المقدمة
تبيّن في مباحث سابقة أهمية الأطر والمقومات، التي تحكم العلاقة بين الدولة وبين الشعب، والتي تشكل المناشئ التي ترتكز إليها الحقوق عامة، وبالذات منها حق الشرعية في الدول، وما يرتبط بها.
وهي بمجملها مبنية على أحكام الأمانة المستدلة من الآية الشريفة، ومن الأدلة النقلية والعقلية ذات العلاقة، والتي يشكل فيها عنوان [إِلَى أَهْلِهَا] المبنى الأساس في هذه العلاقة، مما يتطلب البحث المعمق، والتدبر فيها، والإجابة على الأسئلة ذات الصلة بموضوع البحث.
بيان البصائر التي ترتكز إليها مرجعية الأمانة في الحكم، والبحث في مسئولية الحاكم في ردّ هذه الأمانة إلى أهلها، ومقاربة العنوان في [أَهْلِهَا] واستنباط نطاقه، وبيان أحكام الأمانة، والمتعلق في [أَهْلِهَا]، من الآية الكريمة، ومناشئ الحق في شرعية الدولة والحكم.
المبحث الأول: بصائر قرآنية
البصيرة الأولى: التعليل لوجوب رد الأمانة بالمستقلات العقلية
إن هناك قاعدة معروفة تقول: إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فقوله تعالى: [الأَمَانَاتِ]، وهو متعلق الحكم في [أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ]، مشعر بالعلية للحكم وهو وجوب الأداء؛ لأن متعلقه هو [الأَمَانَاتِ].
كما أن قوله تعالى: [إِلَى أَهْلِهَا] من جهة ثانية، مشعر بالعلِّية أيضاً، وهو بمنزلة التعليل للوجوب، وهذه بصيرة لطيفة في الآية الشريفة.
فلماذا يأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نرجع الأمانات إلى أصحابها؟.
والجواب: أولاً لأنها أمانات.
وثانياً لأنهم أهلها.
فالمسألة إذن قد أضحت من المستقلات العقلية من وجهين: لأنها أمانة، ولأنهم هم أهل هذه الأمانة، ومُلاكها وأصحابها، وأن أمر الله سبحانه وتعالى مطابق لبداهة العقل، فبرهان القضية معها.
وكان السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) يشير إلى حقيقة هامة جداً، هي أن الآيات القرآنية الكريمة الآمرة بشيء او الناهية عن شيء او المرشدة الى امر ما، تكون عادة مذيّلة أو مصدرة بما هو علة، أو بما هو كالعلة للحكم.
وهذه الآية من المصاديق لذلك، إذ كان من الممكن أن يعبر عن ذلك بـ (الأشياء التي استلمتموها من الغير)، لكن استخدام عنوان الأمانة، يستبطن الحكم، ويعني أدّها وأرجعها لأنها أمانة، ولأنه مؤتمن، فكونه أميناً، وكونها أمانة، تستلزم الحكم عليه بالإرجاع، وبأدائها إلى أهلها.
ومن ثم نجد التعبير بـ [إِلَى أَهْلِهَا] فما داموا هم أهلها، فعليكم أن ترجعوها لهم، فكأن [إِلَى أَهْلِهَا] بمنزلة التعليل.
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة أنه كان يمكن أن يكتفي بالمقطع الأول من الآية الشريفة، هكذا: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ]، لكنّ ضميمة [إِلَى أَهْلِهَا] تتضمن مزيداً من التأكيد في التعليل، وتفيد إرجاع هذا الحكم، إلى قضية عقلية بديهية، يعبر عنها بالمستقلات العقلية كما سبق.
فعندما تعرض هذه القضية على أي عاقل، من أية ملة كان، أو من أي دين أو عشيرة أو قبيلة، في حضر كان يسكن أو في بادية، أو في قرية، سواء أ كان جامعياً أم حوزوياً أم غيرهما، فإنه سيرى أنه ما دامت هي أمانة، ومادام أولئك أهلها، فإن عليه أن يرجعها [إِلَى أَهْلِهَا].
وأمانة الحكومة هي من أهم الأمانات في أعناق الحكام، وعليهم أن يؤدوها إلى أهلها، وبالكيفية التي ستأتي لاحقاً إن شاء الله تعالى.
البصيرة الثانية: (أهلها) هم من لهم الأهلية أم المُلاك
في الآية الشريفة في كلمة [أَهْلِهَا]، فماذا تعني هذه الكلمة؟
هنالك احتمالان:
الاحتمال الأول أن يكون المراد من أهلها؛ ملاكها ومالكيها.
والاحتمال الثاني أن يكون المراد؛ من هو أهل لها، فلو أن أحدهم استعار من شخص أمانة، أو أودعه أمانة، بيتاً أو شيئاً ثميناً أو غير ذلك، فهو مأمور بأدائها إليه، عند المطالبة، فـ [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] يعني إلى من هو أهل لها، وهذا المعنى الثاني أعم من المعنى الأول[1]، فقد لا تكون مالكية وملكية، لكنه أهل لها، ويعني ذلك (الكفؤ).
والظاهر أن كلمة "أهل" تصلح لاستيعاب كلا المعنيين، فإن المالك له عُلقة بمملوكه، وهو ذو الحق أيضاً، له علقة بما له حق فيه فهو أهل له، فليس أهل الشيء خاصاً بمالك الشيء.
فعندما نقول مثلاً: "أهل زيد" فهل هو مالك لهم؟.
فالأهل تكشف عن وجود علاقة معينة، وأنه تجمعهما علقة ما، فقد تكون العلقة التملك، وقد تكون العلقة التسلط، وقد تكون العلقة حقاً، وقد يكون ملكاً، والحق أيضاً أنواع وكذا الملك[2]، و[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]، صادق على جميع هذه المعاني.
نكتشف ذلك أيضاً بمراجعة (اللغة)، إذ بمراجعتها نجد بأن الأهل يطلق على أهل بيته، ولذا تقول: أهل بيتي، وإطار هذه العلقة هو علاقة الأبوة والزوجية وما أشبه ذلك.
كما أن "الأهل" تضاف إلى البلد، فتقول: أهل بلدي، وإطار هذه العلقة الجغرافيا المحددة، و"الأهل" تطلق على أهل الصنعة، يعني على المشاركين له في صنعة واحدة، فتقول: أهل صنعتي.
فإذن أهل بيتي، وأهل بلدي، وأهل صنعتي، كله صحيح، وأيضاً تطلق على المشاركين في الدين، فتقول: أهل ديني.
والحاصل: إنّ كلمة الأهل بما هي كلمة، أي بما أن مادتها هي الألف والهاء واللام، تدل على شيء يرتبط بشيء آخر، بنحو خاص من أنحاء الارتباط، فـ [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] تعني من تربطهم بها صلة شرعية أو عقلائية.
فقد تكون الصلة هي المالكية، وقد تكون الصلة هي الحق. وهي على أنواع كحق الحيازة وحق الجناية وحق الشفعة، وحق القسم في الزوجية وحق النفقة، وما أشبه ذلك من أنواع الحقوق.
النتيجة: [الأَمَانَاتِ] لها عرض عريض، وقد أوضحنا ذلك سابقاً، وعلى ضوء ذلك نستكشف مدى اتساع دائرة [أَهْلِهَا]؛ لأنها تمتد بامتداد [الأَمَانَاتِ]، فلها هي الأخرى عرض عريض.
فمثلاً مدير المدرسة إذا أراد أن يسافر، عليه أن يسلم أمانة الإدارة لخليفة كفؤ، أن يسلم هذه الأمانة [إِلَى أَهْلِهَا]، كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان عليه عند قرب ارتحاله إلى الرفيق الأعلى أن يسلم الأمانة [إِلَى أَهْلِهَا]، أي إلى أفضل البشر من بعده، وهو أمير المؤمنين ومولى الموحدين، علي بن أبي طالب (عليه صلوات المصلين).
ولذلك قال (صلى الله عليه وآله): (ايتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)[3].
وهذا أمر عقلي عقلائي من المستقلات العقلية، فأفضل البشر كان خليفة الله على هذه البسيطة وغيرها، ثم اختاره الله إليه (من باب المجاز بالمشارفة)، فعليه أن يؤدي الأمانة إلى أفضل البشر من بعده أي [إِلَى أَهْلِهَا].
الحكومة إذن أمانة، والإدارة أمانة، والتعليم هو أمانة، إلى سائر مصاديق الأمانة.
البصيرة الثالثة: لماذا جُمعت (الأمانات) وأفرد (أهلها)؟
تتعلق بالسر في الجمع والإفراد، فالله سبحانه وتعالى قد جمع الأمانات وأفرد أهلها، [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ] ولم يقل الأمانة، ثم قال: [إِلَى أَهْلِهَا] ولم يقل إلى أهليها، مع أن المفروض أن يجمع؛ لأنها أمانات، ويقابلها أهلون وأهالي لتلك الأمانات، وجمع أهل هو أهالي، وأهلون أو أهلين، رفعاً ونصباً وجراً، وأهلات.
فلماذا جمع الله (الأمانات)، وأفرد من تسلم إليهم الأمانات؟.
ولم يقل إلى أهاليها أو إلى أهليها أو إلى أهلاتها؟.
أما بالنسبة للمقطع الأول [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ] فالوجه ظاهر؛ لأنه إذا قال الأمانة، فلعل الذهن ينصرف[4] إلى أمانة معينة، فلا تكون لها الشمولية.
بمعنى أنه ربما يتوهم[5] أن الألف واللام هي ألف لام العهد، بنوع من أنواعه، حضورياً أو ذهنياً أو غير ذلك. مع أنه يمكن كونها ألف لام الجنس، لكن [الأَمَانَاتِ] جمع محلى بأل، فيفيد العموم بدون شك وبدون كلام، فالله يأمر بأداء [الأَمَانَاتِ] يعني بأجمعها، بشتى ألوانها وأشكالها ومستوياتها ومراتبها [إِلَى أَهْلِهَا].
(الارتباطية) في (الأمانات)
وأما بالنسبة للنقطة الثانية، فهي تحتوي على نقطة دقيقة، فالذي خطر بالبال القاصر: هو أنه يحتمل ـ والعلم عند الله سبحانه وتعالى ـ أن يكون إشارة للارتباطية في [الأَمَانَاتِ].
إذ هنالك بحث معروف في الأصول، هو الأقل والأكثر الارتباطي، مثل: الصلاة، فلو أدى شخص من الصلاة تسع أجزاء، وترك الركوع أو السجود أو أي جزء آخر، عن عمد في غير الأركان، أو حتى لو كان ساهياً في الأركان، فالصلاة باطلة، أي أن الكل يبطل بترك جزء، فالصلاة من قبيل الواجب الأقل والأكثر الارتباطي.
من هنا قد يقال ـ والعلم عند الله سبحانه وتعالى ـ: إن وجه الجمع في [الأَمَانَاتِ]، والإفراد في [أَهْلِهَا]، هو الإشارة إلى أن هذه الأمانات هي بنحو الأقل والأكثر الارتباطي، بمعنى لحاظ مجموع الشعب (أهلاً واحداً) وليس أهالي مفككين، مع لحاظ [الأَمَانَاتِ] كجميع.
أي: يحتمل أن يكون المراد من الأمانات الجميع، ومن الأهل المجموع، فيكون المؤدى: الجميع في مقابل المجموع. وذلك يعني: إن الحاكم لو أدى الأمانة لكافة أفراد الشعب إلا واحداً لكان خائناً؛ وذلك لأن كل إنسان هو أمانة في عنق الحاكم، من حيث تلبية متطلباته، والحفاظ على حقوقه وكرامته، وحريته المشروعة.
فكأن كل شخص من آحاد الناس، هو جزء (الأهل) لا أن يكون جزئياً له، سواء أ كانوا عشرين مليون، أم خمسين مليون، أو مائة مليون، وأي عدد كانوا.
فالحاكم لو أدى هذه الأمانات كلها لأهاليها إلا أمانة واحدة، فيعد خائناً، فإن [أَهْلِهَا] في الآية قد يفهم منها كأنهم أهل واحد، وهذا يعني أن الحاكم إذا لم يؤد أمانة واحدة، فهو لم يؤد الأمانة كلّها، ولو من باب المبالغة[6].
ويمكن أن يستفاد هذا الكلام أيضاً بنحو ما من كلام أمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين) في "نهج البلاغة"، يقول الأمير (عليه السلام) ـ في عهده لمالك الأشتر ـ: (وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ).
ويعني كل واحد من الناس، وهذا كلام ظاهر في (الجميع) (وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ؛ فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ)[7]، ويعني التافه من الأمور: الصغير.
فالمهم أن كثيراً من الناس، قد يزعم في شأن حاكم عادل بسط العدل في البلاد بصفته حاكماً استشارياً، أنه لو أهمل حق مستضعف واحد في ظلامة واحدة في جوف الليل البهيم وهو متعب، فإنه لم يرتكب إثماً، وهو معذور ومتسامَح معه؛ نظراً لإنجازاته الكبرى.
لكن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يقول: إن الحاكم إذا أحكم الكثير، فهذا لا يرفع عنه المسئولية عن ذاك الأمر التافه الحقير في نظره، فإنه عند الله خطير، ولن يعذر بتضييعه التافه لإحكامه الكثير.
وهذا الكلام من الإمام (عليه السلام) يؤكد جانباً مما ذكرناه؛ لأنه ينفي الارتباطية السلبية أو العكسية، حيث إن كثيراً من الناس قد يرى أنه لو عمل عملاً مهماً، فإن هذا يعذره عن أداء المسئوليات الصغيرة.
فيتصورون هذه الارتباطية العكسية: هذا واجب كبير، وذاك واجب صغير، فلو فعل الواجب الكبير، فكأنه قد أدى حتى الواجب الصغير، أو يغتفر له ذلك، لكن كلام الإمام ينفي توهم الارتباطية السلبية في الأمر.
وهذا ـ الارتباطية في أداء الأمانات ـ هو ما نستظهره أو نحتمله على أقل تقدير من الآية الشريفة [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]، أن جمع الأمانات وإفراد أهلها، قد يكون للإشارة إلى أن الإنسان لو ضيع حقاً من الحقوق، فكأنه لم يؤد الحقوق جميعاً، ويكون مسئولاً معاقباً.
وذلك كما تقول: لو خدمت أباك خمسين سنة، لكنك أهنته مرة واحدة فكأنك لم تخدمه أبداً، وبالتدقيق في كلمة "كأنه"، يظهر أننا لم نستخدم هنا حرفية المصطلح الأصولي في المقام.
وحول (الارتباطية) يوجد بحث طويل، ويمكن للقارئ الكريم مراجعة كتاب "فقه التعاون على البر والتقوى"[8]، في بحث ارتباطية الأحكام، وارتباطية الإيمان بالرسل والأنبياء، فإذا آمن أحدهم بكل الرسل إلا رسولاً واحداً، أو إلا نبياً واحداً، فالله لن يقبل منه شيئاً.
وإذا آمن بكل آيات القرآن الكريم، ولم يؤمن بآية واحدة، فالله لن يقبل منه حتى ذلك الإيمان بما آمن به، ولعل الله يوفقنا لتفصيله.
المبحث الثاني: منشأ تولد الحقوق وشرعية السلطة
إن البحث في هذا العنوان، مرتبط ارتباطاً جوهرياً، بهذه الآية القرآنية الكريمة، لبيان منشأ تولد الحق، ومنشأ شرعية السلطة، ومن الذي أعطى هذه الحكومة الشرعية، لكي تحكم الناس، أي ما هو مصدر تولد هذا الحق للحكومة إن كان لها حق.
وهذا البحث طويل الذيل، وقد توصلت في استقراء منوع ـ وإن كان بعدُ غير كامل ـ إلى حوالي اثنين وعشرين منشأ حقيقياً أو متوهماً، من المناشئ التي ذكرت هنا أو هناك، أو التي يمكن أن تذكر، مع أن المذكور في كتب القانون الدستوري، وفي كتب الفقه، قد يكون أربعة أو خمسة مناشئ والبعض أوصلها إلى سبعة.
لكن الذي يمكن أن يذكر كمنشأ للحق أو يتوهم كمصدر له، يبلغ اثنين وعشرين منشأً، وسنشير لما يتيسر منها الآن، لمنشأين أو ثلاثة، ونرجئ الباقي لبحوث قادمة، إذا شاء الله سبحانه وتعالى.
وجوهر السؤال عام وسيال:
فالأب مثلاً له حق الأبوة على ابنه، فما هو منشأ تولد هذا الحق؟.
والمعلم له حق ما على التلاميذ، فما هو منشأ تولد هذا الحق؟.
والضيف له حق على المضيف وعلى صاحب الدار في استضافته، وأيضاً صاحب الدار له حق على ضيفه، فما هو منشأه؟ وهكذا.
لكن البحث هنا يدور حول الحكومة فقط، وإن نفع في إلقاء الضوء على مناشئ تلك الحقوق أيضاً.
وهذا البحث هو مبحث طرفيني: فمن جهة، ما هو منشأ حق تسلط حاكم على المحكومين؟ ومن جهة أخرى، ما هو منشأ حق الرعية أو الشعب أو الناس، في أن ينتخبوا حاكماً، أو يسلطوا عليهم حاكماً، أو غيره مما يقارب هذا المعنى[9].
ونقول في الجواب: إن الوجوه الحقيقية أو المتوهمة، الوجوه الصحيحة أو الزائفة، الوجوه التي يستند إليها هذا أو ذاك، لشرعية السلطة أو لشرعية سلطته، هي وجوه عديدة، نذكر منها:
1- منشأ الحق (المالكية)
الوجه الأول (الموهوم): هو ما يتمسك به الكثير من المستبدين والطغاة على مر التاريخ، وقد يصرحون بذلك أحياناً، وقد لا يصرحون، هو حق (المالكية).
إن كثيراً من المستبدين ومن الطغاة، يرون أنفسهم مُلاكاً للرعية، فكما يرى الغاصب أنه المالك لهذا البستان أو الضيعة أو الدار، التي أخذها بالقسر والغلبة من صاحبها، كذلك يرى الحاكم الجائر أن هذا البلد كله ملك له.
والفارق هو أن الغاصب الشخصي يغصب شيئاً محدوداً كبقعة جغرافية لنفترض إنها ألف متر مربع مثلاً، لكن الحاكم الجائر يرى حدود مالكيته حدود البلد كله، أي مئات الألوف من الكيلومترات المربعة، وملايين البيوت والمعامل والمزارع مثلاً، فهؤلاء يرون الناس عبيداً لهم، ويرون الثروات ملكاً لهم.
فرعون ملك أو مالك أو رب؟
وممن صرح بذلك، هو فرعون الذي كان يرى الناس عبيداً له، ويرى البلاد وليست الثروات فقط بل كل الأراضي مملوكة له، ولذا ادّعى [أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى][10]، حيث ادعى أنه رب، يعني أنه فوق المالك، وهو مالك الملاك كلهم.
وقد جاء في القرآن الكريم: [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ][11]، فهذا منطق استخدمه فرعون، وقد أشار إليه القرآن الكريم عن لسانه.
وكذلك الكثير من المستبدين يزعم إن الناس عبيد له، وليس لهم أي حق في أن يخرجوا في مظاهرات احتجاجية مثلاً. هذا منطق الطاغية؛ لأن الناس عبيده، فكيف يخرجون في مظاهرة ضده! وإن كانت سلمية، وليس لهم أن يطالبوا بحقوقهم، لأنهم لا حقوق لهم أصلاً، فهو المالك الأول والأخير.
الآية الشريفة تقول: [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ]، وهناك بحوث عديدة حول هذه الآية ومفرداتها ككلمة [نَادَى] و[قَوْمِهِ] إلا أننا نتركها لمجال آخر، وسنوجز البحث حول جوانب منها:
حول كلمة [مُلْكُ مِصْرَ] حيث يوجد احتمالان في ذلك:
الاحتمال الأول:
يعني ملوكية مصر، أي "أنا الملك"، وقد كانت للملك في عرفهم صلاحيات هائلة، بل غير محدودة.
والاحتمال الثاني:
إنها مالكية مصر، ويعني: أ ليس لي [مُلْكُ مِصْرَ]؟ أو أ ليس لي (مالكية مصر)، وهو الاحتمال المطابق للمدعى، أليس لي مالكية مصر، وأن مصر مملوكة لي؟.
فأنتم وموسى وهارون من تكونون كي تطالبوا بحق بني إسرائيل، أو حتى تعترضوا عليه بأنه كيف استعبدهم واسترقهم واستحيى نساءهم؟.
وأيضاً كما كان متداولاً في الأعراف السابقة، أنهم كانوا يعدون الملك مالكاً بدرجة عالية، أو بدرجة دانية وخفيفة.
أما الدرجة الخفيفة، فهي أنهم كانوا يرون له الحق في أن يتملك ما شاء، أو كان الملك يرى من حقه ذلك، أي أنه إذا وجد أرضاً من الأراضي أو ضيعة من الضيع أو بستاناً، فله أن يتملكه رغماً على أنف صاحبها.
أما الدرجة الأعلى، فكان الملك يرى (طولية) ملك الناس لمالكيته، أي: يرى نفسه هو المالك الحقيقي، وللناس ملك لكن في طول ملكه، هذا وكلا الاحتمالين في الآية الشريفة جار.
البرهان الاقتصادي للطغاة على مالكيتهم للبلاد!
وأما قوله: [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]، فيحتمل أن يكون استخدمها فرعون ـ ويستخدم نظائرها سائر الفراعنة والطغاة، لكن بعبارات أخرى وبأساليب أكثر حضارية ـ كدلالة ودليل على واحد من ثلاث نظريات:
النظرية الأولى:
إنه كان يرى نفسه رباً، وقد استشهد بـ [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]، فاعتبر جريان الأنهار من تحته، دليلاً على ربوبيته!
لقد كان فرعون ذكياً في شيطنته، فلذا كان قد بنا قصوره وبساتينه على مجرى النيل، كي تمرّ المياه عبر أراضيه، وهكذا أحكم قبضته على أرزاق الناس ومصائرهم.
ويذكر بعض المؤرخين: إن الأنهر أو الجداول، التي كانت تغذي الأراضي الزراعية للناس، وكان منها مشربهم، كان طولها ثلاثمائة وستين كيلومتراً، وكان قد بنا قصوره السبعة أو الأكثر ـ والسبعة هو القدر المتيقن ـ على المجرى الرئيسي لهذه الأنهر والجداول، و [يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]، أي من تحت أراضيه ومن تحت قصره، فقد اتخذ ذلك دليلاً لربوبيته.
ويؤيد هذا الاحتمال أنه ادعى الإلوهية، فأتى بهذا البرهان، وبتعبير آخر: كان يدعي بأنه هو خالق هذه المياه!!
والنظرية الثانية:
وهي ـ مانعة الجمع بين هذه الاحتمالات، والحل بتعدد الأزمنة والتدرّج؛ لأن الدعاوي كانت في فترات مختلفة، فإن فرعون لم يدّع الإلوهية فجأة ودون إعداد ومقدمات، بل ادعاها بالتدريج ـ أنه قد اتخذ هذه الأنهار التي تجري من تحته دليلاً على مالكيته، وهي مرتبة سبقت دعواه الإلوهية. فقال بأن مصر كلها ملك له، والدليل أن هذه الأنهار ملكي، وتخرج من أراضيي، وأنا أسقيكم بها، فكلما بنيتم يا بني إسرائيل فهو مني وببركتي!!
النظرية الثالثة:
ولعلها الأضعف[12]: إنه كان قد اعتبر جريان الأنهار من تحته، دليلاً على أنه هو المدير والمنظم والمدبر والمتصرف في المياه، فكأنه كان يقول: أنا الأكفأ، وأنا أكثركم صلاحية لإدارة البلاد، إذن لا خيار لكم ولا مناص إلا التبيعة لي وإلا! وقد كان المجتمع آنذاك في مصر مجتمعاً زراعياً، فهندس ملكه بحيث يقع الناس أسارى اقتصادياً بيده.
وهنا نكتشف اللفتة الدقيقة في بيان البحث، وهي أن الطغاة عادة يستخدمون الحق العيني، أي الحق على الأعيان المزعوم، وسيلة لدعوى أو لتكريس الحق الشخصي المزعوم.
فيحاول أن يتملك الثروات أولاً، فإذا تملكها سيتملك بالتدريج رقاب الناس أيضاً، وهو تسلسل طبيعي في منطلق الطغاة.
ملكية الدولة للثروات العامة
لذلك نرى بأن الحكومات ـ وحتى المتطورة منها ـ تدعي ملكيتها للثروات والموارد المادية، والمصادر الكبرى للثروة مثل المعادن، وفي بعض الدول، فأنها تتملك الشركات أو الصناعات الأم أو الكبرى، مثل سكك الحديد والمطارات ومعامل الصلب، وتعتبرها ملكاً للدولة، في العملية ـ الحضارية في المظهر والفرعونية في الجوهر ـ التي يصطلحون عليها بالتأميم؛ لأنها تريد أن تستعبد الناس، فإن هي أمسكت باقتصاد الناس، فقد أمسكت برقابهم، وباتوا يخضعون لها، رغماً على أنوفهم.
إن الكرامة الاقتصادية تستدعي الكرامة الاجتماعية والسياسية وغيرها، وكذلك الحاجة الاقتصادية تستلزم الذلة السياسية والاجتماعية والحقوقية وما أشبه ذلك.
وهذه طريقة الطغاة، في إركاع الناس وفي إخضاع سائر الدول أيضاً: الحاجة، ولذا نجد أن الشارع المقدس وضع من البداية قواعد وقوانين؛ كي لا تتمركز الثروة بيد الحكام، ولا بيد الأغنياء دون حدود وضوابط، [كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ][13]، و[خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا][14]، و[إِنَّ الأَرْضَ للهِ][15] وليس للحاكم، و[وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ][16] وليس للحكام، وفي الحديث: (الأرض لله ولمن عَمَرَها)[17].
ففي الشريعة الإسلامية لا تكون الثروات والمعادن والموارد الأخرى ملكاً للدولة، بل كل من استخرج من المعادن ومن النفط أو من غيره شيئاً فهو له، وكذلك الغوص وما أشبه ذلك.
وهذه قاعدة تشريعية مبنية على أسس تكوينية، وقد أشرنا لها في بحوث سابقة، ولعلنا نفرد لها بحثاً خاصاً.
والحاصل: إن هذا هو منطق الطغاة، منطق فرعون [أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ]، وما على الناس إلا أن تطيعه؛ لأن اقتصادهم تحت قبضته، وهذه الأنهار تجري من تحته، إما بنحو الخالقية أو بنحو المالكية أو بنحو التدبير.
أي أن أمور اقتصادهم بيديه ـ في أدنى الفروض ـ فيجب إذن أن يخضعوا له، وإلا سحق اقتصادهم، وإلاّ تدهورت أوضاعهم، وإلا تحطمت معيشتهم.
أ ليس هذا بالضبط منطق الاستعمار والدول الكبرى في حروبها الاقتصادية؟.
وأليس هذا هو بالضبط منطق صندوق النقد الدولي؟.
وأليس هذا هو منطق الشركات العملاقة العابرة للقارات؟.
والخلاصة: إن منشأ شرعية السلطة في زعم كثير من المستبدين ـ إن لم نقل كل المستبدين في قرارة أنفسهم ـ هي (المالكية)، إذ يعتبر المستبد نفسه مالكاً للثروات، ثم يعتبر نفسه مالكاً للرقاب، ولذا فإن الشريعة ركزت على نسف هذا المفهوم، ومن ذلك آية الكنز: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ][18].
إن البعض يتصور أن الذين يكنزون الذهب والفضة، يعني أشخاصاً زيدا وعمراً والتاجر الفلاني فقط، لكنه يغفل عن أن الدولة هي أول من يكنز الذهب والفضة.
وصفحات التاريخ الغابر والمعاصر هي خير شاهد، فإن الدولة المستبدة تعلم أنها إن قبضت اقتصاد البلد، فقد أمسكت بخناق الناس، ولكن: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ][19]، هذا لو فرض أنه استخرجها من مصادرها الشرعية، مع ذلك ليس له الحق في أن يكنز الذهب والفضة، فما بالك لو كان الكنز من مال حرام مأخوذ بالغصب من الناس.
والمهم الحيوي في الأمر أن نعرف هذه الحقائق: حقيقة كيف يفكر الحكام؟ وحقيقة أن هذه طبيعة متأصلة في ذاتهم، وحقيقة أن الحوار مع هذا الحاكم ليس بمجدٍ أو نافع عادة؛ لأنه يعتبر نفسه مالكاً، ويرى أنه لو أخذت منه هذه الملكية، أصبح لا شيء!
نصيحة للحكام!
نحن نقول لهؤلاء المستبدين: اعتبروا بفرعون، ألا ترون أن هذا التوهم والزعم والمنطق: بأنه الخالق أو الرب أو المالك، أو هو المدبّر الاقتصادي للبلد، هو الذي ساقه إلى مصادرة حريات الناس، ثم إن ذلك هو الذي حطم سلطانه وأذله على مر التاريخ؟.
وعلى الأقل فإن على هؤلاء الذين يعيشون هذا التوهم، أن يتعلموا من الدول المسماة بالديمقراطية، إذ أنها ممتلئة بالمثالب والنواقص التي لا تخفى على اللبيب بل على عامة الناس، لكن الحاكم بعد أربع سنوات يتغير، ويترك موقعه لغيره، وعندما يتغير سيكون له موقع آخر، شرعياً كان عمله فيه أو لا، إذ ليس هذا موطن الشاهد في الكلام.
على هؤلاء المستبدين والطغاة أن يتعلموا من أولئك على الأقل، فإن الحاكم المستبد، إذا تنحى أو نُحِّيَ عن السلطة والرياسة، سيصير صفراً على الشمال، إن لم يودع السجن أو يلاحق حتى يُعدم، والحال أنه إذا إذا حكم بانتخاب الناس له، ثم تنحى بطريقة عقلانية سلمية، فإنه سيبقى علماً من أعلام البلاد، وستحفظ له حقوقه على حسب كفاءاته، وستبقى له المحبوبية في قلوب الناس.
بل نقول: إن الحاكم حتى لو كان جائراً، لكنه إن تنحى بطريقة سلمية وبسرعة وتواضع وحكمة، فإن الناس سوف لا ينتقمون منه، بل إن من المصلحة العقلية والعقلائية أن يتعاملوا معه بالسلم والرفق، وإن هذا لصالحه، ولصالح المجتمع، ولصالح الدولة أيضاً.
لكن فرعون وأشباه فرعون، لا يفهمون هذا المنطق، فيتشبثون بالعنف، والمزيد من العنف، لكن العنف لا يعود عليهم إلا بالوبال في الدنيا، كما لا يعود عليهم إلا بالوبال في الآخرة.
وأود أن أذكّر بجانب من قصة فرعون مع موسى بإشارة سريعة، وهي قصة طريفة حول فرعون، وحول تعامله مع موسى، وحول تلك القصور السبعة التي بناها، لكي يتحصن بها من موسى، فقد وضع الأسود الكاسرة في كل قصر منها، وكانت مبنية على شكل قصر داخل قصر كالأطواق، وكان قد وضع بين كل قصر والآخر، أسوداً كثيرة ومدربة، حتى لا يستطيع موسى ولا يتجرأ أن يقتحم هذه القصور، بمفرده أو حتى مع قومه، قصة طريفة ذكرها تفسير العياشي وغيره[20].
خلاصة الكلام: إن منشأ الشرعية المزعوم الأول، والذي يرو التاريخ ـ للأسف الشديد ـ في كثير من مناحيه عليه، هو منشأ (المالكية).
وهذا المنشأ لا أصل له ولا أساس له، لا من الناحية العقلية، ولا من الناحية الشرعية، ولا من الناحية العقلائية. يقول الله سبحانه وتعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا].
وأمانة الحكم يجب أن تسلم إلى الحاكم الذي هو أهل لها، وعليه أن يؤدي أمانات آحاد الناس إلى كل الناس بدون استثناء، فلو قصر في أمانة واحدة، فإنه مسئول ومخذول، أعاذنا الله وإياكم من ذلك وأشباهه.
المبحث الثالث: الإجابة على الأسئلة ذات العلاقة بموضوع البحث
السؤال: أسباب (الربيع العربي)
الكثير من الناس قد فوجئ، أو بتعبير آخر: إن الكثير من النخب والقيادات قد فوجئت، بأن الناس قد تقدمت عليها في المطالبة بحقوقها، وبدون توجيه من هذه النخب، فقد خرج الناس بطريقة سلمية في الكثير من البلاد إلى الشوارع يطالبون بحقوقهم، فما هو التفسير المناسب لذلك؟.
الجواب:
إن الإجابة على هذا السؤال، تحتاج إلى بحث موسع ودراسات اجتماعية نفسية تاريخية؛ لأن الإرهاصات التاريخية والتراكم المعرفي، تعد من الأسباب التي أدت إلى ذلك.
والأسباب كثيرة، ولكننا سنشير إلى واحد من هذه الأسباب، وهو أن الناس قد ازداد وعيهم بمرور الزمن، بسبب توفر وسائل المعرفة المختلفة، التي تتيح المعرفة لعامة الناس، من المدارس إلى الفضائيات إلى الشبكة العنكبوتية إلى الكتب إلى غير ذلك.
علماً بأن زيادة درجة وعي الناس، هي التي قادتهم إلى ذلك، فإن الإنسان إذا كان ذا وعي، فإنه يرفض أن يُستعبد وأن يُستذل، بخلاف من لم يكن ذا وعي وثقافة، ولم يكن ممن يعرف حقوقه، وممن يعرف واجبات السلطان والحاكم والملك، عندئذ ستصادر حقوقه وتضيع، وما ضاع حق وراءه مطالب.
إن هذه الثورات تكشف بالبرهان الإني، عن أن وعي الناس قد ازداد، وهذه الآليات والتراكم المعرفي هي من الأسباب لذلك، وهذا مما يشجع الناس على قول الحق والمطالبة بالحقوق.
فقبل أكثر من مئة سنة، كتب كتاب باسم "طبائع الاستبداد"، وربما لم يطلِّع في ذاك الزمان الكثير من الناس على هذا الكتاب، فلم يؤثر في حينه كثيراً، لكنه كان مسماراً في نعش الاستبداد.
وربما تجد محاضراً يتحدث عن الحرية في الإسلام، لكن حديثه يواجه بتكميم الأفواه قسراً، وبالتنكيل وبالسجن وبالتعذيب وغير ذلك، لكن هذا التراكم على مر الأجيال، يفعل فعله ويؤثر تأثيره؛ لأن هذه الكلمة لا تضيع، كما أن الكلمة المكتوبة لا تضيع.
لأن كلمة هنا وكلمة هناك، وكتاباً ومحاضرة وحديثاً وندوة ومؤتمراً وغير ذلك هنا وهنالك، تتكامل مثل القطرات، قطرة وقطرة وقطرة، أفقياً وعمودياً في نهر الزمن، فتنتج كما نرى (التراكم المعرفي)، وتتمخض عنه (الربيع العربي).
والحاصل: إن هذه الوسائل التي أتيحت للناس، للإطلاع على مصادر المعرفة، وللمقارنة بين ألوان المعرفة، وأنماط الأفكار، وأشكال الحكومات وغير ذلك، قد هيّأت الناس لكي يخرجوا إلى الشوارع، مطالبين بحقوقهم.
وبتعبير آخر: إن هذا يعدّ مظهراً من مظاهر قول الرسول الأعظم، محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)[21]، وكثيراً ما يكون من الخطأ أن يتكئ الناس على النخبة كالأحزاب والقيادات والنقابات وحتى بعض العلماء الذين مشوا في ركاب الحاكم الجائر.
إذ كثيراً ما لا تفعل تلك الأحزاب أو النخب شيئاً، بل على الناس أن يعملوا بهذه الرواية، ومن المشاهَد والملموس أنهم كلما عملوا، تقدموا وبالمقدار الذي عملوا.
إنما اللفتة المهمة في هذا الأمر، هي أن الناس انطلقوا بعفوية وبفطرية وبمعرفة أيضاً للمطالبة بحقوقهم، لكن الخطر كل الخطر أن تحاول جهات معينة، الإلتفاف على الناس وعلى الجماهير، وأن تمسك بزمام الأمر، حيث الاتفاقات والاتفاقيات الدولية، وحيث المؤامرات التي تحاك من وراء الكواليس.
وهذا يحتاج إلى مزيد من الوعي واليقظة، وإلى مزيد من الدقة، ومزيد من الرصد، وإلا ربما نجد الحركة الشعبية الجماهيرية، التي بدأت تؤتي بعض الأُكُل، أنها قد صودرت وسُرقت في منتصف الطريق، وهنا مكمن الخطر الجدي، الذي يحتاج من الناس إلى المزيد من الحذر والرقابة والتصدي، ويحتاج من المثقفين والعلماء إلى المزيد من الكتابات والتحرك حول هذا الموضوع.
السؤال: هل الحكم في الإسلام هو ديمقراطي أو ديكتاتوري؟.
الجواب:
إن القسمة ليست حاصرة، يعني ليس بالضرورة أن يكون الحكم ديمقراطياً أو أن يكون استبدادياً، بل قد يكون استشارياً. لكن قبل ذلك نشير إلى أن هنالك بين هذين النمطين درجات مختلفة؛ لأن الاستبداد على درجات، والديمقراطية أيضاً على درجات، وعلى أنواع أيضاً.
فقد تكون ديمقراطية النخب، وقد تكون ديمقراطية الجماهير، وقد تكون ديمقراطية على طريقة التمثيل، وقد تكون على طرق أخرى، ربما نتطرق لذلك.
ولكن فيما يرتبط بصميم السؤال، نقول: إن الحكومة في الإسلام لا هي ديمقراطية ولا هي ديكتاتورية، وإنما هي استشارية وهذا ما أشار إليه بعض أعلامنا، ومنهم السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) في موسوعة "الفقه: ج101-102 الدولة الإسلامية"، و"الفقه: ج105-106 السياسة"، والعديد من كتبه الأخرى.
فليس بالضرورة أن يكون الحكم إما ديمقراطياً أو استبدادياً، فهناك نمط آخر اسمه: "الحكم الاستشاري"، ومعالم الفرق وملامح الفروق كثيرة، ونقتصر في الإشارة ها هنا إلى فرق أو فرقين.
لا استبداد في الإسلام
من الواضح لذي عينين أن لا استبداد في الإسلام بلا أدنى شك أو ريب؛ لأن من فلسفة بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه [يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][22].
فليس من المعقول أن يكون الحكم في الإسلام استبدادياً أو ديكتاتورياً، سواء تسمى باسم (ولاية الفقيه) أم غيره؛ ذلك لأن الحكم في الإسلام ليس استبدادياً أبداً وبدون شك.
والروايات في الاستشارة والشورى والشورية والاستشارية بالمئات، ولعلها ـ والعلم عند الله تكون بالألوف ـ وقد جمعها بعض من الأعلام، ومنهم السيد الوالد (قدس سره) في كتاب "الشورى في الإسلام" وغيره، حيث جمع بعضها وإلا فهي أكثر بكثير، كما ويجد المتتبع بعضها في كتاب العشرة من "البحار" و"وسائل الشيعة" و"جامع أحاديث الشيعة".
الحكم الإسلامي استشاري وليس ديمقراطياً
ولكن إذا لم يكن الحكم في الإسلام استبدادياً، فهل هو ديمقراطي؟.
الجواب:
كلا؛ فإن الديمقراطية تعني حكومة الشعب، أي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وأن تكون السلطة مستمدة من الشعب ولا غير، وأن تكون الشرعية الوحيدة هو الشعب، فيحكم الشعب نفسه بنفسه.
أما في الإسلام، فإن الديمقراطية بهذا المعنى ليست صحيحة، وإنما هنالك استشارية؛ لأن منشأ الشرعية فيها هو الله سبحانه وتعالى، وهو جل اسمه مصدر السلطات.
لكن الله جلّ جلاله ـ الذي هو منشأ الشرعية ـ هل أقرّ حكومة ديكتاتورية على الناس؟.
الجواب:
كلا، وإنما أقرّ في زمان الغيبة نظاماً استشارياً له مقومات ومواصفات، تختلف في كثير من جهاتها عن مواصفات الحكم الديمقراطي، وهي أكمل وهي أفضل.
فحق الانتخاب في الإسلام للناس مكفول، لكن الشروط الموضوعة للحاكم في الشريعة الإسلامية أكثر تكاملاً من الشروط في الدول الغربية. إذ من الواضح أنه لا ريب في ضرورة اتصاف الحاكم المنتخب بشروط ومواصفات، إذ لا يصلح كل فرد لأن ينتخب حاكماً، ولا يصح القول للناس بأنكم أحرار، فلكم أن تنتخبوا حتى الخائن والسفيه والمغفل أو الأمي أو الطفل غير المميز أو ما أشبه.
فان هناك شروطاً عقلية وعقلائية أو شرعية يجب أن تتوفر في الحاكم، وهذا ما نلاحظه حتى في الدول الديمقراطية، فتوجد هنالك شروط في المرشح لانتخابه لمنصب الحاكم، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو برهان.
وأما الشريعة الإسلامية، فقد وضعت شروطاً أكثر تكاملية وعقلانية من غيرها، فمثلاً من جملتها اشتراط (العدالة) في الحاكم. إن هذا الشرط يعود لصالح الناس، وهو يعني أنه لا يجوز أن يكون الحاكم ممن يخضم مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، ولا يكون من الناس الفسّاق في واقعه وفي جوهره، ظالماً للعباد، منتهكاً للحقوق، مصادراً للحريات، أو ممن يحاول ذلك.
بل يجب أن يكون في جوهره ذا ملكة تمنعه عن ذلك، ولا يكفي فرض رقابة الناس عليه، إذ قد يغفلهم كما نجد ذلك كثيراً في البلاد الديمقراطية.
إن هذا الحديث يحتاج إلى بحث مفصل، إنما موجزه: إن الحكم في الإسلام استشاري، ويعني أن حق الانتخاب مكفول للناس، لذا ورد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: "أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً"[23]، إلى آخر قوله الشريف.
السؤال: هل يقرّ الإسلام التعذيب، وهل يسمح به؟.
الجواب:
إن حرمة التعذيب في الإسلام تعد من المسائل القطعية، بل يمكن أن نعدّها من الضرورات والضروريات، لكن ـ ويا للأسف ـ نجد أن الحكومات الجائرة اعتبرت التعذيب منهجاً أصيلاً، لكي تكرّس استبدادها.
فوجود التعذيب فيها هو شيء أساسي، أما في الإسلام فيعتبر من أشد المحرمات، وفي الحديث الشريف: (إياكم والمثلة! ولو بالكلب العقور)[24].
إن الكلب العقور يشكل خطراً حقيقياً على الإنسان، كونه حاملاً للمرض الذي قد يقضي على الإنسان بعضّة منه لو لم يعالج ويسعف فوراً، ومع ذلك ينهي الإسلام عن المثلة به: (إياكم والمثلة! ولو بالكلب العقور).
إن التعذيب في الإسلام مرفوض جملة وتفصيلاً، وقد كتب السيد الوالد أيضاً (رحمة الله تعالى عليه) حول ذلك مجموعة من الكتب، من جملتها كتاب "الفقه: ج100 الحقوق" من موسوعة الفقه
وفي العديد من كتبه بيّن سماحته أن لا تعذيب في الإسلام على الإطلاق، كما كتب حول ذلك عدد من الأعلام، ولعلنا سنخصص لهذا الموضوع بحثاً مستقلاً، إن شاء الله تعالى.
اضف تعليق