يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه الكريم:

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1].

هل في الإسلام تقاعد؟ وهل المسؤولية تتأطر بالموقع؟

علينا أن نستضيء بهذه الآية القرآنية الكريمة لجهة الإجابة على سؤالين: الأول: هل هنالك تقاعد عن العمل في الإسلام؟ والثاني: هل إن مسؤولية الفرد تتحدد في إطار وحدود المنصب والموقع الذي يشغله؟

والجواب عن السؤال الأول يتلخص بكلمة، وهي: لا يوجد تقاعد في الإسلام، وأعني به التقاعد عن العمل، وعن المسؤولية وليس عن الوظيفة الروتينية.

فعندما يصل الإنسان إلى سن معينة تجري إحالته إلى التقاعد، وتختلف الدول عادة في تحديد السن التقاعدية، فبعضها تضع سقف الخامسة والستين، وبعضها تحدد الأقل من ذلك، كما أن الموظف قد يتقاعد عن الوظيفة لأسباب أخرى عديدة، لكن التقاعد عن المسؤولية لا مجال له في الإسلام، وفي المنطق الإنساني أيضاً، بل لا تقاعد عن العمل أيضاً، فإنه من الممكن أن يتقاعد الإنسان عن الوظيفة المعينة، لكنه يبقى ملزماً أخلاقياً وإنسانياً، وفي الجملة شرعياً، لكي يستمر في العطاء والإنتاج حتى لحظة مماته، بنحو الوجوب تارة وبنحو الاستحباب تارة أخرى.

والآية الشريفة تقول: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) هناك قاعدة معروفة تقول: ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، أي إن هذا الحكم[2] بل الأحكام عقلت وحملت على الموضوع، الذي هو (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ)، وتعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، يعني لأنك مؤمن فأنت ولي وبالنتيجة مسؤول، ولأنك مؤمن فيجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أكان عمرك خمس عشرة سنة أم أكثر، وسواء أكنت في هذا الموقع الرسمي أم لم تكن فـ(لمؤمنون) تعني بما هم (مؤمنون)، وتعني بوصف إيمانهم، فلأنهم (مؤمنون) فهم (أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) إلى آخر الآية الشريفة.

إذن، من الممكن أن ننطلق من هذه القاعدة العامة لإثبات أنه لا تقاعد في الإسلام، وأنه لا يصح أن يتقاعد الإنسان عن المسؤولية في أي سن كان، وفي أي موقع كان، وذلك نظراً لتعليق الحكم على الوصف، أي ما دام الإنسان مؤمناً فهو مسؤول، ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن بلغ من الكبر عتياً.

ومن جهة أخرى، فإن البعض يتصور أنه إذا كان عضواً في الهيئة الإدارية للجامعة – مثلاً- فهو مسؤول عن أخلاقيات الطلبة، أو عن تطوير الجامعة وتنزيهها، لكنه إذا كان خارج الجامعة فلا مسؤولية له، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) سواءاً أكان أحدهم في هذا الموقع أم لم يكن؛ فلأنه مؤمن فهو مسؤول؛ إذ ليست المسؤولية مرتبطة بالموقع. نعم من الممكن أن يزيده المنصب إلزاماً على إلزام، وعهداً على عهد.

مثال آخر: البعض يتصور أنه إذا أصبح وزيراً أو نائب وزير أو وكيل وزارة، أو عضو البرلمان أو موظفاً في أي جهاز حكومي، فحينئذٍ يكون مسؤولاً عن ذلك الحقل، وبالتأكيد إنه مسؤول، لكن الواقع هو قبل ذلك ومع ذلك، وبعد ذلك، مسؤول، وهذا يعني أن كل إنسان مسؤول عن وضع الزراعة في البلد، وليس وزير الزراعة فقط. نعم، إن إمكانيات وزير الزراعة أكبر، والمحاسبة القانونية عليه أوضح، لكن ذلك لا ينفي ثبوت المحاسبة الإلهية عليَّ أيضاً إذا لم أشارك -رغم قدرتي- في النهضة الزراعية في البلد في الحدود الواجبة من الزراعة، وكذلك فيما لو سمحت للاستعمار وأياديه في بلادنا أن يحطم زراعتنا، ويحطم الاقتصاد الوطني، ويحطم الشركات أو المعامل أو المصانع بخطط ملتوية، أو بخطط مباشرة، فكل إنسان من موقعه يستطيع أن يقوم بدور في هذا الحقل.

والحاصل: إن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) عامة شاملة للإنسان سواء أكان في هذا المنصب وذاك أم لم يكن، فإنه مسؤول، إن كان مديراً لمدرسة، أم مديراً لشركة، أم مديراً لإحدى الحوزات العلمية، أم مديراً لميتم، فهو مسؤول، أم لم يكن مديراً فهو مسؤول أيضاً، فإن ساء وضع الميتم أو ساءت الخدمات في دار الأيتام، أو لم تكن هناك عناية أخلاقية، أو روحية أو فكرية أو ثقافية أو مادية كافية بهذا الميتم، فكل الناس مسؤولون، وكل من في تلك المحلة أو المنطقة، ومن بلغه الخبر، أو كان في حدود أن يبلغه الخبر، فهو مسؤول لقوله (صلى الله عليه وآله): (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، وذلك انطلاقاً من الوصف (وَالْمُؤْمِنُونَ) فما دمت مؤمناً فأنت مسؤول، سواء أكنت في هذا الموقع القيادي أو الرئاسي أو الحكومي أو الوظيفي أم لم تكن، وسواء أكنت في هذه السن أم لم تكن.

وهنا ننقل لكم قصة لطيفة على قصرها، ينقل السيد الوالد (يرحمه الله تعالى) إنه عندما كنا في الكويت كان هنالك أحد المؤمنين من كبار السن، يأتينا بين فترة وأخرى، بالأسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثة أقل أو أكثر، في المساء أو العصر عادةً، وذات يوم جاء صباحاً وأطال الجلوس، مع أن الموظف والكاسب والتاجر مشغول فترة الصباح عادة، ثم تكرر مجيؤه أياماً صباحاً.

فسأله الوالد، (رحمه الله تعالى) عن قدومه المتكرر، وماذا صنع بعمله؟

فقال: لقد تقاعدت! فقد بلغت الستين عاماً، وتركت العمل، فجئت بخدمتكم، فقال له الوالد: لا تقاعد في الإسلام، فسأل فماذا أعمل إذن، قال له عليك بتأسيس دار نشر، وبقليل من التحريض والتشويق انطلق هذا المؤمن وأسس دار نشر، ثم توفي بعد ذلك بمدة (رحمة الله تعالى عليه) فخلفه بعض أرحامه في إدارتها، والآن مُنذ خمس وثلاثين سنة تقريبا لا تزال تلك المؤسسة موجودة، وهي نشيطة وعامرة- ولله الحمد- بالإنجاز وبالعطاء.

والحاصل إنه لا تقاعد في الإسلام، سواء كان الفرد في هذا الموقع أم لم یكن، سواء كان الإنسان موظفاً أم لم يكن، سواء أكان عمره كذا أم لم يكن، سواء أكان صحيحاً أم كان سقيماً، فهو مسؤول.

كما أن هنالك قاعدة أخرى نستطيع أن نستلهم منها المدَّعى في إثبات أنْ لا تقاعد في الإسلام، من حيث المسؤولية، وإنه لا تتحدد المسؤولية في إطار وحدود الوظيفة، سنذكرها في المبحث القادم، إن شاء الله.

العموم والإطلاق في ولاية المؤمنين:

أجبنا في البحث السابق عن سؤالين محوريين، استلهاماً من الآية القرآنية الكريمة، واستنطاقاً من قاعدة أصولية، الأول: هل يوجد تقاعد في الإسلام، والثاني: هل تتحدد مسؤولية الفرد في حدود وإطار المنصب الذي يشغله، وأجبنا عن كلا السؤالين بالنفي؛ إذ لا تقاعد في الإسلام من حيث المسؤولية، بل ومن حيث العمل والعطاء أيضاً، حيث لا تتحدد المسؤولية في إطار وحدود الموقع والمنصب الذي يشغله الفرد.

واستندنا في ذلك إلى قوله تعالی (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) حيث إن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية؛ فالمؤمن بما هو مؤمن ولي ومسؤول، وعليه أن يأمر بالمعروف وينهیٰ عن المنكر، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويطيع الله ورسوله، وهذه هي القاعدة الأولى.

الإطلاق الأحوالي والأزماني لولاية المؤمنين:

والقاعدة الثانية: التي يمكن أن نتمسك بها لكي نتعرف على مسؤوليتنا، على ضوء هذه الآية القرآنية الكريمة، أكثر فأكثر، هي: قاعدة الإطلاق الأحوالي، وقاعدة الإطلاق الأزماني، إضافة للعموم الأفرادي، ففي هذه الآية الشريفة (والمؤمنون والمؤمنات) هنالك:

أ - عموم أفرادي، فإن (وَالْمُؤْمِنُونَ) تعني كل مؤمن، كما سبق ذكره، أيَّ مؤمن كان، رجل دين كان أم جامعياً، بقالاً أم تاجراً، مميزاً أم بالغاً، فهذا عموم أفرادي شامل لجميع أفراد المؤمنين.

ب - وهنالك إطلاق أحوالي؛ إذ (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) تعني كل فرد في أية حالة من حالاته، سواء أكان وزيراً أم لم يكن، وسواء أكان غنياً أم لم يكن، وهكذا.

والحاصل: إن (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ) تعني كل واحد منهم -وهذا هو العموم الأفرادي- في أية حالة من الحالات؛ لأن الآية لم تخصص، ولم تقل المؤمنون والمؤمنات في حالة كونهم أغنياء فقط، أو حالة كونهم متسنمين لهذا المنصب فقط، فهو إطلاق أحوالي، يعني كل واحد منهم في مختلف حالاته وأحواله، من قوة وضعف، وغنى وفقر، و علم وجهل، وهكذا (وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

ج- وهنالك إطلاق أزماني؛ إذ لم تحصر الآية هذه التكاليف والأحكام الوضعية – فإن (ولي) هنا حكم وضعي، ووجوب الأمر والنهي حكم تكليفي-، بزمان خاص، قبل التقاعد أو بعده، قبل سن الأربعين أو بعده، قبل سن التسعين أو بعده، قبل الوزارة ومعها وبعدها، قبل رئاسة الشركة أو الدولة، أو المؤسسة ومعها وبعدها، قبل المرض ومعه وبعده، وقبل الإفلاس ومعه وبعده، وقبل الغنى ومعه وبعده، وقبل القوة ومعها وبعدها، وهكذا، ليس هناك تحديد من حيث الزمن، فالإطلاق الأزماني أيضاً محكَّم بدون ريب، فهذه هي القاعدة الثانية التي يمكن أن نستند إليها في تعميم المسؤولية.

إن المسؤولية لا تعرف تقاعداً ولا غيره، ولا تعرف منصباً ولا غيره، فإن الكل مسؤول، رجل الدين مسؤول، والجامعي مسؤول، والغني مسؤول، والفقير مسؤول، مثلما القوي مسؤول، وكذا الضعيف مسؤول وهكذا، وهنالك قاعدة أخرى أيضاً يمكن أن نستند إليها، ستأتي في البحوث القادمة، إن شاء الله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،

وصلاة الله على محمد وآله الطاهرين.

* فصل من كتاب "معالم المجتمع المدني" في الفكر الإسلامي
والكتاب سلسلة محاضرات ألقيت في الحوزة العلمية الزينبية
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/writer10-

......................................
[1] سورة التوبة، الآیة ۷١.
[2] الحكم الوضعي وهو الولاية، والأحكام التكليفية: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإطاعة الله ورسوله.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
الإنسان في هذه الحياة وجب عليه العمل منذ بداية قدرته على ذلك الى لحظة النهاية
والإسلام أمره أن يظل في عمل دائم طالما لديه القدرة حتى اذا ادركته وهو يعمل القيامة
ومن عمل عملا صالحا فالله سبحانه وتعالى سيكافئه بخير الجزاء وللظالمين الضالين الندامة
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه...واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2018-12-09