q

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1].

المسؤولية عن الحاضر والمستقبل:

لدى الاستضاءة والاستنارة والتزود عبر التدبر في هذه الآية القرآنية الكريمة، نكتشف بعداً جديداً من أبعاد مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني، وذلك البعد هو مسؤوليتها تجاه مستقبل الأمة، فإن الإنسان مسؤول عن الحاضر، كما هو واضح، ولكنه مسؤول أيضاً عن المستقبل، ففي قوله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) تتبين المسؤولية عن الحاضر، بما يتعلق بالأولاد مثلاً، كي لا ينحرفوا عن الدرب، ولا يخرجوا عن سواء السبيل، ولكن المسؤولية هذه قائمة عن المستقبل بعد خمسين سنة مثلاً.

المسؤولية (عن المستقبل) و(في المستقبل):

فهناك (مسؤولية في المستقبل) وهناك (مسؤولية عن المستقبل) والفرق بين الأمرين دقيق[2]؛ إذ نلاحظ أن لهذه الآية إطلاقاً أزمانياً، كما جرى بحثه، لكن الكلام في المسؤولية عن المستقبل يختلف بعض الاختلاف عن الإطلاق الأزماني، وتوضيح ذلك: أن الولاية في (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) تمثل المسؤولية في اليوم، وكذا أمس وغدا، وهذا يعني الإطلاق الأزماني؛ إذ إن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست متعلقة بزمن معين، بل بالماضي وبالحاضر وبالمستقبل، وفي أية قطعة زمنية وُجِد الإنسان من خلال الإطلاق الأزماني.

وهو أمر واضح، وهو الذي يذكره الأصوليون عادة، لكن الذي نشير إليه حالياً، هو إطلاق أزماني من نوع آخر[3]، وهو المسؤولية تجاه المستقبل، أي المسؤولية في الحال الحاضر (عن المستقبل) والتي تتحملها الأمة أو الجماعة، والبحث هنا منصرف إلى الجماعة أو الفرد لجهة المسؤولية عن المستقبل، كما هي عن الحاضر، من خلال هذا الشكل من الإطلاق الأزماني الذي يرتب مسؤوليتين في آنٍ عن الحاضر والمستقبل، وهذا يحتاج إلى تدبر وإلى بحث معمق.

فعندما يكون الفرد موجوداً في الحاضر فإن مسؤوليته قائمة، وإذا امتد وجوده إلى المستقبل تتجدد المسؤولية لتجدد الموضوع، وهذا واضح في الإطلاق الأزماني، إنما البحث في المسؤولية الآن عن المستقبل المعدوم حالياً، فهذا نوع آخر من الإطلاق الأزماني الذي يحتاج إلى تدبر أصولي، وليس البحث الآن في صدد تنقيح الموضوع الأصولي إنما في الإشارة إلى الوجوب ببرهان الغرض.

فصحيح أن المستقبل معدوم الآن وليس موجوداً، ولكن حفظ أغراض المولى الملزمة واجب، فلو لم أعد المقدمات الآن لفات قطار المستقبل[4]، وإذا قصر الإنسان من هذه الجهة يكون عندئذ مسؤولاً لتفويته الأغراض الملزمة للمولى، لا سمح الله، فيجب من الآن بناء المدارس التي ستسع المقدار المتزايد من التلاميذ بعد خمس سنوات، حيث يزداد أعداد الدارسين، سواء في رياض الأطفال أم في الابتدائية، كما يجب في بناء مدن المستقبل التي تراعي نسبة نمو السكان، فمن الآن يتوجب أن تبنى مكتبات ومدارس ومستوصفات، وأن تلاحظ الكوارث أيضاً، لا سمح الله، فتبنى مياتم وغير ذلك.

وهذه مسؤولية عن المستقبل ننطلق إليها من منطلق حفظ أغراض المولى الملزمة، وهذا له بحث مفصل نكتفي بهذا المقدار، علماً بأن هنالك بوابة أخرى لتثبيت المسؤولية تجاه المستقبل، وهي مبحث الواجب الاستقبالي والوجوب الفعلي، وهذا له تفصيل نتركه لمحله.

فالجماعة مسؤولة عن حاضر الأمة، ومستقبلها، كما هي مسؤولة عن حاضر الجماعات الأخرى، وعن مستقبلها (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فهذه الولاية غير محدودة أو متأطرة بالزمن الحالي، وهي تتسع وتمتد للزمن المستقبلي[5] لبرهان الغرض، أو للوجوب الحالي، وإن كان الواجب استقبالياً أو غير ذلك.

المسؤولية تجاه الأجيال القادمة:

وكان السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) وعلى كافة علمائنا الأبرار يبحث هذه القضية بشكل آخر في (فقه الاقتصاد) مثلاً، حيث يطرح قضية مسؤولية الدولة، ومسؤولية الأمة تجاه الأجيال القادمة، وأنه لا يجوز شرعاً للدولة وللشعب الحاضر أن يقضي على الثروات ويلتهمها كلها فيحرم الشعب في المستقبل من هذه الثروات، مثل (النَّفط)، ولعل الأصح (النِّفط)[6] فهذه ثروة، وكذلك الغابات فهي ثروة، فلا يحق لك أن نستنفد كل هذه الثروات؛ لأن الأجيال القادمة أيضاً لها حق فيها.

فيجب أن نلاحظ نسبتنا مع الأجيال القادمة فنأخذ حصتنا، وتترك لهم حصتهم، وهذا البحث مرتبط بفقه المستقبل، وله تفصيل مطوّل، وللسيد الوالد (رحمه الله تعالى) كتاب باسم (فقه المستقبل) يتطرق فيه للكثير من هذه القضايا وأشباهها، فهذه الآية الشريفة من الممكن أن نستند إليها استناداً إلى الإطلاق الأزماني من النوع الثاني الذي أشرنا إليه وأوضحناه آنفاً.

وقد جرى البحث في إمكان أن نصنف المسؤوليات المجتمعية إلى أربع مجاميع، وقد وصلنا إلى المجموعة الثالثة، وذكرنا أن الجماعة لو لاحظنا سهم المسؤولية منطلقاً منها، فإن سهم المسؤولية قد يتجه إلى الفرد والأفراد، وقد يتجه إلى الجماعة والجماعات، وقد يتجه إلى الجميع، وقد يتجه إلى الدولة.

وأما محور البحث في هذه الفصل- بإذن الله سبحانه وتعالى- فهو حول مقدمات مسؤولية الجماعة تجاه الجميع، فقد مضى البحث في مسؤولية الجماعة عن الجماعات الأخرى، وعن مسؤولية الجماعة تجاه الدولة، وتبقى مسؤولية الجماعة تجاه الجميع أو المجموع، التي سيأتي تفصيلها في الفصل القادم، ثم مسؤولية الجماعة تجاه الأفراد.

المسؤولية عن جميع ومجموع الأمة:

لتوضيح ذلك، نلاحظ أن كل جماعة وكل مجموعة من جماعات مؤسسات المجتمع المدني أو الإنساني أو الإيماني كما -هما التسميتان الأفضل- مسؤولة عن جميع ومجموع الأمة بما هي مجموع، وذلك يعني- وهي نقطة تغيب عن الأذهان عادة- المسؤولية عن (الروح العامة للأمة) أولاً، وعن (الاتجاه العام للأمة) ثانياً، وهنا موطن الشاهد، فأحدهما يتعلق بالحاضر، والثاني يتعلق بالمستقبل، والروح العامة للأمة هو مبحث غاية في الأهمية، وسنوكل بحثه إلى فرصة أخرى، وسنتوقف الآن قليلاً عند:

الاتجاه العام للأمة:

بمعنى أن هذه الأمة إلى أين تتجه مسيرتها؟ وهذا بحث دقيق، وهو بحث سيال يجري في الفرد، والعائلة، ويجري في مختلف الجماعات والمجاميع، وفي مجموع الأمة بما هي مجموع، وفي الدول أيضاً، ولابد أن نفكر ونتساءل دوماً عن مسيرة هذا الفرد العامة وإنها إلى أين؟ وهذه العائلة والعشيرة والحوزة، أو هذه الجماعة ما هو اتجاهها العام؟ هل هو تصاعدي أم تنازلي أم هو دائري؟ وهذا البحث يعدّ من مباحث علم الاجتماع، وهو من أهم البحوث في هذا العلم، فهل حركة الأمم هي حركة تصاعدية على مر التاريخ، أم هي تنازلية وانحدارية وهبوطية، أم هي دورانية، بمعنى أنها تصعد ثم تنزل وترجع لتدور في نفس الحلقة؟

حركة الأمم تصاعدية أم تنازلية أم دورانية:

فالسيد الوالد (يرحمه الله في كتابه (الفقه الاجتماع) يستظهر أن حركة الأمم العامة هي تصاعدية، ويستشهد فيما يستشهد به ببعثة الأنبياء(عليهم السلام)، حيث إن الأنبياء بعثوا في حركة تصاعدية توّجت ببعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا أيضاً له بحث طويل، وننتخب من البحث ما يرتبط بصميم موضوعنا.

فنقول: إن الرأي المنصور في حركة الأمم والحضارات قد يكون بأن حركتها تصاعدية، لكن هذا لا ينفي أن تكون حركة خصوص هذا الفرد، أو تلك العائلة والعشيرة، أو ذلك الحزب والمنظمة، تنازلية أو متوقفة، كما لا ينفي أن تكون هناك (انتكاسات) صغرى أو كبرى في حركة الأمم، بمعنى أن تبدأ في حقبة تاريخية معينة قد تستمر لعشرات السنين بالتراجع، إلا إنها ستعود من جديد للصعود، تماماً كمن يرتقي جبلاً ثم يواجه في طريقه منخفضاً أو حفرَةَ فإنه يبدأ الهبوط، لكن مع ذلك هو في طريق الصعود أيضاً، وعلى ذلك فإن من اللازم على كل فرد أن يفكر مع نفسه، هل أنّ حركته تصاعدية أم تنازلية؟ وهل كان سابقاً يدرس بجد بدءاً من المتوسطة، ثم الثانوية ثم الجامعة، ثم توقفت مسيرته العلمية أو إنه تراجع؟ وكذلك الأمر في الحوزة، إذ قد يبدأ طالب العلم في الفقه من شرائع الإسلام إلى أن يصل إلى اللمعة، ثم إلى المكاسب والكفاية ثم يتوقف، أو يستمر إلى البحث الخارج ويتصاعد كذلك.

من مقاييس الحركة التنازلية والتصاعدية:

وهذا البحث- أؤكد مرة أخرى- في غاية الأهمية، بل عليه تدور رحى المستقبل بأكمله، كما أنه مبحث شامل يلفّ الأفراد والجماعات والأمة والدولة أيضاً، ففي هذا البحث الاستراتيجي المحوري الحضاري والأخلاقي أيضاً، لابد أن يراقب كل شخص وكل جماعة مسيرته العلمية والعملية والأخلاقية أيضاً، فإن بعض الناس يبدأ متواضعاً ثم بمرور الزمن كلما ازداد رئاسة أو علماً أو قوة أو شهرة يزداد تواضعاً كذلك، فمسيرته إذن هي مسيرة تصاعدية أخلاقية، ولكن قد يتوقف ذلك الإنسان المتواضع السابق، أو أن يتحول إلى متكبر ومستكبر، وكذلك قد يكون المرء كريماً أو شجاعاً في مجابهة الحكومات الجائرة، لكن يجب أن نلاحظ إنه هل استمرت مسيرته تصاعدية إلى أن يقبضه الله إليه، شجاعاً مجاهداً، أو إنه بدأ يتوقف أو يتراجع شيئاً فشيئاً، ولعله سيصير جزءاً من وعاظ السلاطين وحواشيهم بعد أن نفدت إرادته الجدية على الجهاد؟ والأمر كذلك تماماً في الجماعات والمجاميع والدول.

ومن الضروري أن تكون هنالك مراكز للتفكير والتخطيط والرصد الاستراتيجي للجماعات وللأمة وللأفراد أيضاً؛ إذ نرى بعض الأحزاب أو المنظمات أو الهيئات أو المرجعيات تبدأ بقوة ونشاط وحركية وتفاعل وفعل وانفعال شديدين، ولكن بعد مضي فترة من الزمن- قد تكون خمس سنوات أو عشر سنوات- تجدهم يتملكهم العجب من إنجازاتهم أو الغرور، وإذا بالمسيرة المتصاعدة تبدأ مثل السيارة أو مثل القاطرة، ثم تبطئ السير شيئاً فشيئاً حتى تتوقف.

وكما العجب والغرور والكبرياء، كذلك الكسل والترهل، فإن بعض الناس ما أن يمضي بعض الزمن حتى يبدأ مسيرة التكاسل، ويتعكّز على إنجازاته الماضية، ويفكّر مع نفسه: حسناً، أنا أسّست ما أسّست وكتبت ما كتبت وهديت مَنْ هديت ألا يكفي ذلك؟ وهكذا تتحول المسيرة إلى مسيرة تراجعية.

وفي مثال آخر: نجد أن الكثير من الجماعات الإسلامية -بمرور الزمن- قد تصل إلى موقع القوة، وقد تكون مواقع القوة سلطوية، وقد تكون غير ذلك؛ إذ تصل إلى مصادر المال أو الشهرة، أو تصل إلى مفاتيح التأثير على الدول، لكننا نجدهم عندئذٍ يتغيرون؛ إذ قبل أن يكون أحدهم في السلطة أو موقع القوة، كان بشكل طبيعي مع الناس، بينهم ومنهم وإليهم، ولكنه عندما وصل إلى السلطة بدأ يبتعد عنهم ويعيش في قصوره العاجية.

لكن المؤمن حقاً هو الذي يزداد صلابة وإيماناً ورسوخ قدم وثبات عزم في مختلف الظروف والمتغيرات.

إن الأمر بمجمله يستدعي مزيداً من الرصد والدراسة ومن (القلق) أيضاً، سواء على مستوى الأمم أم الجماعات أم الأفراد، فهذه الأمة أو هذه الحركة أو هذا التنظيم أو هذه الجماعة، ما هي مسيراتها العامة؟ وما هي تحولاتها الداخلية؟

وفي مثال آخر: نلاحظ إن الكثير من الهيئات والمنظمات وسائر الجماعات المختلفة -التي يمكن أن نستحضرها من الذاكرة- تكون في بدايات عملها مفلسة تبحث عن الدرهم الأبيض والدينار الأحمر، كما يبحث الصياد في الغابة عن الفريسة، ويبذلون من كرامتهم والجهد الشيء الكثير لكي يحصلوا على بعض الأموال البسيطة لكي يؤسسوا مدرسة أو حسينية، أو فضائية أو مكتبة أو أي شيء أخر، لكن كثيراً من هذه الجماعات وبمرور الزمن وشيئاً فشيئاً، تتحسن قدراتها المالية، ثم تبدأ مرحلة الفائض المالي، فكيف تتصرف عندئذٍ بهذه الأموال؟

أنا أعرف جماعات من هذا القبيل، وصلوا إلى فائض مالي كبير لكنهم لم يحسنوا التعامل معه، مع إن هذا الفائض المالي هو مسؤولية شرعية وأخلاقية وإنسانية، لكن المشهود للمراقب اللبيب إن هذا الفائض المالي بدأ يتخزن ويكتنز في بنوك الغرب والشرق، أو يتحول إلى عمارات وأسواق وغيرها، وإذا بك تجد كل واحد من هؤلاء المسؤولين في ذلك التنظيم أو ذلك الحزب أو تلك الدولة يمتلك عشر أو عشرين، أو ثلاثين عمارة أو مزرعة أو شركة أو مصنع أو معمل، أو كذا من الأسهم أو ما أشبه ذلك، وهذا هو بالضبط ما يستدعي القلق والأرق، فإن هذه الجماعة عندما كانت ضعيفة تفتقد الأموال اللازمة كانت ذات أخلاقيات نموذجية، ثم عندما حصلت على الأموال تحولت (شاكلتهم النفسية)، بل إن الأمر في التصرف بالأموال لهو أدق من ذلك ؛ إذ ليس الأمر بأن تتخير الحسن من بين السيء والحسن، وإنما أن تتخير الأحسن من بين الحسن والأحسن.

وهناك كلمة مشهورة تقول: (ليس الحكيم هو الذي يفاضل بين السيء والحسن فيختار الحسن، وإنما الحكيم هو من يوازن ويفاضل بين الحسن والأحسن، فيأخذ بالأحسن)، قال تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) فما هو الأحسن في إنفاق هذه الأموال؟ وهل كان هناك ترشيد في الإنفاق؟ هل كان من الممكن أن يحقق (التجمع) بهذا المال إنجازات وخدمات أكبر وأكثر، في مسؤولية الجماعة تجاه الجماعات الأخرى؟

إذن، يجب علينا وعلى كل مؤسسات المجتمع المدني أن تعيش هذا الشعور والإحساس والقلق دوماً، وأن تراقب المسيرة العامة للأمة الإسلامية، ولكل شعب شعب، ولكل جماعة جماعة، إن كانت في طريقها إلى النهوض أو التوقف، أو إلى المزيد من التراجع، وهذا كله يحتاج إلى تفكير متواصل مشوب بالقلق، ويحتاج إلى تدبر وتأمل، و إلى دراسات؛ لأن المسيرة إذا بدأت بالتراجع فإن ذلك قد لا يظهر للعيان فوراً في حالة الأمة، بل قد يحتاج إلى مائة سنة ليتعرف عليها الشخص العادي؛ لأن سقوط الأمة التدريجي قد يستمر مائة سنة، أو مائتي سنة، وببطء غير ملحوظ إلا للباحث المحقق المدقق، كما أن نهوض الأمة قد يستمر إلى مائة أو إلى مائتين أو ثلاثمائة سنة، وهكذا.

إن هذه القضية بالذات تستدعي تفكيراً استراتيجياً من النوع الممتاز؛ وذلك لأن كافة الجماعات تحمل مسؤوليةً، ليس فقط تجاه أنفسها، لكي تحافظ على الاتجاه العام لها كي يكون تصاعدياً، بل عليها أيضاً مسؤولية أخرى تجاه الأمة الإسلامية بأجمعها، وذلك:

أ- من حيث الأخلاقيات، هل هي تصاعدية أم هبوطية أم دائرية؟

ب- ومن حيث الروح الجهادية؟

ج- ومن حيث النشاط والإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة جمعاء. إن هذا الإحساس ينبغي أن يكون متكرساً في كل جماعة بأن تعتبره أصلاً من أصولها الأصلية.

من المعايير الدينية:
أ - الأزهد والأشد عبادة هو الأنصع جيباً:

نذكر روايتين في هذا الحقل لهما دلالة كبيرة على ما نقول.

الرواية الأولیٰ: فقد ورد في الكافي الشريف عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال رسول الله: (صلى الله عليه وآله) (أنسك الناس نُسْكاً) ويصح نُسُكاً أيضاً (أنصحهم جيباً، وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين)، وما أبلغ العبارة (لجميع المسلمين) فإن علاقة الإنسان لا تتحدد بمحلته أو بعشيرته، أو ببلدته أو دولته، بل تتسع لتعمّ جميع المسلمين، وهي رواية صريحة واضحة قوية جداً.

يقول الرسول: (أنسك الناس نسكاً) وتعني أحد معنيين أو كليهما معاً، فإن الناسك يعني في العرف العام المنقطع عن الناس، لكن الرسول(صلى الله عليه وآله) يقول: إن الزاهد الحقيقي ليس ذلك الذي ينقطع عن الناس، بل إنه الذي ينقطع عن العيوب الباطنية، وعن الشهوات والأنانيات والعصبيات الجاهلية ويزهد فيها، فهو(أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً) وبهذا المعنى فإن أنسك الناس يعني أكثرهم زهداً أو أشدهم زهداً.

والمعنى الآخر (أنسك الناس) تعني أشدهم تعبداً، وكلاهما صحيح، فـ(أنسك الناس نسكاً) يعني أشد الناس زهداً وأشدهم عبادة، ليس ذلك الذي ينقطع في الجبل ويعبد الله، بل هو الذي يكون قلبه (أسلم) بالنسبة لجميع المسلمين، ويكون (أنصحهم جيباً)، و(الجيب) له مصداقان: الأول: أخص وهو الشق المفتوح في الثوب، والذي يشكل فتحة في (كيس) ملتصق بالثوب أو جزء منه، وهذا هو المعنى الشائع للجيب، والمعنى الثاني: أعم كما نقول: الجيوب الأنفية، أو يقال: جيب ماء، أو جيب غاز طبيعي، فيقصد بالجيب في هذه الكلمة: التجويفات الموجودة والتي تتجمع فيها سوائل معينة لتكشف عن ثروة معينة أو مرض معين، أو غير ذلك، فجيب ماء يعني تجويفاً تحت الأرض، فهنالك إذن جامع بين هذه المصاديق كلها.

فأنسك الناس نسكاً يعني أشد الناس زهداً ليس الذي ينقطع في الجبل، أو الذي لا يتملك أي شيء، بل هو أنصحهم جيباً، والجيب كما سلف هو (الكيس) في الثوب، أو التجويف في الأرض، بمعنى أن كل الثغرات في حياته مغلقة، فلا نقيصة فيه ولا مثلبة، فليس بجبان ولا بخیل ولا كسول ولا متكبر ولا مترهل، فأنسك الناس نسكاً هو أنصحهم جيباً؛ لأن كل هذه الجيوب والعيوب هو منها خالص مخلّص، فهو طاهر مطهر، وهو أسلمهم قلبا لجميع المسلمين.

ب- الأنفع للخلق هو الأحب للرب:

والرواية الثانية: وهي أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله)، وهذه الرواية دليل واضح على إن كل الخلق، هم عيال الله، وإن أحب الخلق إلى الله ليس هو الذي ينفع زوجته وأولاده فقط، بل والذي ينفع أهل محلته، والذي ينفع أهل العالم كله، فالخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله.

و(أنفع) قد يكون بالاكتشافات والاختراعات، وقد يكون بنشر العلم والمعارف الصحيحة، وقد يكون بإيجاد الأجواء الإيمانية، وقد يكون بتأسيس مؤسسات المجتمع الإنساني، وللبحث صلة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق للجميع لخدمة المؤمنين بأجمعهم، ولخدمة البشرية بما هم خلائق لله تعالى، ولكي ننمي بأنفسنا الإحساس بالمسؤولية تجاه الجميع والمجموع بما هو مجموع، إنه سميع مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي
والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/writer10-

...............................................
[1] سورة التوبة، الآية. 71
[2] إذ الأولى ظرفها المستقبل، أما الثانية فظرفها الحاضر، لكن المتعلّق هو المستقبل.
[3] حيث يكون (الزمن) هو (المتعلَّق) لا (الظرف).
[4] من غير فرق بين من سيعيش المستقبل، ومن لا يمتد عمره إليه، والأول هو ما عبرنا عنه بـ(في) والثاني عبرنا عنه بـ(عن).
[5] لمن يعلم ٲنه سيعيشه، ولمن يعلم ٲنه لا يعيشه، ولمن لا يعلم أياً منهما.
[6] ذكر بعض اللغويين: ان كليهما صحيح.

اضف تعليق