتخابها وانتقاؤها، بل إن شئت فقل: اصطفاؤها في هذا الموقع له أكبر الدلالة.
إذ كان من الممكن مبدئياً أن تستخدم مفردات أخرى في الآية الشريفة، مثل أن يقال: إن الله يأمركم أن تعطوا الأمانات إلى أهلها.
أو استخدام كلمة الإرجاع: إن الله يأمركم أن ترجعوا الأمانات إلى أهلها.
وكان من الممكن استخدام مفردة الإيصال كأن يقال: إن الله يأمركم أن توصلوا الأمانات إلى أهلها.
لكن الله سبحانه وتعالى استخدم كلمة الأداء والتأدية وبصيغة المضارع، [تُؤَدُّوا] في [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]، فما هي دلالات هذه المفردة وظلالها؟.
والجواب:
إن لهذه المفردة دلالتها، بل دلالاتها الكثيرة، وسنشير إلى بعضها فقط مما يرتبط بصميم البحث.
فنقول: إن الإنسان تارة يرجع الأمانة التي سلمت بيده إلى أصحابها لكن مع مماطلة، أو تسويف، أو مع إيذاء، وإزعاج لصاحب الأمانة.
فبدل أن يرجعها في وقتها يرجعها في وقت متأخر، أو يرجعها في فترات متباعدة، هنا يصدق على من بيده الأمانة أنه لم يؤد الأمانات إلى أهلها.
أ- رعاية الجانب الكيفي في الأداء
إن (الأداء) قد أخذ في مفهومه كما صرح بذلك بعض اللغويين شيئان: أولهما (توفيته) ويعني اعطاء الشيء وافياً، وهذا يلامس الناحية الكيفية.
إذ في هذه الناحية نجد أن الإنسان تارة يعطي بحسن أداء، يعطي ويؤدي أداءً وافياً شافياً كافياً، فالعبارة الدقيقة هنا هي (توفيته). وهي الكلمة التي ترسم هذا المعنى المنتقش في الأذهان بدقة، فإذا أعطاه بهذه الطريقة يعني وافياً، وبدون مشاكل، وبدون تلاعب، وبدون أن يعطي جزءاً منه دون آخر، يقال عندئذٍ: (وفّاه حقه).
وقوله تعالى: [فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ][1] في الآية الشريفة الأخرى يعني أخذتني إليك أخذاً وافياً.
وكذلك قول القائل: (الوفاء بالوعد)، فإن هذه الكلمة لها دلالة كبيرة؛ إذ ليس (الوفاء) مجرد إعطاء ما وعد به، بل الوفاء يعني أن الإعطاء وافياً ضافياً شافياً، بحيث يشفي غليل الطرف الآخر.
ب- رعاية الجانب الكمي في الأداء
ثانيهما: إعطاؤه دفعة واحدة وهذا يلامس الجانب الكمي؛ إذ أن أداء الأمانة قد أخذ في مفهومه أن يكون دَفعة واحدة أو دُفعة واحدة ـ وكلاهما صحيح، فدُفعة بضم الدال اسم مصدر، ودَفعة بالفتح مصدر يفيد المرة من الدفع ـ فإن الإنسان الذي ينبغي عليه أن يسلم الأمانة بأكملها في منتصف الشهر، إذا سلّم قسماً منها في منتصف الشهر وقسماً منها في اليوم اللاحق، رغم قدرته على الأداء في الوقت المحدد، فإنه لم يؤد الأمانة.
أما كلمة (الإعطاء) فليس في مفهومها الأداء في نفس الوقت، نعم قد يستفاد ذلك من قرائن أخرى.
أما (الأداء) فلا يقال أدّى الأمانة إلا إذا راعى الجانب الكمي، والجانب الكيفي معاً.
ولم يتطرق أكثر اللغويين لهذه الأبعاد الدقيقة، لكن البعض منهم قد أشار لذلك. والظاهر أن إشارته في محلها، ويؤيده أن بعض كبار المفسرين في آيات أخرى أشار إلى ما يقرب من ذلك.
فمثلاً نلاحظ في تفسير "مجمع البيان" عند تفسير قوله تعالى في آية أخرى: [فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ][2]، يقول: (يؤديه إليه وافياً وقت محله). ولهذه الكلمة (وافياً) أهميتها جداً كما لا يخفى، ثم يكمل ويقول: (من غير مطل) يعني تأخير (ولا تسويف)[3].
وربما يكون الفرق بين المطل والتسويف، أنه قد يكون التأخير طفيفاً، وقد يكون التأخير لفترة متطاولة، فهنا يقال لأحدهما تسويف وللآخر مطل.
ومن المفيد التأكيد على أن الله تعالى استخدم في هذه الآية كتلك الآية، كلمة (الأداء) دون (الإعطاء)، فتدبر جيداً.
ثم إن قول الله سبحانه وتعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا]، أمر عام يشمل الحكام، فيأمرهم كما يأمر المحكومين. وهو تعالى يأمر المدير كما يأمر المدار، ويأمر الرئيس والموظف، والمعلِّم والمعلَّم، والتلميذ ورئيس الشركة، ورئيس النقابة وشيخ العشيرة. إذ [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ] جميعاً بلا فرق [أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا].
وفي موطن الشاهد، فإن الحاكم في عنقه أمانة عظمى تتعلق بالشعب كله، وهي أمانة السلطة والحكومة، أمانة القدرة التي سلمت له، وقد أمر الله تعالى الحاكم أن يؤدي الأمانة وافيةً.
فليست مهمته مجرد القيام بالواجبات، بل هو مأمور أيضاً بأن يؤديها في وقتها وبدون إبطاء. فإذا وجد سجين مظلوم، ففي اللحظة الأولى يجب عليه أن يطلق سراحه، بدون بيروقراطية وتلاعب بالأوراق وذهاب وإياب، وكتابنا وكتابكم، وبدون أن تمضي عليه في السجن حتى خمس دقائق إضافية.
ذلك أن هذا السجين هو أمانة في عنق الحاكم، كما هو أمانة في عنق القاضي، كما هو أمانة في عنق مدير السجن، بل وفي عنق أي موظف في السجن كان، أو أي شخص له دخل بنحو ما في اعتقاله، حدوثاً أو بقاءً أو حتى سكوتاً وصمتاً.
الحكام والجدول الزمني للإصلاح
ومن هنا نعرف أن الناس إذا خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات سلمية يطالبون بحقوقهم، فلأن هذه هي حقوق الناس وهي أمانة في عنق الحاكم، فعليه أن (يؤديها) وليس (يعطيها) فقط بالأقساط وبالتدريج وضمن جدول زمني، بل عليه أن (يؤديها) فوراً وبدون إبطاء.
وأن يؤديها كافية ووافية ضافية شافية تشفي الغليل، وليس له الحق في خلاف ذلك. اللهم إلا في صورة واحدة، وهي ما لو استقر رأي أكثرية أهل الخبرة، وأهل الحل والعقد، وفي جو حر تعددي على ضرورة التدرج في التغيير، وذلك في ظل الصحف الحرة والتعددية السياسية، لكي تكشف الصدق من الكذب والحق من الزيف.
وعلى أي فإن الحاكم لو لم يتمكن من التغيير، ومن إحقاق الحق، ومن العدل، فعليه أن يتنحى فلعل غيره أقوى منه، وأقدر منه على التغيير والإصلاح.
وهو الهدف الذي رسمه سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) لثورته المباركة (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)[4].
وعليه فـ: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ] تفيد أن أية أمانة كانت في عنق الإنسان، فعليه أن يسددها فوراً، ولا يعطيها أو يوصلها فقط، بل يوصلها بالنحو الأحسن، كمّاً وكيفاً وجهة وبدون منّة.
والحاكم بيده أمانة الحكم على الشعب ولا مِنّة له عليهم، بل لهم عليه المنة والفضل بذلك، وللكلام بقية حول كلمة الأداء، نتركها لفرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
البصيرة الثانية: (الحاكم) طبيب دوّار بطبه
جغرافية أداء الأمانة
إن الكلمات القرآنية كلها دقيقة إلى أبعد الحدود، وكل كلمة توزن بالمثاقيل والغرامات، بل بما هو أدق من ذلك كالقيراط، كما في الألماس وغيره من الأحجار الكريمة، وهذا لمجرد التقريب، وإلا فإن القرآن الكريم يوزن بالأدق من ذلك.
ومن هنا ننطلق للبصيرة الثانية وهي: (إن أداء كل شيء بحسبه)، فتارة يقتضي الأداء أن تذهب إليه لتسلم له الأمانة، وتارة يكفي أن تخبره بأن الأمانة جاهزة لديك ليأتي ويستلمها، كما نشاهد في نظام بعض المدارس التعليمية، حيث يستلم سائق الحافلة الطفلَ من باب البيت، وفي الحافلة مسئول عن الأطفال، بنين أو بنات يوصلهم إلى المدرسة، ثم يرجعهم إلى البيت.
وقد يكون أحد النوعين على حد الوجوب، وقد يكون على حد الاستحباب، ومن الأمثلة على ذلك (الطبيب). فسابقاً كان الأطباء يقومون بأداء أمانة الطب بالذهاب إلى بيوت المرضى، وفي الوقت الحاضر قد يقوم بعضهم بذلك أيضاً، لكن الأكثر ليس هكذا في الحال الحاضر، وقد يكون قسم منهم معذوراً، لكن قسماً آخر منهم لا يذهب للمرضى تكبراً أو استعلاءً، بل حتى لو علم أن المريض سيموت، قائلا في قرارة نفسه فليحدث به ما يحدث.
كلا.. إن الطب أمانة، وتلك الأمانة ـ هي المرضى ـ يجب على الأطباء رعايتها حق الرعاية، [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]، فإذا اقتضى الأمر أن يذهب الطبيب إلى البيت يجب عليه أن يذهب من غير تكبر واستعلاء، بل إن ذلك سيجعل له البركة في حياته.
ولذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما وردت الرواية في وصفه: (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ)[5]، فلم يكن (صلى الله عليه وآله) جالساً في بيته ينتظر مجيء المرضى، ولعل مريضاً لا يعلم بشان مرضه، أو آخر لا توجد لديه إمكانيات مالية لكي يراجع الطبيب، فعلى الطبيب أن يذهب إلى المريض، (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ)[6].
فأمانة الحكم من هذا القبيل، ولا يصح للحاكم أن ينتظر أن تأتيه ظلامة وشكوى حتى يتصدى لحلها، بل عليه أن يبحث وأن يتحسس، لا أن يتجسس.
والفرق كبير بين التحسس وبين التجسس، فالتجسس سلبي والتحسس إيجابي. التحسس هو ما كان لصالح المتحسَّس عليه، بينما التجسس هو ما كان لضرر المتجسس عليه، كما في الآية الشريفة: [اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ][7].
فالحاكم تارة يتحسس من الناس، ويفتش عن أحوالهم، حتى يرى ما لهم من نقد واعتراض وإشكالات عليه، ليعدل ويغير من سيرته أو أسلوبه، وليرى ما هي ظلاماتهم فيرفعها، وما هي مشاكلهم وعقد حياتهم، لكي يحل تلك العقد.
وتارة أخرى يقوم بالتجسس عليهم، فيقوم عبر أجهزة الأمن وغيرها باستطلاع أوضاع الناس؛ لكي يقمعهم ويضطهدهم، ولكي يستعلي عليهم، ويسلط المباحث والشرطة وغيرهم عليهم وعلى آرائهم ومواقفهم.
أما التحسس، فبالعكس حيث يستخدم في الجانب الايجابي، بأن يستطلع أحوالهم ليرى ما عندهم من مشاكل لكي يحلها، يتحسس عن الفقراء والأيتام في البلد، حتى يضع الحلول لمشكلتهم في السكن أو التعليم أو الصحة أو ما أشبه ذلك.
فهل تقوم الحكومات بذلك؟!.
[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]، وذلك بأن يذهب الحكام ويفتشوا عن الثغرات، وعن الأمراض الاجتماعية، وليس بالمكث في القصور الشاهقة والأسوار العازلة.
إن الحاكم الذي يعتبر نفسه عادلاً، ليس هو من إذا رفع الناس إليه ظلاماتهم يتصدى لحلها بالحسنى فحسب، بل هو مَن يبادر ويذهب بنفسه إلى الناس، إلى أسواقهم، وشركاتهم، ومؤسساتهم، وبيوتهم، ليسمع منهم مباشرة، ودون حراس وحجاب ومظاهر رادعة أو مخيفة.
ولذا نجد أن أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين)، كان يفتش في الأسواق وغيرها، فيرصد الظالمين والمحتكرين والمجحفين وغيرهم.
فكان يدافع عن المظلومين، وهكذا كان يرعى شؤون الأيتام بنفسه، يبحث عنهم في الأزقة والسكك، فيتصدى بشخصه الكريم لكي يخبز الخبز على سبيل المثال لهم، في ذاك التنور المسجر والملتهب بالنار، لأولئك الأيتام الصغار[8].
فظهر من ذلك أن أداء كل شيء بحسبه، فقد يقتضي أداء الأمانة أن ينتظر وأن يفتح بابه للناس، وقد يقتضي ـ كما هو كذلك في كثير من الأحيان ـ أن يكون بين ظهراني الناس وفي متناول أيدي الناس، بأن يكون مثلاً يومياً لساعة أو ساعتين وسط الناس من دون حجاب وحجُب، في هذا المسجد، وفي تلك الحسينية، وفي تلك المكتبة، وفي تلك الجامعة، وفي تلك الحوزة، في الأسواق وفي الميادين العامة.
كونوا بين الناس دون حواجز!
والواجب على الحكام والوزراء، كوزير الداخلية ووزير الزراعة ووزير الصناعة ووزير الأمن ـ لو كان ـ وغيرهم، أن يكونوا بين ظهراني الناس، وأن يلتقوا يومياً بعامة المراجعين وذوي الحاجة والناقمين والمحتجين والكفاءات، من دون حجاب أو حاجز.
كما يلزم أن يكون طاقم الوزير أو الوزارة والسكرتارية والمعاونون من الكفاءة والقوة والكثرة، بحيث يتابعون هذه الشكاوى وتلك الحاجات والمقترحات والآراء فوراً.
وتصوروا كم ستكون هذه الحكومة محبوبة عندئذ، وكم سيتفانى الناس في الدفاع عنها، وكم سيكون هذا الحاكم محبوباً من قبل الشعب، راضياً في وجدانه وفي ضميره، وأيضاً مرضياً عند الله سبحانه وتعالى.
الخلاصة: إن هذه القضية قد أوضحت لنا جانباً من الصورة في إطار علاقة الحاكم بالمحكوم، وأن يكون تعامل الحكام مع المحكومين والناس بحسن عشرة وبرفق وبلين وهدوء، على عكس الدول المستبدة التي تستعين بالجيش وبالقوات المسلحة وبالشرطة والاستخبارات والمخابرات والأمن العام وغير ذلك لقمع الناس.
وهنا تكون حلقة الوصل بين الآية الشريفة ومطلع مبحثنا حول الأداء وحسن الأداء، وبين البحث العام الذي بدأناه في مناشئ شرعية السلطة، فلقد كان البحث حول مناشئ تولد الحق، ومناشئ شرعية السلطة والحكومة، وذكرنا بعض المناشئ الحقيقية أو المتوهمة.
المبحث الثاني: مناشئ تولد حق الحاكمية
سبق أن من المناشئ المتوهمة لشرعية السلطة والحكومة: منشأ حق (المالكية)، إذ يرى الحاكم نفسه مالكاً للعباد والبلاد من غير وجه حق إلا أنه يرى نفسه هكذا، كما كان يرى فرعون ذلك.
كما أشرنا إليه على ضوء الآية الشريفة سابقاً، وكما يرى كثير من الحكام ذلك، ولذا تجدهم عندما يعطون للناس شيئاً فكأنهم يمنحوهم شيئاً منهم، ولذا يسمونها مكرمة، والحال أنها حق واجب على الحاكم.
إذ أن كل ما بيده من ثروات البلاد ومن وارد النفط والضرائب وغيرها هو أمانة عنده، وإرجاع الأمانة واجب عليه، ولا يحق له تسميتها مكرمة أو منحة أو هدية.
كما سبق أن المنشأ الثاني المتوهم لتولد حق الحاكمية للحكام هو منشأ (القهر والغلبة)، فإن كثيراً من الحكام يرى أن له حق الحكومة لأنه قهر وغلب، والكثير منهم يصرح بذلك إلا أن بعضهم لا يفعل، ولكن سيرته وسريرته تدل على أنه يقول: أنا القاهر.
فيضفي على نفسه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى المختصة به: [وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ][9]، فلا حق لغيره في أن يقهر الناس ويتغلب عليهم بالقوة.
وفي هذا المساق والسياق، نجد أن من أهم أدوات الدكتاتوريات في العالم منذ القديم حتى الحين، ومن أهم وسائل الاستبداد وتكريسه، هو استغلال الجيش ومع الأسف الشديد.
وقد أشرنا إلى أنه لابد أن تبحث مسألة الجيش وموقعه، تقنيناً وتثقيفاً بشكل أكثر دقة، وبشكل أكثر شمولية وعمقاً وغزارة.
كما أشرنا إلى أن من النظريات المهمة، التي يدور حولها عالم الغرب، وتبحث في عالم الشرق أيضاً، (نظرية فصل السلطات) التي أسس لها مونتسكيو، وتلك النظرية ـ على ما فيها من ثغرات ـ مهمة جداً، مما يتطلب بحثاً مستقلاً لعلنا نتطرق له بإذن الله سبحانه وتعالى.
لكن المغفول عنه ـ مع الأسف ـ هو التعمق في دراسة الموقع القانوني للجيش، وهو لا يقل أهمية في التنظير والتفكير والتأطير والتقنين عن نظرية فصل السلطات، وسنؤسس لمجموعة من القواعد والأسس والأطر القانونية، التي نرى أن تشريعها[10] سيحدد الموقع والإطار الصحيح للجيش، وكيف ينبغي أن يكون عليه.
الفرق بين الجيش والقوات المسلحة
في البداية ـ ولتحديد (المصطلحات) ـ نقول: هناك مصطلحان: الجيش والقوات المسلحة، وعادة يرمز بالجيش إلى قوة عسكرية، ويرمز بالقوات المسلحة إلى قوى أخرى.
لكن الأدق هو التعبير عن المقصود بالقوات المسلحة، بما فيها الجيش أيضاً كجزء من كل، ولذا فإن الشرطة لا تعد من الجيش، وإنما تعد من القوات المسلحة[11]، كذلك خفر السواحل، وحرس الحدود، وشرطة الجمارك، فهذه القوات لا تعد ولا تحسب من الجيش، وإنما تعد وتحسب من القوات المسلحة.
كما إن من مصاديق القوات المسلحة: الجيش الشعبي الموازي للجيش النظامي، كما من مصاديقها أيضاً الفرق المسلحة التابعة للدولة.
ولذا يقال ـ في بعض الأنظمة: (القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة)[12]، ومن جانب آخر فإن للجيش أيضاً له مصطلحاً خاصاً، إذ عادة ما يطلق على القوات البرية، ويطلق الأسطول على القوات الجوية أو الطيران، وعلى القوات البحرية أيضاً، وقد يتحدد مفهوم الأسطول بالقوات البحرية حصراً.
لكننا سنطلق كلمة الجيش ـ للتسهيل ـ على الجيش والقوات البرية والأسطول الجوي والبحري جميعها، أي سنقصد به: القوات (البرية) و(البحرية) و(الجوية).
وأيضاً سنقصد به: قوات الشرطة والجيش الشعبي وغيرهم، فالبحث سيدور حول الجيش والقوات المسلحة في وقت واحد، دون فوارق اصطلاحية.
مواصفات قائد الجيش في نهج البلاغة
ولنبدأ بكلام بأمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين) حول الجيش ومسئولياته وموقعه، ثم ننتقل إلى الإطار القانوني الذي ينبغي أن يكون عليه الجيش.
يقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر:
أ- الأشد إخلاصاً لله سبحانه
(فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِكَ)[13]، أي: اجعل الوالي أو القائد العام للجيش من كان أنصحهم لله، وفي هذه الكلمة احتمالان:
فالاحتمال الأول المراد هو: أخلصهم لله، أي الأشد إخلاصاً لله، من خلوص النية عن شوب الرياء والسمعة وغيرها.
والاحتمال الثاني: من النصيحة، بمعنى أشدهم نصيحة للمسئولين تحت يده وللناس، وذلك لأجل القرب لله تعالى، والمستظهر المعنى الأول.
(فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ)، يعني أشدهم إخلاصاً لله وخلوص نية، وليس ذلك المخلص لنفسه ولأهوائه ولشهواته، بل ذلك المخلص لله وللرسول وللإمام.
ب- الأنقى جيباً
(وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً) ونقاوة الجيب هي كناية عن نقاوة الصدر والقلب، فإن البعض من الناس يتملكه الحسد أو يتحكم فيه الحقد، وهو ممن لا يصح انتخابه ليكون قائداً للجيش، أو قائداً لمعسكر أو لحامية أو حتى لسجن.
فهذه قاعدة عامة في حق المسئول: أن يكون أطهرهم قلباً وأنقاهم صدراً، فلا يكون من النمط الحقود والحسود، ولا ممن يستكبر ويستعلي في نفسه على الناس وعلى الجنود وغير ذلك، بل يلزم أن يكون طاهر القلب بعيداً عن كل ذلك.
والغريب أننا عندما نتصفح حياة وخصوصيات قادة الجيش في العالم، نجد أن الكثير منهم إن لم نقل الأعم والأغلب منهم، مستعلون ومتكبرون أو حاقدون أو غير ذلك.
لذا يؤكد أمير المؤمنين (عليه السلام) على أن المطلوب في قائد الجيش أن يكون أنقاهم جيباً.
ومن اللطائف في وجه هذه التسمية، ولماذا سمي طاهر القلب بنقي الجيب، أن هذه الكلمة لها دلالة منذ البداية على الطهارة المادية، بمعنى أن وراءها خلفية مادية.
فإن الجيب يقصد به جيب الإنسان، والسارق وغير الأمين الخائن يملأ جيبه بأموال الآخرين، ومن هنا كنّي عن ذلك بـ أنقاهم جيباً، وأطلقت على الإنسان الأمين الذي لا يملأ جيبه من أموال الناس ومن حقوق الناس، بل ولا يصب فيه ذرة من أموال الناس.
(وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً) هو من لا يأكل حقوق الناس، ولا يسرق أموال الناس، ثم كني بهذه الكلمة عن القلب أيضاً، فلذا نجد أن هذه الكلمة تحتضن جانبين، جانباً مادياً وجانباً معنوياً.
والحاصل أن القائد الأعلى للجيش وكبار الضباط وأي مسئول عسكري أو أمني، في الاستخبارات العسكرية أو غيرها في أي مكان آخر، كلهم يجب أن يكونوا أنقى الناس جيباً، وأطهرهم قلباً، وأسلمهم نفساً، وأطهرهم يداً.
ج- الأفضل حلماً
ومن الضوابط والصفات التي يشترطها الأمير (عليه السلام): (وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً)، فيكون حليماً متسامحاً، يصفح ويعفو ويرأف بالجنود وبالناس، وليس مقطب الوجه غَضُوباً، وقد عرف الإمام (عليه السلام) الحليم بـ: (مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ).
وذلك إذا كان هنالك بالفعل ما يستدعي الغضب، فلا يستعجل بالغضب بل يبطئ عنه، إذا كان الغضب في محله. أما إذا لم يكن غضبه في محله، فإنه لا يصلح بالمرة لهذا المنصب؛ لأن الغضب إذا لم يكن في محله فذلك يجر إلى غضبه على بريء، أو على مطالبٍ بحقه، كمتظاهرين يطالبون بحقوقهم فيغضب عليهم.
فمن لا يملك غضبه في غير مورده الصحيح، لا يصلح أبداً لقيادة الجيش، إنما الكلام في الغضب على من له الحق في الغضب عليه[14]، فإنه يبطئ في الغضب، ويتأنى ليعالج القضية بالحسنى، وبتعبير آخر: لا تكون عقليته عسكرية (والتي يعبر عنها بالعسكرتارية)، بل تكون عقليته مدنية (مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ).
د-(ويستريح إلى العذر)
(وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ) العبارة جميلة جداً، إن قائد الجيش يستريح إلى العذر، وليس فقط يقبل الأعذار، بل يستريح إليها أيضاً. فإن بعض الناس لو ظلمه شخص وآذاه ثم اعتذر منه، قد يقبل عذره إلا أنه في قرارة نفسه لا يحس بالرضا والراحة، بل تظل هذه القضية عالقة في ذهنه؛ لأنه في يوم من الأيام أهانه.
كلا.. إن المطلوب ممن يستلم مسئولية كبيرة كقيادة الجيش أن يستريح لهذه الحالة (قبول العذر والصفح والحلم).
هـ- الرؤوف بالضعفاء
(وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ)، ومن الضوابط والصفات أن يكون منهجه وديدنه أن (يرأف بالضعفاء) من جهة، و(ينبو) ويبتعد عن الأقوياء من جهة أخرى، وذلك على العكس مما نلاحظه عادة في القوات المسلحة أو المخابرات أو الشرطة، حيث يخضع للمسئول الذي فوقه ولو بالباطل ومع علمه بأنه ظالم، ويشتد على من دونه من المساكين، أو من المتظاهرين السلميين.
وقديماً كان يقال بأن الضابط الإنجليزي: (أسد في الهند وفأرة في بريطانيا). فقد كانت بريطانيا قد استعمرت الهند حوالي ثلاثمائة سنة كاملة، وأكلت خيراتها وظلمت شعبها، فكان الضابط الانجليزي ـ في الهند ـ أسداً مستأسداً على الناس في ظل حكومة استبدادية مستعمَرة.
أما في بريطانيا فكان يتحول الضابط المستأسد إلى فأرة نتيجة وجود نوع من الديمقراطية فيها، خوفاً منه من الإعلام الحر النسبي، ومن الأحزاب المعارضة، فكان يقف عند حده لا يتجاوزه، إذن لم يكن المدار على الحق والباطل، بل على أين يقع مكمن القوة ومن هم الأقوياء فيخضع لهم، ومن هم الضعفاء ليعلو عليهم.
هنا وفي موقع كهذا فان الإمام (عليه صلوات الله) ينصح ويأمر بعكس ذلك، إذ يقول لمالك الأشتر: انتخب ذاك الإنسان الذي يرأف بالضعفاء، وهذا يعني أن الواجب على الجيش والقوات المسلحة من شرطة وجمارك وخفر حدود ومخابرات وغيرها ممن يحمل السلاح في كيان الدولة، أن يكون إلى جانب الناس فيما إذا حدث هناك نزاع وخلاف وتوتر بين الناس وبين الحكومة، لا أن يميل إلى جانب الحكومة والحاكم، لمجرد أن الحكومة هي الأقوى، فإن الله هو الأقوى على الأقوياء، فليخشوا ذلك الجبار المتكبر المقتدر المتعال سبحانه وتعالى.
وفي قوله (عليه السلام): (وَيَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ) احتمالات:
1- إن (يَنْبُو) بمعنى: يشتد على الأقوياء.
2- بمعنى: يتجافى أي يبتعد عن الأقوياء.
3- بمعنى: يعلو، وهذه المعاني الثلاثة بأكملها صحيحة في المقام، ويقع في مقابلها تماماً موقعه بالنسبة للضعفاء، إذ عليه أن (يلين) لهم، وأن (يقترب) منهم، وأن لا يعلو عليهم، بل (يتواضع) لهم، (وَمِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ، وَلَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ).
وهناك تفصيل أكثر حول كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسنذكر في بحث قادم بعض الكلام عن ذلك، وسنشير إلى (تطبيق) الإمام (عليه من الله السلام) عملياً لكل ما ذكره حيث إنه ـ كمثال على ذلك ـ اختار مالك الأشتر ليكون القائد العام للقوات المسلحة لأمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) أي للجيش والقوات المسلحة، وكيف كان مصداقاً ظاهراً لهذا الكلام كله، نتركه لبحث قادم إنشاء الله تعالى.
من يجب أن يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة؟
حول الجيش وموقعه القانوني، وحول القائد الأعلى للجيش، وحول النظام الداخلي للجيش، سنطرح مجموعة من المقترحات كمواد تصلح للتقنين، وسنبدأ بـ: (من يجب أن يكون القائد العام للقوات المسلحة)، ومن الذين يعينه؟[15].
إن القائد العام للجيش في كثير من الدول، هو نفس رئيس الجمهورية، وفي بعض الدول ينوبه وزير الدفاع، أو رئيس هيئة الأركان.
فالقائد الأعلى للجيش في كثير من الدول هو رئيس الجمهورية، وذلك يعد منصباً رمزياً، وأما في الواقع العملي فإن كل الصلاحيات الميدانية مفوّضة لنائبه فهو القائد المباشر.
وسنطرح في هذه الحلقة والحلقات القادمة على عقلاء العالم في الشرق والغرب خيارات أخرى، ونرى أنها هي الأفضل للبشرية، وذلك لكي لا تتحول هذه القدرة إلى طغيان، وذلك إذ القائد الأعلى للجيش يمتلك قدرات هائلة فلم لا يطغى ويستبد؟.
فكيف إذا كان هو بنفسه رئيس الجمهورية؟.
أو كان خاضعاً تماماً لسلطة رئيس الجمهورية؟.
وإننا نرى أن هذه الخيارات الأخرى ليست لصالح الشعب فقط، بل لصالح الحكومات ورؤساء الجمهورية بأنفسهم؛ إذ أن تمركز القدرة والاستبداد في المدى الطويل هو كابوس مخيف حتى للدكتاتور نفسه.
وتكفي للاعتبار والعبرة، نظرة إلى هتلر وشاه إيران وصدام، ثم حسني مبارك الذي انقلب شعبه وجيشه عليه ولا يزال في قفص الاتهام، وبن علي الفار اللاجئ إلى حكومة متخلفة مستبدة مثله، ومعمر القذافي الذي اكتوى بنار الدنيا قبل نار الآخرة.
السلطات الأربع
المادة الأولى:
نقترح للتقنين أن لا يكون القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة رئيس الجمهورية، بل يكون:
1-(رئيس البرلمان بنفسه)، باعتبار أن البرلمان منتخب من قبل الشعب، ثم هذا البرلمان ينتخب رئيسه ويعينه أيضاً كقائد أعلى للجيش.
2-أو أن يكون (رئيس السلطة القضائية)، كي لا يكون الجيش بيد رئيس السلطة التنفيذية، (وهذه هي السلطات الثلاث المتداولة في نظام الدول)، علماً بأن كل شيء عملياً بيده، فإن الأقرب إلى تقسيم القدرة هو أن يكون قائد الجيش، هو رئيس مجلس الأمة أو مجلس الشعب، أو يكون رئيس السلطة القضائية.
3-أو ينتخب البرلمان شخصاً آخر (رابع) ليكون هو قائد الجيش والقوات المسلحة، (لا رئيس الجمهورية ولا رئيس البرلمان ولا رئيس السلطة القضائية).
وإننا نرى أن الأفضل أن يكون شخصاً رابعاً لتكون السلطات أربعاً:
1- رئاسة الجمهورية والوزارات ـ باستثناء وزارة الدفاع ـ وهي المسماة بالسلطة التنفيذية.
2- مجلس الأمة المسماة بالسلطة التشريعية.
3- القضاء، المسمى بالسلطة القضائية.
4 - قائد الجيش والقوات المسلحة، ولنسّمه (السلطة العسكرية).
وستكون القوى متوازنة بشكل أكبر عندئذٍ.. لكن بشروط:
أولاً: أن يخضع قائد الجيش للانتخابات كل أربع سنوات مثلاً.
وثانياً: أن يكون المرشح لمنصب قائد الجيش هو من بين من ينتخبهم مجلس الأمة.
وثالثاً: لا يجوز له التفرد بالقرارات الهامة إلا بعد مصادقة أكثرية مجلس الأمة، وللحديث صلة وتتمة بل تتمات لتتضح الصورة العامة الكلّية المقترحة.
المبحث الثالث: الإجابة على التساؤلات ذات العلاقة بالموضوع
السؤال: معالجة أزمة البطالة في ضوء النهج الإسلامي
يثار سؤال حول البطالة بصفتها أزمة خانقة لحاضر ومستقبل ملايين الشباب، وحيث تسجل الإحصاءات أرقاماً قياسية خطيرة لها، فما هي السبل لحل مشكلة البطالة الآخذة بالتفاقم؟.
الجواب:
إن هذا بحث مترامي الأطراف، ولعله لا يرتبط بصميم بحثنا في العلاقة بين الدولة والشعب، وإن كان يمكن ربطه بوجه وجيه. وها هنا سنشير إلى أن أنجع وأنجح وأفضل الحلول لحل مشكلة البطالة، هو مجموعة القوانين والتعاليم الإسلامية الإلهية المسجلة والمدونة في القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى ـ في ضمن تعداد أهداف بعثة النبي الخاتم محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) ـ: [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][16]، فإن واحدة من أهم وأنجح الحلول لمشكلة البطالة هي إطلاق حريات الناس فإذا:
1- أطلقت الحريات التي كفلها الدين الإسلامي للناس من حيازة المباحات، وإحياء الموات (الأراضي البائرة) دون قيود وعُقد، فإن نسبة البطالة ستنخفض بشكل كبير، والتضخم سينخفض بدرجة مذهلة، والفقر سينخفض إلى حدٍ كبير.
2- وإذا أطلقت الحريات في تأسيس الشركات والمعامل والمصانع والمتاجر وغيرها حقيقة، فإن نسبة البطالة والتضخم والفقر ستنخفض أيضاً بشكل مذهل، إن لم نقل تنعدم.
إن المشكلة هي أن الناس في كل الدول يعيشون في كبت هائل وبأغلال وآصار لا متناهية، فإن أراد أحدهم أن يشيّد مصنعاً أو معملاً، أو يقوم بالتصدير والاستيراد، أو بل حتى يؤسس شركة، فإنه سيحتاج إلى كتابنا وكتابكم، وإلى المتابعة الحثيثة من دائرة إلى أخرى.
وقد يستغرق الأمر ستة أشهر أو سنة أو أكثر، وقد تكون بعض الشروط تعجيزية، وهذا يعني أنهم بحزمة قوانينهم الكابتة للحريات أضاعوا مئات الملايين من ساعات العمل للملايين من الناس الذين اضطروا للمتابعة طوال أسابيع أو أشهر.
كما أضاعوا ملايين من ساعات العمل المنتج من أوقات الموظفين في الدوائر الكابتة للحريات، بدل أن يكونوا عمالاً منتجين، كما أنهم بالمآل منعوا ولادة مئات الألوف من المشاريع التنموية والزراعية والصناعية وغيرها.
وذلك كله يعني: المزيد من الفقر، والمزيد من البطالة (المقنعّة وغير المقنعّة)، والمزيد من التضخم. عكس ما لو كان كل إنسان حراً في تشييد أي معمل أو مصنع أو شركة أو تجارة دون حاجة للإذن من الدولة، (الخادم الذي تحول إلى سيد ومولى).
إن الله سبحانه وتعالى قد منح الناس حرية وحق حيازة المباحات من بحر أو بر ومن غابة أو أجمة أو واد أو غير ذلك، ومنحهم حق عمارة الأرض وقد قال تعالى:[وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا][17]، و[خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا][18] و[وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][19]، وإن الله سبحانه وتعالى قد أجاز لكل إنسان بأن يبني أرضاً لنفسه أو يؤسس متجراً أو معملاً، أو مزرعة أو مرعى أو غيره على أية أرض من الأراضي شاء.
فلو أن الحكومات سمحت للناس بذلك، ولم ترفع راية مقابل قوانين الله تعالى، فإن نسبة البطالة والفقر والتضخم ستنخفض بشكل رهيب، والبحث في هذه القضية طويل، ولعل في هذه الإشارة بعض الإضاءة.
السؤال: وسائل الارتقاء بالمجتمع وبالجماعات الإسلامية
يطرح سؤال حول الواقع المأزوم الذي يُطبِق على الشعوب المسلمة، ما بين مطرقة المؤامرات الدولية وسندان الأنظمة المستبدة، فكيف يمكن الارتقاء بعمل الجماعات الإسلامية، وتطوير أداءها في خدمة الدين والمجتمع؟.
الجواب:
هذا السؤال دقيق ومتعدد الجوانب ومترامي الأطراف أيضاً؛ إذ كيف يمكن تطوير أداء الشعوب والناس والجماعات المختلفة؛ من نقابات واتحادات وأحزاب وجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني وغير ذلك، لتكون قادرة على التصدي لأكبر خطرين وتحديين، هما:
أولاً: المؤامرات الدولية، أي الخارجية التي تحاك ضد هذا البلد الإسلامي، أو ذاك البلد المستقل، أو شبه المستقل.
وثانياً: الاستبداد الداخلي، المستشري في كافة مناحي البلاد.
فكيف يمكن تطوير الأداء؟.
1- الرشد الفكري
إن هذا البحث مهم جداً، وقد أشرنا في بحث منصرم إلى قضية عامة، ونشير هنا إلى قضية خاصة، في جملة قضايا كثيرة: القضية العامة هي قضية الوعي العام والتوعية والرشد الفكري.
وقد كان يركز السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) على هذه الكلمة أشد التركيز، ويؤكد عليها أشد التأكيد، (الوعي العام) فإن الناس إذا كان لهم وعي عام، فلا يمكن عندئذٍ أن تحاك ضدهم المؤامرات، أو لو حيكت فإنها ستجهض تماماً، كمن يعرف بخطط اللصوص الذين يحاولون أن يسرقوا أمواله من البنك، عن الطريق الشبكة العنكبوتية مثلاً، فإنه إذا عرف كيف ومن أية ثغرة يحاولون أن يتسللوا، فإنه يستطيع أن يتصدى لهم.
ولذلك كان يؤكد السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) في كتبه، ومنها كتاب "السبيل إلى إنهاض المسلمين"، وكتاب "الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام"، وكتاب "ممارسة التغيير لإنهاض المسلمين"، وفي سائر كتبه، على الوعي العام والترشيد والرشد الفكري.
وكان يقول: هنالك قاعدة في علم الاجتماع، وهي أن الرأي العام قوته في المعنويات أشد وأقوى من قوة السيل في الماديات. فكما نجد في الماديات أن السيل يحطم كل شيء أمامه، كذلك الرأي العام إذا كان إيجابياً فإنه يحطم المؤامرات والاستبداد، وهو الحصن أمام الأعداء.
وإذا كان سلبياً، فإنه على العكس من ذلك يقف بوجه المصلحين ويكرس الاستبداد؛ لأن الناس إذا كانوا جهلة، فإن الحاكم سيكون من سنخهم مستبداً جاهلاً، ضارباً لقواعد الشرع وقواعد العقل والحكمة عرض الحائط.
2- تطوير مؤسسات المجتمع المدني
إن الرشد الفكري والترشيد الثقافي والعلمي، يوفر الأرضية العامة لتطوير الأداء دون شك، لكن ما هي السبل لذلك، وما هي الآليات؟.
والجواب:
إن من أهم السبل والطرق، هو تكثير وتكريس وتنويع مؤسسات المجتمع المدني[20].
إن مؤسسات المجتمع المدني كلما تنوعت أكثر أولاً، وكلما تكثرت وازدادت أكثر فأكثر ثانياً، وكلما تكرست وتجذرت ثالثاً؛ كانت قدرة الشعب والناس على التصدي للمؤامرات الخارجية والاستبداد الداخلي أكثر.
ومؤسسات المجتمع المدني سيكون لها عرض عريض، إذ تبدأ من النواة الأولى في المجتمع التي هي العائلة، وهذه نعتبرها من مؤسسات المجتمع المدني، بل من أهمها وإن حاول بعض الخبراء إخراج العائلة من دائرة مؤسسات المجتمع المدني كما سيأتي كلامه ونقده في تلك السلسلة القادمة.
وتمر بالحسينيات والمساجد والجمعيات التعاونية والهيئات وما أشبه ذلك، وتصل إلى الاتحادات والنقابات والأحزاب وما أشبه، من مؤسسات المجتمع المدني بعرضها العريض، وبتشكيلتها المتنوعة.
وكذلك فإن (الجامعات) تعد من مؤسسات المجتمع المدني، و(الحوزة العلمية) كذلك هي من مؤسسات المجتمع المدني.
وكذلك مراكز الدراسات الأهلية[21]، فهي إن كانت بالعشرات تختلف عما لو كانت بالمئات، ويختلف عما لو كانت بالألوف، إذ أنها بنفس النسبة تزيد من منسوب الوعي في الناس. إذ أنها ستبصّر الناس والوجهاء والنخب والعلماء بخطط الاستعمار، وما هي منافذه، وما هي الثغرات، وما هي الحلول، وما هي أيضا أسباب تخلفنا الذاتية؟.
كذلك الأحزاب الوطنية أو الدينية المخلصة، والنقابات والاتحادات، كلما كانت أكثر وأكثر تنوعاً وتجذراً، وكانت فيها انتخابات حقيقة، كان المجتمع واعياً معافى، سليماً محصناً قوياً متطوراً مزدهراً.
إن من علائم مرض المجتمع أن تكون مؤسساته قليلة وخاضعة للحكومة، وأن تكون الاتحادات والنقابات واهنة وقليلة، (مثل اتحاد العمال، واتحاد الفلاحين ونقابة الأطباء والمحامين والمهندسين)، أو أن تكون تابعة للدولة تتحكم بها وتستبد بشؤونهم.
فكلما عملنا أكثر لزيادة مؤسسات المجتمع المدني، كماً وكيفاً وجهة، تنوعاً وكثرة وترسخاً، أمكن لهذا الشعب أن ينهض بشكل أفضل في وجه الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، وأن يصل إلى شاطئ النجاة بأقل قدر من الخسائر، وبطريقة سلمية.
السؤال: مؤتمرات الإنقاذ ومواصفاتها
من المعروف أن سماحة الإمام المجدد السيد محمد الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته) كان يؤكد أبلغ التأكيد على ضرورة عقد المؤتمرات، ودورها في حل مشاكل الأمة ورفع شأنها، فما هي معالم هذه الأطروحة؟.
الجواب:
إن السيد الوالد ـ رحمة الله تعالى عليه وعلى العلماء الأعلام البررة والمؤمنين الخيرة جميعاً ـ كان يؤكد على قضية (مؤتمرات الإنقاذ) كثيراً، وكان يقول: إنه لا يمكن إنقاذ المسلمين ـ وأية أمة مستضعفة أخرى ـ من واقعهم المأساوي المر، الذي هو أشد مرارة من العلقم أو الحنظل من جهات عديدة، إلا عبر سلوك مجموعة من السبل والطرق، والالتزام بسلسلة من العوامل، ومن أهمها: (مؤتمرات الإنقاذ).
وكان يذكر لمؤتمرات الإنقاذ مجموعة من الشروط والمواصفات:
أ- أن لا تكون خاصة بالنوعيات وبالنخب، بل يجب أن تكون عامة للكل، يعني أن على النخب وعلى عامة الناس أيضاً أن يعقدوا هذه المؤتمرات، على أن تتنوع بين تخصصية وعامة، وبين خاصة وأخرى خليطة وجامعة، أي فيها تزاوج إن صح التعبير بين العالم وبين الجاهل، كي يعطي العالم من علمه للجاهل، ولكي يسند الجاهل العالم ويعضده عندئذ.
لأنه تعلم الداء والدواء، وأحس بأنه مشارك في صنع القرار، وبأنه مقدّر ومحترم، فإنه سيدافع عما تمخضت عنه الاجتماعات والمؤتمرات من نتائج أو توصيات أو قرارات.
ب- ومؤتمرات الإنقاذ كما ينبغي أن تكون في بلادنا لا بالعشرات والمئات بل بالألوف وعشرات الألوف كل سنة، ومؤتمرات الإنقاذ كلما كانت أكثر، بالألوف وبعشرات الألوف سنوياً، وكلما اشتملت على مختلف طبقات الناس، واستوعبت مختلف شرائحهم وألوانهم وأنماطهم، كانت واقعية أكثر.
ج- ويجب أن تكون المؤتمرات للإنقاذ حقاً، لا للبهرجة، وعرض العضلات فقط، فإن كثيراً من المؤتمرات التي تعقدها الدول خاصة الدول المتخلفة والدول المستبدة، هي مؤتمرات شكلية، ومؤتمرات للبهرجة، ومؤتمرات للاستعراض، وليست مؤتمرات حقيقية، تبحث عن الداء، وما هو الدواء؟.
د- ويجب أن تتواصل جلسات هذه المؤتمرات لشهر أو أكثر، وأن يشترك فيها خمسة آلاف إنسان وعشرة آلاف إنسان ومائة ألف، فهي مؤتمرات جماهيرية كما كان يحدث في الهند، في فترة الحركة في مقابل الاستعمار البريطاني، وبالنتيجة وصلوا عام 1948 إلى غاياتهم ونالوا استقلالهم.
والسر في ضرورة أن تتواصل جلسات كل مؤتمر لفترة طويلة، هو أن البحث في الداء المستشري في أرجاء البلاد، ليس أمراً سهلاً، بل إن وضع الحلول والعلاجات ثم متابعة الآليات الميدانية، يحتاج إلى تفكير جمعي جادٍ ومستمر ومتواصل.
هـ-كما يجب أن يكون القائمون على مؤتمرات الإنقاذ متواضعين للحقيقة، وللبحث عن الحقيقة أكثر، وكلما جدوا واجتهدوا لكي ينفذوا تلك القرارات، أو التوصيات الصادرة على ضوء تلك المؤتمرات، كان الناس وكانت الأمة أقرب للنجاة، وما ذلك على الله بعزيز.
اضف تعليق