إن محاسبة النفس لا تغيب عن الإنسان ما دام مستيقظاً، وهذا ممكن بترويض النفس حيث يخصص المرء وقتاً من يومه يزيده قليلاً كل يوم، يراجع فيه نفسه وينظر إلى أعماله ونواياه، فكلما رأى خيراً شكر الله وطلب الزيادة وسعى لها، وكلما رأى شراً استغفر الله وطلب منه التوفيق للإقلاع عنه...
الباب: المرجع الشيرازي، رئيسي.
(شهر رمضان أفضل فرصة لخوض تجربة تغيير النفس)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
في مجاز اللغة العربية، يمكننا أن نصوّر شهر رمضان على أنه شجرة الخير، وهذه الشجرة تمنح الخيرات الناضجة لمن يستحقها، والشخص الذي يستحقها فعلا، هو الصائم الحقيقي المخلص، الذي يتقن كيفية الاستفادة من هذا الشهر المليء بالبركات والباقيات الصالحات.
في هذا الشهر مطلوب من الإنسان أن يقتنص هذه الفرصة وينتهزها، كونها تأتي مرة واحدة في السنة، وشهر واحد من بين شهور السنة، لذا يجب اقتناص هذه الفرصة، لاسيما أن هذا الشهر لله وحده سبحانه، هو الذي يجزل الثواب لصائميه، وهو تعالى يمنح الغفران لمن يستحق، ويضاعفه بركات من يلتزم بهذا الشهر قلبا وشعورا وعملا.
كذلك في هذا الشهر يمكن للإنسان أن يتغيّر نحو الأفضل، يمكنه أيضا أن ينظّم حياته بطريقة متقنة، متميزة، ضامنة للنجاح بكل أشكاله وبأعلى درجاته، كما أن الناس جميعا، تُتاح لهم فرص التطهّر من الدنس، فالإنسان عبر مسيرة شهور متتابعة شائكة، يلهث فيها وراء رزقه، ربما يشطُّ هنا أو هناك، وقد تزل نفسه ويده وقدمه هنا أو هناك.
في هذا الشهر المبارك، فرصة العفو متوافرة بأعلى درجاتها، وفرص تنظيف القلوب والنفوس والذوات، موجودة بشكل وفير جدا، وما على الإنسان سوى أن ينتهز فرص هذا الشهر لكي ينظّف كيانه كلّه من الدنس، ومن الذنوب التي يرتكبها لأسباب لا حصر لها.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (نحو بناء النفس والمجتمع):
(إن شهر رمضان هو شهر الله سبحانه وتعالى، قد خصّ به نفسه دون باقي الشهور، فهو شهر لتنظيم حياة الإنسان والتغيير نحو الأفضل والتطهّر من كل دنس).
فرص مثالية في هذا الشهر الكريم
من الأهمية بمكان أن يكون الإنسان مستيقظا متنبّها بشكل جيد في هذا الشهر، حتى لا تفوته الفرص الكثيرة الكبيرة، وحتى يمكنه قطف ثمار الأعمال الصالحة والناضجة، وجلّ هذه الفرص تعود لإصرار الإنسان نفسه، ويقظته وتصميمه على استثمار شهر العفو والغفران أفضل استثمار، وأن يعي جيدا بأنه الفرص المثالية لمحو الذنوب.
على الصائم أن يكون متيقظا، وأن يروّض نفسه ترويضا صحيحا، وأن يبعدها عن المغريات التي لا حصرَ لها، نوعا وشكلا وكمّا، قضية الترويض هذه تتم بطريقة فعلية، فهي ليست ضربا من الخيال، بل على الإنسان أن يضع خطوات عملية مدروسة للترويض، وأن يحسبها ويثبتها خطوة بعد أخرى، فيحاسب نفسه في وقت وزمن معروف ومنتظم.
على أن يزداد وقت المحاسبة يوميا، مع الوعي التام والمراقبة العميقة، وشيئا فشيئا، تعتاد النفس على هذا الترويض الجيد، ويتحول السلوك من عادة يعتادها الإنسان إلى ملَكة يؤمن بها، وتفرض نفسها عليه، فيتمسك بها، فإن حصل على الخيرات قدّم الشكر لله تعالى (لئن شكرتم لأزيدنّكم).
وإن سقط في الشر يطلب الصفح والمغفرة، ويسعى للكف عن الشر، وسوف يحصل على المغفرة إذا كان يستحقها، لأن الله تعالى أعلم بالنفوس وبالقلوب وبالنيّات.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يؤكد على هذه النقطة فيقول:
(إن محاسبة النفس لا تغيب عن الإنسان ما دام مستيقظاً، وهذا ممكن بترويض النفس حيث يخصص المرء وقتاً من يومه يزيده قليلاً كل يوم، يراجع فيه نفسه وينظر إلى أعماله ونواياه، فكلما رأى خيراً شكر الله وطلب الزيادة وسعى لها، وكلما رأى شراً استغفر الله وطلب منه التوفيق للإقلاع عنه).
ويدلنا المرجع الشيرازي، على قطف أفضل لثمار شهر رمضان، فيذكّرنا بأفضلية أن نضيف عشرة أيام من شهر شوال، يصوم فيها الصائم، فتصبح أيام صيامه مع شهر رمضان أربعين يوما، مع التزامه التام بما ذكرنا من خطوات مهمة على طريق انتهاز عطايا ومزايا هذا الشهر الكريم.
فإذا أضاف الصائم عشرة ايامٍ أُخَر من شهر شوال، يصبح لديه أربعين يوما، يكون قد روّض فيها نفسه، وسوف تتحول عبادته وترويضه إلى ملكه لا يمكنه التخلي عنها، لأنها سوف تصبح جزءا لا يتجزّأ من كيانه وتكوينه، وفي هذه الحالة لا يمكنه التخلي عن هذه الملَكة مطلقا، كونها التحمت به وامتزجت في شخصيته.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن شهر رمضان خير فرصة لهذه التجربة، ولو أضيف إليه عشرة أيام من شهر شوال لتصبح أربعين يوماً فذلك خير؛ إذ إن الحالة قد تقترب من الملكة التي يصبح التخلي عنها بعد ذلك مستبعداً).
كيف تكسب ملَكةً جديدة؟
إذا نجح الصائم في قطف الثمار الناضجة، وانتهز الفرص المتاحة بالشكل الصحيح والمطلوب، وهو أمر لا مصاعب فيه، بل في غاية السهولة، فقط يحتاج الأمر إلى التنظيم والإصرار على التطبيق، فحين تحدد وقتا لمحاسبة النفس يجب الالتزام بذلك، وحين يعتاد الإنسان على ذلك مع الوقت، تصبح هذه العملية طبيعية ومكملة لشخصيته.
وفي هذه الحالة لا يمكنه التنصل عن هذه الملَكة، لأنه جرّب اللذة المعنوية لها، وهي تفوق اللذات المادية أضعافا مضاعفة، أما الفارق بين اللذة المادية والمعنوية فهو واضح وكبير جدا ومتناقض، ذلك لأن اللذة المادية ذات طابع اعتباري قابل للزوال بسرعة، وتزول معه اللذة المادية بنفس السرعة التي تحققت بها.
أما اللذة المعنوية فإنها ثابتة لا تزول كونها تركن وتثبت في أعمال الروح، وتكون خالدة، غير معرّضة للزوال، لهذا يعيش الإنسان لذتها الخالدة، على العكس من اللذة المادية، فإنها سريعة الزوال، لأنها ليست واقعية، بل هي أقرب إلى الزوال، ولا نخطئ إذا قلنا بأن اللذة المادية فانية أو كاذبة كالوهم أو كالخيال.
وهذا ما يشير إليه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(إن الشخص بعد تروّضه يحسّ بلذة لا تضاهيها أية لذة مادية أخرى. فلو وضعت كل اللذات المادية في جانب، ووضعت إحدى اللذات المعنوية في جانب آخر لرجحت الأخيرة، لأن اللذة المعنوية واقعية وخالدة، أما اللذة المادية فاعتبارية مصيرها إلى الزوال – إن لم نقل إنها وهم وخيال) .
وبعد هذه الرحلة المستمرة مع النفس أثناء شهر رمضان، من الأفضل لمن ينجح في الاختبار، ويمكنه قطف الثمار الناضجة، أن يقدّم الدروس للآخرين، ويعلّمهم تعليما سليما وينقل لهم تجربته في هذا المضمار، فالصائم الذي ينجح في صيامه، وعباداته، وأعماله، ومراقبته ومحاسبته وترويضه لنفسه، هو مطالَب بنقل وتعليم تجربته للآخرين.
وهكذا يسهم هؤلاء الصالحون بتقرّب الناس من الإسلام، وتُفتَح لهم أبواب الإيمان والانتماء الصحيح للدين، خصوصا إذا استطاعت الدروس والتجارب الرمضانية أن تدخل في أعماقهم، ويفهموها ويقتنعوا بها، في هذا الحالة نحن نمتثل لما طالبنا به أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فمن ينجح في تجربة الصوم والمغفرة، عليه نقل هذه التجربة لكل من يحتاجها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لنسعَ لتقديم النماذج العملية للناس وهو ما أراده وطلبه منا الأئمة الأطهار سلام الله عليهم أجمعين، ولا يقتصر دورنا في هذا المجال على أنفسنا بل علينا أن نحول دون ابتعاد الناس عن الإسلام وعلماء الدين).
إذن عليكم وعلينا جميعا، أن نقطف الثمار الناضجة لهذا الشهر الفضيل، وأن ننتهزه لكي ننمي في أعماقنا ترويض النفس ومراقبتها، والسعي الحثيث لكسب العديد من الملَكات على الرغم من الصعوبات البالغة التي تقف أمامنا، ولكن على المرء أن يسعى نحو النيّات الصالحة، فهي غالبا تتحقق إذا توافرت لها الإرادة القوية الصالحة.
اضف تعليق