مقدمة
هذا الموضوع يسعى لتحليل العلاقة المعقدة بين الديمقراطية والتنمية، وهو السؤال الذي شغل الأكاديميين وصناع السياسة لعدة عقود. سنبدأ بتعريف المفاهيم الاساسية للديمقراطية، بأدنى وأعلى صورها، وكذلك التنمية. سنسلط الضوء على اهمية الديمقراطية كعملية وعلى التنمية كمحصلة، ثم سنقيّم الارتباطات السببية الأساسية بين الديمقراطية والتنمية، لابد من مناقشة نظرية التحديث وظهور الديمقراطية، وفكرة ان الديمقراطية شرط مسبق للتنمية، والوقوف على الحجة المعارضة لها بان الانظمة التوتاليتارية هي أفضل في تعزيز التنمية. سننظر ايضا في بعض التحديات التي تواجه الديمقراطيات الناشئة ونعرض رؤية جديدة نحو نظرية التحديث. واخيراً سنلخص بعض نصوص الادب التي تشير الى عدم وجود دليل راسخ ونهائي يربط بين الديمقراطية والتنمية. وعلى هذا الاساس، يتم التأكيد على القيمة الداخلية للعملية الديمقراطية، وضرورة التخفيف من التوقعات التي بُنيت على الديمقراطيات (الناشئة) في خلق نتائج تنموية.
اولا: تعريف المفاهيم الاساسية
1) الديمقراطية: تعاريف مبسطة
يمكن تعريف النظام الديمقراطي في مستواه الاساسي بمصطلحات اجرائية كـ "ترتيبات مؤسسية للوصول للقرارات السياسية التي يكتسب بها الافراد السلطة بوسائل الصراع التنافسي عبر كسب اصوات الناس"(شمبتر 1942)(1). وبالتوسع في التعريف، يحدد داهل(1971)(2) سبعة معايير اساسية للديمقراطية، ويفضل الاشارة اليها بـنظام الحكم بأكثر من حاكم بولاركي (لا ديمقراطي ولا دكتاتوري). هذا يتضمن:
- السيطرة على القرارات الحكومية بشأن السياسة المنوطة مؤسسيا بمسؤولين منتخبين.
- انتخابات دورية حرة وعادلة
- اقتراع عام للراشدين
- الحق بإدارة الادارات العامة
- حرية التعبير
- حق الحصول على مصادر المعلومات التي لا تُحتكر لا من الحكومة ولا من اي جماعة منفردة
- حرية التجمع (مثل حق الانتساب وتشكيل منظمات مستقلة مثل الاحزاب السياسية وجماعات المصالح وغيرها).
ان تعريف داهل للديمقراطية الشكلية، وان كان لا يزال معتدلا فهو يتضمن الحريات المدنية الاساسية التي هي يجب، وفق المبدأ، ان تضمن ان تكون العملية الديمقراطية جامعة، متحررة من القمع وتمكّن المواطنين من المشاركة باسلوب واع ومستقل. غير ان التركيز في هذا التعريف لازال منصبا على الطعن القضائي، وعلى العملية الانتخابية ذاتها. ولفترة طويلة، كانت المجموعة الدولية تميل لتضع ايمان كبير في الاهمية الحاسمة للانتخابات وما تحققه لعملية الدمقرطة – هناك افتراض ضمني بان الانتخابات سوف لن تكون مجرد حجر اساس وانما هي مولّد اساسي وعلى مر الزمن لإصلاحات ديمقراطية اخرى.
2) الديمقراطية: تعاريف أكثر اهمية
من جهة اخرى، وكما يتضح وبشكل متزايد من ظهور الديمقراطيات الجديدة في عدة مناطق من العالم النامي منذ الثمانينات، لا تعني عملية الدمقرطة فقط التحول الى الديمقراطية الشكلية، وانما ايضا تقوية وترسيخ دعائم هذا النظام الديمقراطي. وكما وجد المحللون، الاعتماد على التعريف الاصلاحي للديمقراطية لا يمكنه مواجهة التحديات المحيطة بالأنظمة التي باشرت التحول لكنها لم ترسخ بعد هياكلها الديمقراطية الاولية. وبالتالي، يتجه عدد متزايد من خبراء الديمقراطية نحو تعريف أكثر موضوعية للديمقراطية، وهو التعريف الذي يعطي اهمية أكبر لدور واهمية المسائلة.
هناك ثلاثة ابعاد للمسائلة التي تتميز بـ:
1- مسائلة عمودية، تمكّن المواطنين من مسائلة قادتهم السياسيين عبر قنوات الاقتراع في فترات زمنية محددة.
2- مسائلة افقية، تشير الى آليات المسائلة التي توجد ضمن هيئات متميزة للحكومة ذاتها، بموجبها يصبح لمؤسسات الدولة السلطة والرغبة في الاشراف والتوجيه ومعالجة ومعاقبة (ان تطلب الامر)، الافعال غير القانونية الصادرة من جانب مؤسسات اخرى للدولة.
3- مسائلة مجتمعية، تشير للوظائف المستمرة من رقابة المؤسسات المدنية والمنظمات غير الحكومية والاعلام الواسع المستقل على افعال الدولة.
هذا النموذج للديمقراطية التمثيلية الليبرالية – الذي يرتكز على عملية انتخابية عادلة، واحترام الحقوق المدنية والسياسية الاساسية، وتوفير آليات ضرورية للمسائلة تعطي جوهرا للديمقراطية – اكتسب رواجا عالميا متزايدا عبر العقدين الماضيين. وكما تذكر Amartya Sen(1999a)، ان الديمقراطية اصبحت "قيمة عالمية"(3). هذا الاجماع العالمي الناشيء عرضته مجموعة الديمقراطيات (CD)(4). من خلال إعلانها في وارشو والبيانات اللاحقة. جماعة الديمقراطيات كانت اول منظمة بين الحكومات من الديمقراطيات المؤسسة والدول الديمقراطية التي سعت لتعريف وتقييم ماهية الديمقراطية، بالإضافة الى العمل بشكل جماعي لدعمها وتعميقها حيثما توجد، والدفاع عنها حالما تتعرض للتهديد، رغم ان بياناتها ليست ملزمة.
ومن جهة اخرى تعرضت هذه الفكرة لليبرالية الديمقراطية للانتقاد في حلقات معينة باعتبارها شديدة النخبوية، وان المشاركة فيها مهملة. هذه النقاشات حول الديمقراطية الموضوعية وضعت اهتماما كبيرا بالعمليات الجمعية والتداولية والتشاركية. وكما يوضح جون كافينتا في، "تعميق الديمقراطية" على عنصر هام في نقاش الديمقراطية يركز على المشروع السياسي في تطوير والحفاظ على مشاركة أكبر للمواطنين في العملية السياسية قياسا بما يوجد عادة في الديمقراطية الممثلة لوحدها. ورغم انها لاتزال بعيدة عن الكمال، لكن المؤسسات في كل من البرازيل بعد الحكم السلطوي وجنوب افريقيا بعد النظام العنصري تقدم امثلة للمحاولات المقصودة نحو حوكمة اكثر اهمية ومشاركة سياسية(بما فيها تقديم ميزانيات تشاركية، مثلا).
3) الديمقراطية والتنمية: تحديد ظروف العلاقة
في دراسات التنمية والسياسة المقارنة برزت بعض النقاشات التي تستكشف العلاقة بين الديمقراطية والتنمية. ان اول من بحث الارتباط الايجابي (المستوى العالي) بين الثروة والديمقراطية (القائمة)، كان (مارتن لبست) في مقالته الشهيرة عام 1959 "بعض الشروط الاجتماعية المسبقة للديمقراطية"(5)، والتي كانت اقوى العلاقات واكثرها ديمومة في العلوم الاجتماعية. في الحقيقة، ان النظام الديمقراطي لم يسقط ابدا بعد بلوغه مستوى معين للدخل (6055 دولار لكل فرد مقاسا بسلة من حسابات الناتج المحلي الاجمالي لعدة دول). غير ان قوة العلاقة هذه لا تعني وجود سببية، ولهذا فان الاكاديميين ومحللي التنمية وصناع السياسة انشغلوا لفترة طويلة في ازاحة الغموض عن العلاقة المعقدة بين التنمية والديمقراطية ومحاولة تقرير ان كان هناك ارتباط سببيا بين الاثنين.
الاجابة على السؤال بشأن الارتباط بين الديمقراطية والتنمية سوف تعتمد بالطبع على الكيفية التي يعرّف بها المرء "التنمية". اذا كان المرء يتبع Sen(1999b) ويتبنى تعريف التنمية كـ"حرية" – وهو التعريف الواسع الذي يضم ليس فقط المؤشرات الاقتصادية وانما ايضا الحريات مثل الحقوق السياسية والانسانية، الفرص الاجتماعية، ضمانات الشفافية وحماية الامن، فان الديمقراطية يجب ان تقود الى التنمية. اضافة الى ذلك، النقاشات الاخيرة عن اتجاه التنمية المرتكزة على الحقوق ايضا تركز على المشاركة والمسائلة وعناصر اخرى مشابهة جدا للقيم التي تؤطر الاشكال الموضوعية للديمقراطية. لكن، مع ان هناك قيمة كبيرة في فهم التنمية في مثل هذه الطريقة الشمولية، فان هذا الاتجاه يثير مشاكل مفاهيمية. تعريف التنمية وفق العلاقة مع العديد من الخصائص الملازمة للديمقراطية (بما في ذلك الحقوق والمسائلة) يجعل من الصعب جدا من الناحية التحليلية ايجاد فرق بين المصطلحين او القدرة على ازالة الالتباس في العلاقة بين الاثنين. ولهذا السبب، ربما من المفيد تبنّي تعريف نوعا ما اضيق للتنمية. وطبقا لجوزيف ستجلز عام 2003(6)، التنمية وفق هذه الاهداف تُفهم كـ "تحول للمجتمع" يتجاوز النمو الاقتصادي ليتضمن ابعاد اجتماعية مثل الابجدية، توزيع الدخل، توقعات الحياة، الخ – العوامل التي المّ بها مؤشر التنمية الانسانية. كذلك يجب ان تتضمن التنمية بعض ابعاد إعادة توزيع الثروة.
هناك ايضا نقاش حول ما اذا كانت الديمقراطية "الحقيقية" يمكن انجازها فقط في تلك الانظمة السياسية التي تدعم التنمية، المساواة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية. ولكن وكما لاحظ العديد من المحللين مثل (شمبتر و كارل 1996)(7) بانه لاشيء متأصل في طبيعة النظام الديمقراطي بحيث يجب ان يقود اوتوماتيكيا الى محصلات معينة. هذا الفهم المفرط للديمقراطية ربما في الحقيقة يشكل عبئا على المفهوم، وانه يضع توقعات غير واقعية حول ما يجب ان ينجزه النظام الديمقراطي فقط لفضيلة كونه ديمقراطي. ان الفرق بين نوع الدولة والنظام يُعتبر اساسيا لهذا النقاش. الوظيفة الاساسية للدولة هي تعزيز النمو الاقتصادي وانجاز نتائج تنموية. نوع النظام يشير الى شكل الحكومة وطريقة عمل القرارات.
هذه الاتجاه اختار تعريف الديمقراطية (كما موضح اعلاه) بالتركيز على العمليات وليس النتائج: لا يجب ان نتوقع من الديمقراطية انتاج افضل محصلة سوسيو اقتصادية لمجرد انها ديمقراطية. وكما جادلت (Sen, 1999a) وآخرون بان العملية الديمقراطية بالفعل لها قيمة داخلية بذاتها، ويجب ان نتوقع ان تصل الى قرارات سياسية بطريقة تضامنية، تشاركية، شفافية ومسؤولية وتمثيل اوسع لمختلف المصالح الاجتماعية.
وحالما تتأسس القيمة الداخلية للديمقراطية، فان السؤال الذي يظل جديرا بالإثارة هو هل الديمقراطية تصنع اختلافا، واذا كان صحيحا، اي نوع من الاختلاف؟ ان الاعتراف المتزايد بالمؤسسات كعوامل رئيسية في رسم نتائج التنمية، وحركة المزيد من الدول الفقيرة نحو الديمقراطية كلاهما زاد من مقدار ملائمة وزخم هذا النقاش الى مدى ابعد. بعض الاسئلة تتضمن التالي. هل التنمية تقود الى الديمقراطية ام العكس؟ ما هي الآلية المؤسسية لخلق الأداء الاقتصادي؟ هل الديمقراطية تعزز التنمية، وهل الحكومات السلطوية ملائمة اكثر للقيام بتلك المهمة؟ وهل التنمية الاقتصادية ضرورية لتمكين الديمقراطيات في العالم النامي كي تتعمق وتصبح راسخة؟ سنعالج هذه الاسئلة تباعا.
ثالثا- الديمقراطية والتنمية: تقييم الارتباطات السببية الرئيسية
1- نظرية التحديث وظهور الديمقراطية
في الستينات والسبعينات من القرن الماضي كان الجدال الذي اكتسب اهمية كبيرة في الاوساط الاكاديمية والحلقات السياسية هو ان الديمقراطية يُحتمل جدا ان تبرز في دول ذات مستويات عالية من التطور السوسيواقتصادي (Lipset 1959: Almond and verba 1936, Moore 1966). وتأسيسا على تحليل (لبست) الذي يؤكد على نقطة واحدة وهي ان الثروة الاقتصادية "شرط مسبق للديمقراطية"، فان العديد من المحللين والاكاديميين فسروا هذه العلاقة بما يعني ان التنمية هي شرط مسبق للديمقراطية. هذا الاتجاه التحديثي للدمقرطة فهم بروز الديمقراطية كنتيجة للتحول في البناء الطبقي، صعود البرجوازية، التنمية الاقتصادية، زيادة التمدين، التطور المسبق للقيم الديمقراطية، العوامل الدينية والثقافية الاخرى.
هكذا، طبقا لهذه القراءة، فان ظهور الديمقراطية هو سبب داخلي لعملية التطور الاجتماعي والاقتصادي – هناك تقدم خطي نحو التحديث يبلغ في النهاية ذروته في الديمقراطية. بكلمة اخرى، حالما تكتسب الانظمة اللاديمقراطية مستوى معين او حد اقصى من التطور الاقتصادي والنضج الاجتماعي، فهي ستصبح حتما ديمقراطية. طبقا لاتجاه التحديث، فان، ظهور الديمقراطية يجب ان يُرى كذروة انجاز لعملية طويلة من التحديث، او كأناقة تستطيع الدول الغنية تقديمها في النهاية.
غير ان ما سمي بالموجة الثالثة من الدمقرطة التي اكتسحت معظم العالم النامي بدءاً من الثمانينات خلقت تحديا لهذا المفهوم من "الشروط المسبقة" للديمقراطية.
ومنذ ذلك الوقت، كانت معظم الحركات نحو الديمقراطية الرسمية قد حدثت في بلدان لا يُتوقع فيها مثل هذا التحول نظرا للمستويات الواطئة للتطور الاقتصادي وغيره من المؤشرات السوسيواقتصادية. حيث كما لوحظ في عدد كبير من الدول التي مارست التحول نحو الديمقراطية اثناء الموجة الثالثة كيف انها جاءت في اسفل ثالث مؤشر للتنمية الانسانية. تحولات الموجة الثالثة ايضا رفضت الجدال الثقافي بان الديمقراطية لا تنسجم مع قيم دينية معينة. كذلك، العديد من الانظمة السلطوية كانت قادرة على البقاء حتى بعد وصولها مستوى عالي من التطور، لذا لا يبدو هناك تقدم طبيعي من السلطوية الى الديمقراطية بعد بلوغ نوع تنموي معين "اقصى حد".
استجابة لمحددات نظرية التحديث، نشأ ادب منذ الثمانينات يسعى لفهم التحول الديمقراطي وفق اتجاه عملياتي process- oriented approach. هذا الادب يؤكد على اهمية القرارات، الافكار والتفاعل بين العوامل السياسية المحلية الاستراتيجية في خلق التحول في اماكن غير محتملة، بينما يعترف باهمية العوامل الهيكلية في تشكيل خيارات الفعل بدرجات مختلفة. تركيز هذا الادب هو على تفاعلات النخب. في بعض الحالات، تعبئة اجتماعية واسعة النطاق و(تهديد بالعنف) والاحتجاجات من الاسفل كانت مؤثرة في خلق التغيير الديمقراطي. هذا كان ملحوظا في كل من جنوب افريقيا والفلبين واوكرانيا مؤخرا.
لذا، فان اجماع عالمي واسع نشأ ليؤكد ان التنمية الاقتصادية بحد ذاتها هي غير ضرورية ولا هي شرط كافي لنشوء الديمقراطية. من جهة اخرى، ما وراء هذا الاتفاق العام حول حقيقة ان هناك لا وجود لشروط مسبقة هيكلية لظهور الديمقراطية، فان طبيعة العلاقة بين الديمقراطية والتنمية تبقى قضية مثيرة للجدال. فمثلا، يجادل البعض ان الديمقراطية في الحقيقة شرط هام مسبق لتعزيز التنمية، بينما آخرون اكّدوا على العكس، ان الانظمة السلطوية تناسب المهمة بشكل افضل. سنحاول الان استكشاف كلا الحجتين.
2- حجة "الديمقراطية اولا": هل كل الاشياء الجيدة تأتي مجتمعة؟
ان جوهر هذه الحجة هو ان الديمقراطية تساعد في تعزيز التنمية (اكثر مما في العكس) يقوم على اساس بعض الخصائص المؤسسية للأنظمة الديمقراطية – اي آلياتها في المسائلة وتزويد نظام المراقبة والفصل بين السلطات. هذه الخصائص تلعب دورا اساسيا في تضييق استغلال سلطة الدولة، من خلال الانتخابات والعمليات الاخرى. هي ايضا توفر انظمة للمكافئات والعقوبات، شفافة، دورية، موثوقة (بالنسبة للقواعد وليس النتائج).
هذه الخصائص المؤسسية (الوظيفية) للديمقراطية توضح لماذا لم تحدث مجاعة في الانظمة الديمقراطية.
من جهة اخرى، كانت موجة التفاؤل الديمقراطي التي صاحبت هذا التحول الهام نحو الديمقراطية في عدد كبير من الدول النامية – والتي وصفها فوكوياما عام 1992(8) بنهاية التاريخ – ربما ذاتها بنت توقعات عالية حول ما يمكن ان تحققه هذه الانظمة الديمقراطية الناشئة توا.
ارثودكسية جديدة، قلبت افتراضات نظرية التحديث راسا على عقب، نشأت بين المجموعة الدولية (خاصة بين المانحين) بدءا من التسعينات تؤكد ان الديمقراطية ليست محصلة او نتيجة للتنمية وانما هي مكون وعنصر ضروري لخلقها. هذا التفكير يؤطر معظم "برامج الحوكمة الجيدة" التي كرستها المجموعة الدولية. تلك البرامج متعلقة اساسا بقواعد وممارسات بموجبها يتم اختيار الحكومات وتُمارس في ظلها سلطات الدولة. ان الحوكمة الجيدة تؤكد على اهمية الشفافية والمسائلة (الافقية والعمودية)، وهي ايضا تستدعي عمليات صنع قرارات تشاركية تضامنية واسعة كشرط اساسي لتعزيز فعال للتنمية.
3- حجة "التنمية اولا": هل الغايات تبرر الوسائل؟
ان هذه النزعة الطبيعية للنظام الديمقراطي في التجزئة والانتشار وتقسيم السلطة بين مختلف اصحاب المصالح بمختلف المستويات، سواء ضمن الدولة او بين مجموعة اللاعبين، ومن ثم جعل عملية صنع القرارات اكثر استهلاكا للوقت، كل ذلك قاد العديد من المحللين للجدال بان الانظمة السلطوية في العالم النامي ربما افضل من الديمقراطية لتعزيز التنمية الاقتصادية.
جوهر هذه الحجة هي ان التنمية تتطلب حكومة قوية مركزية عالية الاستقلال خاصة عندما تحتاج الدول الفقيرة لتلعب مسيرة اللحاق وان السياسات الديمقراطية هي ببساطة شديدة الفوضى ولا يمكن التنبؤ بها لتوفير مثل هذا البناء. في النظام السلطوي، يتمتع اللاعبون في الدولة بأفق زمني طويل طالما لا يحتاجون للقلق على السياسة القصيرة الاجل التي تنشأ من الحلقات الانتخابية.
تجربة نمور اسيا (كوريا، تايوان، سنغافورة، هونك كونك) تثبت فرضية ان الانظمة السلطوية هي اكثر فاعلية من الانظمة الديمقراطية في تسريع التنمية الاقتصادية، حيث ان الدولة هي التي تقود النمو الاقتصادي السريع والتحول السوسيواقتصادي بدءا من الستينات وحتى التسعينات من القرن الماضي. مؤخرا اضيفت الصين وفيتنام لدعم هذا الدليل.
ومن جهة اخرى، ليس من المؤكد ان الحاكم السلطوي سيكون دائما مهتما بلعب دور ايجابي في عملية التنمية. على العكس تماما، الامثلة التاريخية عن الدول السلطوية المضادة للتنمية في افريقيا وامريكا اللاتينية وشرق اوربا والاتحاد السوفيتي السابق كانت غزيرة. في الحقيقة، احدى الانتقادات لـمدرسة افكار (التنمية اولا، والديمقراطية ثانيا)، هي انها تثق بالدليل التجريبي الذي هو محدود جدا وانتقائي بشكل كبير. بمعنى ان المراهنة على فاعلية تنموية كبيرة لهذه الانظمة يتضمن رهانا خطيرا، وانه لا يمكن التحقق منها نظريا كون الغايات تبرر الوسائل.
كذلك، يمكن ايضا اقامة الحجة على ان العديد من الدول السلطوية، المركزية، ذات الاستقلالية العالية في صنع القرار لعبت دورا كبيرا في تعميق سلسلة من الكوارث الاقتصادية، وان مثل هذه الكوارث كانت اما اقل عمقا او حتى ممكن تجنبها لو كانت هناك آلية ديمقراطية فعالة لإبقاء السلطة التنفيذية تحت المراقبة. هذا بالتأكيد ينطبق على ازمة بيسو المكسيك عام 1994 والتي كانت من أعمق الكوارث في المكسيك والمنطقة.
4- التحديات التي جسدتها الاقتصاديات الناشئة: نحو اجماع جديد لنظرة جديدة للتحديث
كما لاحظنا اعلاه، ان الموجة الثالثة من الدمقرطة في العالم النامي تؤكد الاعتقاد بعدم وجود شروط مسبقة هيكلية لظهور الديمقراطية. من جهة اخرى، هاك فقط عدد محدود من الدول باشرت التحول الديمقراطي ونجحت في تأسيس انظمة ديمقراطية متماسكة رصينة. مقابل هذه الخلفية، العديد من المحللين توصلوا الى اجماع بان العوامل الهيكلية –مثل الشروط المؤسسية والاجتماعية والميراث– ربما لها تأثير هام على نجاح العملية الديمقراطية. هم يقولون، مع القليل من الاستثناءات (الهند وكوستاريكا)، فان جميع الديمقراطيات التي يمكن اعتبارها متماسكة هي ثرية.
فوق كل ذلك، التماسك الديمقراطي يتطلب تطوير ثقافة سياسية ديمقراطية فيها جميع اللاعبين السياسيين الرئيسيين (سواء النخب او الجماهير)، الاحزاب، جماعات المصالح المنظمة، المؤسسات والقوى تقبل بالرؤية بان الديمقراطية هي (اللعبة الوحيدة في المدينة). بكلمة اخرى، العملية الديمقراطية هي الوسيلة الشرعية الوحيدة للحصول على السلطة. لابد من الاعتراف ان بناء وتقوية مثل هذا البناء السياسي الديمقراطي ملزم في ان يأخذ وقتا طويلا، وهذا هو التحدي الرئيسي الذي تواجهه الانظمة اليوم.
في الحقيقة، ان تأسيس ارتباط سببي بين التنمية وديمقراطية دائمة يشير الى ان بعض رؤى نظرية التحديث ربما هي اكثر فائدة. نظرية التحديث تفترض ان مستويات عالية من التطور الاقتصادي يساهم في استقرار الديمقراطية حالما تتأسس لأنها تُضعف الاستقطاب عبر تخفيف الصراع الطبقي وتكريس عدم التطرف في الصراع السياسي. بما ان زيادة مستويات التنمية يقلل من حجم اللامساواة، فان الصراعات التوزيعية تصبح اقل اهتماما والرؤى لتطوير السياسة بين الناس تصبح اكثر تدرجا. الثقافة السياسية المتسامحة والمعتدلة هي ايضا يتم تسهيلها عبر زيادة فرص التعليم والتي هي ذاتها نتاج للتحديث. كذلك تعجل التنمية الاقتصادية من نمو المجتمع المدني.
في دراسة طموحة ومثيرة للجدل تنظر في العلاقة السببية بين الديمقراطية والتنمية واتجاه هذه العلاقة السببية في 135 دولة (بما فيها الديمقراطيات القائمة والدول التي في طريقها للديمقراطية) بين عام 1950 و 1990 وجد Adam prizeworsk وزملائه (2000)(9)، انه بينما المؤسسات السياسية هامة فعلا، لكن نوع النظام ليس له تأثير هام على النمو الاقتصادي للدول او على الدخل القومي. طبقا للمؤلفين، فيما اذا كانت الديمقراطية تعزز او تكبح التنمية يبقى سؤالا مفتوحا، ونتائج العلاقة بين نوع النظام والتنمية الاقتصادية يبقى بلا حل. الدرس الرئيسي من هذه التحليلات ربما ان مختلف الانظمة السياسية قادرة على تطبيق سياسات متشابهة، وانه ربما لهذا السبب يصبح من المفيد جدا النظر الى انواع الترتيبات المؤسسية التي هي قيد العمل (مثل نظام الحزبين مقابل نظام تعدد الاحزاب) واستراتيجيات تطوير الحكومة، بدلا من نوع النظام السياسي بذاته.
بعض الادب الحديث قام باستطلاع آخر لمعرفة تأثير الدمقرطة على الاهداف التنموية الاخرى، كالنمو والفقر واللامساواة والفساد، فكانت هذه التحليلات توصلت الى ان التأثيرات الايجابية المنسابة من الدمقرطة لمجالات اخرى من الحكومة والتنمية هي ليست اوتوماتيكية وغير مؤكدة، احيانا تكون سلبية كما في حالة الفساد. اذا كان هذا صحيحا، اي، وجود تأثيرات سلبية، وان الديمقراطيات لا تأتي دائما بثمار المساواة وبناء قدرة الدولة، عندئذ لابد من توجيه مزيد من الانتباه الى السياسة والتطبيق. احدى التحديات الرئيسية للمانحين هو ان يكونوا على اطلاع تام بحقيقة انهم، عندما يختارون الكيفية التي يساعدون بها الديمقراطية وتعزيز التنمية، هم ايضا يحتاجون الاخذ بالاعتبار كيف ان نشاطاتهم في مجال معين تؤثر على المجالات الاخرى – وكيف ان هذه بدورها تؤثر او تتأثر بجهود بناء الدولة الواسعة التي ربما تعمل او لا تعمل كليا مع جهود الدمقرطة من جهة وجهود التنمية من جهة اخرى.
الخلاصة
استنتاجات العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليست نهائية، هناك مختلف الحجج التي يمكن استخدامها لدعم كلا الرؤيتين: ان المؤسسات الديمقراطية تلعب دور حاسم في تعزيز التنمية والرؤية المضادة ان الانظمة الدكتاتورية ربما أكثر فاعلية في هذا المسعى. خاصة الدول الفقيرة التي تحتاج للحاق بسرعة. النقاش يبقى بعيد عن التسوية. الادب الحالي الذي يسعى لتحديد العلاقة بين الديمقراطية والتنمية يبقى غير ثابت. وهو ما يشير الى مدى تعقيد ولا خطية العلاقة بين هاتين القوتين. كل دراسة تعطي دليلا لإثبات حجتها من حيث صلة النظام الديمقراطي او النظام السلطوي بالتنمية، فكل حجة تُواجه بحجة مضادة.
اضف تعليق