يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[1]).
في الفصل السابق، في الاستضاءة من الآية القرآنية الكريمة، جرى استنباط بعض مسائل فقه المستقبل، والبحث في هذا الفصل مبني على ذلك، فمن الممكن أن يستند البحث إلى النوع الثاني من الإطلاق الأزماني، وهو غير النوع المعهود والمتداول من بحث الإطلاق الأزماني.
الأمر بالمعروف واجب عيني أو كفائي:
وبإضافة موجزة نترك تفصيلها إلى المبحث القادم إن شاء الله تعالى، فهل (الأحكام التكليفية) في قوله سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهي: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وكذلك (الحكم الوضعي) في: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، هل كل ذلك هو من فروض الأعيان، بمعنى أنها واجبات عينية أم هي واجبات كفائية؟
استظهر صاحب مجمع البيان، أن هذه العناوين المذكورة في الآية الشريفة هي من فروض الأعيان، وليست من الواجبات الكفائية، التي إذا قام بها من فيه الكفاية سقطت عن الآخرين واستدل على ذلك بأنها قد جُعِلت صفات للمؤمنين، فكل من هو مؤمن، مسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يقل بعض المؤمنين وليُّ للبعض الآخر، يأمرون بالمعروف، بل (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف)، فيأمرون صفة لكل المؤمنين.
فعليه، فإن كل مؤمن هو مسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجب عليه ذلك وجوباً عينياً، ونص عبارة مجمع البيان هي: (تدل الآية على أن الأمر والنهي من فروض الأعيان؛ لأن الله جعلهما صفة جميع المؤمنين ولم يخص قوماً دون قوم).
وهنالك بعض النقاش مع صاحب مجمع البيان في هذا الاستظهار نتركه للمستقبل إذا شاء الله تعالى، كما أن هناك بحثاً آخر حول الواجب الكفائي لو صرنا إليه، وهو إن التفسير المشهور للواجب الكفائي هو الذي إذا قام به من فيه الكفاية سقط عن الآخرين، وإذا لم يقم به من فيه الكفاية أثم الجميع، ولكن توجد تصويرات أخرى للواجب الكفائي لوجود إشكال على هذا التعريف المشهور؛ لعدم وفائه لدفع تلك الإشكالات نتركه للمستقبل إن شاء الله تعالى.
وعلى أي حال، فإن البحث يدور الآن حول هذه المسؤولية، سواء أفرضناها واجباً عينياً أم واجباً كفائياً، وأن هذه المسؤولية - باتجاهاتها الأربعة - تارة تكون على الفرد، وتارة على الدولة، وثالثة على المجموع، ورابعة على الجماعة، وهو موضوع البحث، وإن جماعات مؤسسات المجتمع المدني لها مسؤولية تجاه الأفراد، وتجاه المجاميع والجماعات الأخرى وتجاه المجموع وتجاه الدولة، فموضوع البحث هو المحور الثالث، وهو مسؤولية مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني تجاه الجميع أو المجموع، أي جميع الأمة.
المسؤولية تجاه مجموع الأمة في المنظار الديني:
وهذه المسؤولية خطيرة جداً، وتوضح لنا الرواية التالية إطار العلاقة بين الفرد وسائر المجتمع، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال رسول الله: (صلى الله عليه وآله) الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله أو أدخل على أهل بيت سروراً)، وفي رواية أخرى: (خير الناس أنفعهم للناس).
وفي رواية ثالثة: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فهذه الروايات تدل على رؤية شمولية عامة تجاه البشرية بأجمعها، وليس فقط اتجاه الملتزمين بالشرائع أو المسلمين أو اتجاه أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فقط، بل اتجاه كل إنسان، لكن نوع المسؤولية مختلف، فالإنسان عليه أن يلاحظ حاله وموقفه وعطاءه لا بالنسبة لعائلته وعشيرته وشعبه فقط، بل بالنسبة لكل البشرية.
فالخلق إذاً عيال الله، فقد خلقهم الله سبحانه وتعالى جميعاً، فهم عيال لله بأجمعهم، ولو فعلت ما نَفَعَهُم لدنياهم أو لآخرتهم لكنت أنت الرابح؛ لأنك خدمت عيال الله.
نعم، قد يختلف نوع الخدمة، إذ هناك خدمات مشتركة، كتلبية الحاجات المادية من إطعام وإسكان ونظائرهما، وهناك خدمات اٴُخروية وهي مختلفة، فإن خدمتك للكافر مثلاً، أن تهديه إلى سواء السبيل، وأن ترشده إلى طريق الجنة، وخدمتك للفاسق أن تجعل منه إنساناً ورعاً تقياً صالحاً، وتدله على الطريق السالك للجنة، فالخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله ليس الذي يصلي أكثر، أو الذي يصوم أكثر، بل هو أنفعهم للخلائق، حسب هذه الرواية: (أحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله)، و(عيال الله) هم الخلائق بأجمعهم.
(فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً)، والظاهر إن هذا من باب عطف الخاص على العام، وإنه توضيح لذلك بالمصداق، وليس حصراً للمفهوم السابق العام والشامل، فإن من مصاديق (نفع عيال الله) أن يدخل على أهل بيت سروراً، وعلى هذا فإن (فأدخل على بيت سروراً) لا تخصص ما سبقها، وإنما هي من باب التفسير بالمصداق، ومن باب عطف الخاص على العام، وإن احتمل أن يكون (النفع) إشارة للجانب الجسدي المادي و(السرور) إشارة للجانب النفسي.
ولكن هنا يأتي هذا السؤال، وهو: إنه كيف یكون ذلك والإنسان محدود القدرات ومحدود الطاقات؟ أي كيف تقع على الجماعة أو الفرد المسؤولية تجاه الجميع، ليس جميع المسلمين فقط، بل جميع البشرية؟ كيف يمكن أن نقول: إنَّ الجماعة سواء أكانت هيئة حسينية أم حزباً أم منظمةً أم مرجعيةً أم حوزة علميةً أم غيرها، هذه لها مسؤولية تجاه الخلق بأجمعهم، وتجاه المسلمين بأجمعهم، كيف يمكن ذلك؟
والجواب: إن من الصحيح أن القدرة من شرائط التكليف العامّة، لكننا ندعي - كتنقيح للصغرى - بأن من (المقدور)[2] للإنسان أن (ينفع) عبادالله كافة أو أن (يرعاهم).. نعم، إن ذلك ممكن في إطار تقديرات الله سبحانه وتعالى، فلو سلك الإنسان تلك السبل التي مهدها الله سبحانه وتعالى لكان ذلك من الممكن، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)، وذلك كمثل شخص يسأل هل من الممكن أن أصل في ساعة من هذا البلد إلى مكة، والفاصل هو ألفا كيلو متر مثلاً؟ والجواب: نعم إذا وفرت الوسيلة -وهي الطائرة- أمكن ذلك، وإن لم توفرها لم يمكن ذلك، فالأمور بأسبابها و(المقدور بالواسطة مقدور).
الدور الاستراتيجي للمؤسسات العابرة للقارات:
والطريقة لذلك عملية ومجربة، ومع الأسف نحن المسلمون متخلفون في هذه الجهة إلى أبعد الحدود، والآخرون قد سبقونا فأصبحوا هم السادة، والآلية هي (مؤسسات المجتمع المدني العابرة للقارات)، فهي الآلية الطبيعية التي تحتضن هذه المسؤولية الجمعية، وقد اطلعت مؤخراً على إحصاء يدل -مع الأسف- على مدى تقدم الآخرين، ومدى تخلفنا نحن.
فلنلاحظ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) والمسلمين بشكل عام، فكم مؤسسة دولية عابرة للقارات لديهم؟ ونعني بها المؤسسات الدولية التي تُعنى بجميع القارات الخمس أو السبع، وتهتم بكل مسلم، سواء أكان في الصين و اليابان، أم في أمريكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، أم في مصر والسودان وتونس والمغرب والجزائر، أم في القطب الشمالي أو الجنوبي، فكم مؤسسة عابرة للقارات لدینا؟ سواء أكانت مهتمة بالشؤون الدينية، كتأسيس المساجد والمكتبات والمدارس والحسينيات في القارات الخمس، وهداية الناس، وطباعة وتوزيع الكتب على مستوى العالم كله، أو البث بلغات عديدة على فضائيات عديدة، أم كانت مهتمة بالشؤون الحقوقية، أم كانت مهتمة بشؤون الغذاء والأرامل والأيتام على مستوى الكرة الأرضية كلها؟ ولنلاحظ الآخرين من جهة أخرى، إذ يشير هذا الإحصاء الذي تؤكده مجلة حولية تهتم بشؤون المنظمات الدولية، وحسب هذه الحولية - والرقم غريب حقاً - فإن المنظمات الدولية العابرة للحدود التي تُعنى بالشؤون المختلفة الإنسانية وغيرها في العام 1990 م كانت (ستة آلاف) منظمة دولية، وهذا العدد كبير جداً، كما تؤكده هذه الاحصائية، على أن عدد المنظمات غير الحكومية الدولية قد وصل في العام 2006، إلى (خمسين ألف) منظمة دولية، والعدد كبير جداً، والآن[3] نحن في العام 2011، والمنظمات قد ازدادت أكثر من ذلك.
لقد أصبح لمنظمات المجتمع المدني العابرة للقارات دور بارز في تقديم المساعدات الإنمائية، على مستوى العالم، فعند حدوث الكوارث، كم من المنظمات الإسلامية الإنسانية تتصدى لهذه الكوارث الطبيعية في مختلف الدول؟ وما هي نسبة مساهماتهم بالقياس إلى نسبة مساهمات الدول الغربية؟
إن الدول الغربية فرضت هيمنتها على العالم، ليس فقط بالقوة العسكرية وإنما أيضاً بسبب اتباع بعض السبل والطرق والآليات التي من الطبيعي أن تؤدي إلى فرض السيطرة والهيمنة، ومنها المؤسسات الدولية العابرة للقارات، فإن هذه آلية ووسيلة من أهم الوسائل.
إن القائد أو الجماعة التي تعنى بشؤون هذه المحلة أو البلدة أو الدولة فقط لا تستطيع أن تتحمل المسؤولية تجاه مسلمي العالم بأجمعهم مادامت منغلقة التفكير، ومتقوقعة في أطر هذا البلد أو ذاك، لكن هذه الجماعة لو أحست بالمسؤولية- كما هو الواجب شرعاً- تجاه مسلمي العالم، بل تجاه الخلق بأجمعهم، فكان لها هذا النَفَس الدولي، وكانت لها البرامج العابرة للقارات، وكان لها التخطيط والتنفيذ الواسع النطاق، الذي يمتد على امتداد ربوع الأرض، عندئذ كنا سنرى أن الحيوية والفاعلية والريادة تعود للأمة الإسلامية، كما كانت وأفضل.
إن المنظمات والتجمعات العابرة للقارات لا تعترف بالحدود الجغرافية أو العنصرية أو غيرها كحواجز تحول دون التواصل والاتصال، وتجاه تحمُّل المسؤولية.
الرصد والتقييم الاستراتيجي للحالة العامة للأمة:
إن مؤسسات المجتمع المدني عندما تستشعر المسؤولية تجاه الاتجاه العام للأمة، وتجاه الروح العامة للأمة، وعندما يكون في حوزتها مفكرون استراتيجيون، ومراكز دراسات، وعندما يكون هناك تعاون وتكامل بين مختلف المرجعيات والمنظمات، فإن (الأمل) بنجاة مجتمعاتنا من واقعها المزري حضارياً سيكون كبيراً جداً بإذن الله ورسوله وأوصيائه(عليهم السلام).
ومن الضروري في هذا السياق ٲن نلقي نظرة سريعة على ما أشار إليه كتاب (أمريكا والفرصة التاريخية) ومؤلفه هو رئيس الولايات المتحدة الأسبق نيكسون، حيث يتكلم عن مستقبل الولايات المتحدة، وهذا الكتاب في هذا المقطع منه يتضمن عبرة كبيرة لنا؛ إذ يبدي المؤلف قلقه الشديد، وقلق كبار المفكرين الاستراتيجيين هنالك حول مستقبل أمريكا، ويقول: إن أمريكا تواجه خطر الانحدار الحضاري والسقوط الاستراتيجي في المستقبل، لأن هناك أربع مشاكل جوهرية تعصف بأمريكا، ثم يستحث هذا الكتاب مفكري ذلك البلد لكي يضعوا الحلول الاستراتيجية لهذه المشاكل الأربعة.
ولأن الأمور تعرف عندما تقاس بأضدادها أو بأمثالها، لذا سننقل عناوين ما ذكره إذ يقول:
أ- تفكك العوائل:
المشكلة الأولى: هي مشكلة تفكك العوائل، فإن العوائل في أمريكا (والغرب عموماً) متحطمة إلى أبعد الحدود.
وأقول: إن هذه المشكلة- للأسف الشديد- بدأت تنمو في بلادنا أيضاً، وقد ذكرنا في بحث آخر إن إحدى الدول العربية في السنة الماضية وصلت نسبة الطلاق فيها إلى 61 أو 62 بالمائة، بعد أن كانت في العام الماضي 40 بالمائة، وهذا رقم هائل. إن هذا المرض الغريب الذي تعاني منه البلاد الغربية انتقل إلينا، أي مرض تفكك العوائل وانهيارها، وهذا بحث استراتيجي يتعلق بمستقبل الأمة الإسلامية كلها، ويتطلب الأمر أن ندرس هذه الأمراض الموجودة عندهم وعندنا، والأسباب والحلول، إذ سبق إن من المسؤوليات الرئيسة لمؤسسات المجتمع المدني أن ترصد الروح العامة للأمة، وأن ترصد الاتجاه العام للأمة بنقاط ضعفها ونقاط قوتها.
ب- المخدرات:
والمشكلة الثانية: التي يشير إليها الكتاب: هي المخدرات التي تعصف بذلك البلد، والنسبة في ازدياد، ويقول: إن كمية المخدرات التي تستهلك في العالم كله في جانب، وكمية المخدرات المستهلكة في أمريكا في جانب!
وأقول: إن بلادنا – أيضاً- تعاني من نفس هذه المشكلة بسبب العصابات التي تغذيها والدول التي تدعمها، والتخطيط القائم، حتّى أصبحت المخدرات جزءاً لا ينفك ولا يتجزأ من شخصية الكثير من الناس، إن لم نقل من شخصية هذه الأمة، وياللأسف.
ج- انخفاض مستوى التعليم:
والمشكلة الثالثة: التي يذكرها، هي انخفاض مستوى التعليم، كمّاً وكيفاً، يقول: كان الشباب سابقاً عندنا يدرسون بجدية فائقة، لكن الوضع الآن اختلف بسبب التلفزيون والسينما وغيرها من الأجهزة التي انتشرت، وحوّلت اهتمامات الشباب، بل واتجاهاتهم، ويستشهد في كتابه أيضاً على انخفاض مستوى التعليم وكَمِّه فيقول: أيام الدراسة في أمريكا – ولعله للمدارس الثانوية - هي 230 يوماً بالسنة، لكنها في اليابان تبلغ 270 يوماً بالسنة، فيقارن بين 230 يوماً وبين 270 يوماً، والناتج هو فارق 40 يوماً، وهذا يعني أن تتقدم اليابان عليهم بهذا الرقم سنوياً، فماذا سيحدث خلال جيل أو جيلين؟ والجيل هو 20 سنة أو 25 سنة، وهو العمر التقريبي المتوسط للجيل، ما الذي سيحدث؟
وأقول: لننتقل إلى بلادنا، فنرى النسبة العامة من خريجي الجامعات يدرس في الجامعة لكي يتوظف لا غير، وليس عنده ذلك الطموح ليصير مثل هشام بن الحكم أو جابر الجعفي، أو مثل نصير الدين الطوسي، أو العلامة الحلي أو الشيخ الصدوق أو الكليني أو الشيخ البهائي والعلامة المجلسي، أو من أشبه، إن القليل من جامعاتنا تنتج العلماء اللامعين، وهذه المشكلة توجد في الحوزات العلمية بدرجة ما، وفي الجامعات بشكل أكبر.
فهذه المقارنات يعكف عليها المفكرون الاستراتيجيون، فلابد من رصد ودراسة الاتجاه العام للأمة الإسلامية باستمرار وفي مختلف الجهات، في التعليم والتربية، وفي الطب والهندسة والتكنولوجية الرفيعة، والمحاماة والحقوق، وفي العلاقات الدولية والسياسة والاقتصاد والاجتماع، وكثيراً ما يجري تقييم الاتجاه العام لطلابنا في الجامعات الهندسية والطبية، وهذا ممتاز، ولكن الأمة لا تنهض بالمهندسين والأطباء فقط، فإن لدينا حاجة كبیرة للعلماء والخبراء في الاقتصاد، حتى لا تعصف بنا، هذه الأعاصير الاقتصادية في سوق البورصة والأسهم وغيرها، وللعلماء والخبراء في السياسة كي لا نكون ألعوبة بأيدي الآخرين، وهكذا وهلم جرّا.
د- مستقبل الشباب الضائع:
والمشكلة الرابعة: التي يذكرها الكتاب، (وهي مشكلة غريبة، والغريب أيضاً أنها في بلادنا موجودة كذلك، ولكنهم يفكرون في الحلول، ونحن لا نفكر، أو الكثير منّا لا يفكر، ومؤسسات المجتمع المدني –عادة- ليست في هذا الوارد (يقول: إن المشكلة الرابعة: هي إن عندنا كماً هائلاً من الشباب الضائع، وليس هنالك إحصاءً دقيقاً حول ذلك، ولكن يخمن الخبراء بأن عددهم من عشرين إلى ثلاثين مليون (في ذلك الوقت طبعاً)، وهم من الشباب الذين لا نعلم إن مستقبلهم سيكون بيد من؟ وأن هؤلاء الشباب لا يمتلكون احساساً بالهوية، وليس عندهم انتماء، ونحن لا ندري أية جماعة ستأتي وتسيّر هؤلاء الشباب بالاتجاه الذي تريده؟ وإن مستقبل أمريكا- حسب كلامه- في خطر، لأنه لا يعلم من سيصطاد هؤلاء الشباب ويوجههم كما يريد!
أقول: والآن نلاحظ في البلاد الإسلامية أعداداً هائلة من الشباب الضائع عندنا- مع الأسف- حتى إنه لا توجد حتّى إحصائيات تقريبية عن أعدادهم، ولكن ليخرج الإنسان إلى الجامعات وإلى الأسواق، وسوف يجد أنَّ نسبة كبيرة جداً من الشباب، بل الكبار والصغار ليس عندهم ذاك الإحساس بالانتماء القوي، بل حتّى بالانتماء، وليس عندهم تلك الرؤية الاستراتيجية، ولا الاحساس بمسؤوليته ووظائفه تجاه شعبه ووطنه و أمته، فأولئك الشباب الذين يمكن أن يسرقوا هم بالملايين، وقد يكونون بعشرات الملايين، والواجب الاستراتيجي يقتضي من مؤسسات المجتمع المدني أن تخطط لكل ذلك.
فهذه إذن أبعاد أربعة قد أشرنا إليها، ولكن الأمر أوسع من ذلك بكثير، فمن مسؤولیات مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني الرئيسية أن تلاحظ وترصد:
أ- الاتجاه العام لحركة الأمة.
ب -الاتجاه العام لحركة الجماعات.
ج- الاتجاه العام لحركة الدول.
د- الاتجاه العام لحركة المفاتيح والقيادات، بل وحتى الأفراد، وإلیٰ أين يسير هذا الاتجاه العام ؟
البقيع وسامراء المقدسة والربيع العربي:
ولنستشهد أخيراً بأربعة شواهد لها دلالة بالغة لنلاحظ عبرها وفي مرآتها (مشاكلنا النفسية والحضارية).
الشاهد الأول: وهو البقيع الذي مضیٰ على هدمه حوالي 87 عاماً، لكن الغريب هو طريقة تعاملنا مع هذا الحدث المأساوي الكبير، فإن مثلنا كمثل الإنسان الذي يعاني من مرض ما، والذي تجده في الأيام الأولى للمرض يبدأ بمكافحته، ثم شيئاً فشيئاً يستسلم للمرض، ويفقد الإحساس بضرورة أو حتّى بجدوائية المقاومة، وهذا مرض خطير يكشف عن الاتجاه العام لنا مع الأسف، وبذلك يتأكد أكثر فأكثر ضرورة وجود مؤسسات المجتمع الإيماني والمدني التي ترصد هذه الظلامات، وهذه الحالة العامة، وتخطط لتغييرها ليل نهار.
الشاهد الثاني: هو قضية سامراء، وهي مأساة مدوّية في تاريخ البشرية، والأغرب هو تباطؤنا عن إعمار سامراء وتقصير الحكومة بالذات، إن هذا الإنسان الذي لا يحمي أقدس مقدساته، ولا حتى عندما يطعن في كرامته، ستجده في أماكن أخرى وفي أبعاد أخرى، يتصرف بنفس الطريقة؛ لأن الروح واحدة، والشاكلة النفسية هي بنفسها، والإنسان المجاهد هو مجاهد حيثما وضعته، والآخر المتخاذل هو متخاذل في معظم الحالات، أو كلها، والأغرب من ذلك ان أعدادنا -نحن أتباع أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)- هي بمئات الملايين، وأعداد المسلمين يقارب المليارين، هذه هي مقدسات كل المسلمين باستثناء شذاذ الآفاق من الوهابيين والسلفيين، ومع ذلك لا نحرك ساكناً! إن المأساة حقاً هي أن الروح العامة في الأمة الإسلامية تتسم بالتخاذل والتكاسل، ويدل على ذلك:
الشاهد الثالث: وهو القدس المحتلة من قبل أقلية يهودية غاصبة، مع إنهم لا يعدّون إلا كقطرة في بحر المسلمين، لكنهم منذ العام 1967 وحتى الآن يسيطرون على أولى القبلتين وسائر المقدسات هناك، فما نحن صانعون؟
الشاهد الرابع: إن الحكومات الجائرة تظلم شعوبها، في تونس أو في مصر أو إيران أو سوريا أو البحرين أو سائر الدول، لكن يجب أن نتساءل عن بقية المسلمين في العالم، ما الذي يفعلونه؟ إنهم قد يتعاطفون مع الشعب، ولكن عملياً ما الذي يفعلونه؟ أين ذلك النتاج العملي الذي يترجم الإحساس بالمسؤولية العامة للأفراد ولمؤسسات المجتمع المدني تجاه الأمة جمعاء؟ إن البحث لهو من البحوث الاستراتيجية والمحورية والمفصلية، والذي يحتاج إلى أن نتوقف عنده طويلاً طويلاً.
يقول الله سبحانه وتعالى (: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق