للصراع أوجهًا مختلفة ومتنوعة تتجاوز حدود الصراع الطبقي.. الأفراد والجماعات يدخلون في عملية صراع وتنافس مستمرة داخل الهيئات والمؤسسات، من أجل مراكز السلطة والنفوذ والمصالح وليس من أجل الثروة الاقتصادية المحضة، وعلى هذا النحو يأخذ الصراع صورة حياة يومية مستمرة تتجلى في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية للناس...
الصراعات هي جزء لا يتجزأ من التطور الإنساني، ومن خلالها يتم تحقيق التغيير والتقدم" - كارل يونغ
"الصراعات لا تخيفنا، فالحياة نفسها تحمل الصراعات، وما يتعلق بها هو كيفية التعامل معها" - مايا أنجيلو
1- مقدمة:
شهدت نظرية الصراع تطورها على أيدي نخبة من علماء الاجتماع في القرن العشرين الذين اخذوا على عاتقهم العمل على تطوير هذه النظرية في ضوء التطورات التاريخية الجديدة التي ألمت بالمجتمعات الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أثمرت جهود كثيرٍ منهم في استكشاف أبعاد جديدة لنظرية الصراع تتجاوز حدود المركزية الماركسية القائمة على مفهومَي الصراع الطبقي، والحتمية التاريخية للتطور القائم على التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته. وانطلق منظرو الموجة الجديدة للصراع الاجتماعي إلى تناول قضايا جديدة ومختلفة عن كلاسيكيات نظرية الصراع، مثل: صراعات الجندر، وقضايا التفاوت الاجتماعية القائمة على أشكال جديدة من الصراع حول: السلطة، والموارد، والثروة، والقوة، والثقافية، والصراعات التي تأخذ طابعا عرقيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا ودينيًّا وثقافيًّا [1].
وقد شهد مفهوم "الصراع" (Conflict) تطوره الفكري الملموس في خمسينيات القرن الماضي، في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الأمريكية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جهود عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز (Wright Mills) (1956)، الذي كان له قصب السبق في تناوله لمفهوم الصراع، وذلك في محاولة منه لفهم البُنى الاجتماعية للمجتمعات الغربية القائمة على جوهر الصراعات الاجتماعية والسياسية وتحليلها.
ويبدو لنا أن ميلز قد سار على هدي النظرية الماركسية واستلهمها في تطوير نظريته حول الصراع وانطلق يعزز توجهاتها ويطورها في مجال التركيز على قضايا هذا الصراع في المجتمع الأمريكي. وقد أكد رفضه الواضح للفكرة الوظيفية التي تقول بأن المؤسسات والهيئات الاجتماعية تقوم على أساس الاتفاق مؤكدًا على عنصرَي الصراع والمنافسة في طبيعة هذه المؤسسات، وهو الأمر الذي أدى إلى استفحال اللامساواة في توزيع الموارد والسلطة والقوة في المجتمعات الغربية. وقد أدى تفاقم هذا التفاوت الاجتماعي إلى نوع من الصراع الذي حدا بطبقات النخبة البرجوازية الحاكمة إلى العمل على بناء المؤسسات الأيديولوجية التي عُهد إليها بتشكيل أنظمة ثقافية تتمثل في منظوماتٍ من الأعراف والقيم التي تهدف إلى ترسيخ سلطة الطبقات النافذة وهيمنتها وسطوتها في المجتمع.
يرى ميلز في هذا السياق السوسيولوجي أن عملية الضبط السياسي والاجتماعي تتم عن طريق الإكراه والقوة واستخدام مختلف الوسائل المادية والثقافية والأيديولوجية التي تمّ تصميمها من قبل الأقوياء لتحقيق الضبط الاجتماعي، وعلى هذا الأساس فإن المجتمع ينشطر طبقيًّا ويحدث الصراع العميق بين الطبقات المَهيضة والطبقات الرأسمالية التي تمارس القوة لحرمان أبناء الطبقات العمالية والفقيرة من المشاركة الحقيقية في موارد الثروة والسلطة والقوة وإبقائها حكرًا على طبقات النفوذ والهيمنة [2].
وعلى أثر ميلز ظهرت نخبة من المفكرين الذي كرّسوا جهودهم للبحث في قضية الصراع الاجتماعي والخوض في إشكالياته واستشراف تجلياته في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. ويُعد كل من دارندورف وكوزر وكولنز من أبرز رواد نظرية الصراع في العصر الحديث. وسنعمل على استعراض أهم الأفكار والتصورات الجديدة التي قدمها هذا الثلاثي في مجال سوسيولوجيا الصراع في المجتمعات الحديثة.
2- نظرية دارندوف: (Ralf Dahrendorf)
يشكل دارندورف أحد أقطاب نظرية الصراع الاجتماعي في القرن العشرين، وقد عُرف بجهوده الكبيرة التي أثمرت في تطوير نظرية الصراع الاجتماعي وتطويع مفاهيمها بما يتناسب مع التطورات الحادثة في المجتمع الأمريكي في مدارات القرن العشرين، وقد انكب على دراسة هذه الظاهرة في مختلف مآلاتها وتشاكلاتها وقضاياها الاجتماعية والفلسفية، ولا يخفى أن دارندورف كان قد تأثر بنظرية ماركس وانطلق منها في التأسيس لصرح نظريته الجديدة في الصراع الاجتماعي المتجدد في القرن العشرين، ولذا يعدّ دارندورف من أبرز ممثلي الاتجاه الماركسي ومطوريه في مجال نظرية الصراع الاجتماعي وقد عمل على مراجعة التوجهات الماركسية وعمل على نقدها وتطويرها لتواكب حركة العصر وتقلباته السياسية والاجتماعية، ويُعد اليوم من أبرز رواد نظرية الصراع ومن أكثرهم أهمية في ألمانيا وبريطانيا وأمريكا.
وُلد رالف دارندورف (Ralf Dahrendorf) في هامبورغ بألمانيا في 1 مايو 1929. عمل والده في المجال السياسي وعرف بنشاطه في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحظي بانتخابه عضوًا في البرلمان الألماني، وقد تعرض للاعتقال والسجن من قبل النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، واستمر والده في العمل السياسي فيما بعد الحرب العالمية الثانية تحت نفوذ الماركسيين السوفييت في ألمانيا الشرقية، ولم يسْلم من الملاحقة السياسية أيضًا عندما اعتُقل مرة أخرى من قبل السلطات البلشفية، وأخيرًا استطاع الهرب مع أسرته إلى إنجلترا.
درس رالف الفلسفة، وفقه اللغة الكلاسيكية، وعلم الاجتماع في جامعة هامبورغ بين عامي 1947 و1952، بعد حصوله على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية لندن للاقتصاد في عام ى 1954، وكانت أطروحته حول نظرية كارل ماركس في العدالة. ثم عاد إلى ألمانيا في عام 1958 ليتولّى في عام 1958، سلسلة من المناصب في علم الاجتماع، وخلال مسيرته السياسية، انتُخب عضوًا في البرلمان الألماني، ومن ثم عُيِّن وزيرًا برلمانيًّا للخارجية في ألمانيا، ومفوضًا أوروبيًّا للتجارة، ومن ثَم مفوضًا للبحوث العلمية والتربوية وأخيرًا عُيّن عضوًا في مجلس اللوردات البريطاني، وعُرف لاحقًا في المملكة المتحدة باسم اللورد داريندورف. وقد شغل منصب مدير مدرسة لندن للاقتصاد، ومدير كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد. كما شغل منصب أستاذ علم الاجتماع في عدد من الجامعات في ألمانيا والمملكة المتحدة، وكان أستاذًا باحثًا في مركز أبحاث العلوم الاجتماعية في برلين.
ويُعد رالف دارندورف من أبرز رواد نظرية الصراع في الوقت الراهن، وهو الذي بدأت شهرته في هذا الميدان مع صدور كتابه الشهير "الطبقة والصراع الطبقي في المجتمع الصناعي" (Class and Class Conflict in Industrial Society)[3]. ويتضح، من خلال عنوان هذا الكتاب، تأثر دارندورف الكبير بالنظرية الماركسية التي شكلت النموذج الفكري المنهجي الذي انطلق منه في تطوير تصوراته ونظريته الصراعية. ومن المعروف أن دارندورف استطاع أن يولد رؤيته الخاصة وأن ينفرد بمنظومة من التصورات الجديد التي تتجاوز حدود وأبعاد الرؤية الماركسية الكلاسيكية؛ وعلى هذا الأساس عمل دارندورف على تطوير الماركسية دون أن يَنقضها كما يُخيل إلى بعض المفكرين والباحثين في هذا المجال.
ينطلق دارندورف في تناوله لنظرية الصراع من ضرورة الاستكشاف النقدي للنظرية الماركسية، وهو يعلن في كثير من مواقفه الفكرية أن نظريته تشكل نوعاً من النقد التاريخي-الموضوعي للنظرية الماركسية، وقد عمل في هذا السياق على تطوير نظرية الصراع الماركسية نقديًّا، واجتراح منهجيات جديدة تُمكّنه من تطبيقها في المجتمعات الرأسمالية الحديثة في المستوى الشمولي، وفي مستوى التفاعلات الجزئية التي تمثل نسقا من تجليات الصراع في حياة الجماعات والأفراد [4]. وفي ظل هذه الرؤية أوضح دارندورف أن التصورات الماركسية الكلاسيكية جاءت تعبيرًا عن معطيات الظروف التي سادت في القرن التاسع عشر وأن الفارق التاريخي بين ظروف القرن التاسع عشر وظروف القرن العشرين يجعل من الاستحالة بمكان تطبيق نظرية ماركس في المجتمعات الصناعية المعاصرة.
يرى دارندورف أن مفهوم ماركس عن الملكية أصبح غير قادر على تفسير طابع التملك وقوته في القرن العشرين، منوهًا بذلك إلى أن مفهوم ماركس للملكية يتمحور حول تملك الطبقة الرأسمالية لوسائل الإنتاج التقليدية، وهذا التصور الذي كان أصيلاً في القرن التاسع عشر ولكنه يفقد قدرته على تحليل الواقع في القرن العشرين، لأن أشكالاً جديدة من الملكية قد ظهرت فيما يسمى بالرأسمالية الليبرالية الجديدة التي ترتسم في أنماط جديدة من التملك والحيازة ولا سيما تلك التي تأخذ هيئة ملكيات فكرية وثقافية أو ما يمكننا أن نطلق عليه برأس المال المعرفي، وتتجلى هذه الملكية أيضا في تمكن الطبقة الوسطى من المشاركة في إدارة الإنتاج وتصميم حركته والاستفادة من أرباحه، وذلك على خلاف ما كان سائدًا في بدايات النظام الرأسمالي الكلاسيكي القديم.
ويلاحظ أن اهتمام دارندورف بالصراع ظهر أثناء دراسته للمؤسسات الصناعية الكبيرة ببنيتها المعقدة وتشكيلاتها المتداخلة التي تقوم على مبدأ الصراع والتنافس على القوة والسلطة وتوزيع الموارد. وهنا يبدو الاختلاف بين المنظور الماركسي الكلاسيكي والمنظور الدارندوفي: فعلى خلاف ماركس الذي ركز على المنظور الشمولي للصراع الاجتماعي القائم على الصراع بين الطبقات، يبحث دارندورف في التجليات الأخرى للصراع الذي يتجلى في مختلف مسارات الحياة الاجتماعية في المصانع والمعامل والمؤسسات السياسية.
ومع أن دارندورف يُقرّ بوجود الصراع الطبقي، ويأخذ بأهميته في مجال الحياة الاجتماعية الكلية، فإن ذلك لم يمنعه من ملاحظة أن هذا الصراع يتغلغل ويتوغل في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية: في السياسية والثقافة والاقتصاد والحياة اليومية، وفي داخل الشركات والمؤسسات والمنتديات الاقتصادية. وبالمقارنة نجد أن ماركس يضع الصراع في مسارٍ شمولي يقوم على صراع الطبقات وتناقضاتها بصورة رئيسة، ومع أن دارندورف لا يخرج عن هذه الرؤية؛ إلا أنه يرى أن للصراع أوجهًا مختلفة ومتنوعة تتجاوز حدود الصراع الطبقي متجليةً في مظاهر الحياة الاجتماعية المختلفة. وفي هذا السياق يرى أن الأفراد والجماعات يدخلون في عملية صراع وتنافس مستمرة داخل الهيئات والمؤسسات، من أجل مراكز السلطة والنفوذ والمصالح وليس من أجل الثروة الاقتصادية المحضة، وعلى هذا النحو يأخذ الصراع صورة حياة يومية مستمرة تتجلى في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية للناس والأفراد والجماعات.
3- ضد الوظيفية:
ينطلق دارندورف في تشييده لنظريته الصراعية على مسارين مختلفين وخطين متناقصين، هما: الاتجاه الوظيفي من جهة، والاتجاه الماركسي من جهة ثانية. وكان عليه أن يتجاوز الاتجاهين لينسج نظريته الجديدة للصراع الاجتماعي بتصورات جديدة ورؤى معاصرة مختلفة عن التيارين الرئيسيين في علم الاجتماع، وهما: الماركسية، والوظيفية. وإذا كان دارندورف قد عمل على تطوير الماركسية وتجاوز مواطن ضعفها بداية، فإنه عمل في الاتجاه الآخر على تناول الوظيفية ورفضها وتطوير مسارها بشكل مخالف لمنطق التوازن الاجتماعي الذي تدعو إليه.
كان دوركهايم يعتقد أن تقسيم العمل يؤدي إلى التمايز الاجتماعي، وأن التمايز الاجتماعي يؤدي إلى التضامن العضوي، والتضامن العوضي يحقق للمجتمع وحدته وتناسقه وتكامله، ويمكنه من تجاوز تناقضاته الداخلية. وعلى خلاف ذلك يرى ماركس أن تقسيم العمل يؤدي إلى تقسيم المجتمع طبقيا، وأن هذا التقسيم عينه يؤدي إلى الهيمنة الطبقية بين الطبقة التي تحكم وتملك وتلك التي تعمل وتُنتج[5]. وهذا يعني أن تقسيم العمل يؤدي إلى توليد التناقضات في المجتمع ويشكل منطلقًا للصراع بين الطبقات الاجتماعية.
بدأ دارندورف بتشييد نظريته الصراعية منطلقًا من نقده للنظرية الوظيفية الجديدة، المتمثلة في نظرية تالكوت بارسونز الذي دأب على تقديم المجتمع وفق رؤية بنائية وظيفية ترتكز على جوانب التوافق والتكامل في بنية المجتمع على حساب مظاهر الصراع والتنافس والتناقض. وعلى خلاف بارسونز يرى دارندورف أن المجتمع يتجلى في وجهين: يتجلى أحدهما في صيغة التوافق ويأخذ الآخر طابعًا صراعيًّا. وعلى هذا النحو يعلن دارندورف بأن الصورة المثالية التي تقدمها الوظيفية للمجتمع لا يمكنها أن تستقيم مع الواقع الموضوعي للحياة الاجتماعية، إذ لا يمكن للحياة الاجتماعية أن تخلو من أوجه الصراع في مختلف تجلياته وتعيناته الوجودية.
ويوجه دارندورف النقد إلى رواد النظرية الوظيفية، ولاسيما هؤلاء الذين يركزون على جوانب الاستقرار والتوازن في المجتمع، وهؤلاء الذين ينظرون إلى عوامل الصراع ومعطياته بوصفها معطيات عطالة وجمود، ومن ثَم يبالغون في التأكيد على أهمية التوافق والانسجام والتوازن في المجتمع، ويقفون في الوقت ذاته ضد كل أشكال التناقض والتنافس والصراع في المجتمع، ويرون أن استفحال التناقضات يهدد استقرار المجتمع وينذر بتفكيكه وتدمير مكوناته. وقد شكل التركيز الوظيفي على الثبات والاستقرار مسارَ انتقاداتٍ شديدة للوظيفية بوصفها ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﺤﺎﻓﻈﺔ ﺫﺍﺕ ﻃﺎﺑﻊ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ محافظ ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺩﺭﺓ ﻋﻠﻰ تحليل أمواج ﺍﻟﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ الحادثة في صلب الحياة الاجتماعية للمجتمعات الرأسمالية المتجددة، وهو الأمر الذي أفقدها قدرتها ﻋﻠﻰ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وتحديد مساراته وتأكيد وظيفته التطورية في المجتمع، ولا يخفى مع ذلك أن الوظيفية قد تناولت مفهوم الصراع ضمن مآلات التركيز على عنصري الثبات والاستقرار الاجتماعيين وعلى نحو يقلل من أهمية الصراع ويضعه في خانة التهديد لوحدة المجتمع واستقراره.
وعلى خلاف الرؤية الوظيفية، يُقرّ دارندورف بأهمية الصراع ودوره الفعّال في تحقيق التوازن الاجتماعي، ويؤكد ضرورته الحيوية في عملية التغيير الاجتماعي والانتقال بالمجتمع إلى صيغٍ متجددة ومبتكرة من التطور الخلاق. فالصراع − كما يراه − عنصر حيوي في المجتمع وهو القانون الذي يدفع المجتمع إلى التطور والوحدة والتفاعل والتماسك.
وتأسيسًا على هذه الرؤية وجه دارندورف نقده الشديد إلى ممثلي الوظيفية، أمثال: دوركهايم وكونت وبارسونز الذين يقدمون رؤية توافقية ومتكاملة وثابتة للمجتمع، ويرفضون منطق الصراع، وعلى خلافهم جميعًا يرى دارندورف أن للمجتمع وجهين: يُعبر الأول عن الانسجام والآخر عن الصراع، ويرى بأنه قد حان الوقت للبدء في تحليل الوجه السلبي للمجتمع والتخلي عن الصورة المثالية التي أنشأتها الوظيفية.
على خلاف الوظيفيين أيضا يؤكد دارندوف على أهمية الصراع ودوره الحيوي في عملية المحافظة على الكيان الاجتماعي، وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن تنظيم الصراع وتحديد مساراته يشكل منطلق الحرية في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية. وهو في هذا السياق يؤكد ضرورة تنظيم الصراع وتوجيه مساراته، لأن تجاهل الصراع ودوره في الحياة قد يؤدي إلى كوارث اجتماعية، وهو في هذا السياق يرفض عالم الانسجام الكامل الذي ينادي به الوظيفيون، لأن التوازن الكامل قد يؤدي إلى صراعات مدمرة في نهاية المطاف. ويرى في هذا السياق أن الناس لديهم اهتمامات وتطلعات مختلفة، وهم يبتكرون مؤسسات تمكنهم من التعبير عن هذه الاختلافات، وهذا الاختلاف − مقرونًا بحرية التعبير عنه − يُشكل محور الديمقراطية، وهذا يعني أن دارندورف ينظر إلى الديمقراطية بوصفها عملية تقوم على تنظيم الصراع وتحديد مساراته والتعايش مع معطياته ضمن تساوقات اجتماعية قائمة على تنظيمه وتوجيه حركته.
4- البنية الثقافية الاجتماعية للصراع:
ينشأ الصراع في صلب الحياة الاجتماعية، ويؤدي دورًا حيويًّ في مسار الحياة الإنسانية والاجتماعية، وبدون الصراع تتحول الحياة إلى مستنقع آسن من العدمية والتفكك والانحلال. ومن البديهي أن الصراع ينشأ في مختلف تجليات الوجود الاجتماعي بدءًا من الفرد، مرورًا بالجماعات، وانتهاء بالصراع الذي يقوم بين الطبقات الاجتماعية.
ومن صلب هذه الرؤية الميكروسوسيولوجية للصراع يؤكد دارندورف على أهمية الصراع في معترك الحياة الفردية، ويقدم لنا تصورًا يفيد بأن كل فرد في المجتمع يؤدي دورًا اجتماعيًّا محددًا في نسق الأدوار الاجتماعية اللامتناهية في نسيج المجتمع وأنساقه. وهذه الأدوار اللامتناهية تشكل النسيج الحيوي للمجتمع الذي يتكون في حقيقة الأمر من تفاعل لامتناهٍ من الوحدات أو الأجزاء المترابطة ببعضها البعض بشكل فضفاض إلى حدٍ ما. فعندما يوجد الفرد في موقع مهني اجتماعي، يتشارك بالانتماء إلى طبقة تتكون مع عدد كبير من الأفراد الآخرين الذين يجانسونه في الظروف والأحوال، ومع ذلك فإنه قد لا يشعر بأي إحساس إيجابي أو سلبي تجاه هذه الطبقة أو الجماعة التي ينتمي إليها دون شعور منه. ويؤكد دارندورف على أن الانتماء الحقيقي للفرد إلى طبقة أو جماعة يتطلب إحساس الفرد وشعوره ووعيه بالانتماء إلى هذه الجماعة أو تلك، ومثل هذا الوعي يشكل شرطًا ضروريًّا من شروط تشكل الجماعة. وفي هذا السياق يرى دارندورف أنه لا بد من توفر ثلاث مجموعات من الشروط التي يجب تحقيقها كي تصبح المجموعة جماعة نشطة في الصراع وهي: الشروط الثقافية والسياسية والاجتماعية.
والثقافة في منظو دارندورف تشكل نسقًا متكاملاً من الأفكار والتصورات أو الأيديولوجيات والمعايير الأخلاقية، ويطلق دارندورف على هذا التشكيل الثقافي تمسية الميثاق (Charter). ويميز دارندورف في قلب الجماعة بين الأعضاء النشطين والهامشيين في تنظيم المجموعة. ففي الكنيسة يوجد بين المصلين أعضاء نشطون وغير نشطين. هناك أشخاص يجعلون الكنيسة تعمل بالفعل من خلال العمل والأنشطة كالتدريس في مدرسة الأحد، أو تنظيم مبيعات المخبوزات، أو وممارسة الطقوس الأحدية؛ وهناك الأشخاص الذين ينشطون بوتيرة ضعيفة جدا إذ يحضرون مرة أو مرتين في الأسبوع، وعلى العكس من ذلك هناك من يواظب على الحضور باستمرار ويشارك بقوة في فعاليات. ويمكننا أن نرى الشيء نفسه في الأحزاب السياسية: إذ هناك من ينشط بصورة مستمرة ودائمة وهناك من يشارك فقط في عملية التصويت السياسي.
وهنا يؤكد دارندورف على أهمية النسق الثقافي في عمل الجماعة، وهذا يعني أنه يجب على الجماعة كي تكون جماعة حقيقية أن تتمثل نسقًا من الأفكار والقيم والتصورات الأيديولوجية المشتركة بين أفراد الجماعة، ويجب أن تكون هذه الأفكار مختلفة عن الأنساق الفكرية والثقافية للجماعات الأخرى، وهو شرط أساس من شروط الصراع. على سبيل المثال: يجب على الطلاب في الجامعة بداية الاشتراك في مجموعة من الأفكار والقيم كي يشكلوا من أنفسهم جماعة اجتماعية، وهي ستكون جماعة مختلفة عن جماعات الإداريين وأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة. فالفرد الذي لا ينتمي إلى جماعة ثقافية معينة يفقد مساره ويسلك بطريقة فوضوية في الحياة، وهذا يعني أن تمثل الأنساق الفكرية والثقافية في المجتمع تفرض ضرورتها وأهميتها. وهذا هو الأمر الذي أكده دوركهايم سابقًا، إذ يرى أن المعايير الاجتماعية ضرورية جدًا في تنظيم الحياة الإنسانية، وقد بالغ − ربما − في القول: إن الناس ينتحرون ما لم تكن هناك معايير واضحة لتوجيه السلوك الاجتماعي، وهذا يعني بالنسبة لدارندورف أن القواعد والمعايير والمبادئ السلوكية مهمة جدًا في تشكيل لُحمة الجماعة المتورطة في الصراع.
كما أن الصراع يتطلب موقفًا جمعيًّا موحدًا يعبر عن مصالح الجماعة وتوجهاتها الثقافية بوصفها جماعة تعبر عن مصالح أفرادها وتطلعاتهم. وهذا هو الأمر الذي حدا بدارندورف أن يطلق على الجماعة "جماعة المصالح"؛ وهي نوع من الجماعات التي تعتمد نظامًا فكريًّا موحدًا يحافظ على أمن الجماعة ووجودها، ويؤهلها لخوض الصراع مع الجماعات الأخرى بحثًا عن صيغة التضامن بين أفراد الجماعة، وهذا يعني أن الأعراف والقيم والتقاليد الثقافية للجماعة تمارس دورًا حيويًّا في الحفاظ على تضامن الجماعة ووحدتها، وتؤهلها عمليا للدفاع عن مصالحها إزاء الجماعات الأخرى.
5- التواصل كضرورة في ديناميات الصراع:
يحلل دارندورف بنية الجماعات، ويدرس طبيعة العلاقات الداخلية القائمة فيها، ويبحث في التسلسل الهرمي للسلطة الفاعلة فيها، ويدرس معايير هذا التسلسل، ويبيّن أحواله وصيروراته ووظائفه في داخل مجموعات المصالح نفسها وفي علاقاتها مع الجماعات الأخرى. ويؤكد داريندورف في هذا السياق على أهمية التواصل الداخلي بين أفراد الجماعات، ويرى بأن التواصل الجيد يشكل شرطًا أساسيًّا من شروط تشكل جماعات المصالح، إذ يرى بأن قدرة المجموعة على التواصل مع الآخرين تمكن الجماعة من تشكيل الوعي بمصالحها وتأصيله في ديناميات سلوكها وحركتها.
وبالمقارنة مع دارندورف يلاحظ أن ماركس كان قد أكد سابقًا على أهمية التواصل بين أفراد الطبقة الاجتماعية، وقد أعلى من شأن وسائل التواصل المتاحة في عصره: مثل المطبوعات والصحف والإعلانات والملصقات والجرائد والراديو وغير ذلك من وسائل الاتصال، وقد قدّر أهمية هذه الوسائل في تشكيل الوعي الطبقي والتقريب بين أبناء الطبقة الاجتماعية الواحدة.
وفي زمن الأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي تأكدت أهمية التواصل في تشكيل الروابط الاجتماعية بين الأفراد وضرورته في عملية تطوير البُنى الداخلية للجماعات التي تشترك في المصالح. ونحن نرى اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب اليوم دورًا حيويًّا في تشكيل لُحمة الجماعات، وتعزيز الروابط الداخلية بين أفرادها. فعندما ظهر البريد الإلكتروني والإنترنت، لأول مرة، بدأ الناس يتواصلون مع بعضهم البعض، وكان الناس يرسلون نصوصا عبر البريد الإلكتروني إلى أصدقائهم في الحي أو أقاربهم أو معارفهم في العمل، وقد عززت هذه التقانات الاتصالية العلاقات الاجتماعية القائمة ورسختها بالفعل.
ومع ظهور محركات البحث مثل Google ومواقع الويب مثل Yahoo بدأت صيغ جديدة من التفاعل الاجتماعي العالمي بالظهور. وقد سهلت شبكة الإنترنيت تشكل الجماعات السياسية والجماعات والبيئية والثقافية حول العالم، وفتحت هذه الوسائل آفاقًا جديدة في بنية المجتمع، فالفرد الذي يهتم بالبيئة اليوم سيكون من السهولة، بمكان أن ينتسب إلى الجماعات المختصة بالبيئة، وأن يشارك في فعاليتها وأنشطتها وأن يدعم مطالبها؛ وينسحب هذا الأمر على مختلف أشكال الجماعات والنشاطات المتنوعة التي تمارسها في المجتمع، وأصبح بإمكان الفرد على سبيل المثال وليس الحصر أن يتواصل مع الأشخاص الآخرين ذوي التفكير المماثل في مختلف أنحاء العالم.
6-نشأة الجماعات ومشروعيتها:
تنبثق الجماعات في المجتمع تحت ضغط الحاجة إلى تلبية المصالح المشتركة بين أفرادها، وتشكل هذه الجماعات البنية الاجتماعية للصراع في الفضاء الاجتماعي الواسع للمجتمع، وتبدو لنا هذه الحقيقية واضحة عندما ننظر إلى المجتمع الذي يتكون من عدد لامتناهٍ من الجماعات والمؤسسات والأحزاب والجمعيات التي تتفاعل في دورة مستمرة من الصراع على الوجود وتحقيق المصير. وتنحو هذه الجماعات وفق دارندورف إلى اكتساب المشروعية الثقافية والسياسية بوصفها تجمعات للتعبير عن مصالح أفرادها. وينوِّه دارندورف إلى أهمية تكوين الجماعات المشروعة التي تأخذ طابعًا مؤسساتيًّا وأطلق على هذه الجماعات تسمية "الجماعات المنظمة الضرورية" (imperatively coordinated associations)، وهي الجماعات أو المنظمات التي تتشكل من خلال أنساق الأدوار والمراكز الاجتماعية ضمن سياق تأكيد المصالح المشتركة للمنتسبين إليها الذين يخضعون في الوقت نفسه لمركزية القوة ومعادلاتها التفاضلية التي تفرض هيمنتها ومشروعيتها. ويمكن النظر إلى هذه العلاقات بوصفها علاقات سلطوية تمنح بعض أفراد الجماعة الحق في ممارسة السلطة والقوة بصورة مشروعة للسيطرة على الآخرين. وهكذا يتصور دارندورف النظام الاجتماعي على النحو الذي يتم فيه الحفاظ على وجوده من خلال التوازن بين علاقات السلطة والقوة في داخل هذه الجماعات وفي مختلف التنسيقات الاجتماعية القائمة.
7- السلطة والقوة بوصفها موارد للصراع:
يولد الصراع في معترك الحصول على الموارد وضمان توزيع عادل لها، والموارد غالبًا ما تتمثل في الموارد والخيرات المادية، والاحتياجات التي تفرض نفسها ضرورة حيوية وجودية في مجال الحياة الاجتماعية. ولكن أخطر مظاهر الصراع هو ذلك الذي يتم في مسار الاستئثار بالسلطة والقوة اللتان تشكلان نوعا من الموارد النادرة المخيفة التي تتنافس الجماعات وتقاتل من أجلها. وفي هذا السياق يركز دارندورف على نوعين أساسيين من الأدوار تلك التي تتمثل في الفئة التي تحكم وتلك التي تتمثل في الفئة التي تخضع، فالحكام يناضلون من أجل المحافظة على الأوضاع الراهنة التي تعبر عن هيمنتهم ووضعيتهم السيادية، وعلى خلاف ذلك فإن المحكومين يناضلون من أجل إعادة توزيع السلطة والقوة طلبا للعدالة الاجتماعية والسياسية. وفي ظل ظروف معينة محددة، يزداد وعي الأفراد بالمصالح المتناقضة، ويؤدي هذا الوعي يؤدي إلى عملية الاستقطاب الأفراد في المجتمع إلى مجموعتين متعارضتين كل منهما تعي مصالحها الموضوعية، ومن ثم تنخرط كل منهما في معترك الصراع على السلطة والقوة والنفوذ والموارد. ولا يكون الحل إلا في إعادة توزيع السلطة بين الجماعات المتقاتلة على نحو أكثر عدلا، وهو الأمر نفسه الذي يجعل الصراع مصدرًا للتغيير في النظم الاجتماعية القائمة[6]. ويؤدي هذا الأمر المتمثل في إعادة توزيع السلطة إلى إضفاء الطابع المؤسساتي على مجموعة جديدة من الأدوار الحاكمة والمحكومة التي تمّ استقطابهما في مجموعتين من المصالح ضمن آلية الصراع على السلطة. وهكذا يتجسد الواقع الاجتماعي في سلسلة لا تنتهي من أشكال الصراع على السلطة في داخل الجماعات وفيما بينها وقد تتحول هذه الصراعات إلى صراعات أعمق وأشمل يمكنها أن تغطي المساحة الاجتماعية في الكامل وتؤدي في النهاية إلى تغيرات راديكالية في قلب المجتمع.
8- القوة أداة الصراع وغايته:
يشكل امتلاك القوة شرطًا أساسيًّا من شروط الصراع الاجتماعي، والقوة هي الأداة التي تمكِّن الفاعلين الاجتماعيين من الدخول في معترك الصراع دفاعًا عن مصالحهم، أو للمطالبة بحقوقهم الاجتماعية. والقوة مفهوم كوني غامض فضفاض قد يثير نوعًا من القلق والتوتر في النفوس. وقد أثار مفهوم القوة علماء الاجتماع الذين انصرفوا إلى معالجته، والبحث في تكويناته وتشكيلاتها ودوره في الحياة الاجتماعية، وقد أدرك علماء الاجتماع أن القوة كامنة في عالم الأشياء وغائرة في مختلف مظاهر الوجود، ومع ذلك يصعب رصدها لأنها موجودة في كل موقف اجتماعي وفي كل لحظة من لحظات وجودنا الإنساني والفيزيائي.
غالبًا، ما يتساءل علماء الاجتماع عن مصادر القوة ووظائفها وآليات اشتغالها والكيفيات التي تتم فيها، ودورها في عملية الصراع الاجتماعي. ويجد علماء الاجتماع صعوبة كبيرة في ضبط متغيرات القوة ومآلاتها الاجتماعية. ومع ذلك فإنهم يتفقون على أن القوة تشكل عنصرًا أساسيًّا في البنية الاجتماعية، ويشيرون إلى حضورها في العمق الوجودي للمجتمع، وإلى وجودها في صميم التكوينات الاجتماعية. وهم يرون أيضًا أن القوة أمر يمكن امتلاكه عمليًّا، مثل: السلطات التي يمارسها رئيس دولة أو شركة أو مؤسسة ما، أو مثل السلطات التي تمارسها البنوك والشركات والمصانع والجيوش، فالقوة سلطة يمكن لأي مؤسسة أو شخص امتلاكها واستخدامها في توجيه مسارات الحياة الاجتماعية وضبط حركتها والمحافظة على إيقاعاتها.
فالقوة كما يراها بعض علماء الاجتماع تتجسد في النفوذ الاجتماعي، وتتغلغل في صميم العلاقات الاجتماعية، ويرى بعضهم الآخر أن القوة يمكن أن تتجلى في سلطة النصوص والخطب والمعارف والعلوم، كما يمكنها أن تتوغل في مختلف مناحي الوجود وتتغلغل في بنية العلاقات الاجتماعية. فالقوة سلطة تتجسد في الفعل الاجتماعي وتسجل حضورها في المظاهر الفيزيائية للوجود (قوة الريح، وقوة الإبحار، وقوة الصواعق، وقوة الزلازل).
وفي سياق آخر، يرى دارندورف أن القوة الاجتماعية، تمكن فرد ما من تنفيذ إرادته رغم المقاومة التي تواجهه، وهنا أيضًا يميز دارندورف بين القوة والسلطة: فالسلطة نفوذ يمكن ممارسته في أي مستوى من مستويات العلاقات الاجتماعية، وتعتمد في الغالب في صيغتها على طبيعة الأفراد المعنيين بممارستها. وعلى هذه الصورة يعرف دارندوف القوة بوصفها بوصفها حقيقة من حقائق الحياة البشرية.
ويمكن للقوة كما يرى دارندورف أن تعتمد على مصادر مختلفة مثل الإقناع والحوار والمناقشة والعنف، فعلى سبيل المثال: إذا كان شخص ما يصوب مسدسًا إلى شخص آخر، فهو في هذه الحالة يمتلك القوة الحسية المجسدة. وإذا كان هذا الشخص على استعداد لاستخدامها وكان الفرد المهدد خائفًا من الموت، فمن الأفضل له أن يخضع وينفذ إرادة مهدده كي يتجنب مصير الموت. وفي المقابل يمكن لفعالية الإقناع بمهارة أن تمارس دورها كقوة، إذ قد نخضع وننجذب للطاقة الإقناعية بوصفها قوة بالطريقة نفسها التي ننجذب نحو قوة مغناطيسية ناعمة. ويمكن للإقناع أن يعتمد على مهارات متنوعة، فعلى سبيل المثال: إذا كان شخص ما يمتلك معرفة عميقة في علم النفس الاجتماعي فإنه يستطيع أن يُسخّر هذه القدرة ويوظفها في ممارسة القوة والسلطة في فضاء التفاعل الاجتماعي.
فالقوة عند دارندورف شكل من أشكال السلطة، وصيغة من صيغها المشروعة، والسلطة قوة مشروعة وترتبط دائمًا بالمناصب أو الأدوار الاجتماعية، كما أنها تشكل جزءًا من بنية النظام الاجتماعي. والسلطة تتم ممارستها من خلال الأدوار والمراكز الاجتماعية: فالأستاذ في الجامعة، ورجل الشرطة، ومدير الشركة، والطبيب، هؤلاء جميعًا يمارسون القوة بوصفها سلطة مشروعة، وهذا يعني أن العلاقات الاجتماعية توجه من خلال القوة والسلطات المشروعة.
ومن حيث الوظيفة يرى دارندورف أن القوة والسلطة كلاهما يشكل أهم أدوات المحافظة على تكامل النظام الاجتماعي، ومن غير السلطة فإن المجتمع قد يعاني من التفكك والانحلال، ويدخل في فوضى مدمرة وشاملة. فالسلطة القائمة تفعل فعلها في تحقيق التوازن والتكامل والانسجام بين الرغبات الفردية ومطالب الحياة الاجتماعية، وتمارس دورها في تحقيق هذا التوازن بوسائل الضغط الثقافي والقانوني.
يتفق داريندورف مع دوركهايم وبارسونز على أن المجتمع يعتمد في تشكله عن أنساق من الأدوار والمعايير والقيم الأخلاقية والثقافية، ولكنه وعلى خلافهم يرى أن نظام التنافر والصدام يفعل فعله في تشكيل المجتمع بدلاً من فرضية الإجماع الاجتماعي القائم على أرضية الثقافة. وفي هذا المستوى من التحليل يمكننا أن نرى الفرق الأساسي بين النظرية الوظيفية ونظرية الصراع: فالوظيفيون يؤكدون دور الثقافة التي تتيح للأفراد تماسكهم الاجتماعي طوعيا وهم بذلك لا يأخذون بمبدأ القوة كعامل اجتماعي مركزي في تحقيق التوازن الوظيفي، وعلى خلاف ذلك يرى منظرو الصراع بأن القوة هي السمة المركزية للمجتمع وأنها الفاعل الساسي في عملية تحقيق التضامن والتكامل. وعلى خلاف الوظيفيين يرى داريندورف أن الأدوار الاجتماعية، والمعايير، والمواقف والاتجاهات، والمكانة الاجتماعية، والقيم، أمور يرسم حدودها الأقوياء في المجتمع وتصب في تأكيد مصالحهم.
ويتفق دارندورف مع ماركس بأن ثقافة أي مجتمع تعكس مصالح النخبة القوية، فيه وليس المصالح السياسية للطبقات المتوسطة أو الدنيا. ويرى دارندورف في هذا السياق أن مفهوم الطبقة يرتبط بمفهوم السلطة أكثر من ارتباطه بالمال أو بالاقتصاد، وهو في هذا السياق لا ينكر أهمية العوامل الاقتصادية في تكوين الطبقة الاجتماعية وتوليد القوة لدى الأفراد المنتسبين إليها، ولكنه يؤكد على أن مفهوم الطبقة يتحدد بعوامل الصراع الاجتماعي ومركزية القوة والسلطة في المجتمع. ويبدو أن داريندورف يولي أهمية أكبر للصراع بالمقارنة مع كوزر الذي يؤكد على مركزية التمييز بين الصراع الداخلي والخارجي، وهذا يعني أن اهتمام دارندورف يتمحور حول مفهوم الصراع الطبقي الداخلي.
9- تراتبية السلطة:
يرى داريندورف أن العلاقات الاجتماعية تشكل جزءًا لا يتجزأ من التسلسل الهرمي للسلطة. وهذا يعني أن معظم الناس يوجدون في تراتبية هرمية ضمن شبكات من علاقات القوة والسلطة. والأفراد وفقا لهذا التصور يمارسون السلطة على بعضهم بعضًا ضمن تدرجات ومستويات اجتماعية مختلفة، وهم عندما يمارسون سلطتهم على الأدنى يخضعون في الوقت ذاته لسلطة تفوقهم قوة. لنفترض على سبيل المثال، في مطعم محلي يمثل جزءًا من سلسلة مطاعم، يتولى مديره ممارسة سلطته على الموظفين العاملين في مطعمه، ويشاركه في هذه السلطة نوابه ومديرو المناوبة وبعض الموظفين الأساسيين في المطعم، وهذا يعني أن جماعة العاملين في المطعم تأخذ صورة مجموعتين إحداهما تملك السلطة (المدير وأعوانه) والأخرى تضع للسلطة الخدم والطباخين وعمال الخدمة، أي: أن هناك مجموعتين لهما اهتمامات مختلفة في السلطة: مجموعة من المديرين ومجموعة من الموظفين. وفي الوقت نفسه فإن مدير المطعم يخضع لسلطة رؤسائه في المركز وينفذ تعليماتهم. وهذا يعني حسب دارندورف أن المجتمع ينتظم في شبكات واسعة من موازين السلطة وتدرجات القوة التي تتوافق مع مصالح الطبقات الاجتماعية الأكثر قوة ومنعة وسيطرة، وعلى هذه الصورة يتم تنسيق العلاقات الاجتماعية من خلال السلطة والقوة في كل مكان.
ومن هذا المنطلق يطلق دارندورف على الأشخاص - الذين تجمعهم اهتمامات متشابهة وأوضاع متجانسة في الموقع من السلطة والقوة - تسمية طبقة اجتماعية. على سبيل المثال، يشكل الطلاب مجموعة متماثلة من الاهتمامات والرغبات والمواقف التي تتعارض مع تلك التي توجد عند الأساتذة، وعلى هذا الأساس يمكن أن نتحدث عن جماعة الطلاب وجماعة الأساتذة، وعن طبقة العمال وطبقة البرجوازية، طبقة الموظفين وطبقة المدراء...
ويؤكد دارندورف في هذا المقام على التضاد بين الجماعات والتنظيمات الاجتماعية التي تدخل عادة في صراع حول كيفية تقسيم الموارد المادية والمعنوية مثل: السلطة والدخل والملكية، يؤكد دارندورف في هذا السياق على نسق الاهتمامات والمصالح التي تؤكد هوية الجماعات، فالمصالح المشتركة والوعي بها يشكل الأصل في تكوين الجماعات ونشأتها داخل المجتمع، وهو في الوقت نفسه يميز بين ما يسميه بالمصالح الكامنة والمصالح الظاهرة. والأصل في المصالح التي تربط بين أفراد الجماعة أن تكون كامنة في البداية، وهذا يعني أن ظهورها يحتاج إلى فعالية واعية واضحة وصريحة بهذه المصالح.
10- الصراع والتغيير الاجتماعي:
يشكل الصراع وفقًا لدارندورف المحرك الأساسي لعملية التغير الاجتماعي في أبسط مظاهر الحياة الاجتماعية وفي أكثرها تعقيدًا. وإذا كان ماركس يركز على الصراع الطبقي كمفهوم أساسي في فهم المجتمع، فإن دارندورف يأخذ بعين الاعتبار مختلف مظاهر الصراع السياسي والاجتماعي والجندري والثقافي في داخل الجماعات الصغرة كما بين الجماعات الكبرى التي ترقى إلى مستوى الطبقات الاجتماعية.
وفقًا لـ داريندورف، تتباين شدة الصراع وتتباين درجة العنف الكامنة فيه بتباين المواقف والوضعيات الاجتماعية. كلما ازدادت حدة الصراع ازدادت تكاليفه وارتفع منسوب المشاركة فيه، فالصراع يستهلك الطاقة والمال والجهد والموارد التي تُهدر كلما ازداد استهلاك الموارد وازدادت حدة الصراع واشتدت درجة العنف فيه وعظُمت قوته وقدرته. وللتمييز بين مستويات الجهد يمكن المقارنة بين الجهد الذي تتطلبه لعبة "الداما" وبين الجهد الذي يبذله جندي في الخطوط الأمامية مع العدو. فلعبة الداما لا تتطلب جهدًا كبيرًا، وكل ما تتطلبه هو جزء صغير من الطاقة الذهنية لدى اللاعبين، وعلى خلاف ذلك؛ فإن المشاركة في حرب تكون فيها الحياة والموت على المحك يمكنها أن تدمر نفسية الفرد وتحطم كيانه الانفعالي برمته. وبالنسبة لـ داريندورف يمكن قياس العنف القائم في الصراع المسلح بمستوى الأسلحة المستخدمة ومدى قدرتها القتالية. وعلى عكس الحروب المسلحة فإن المظاهرات السلمية تتميز بدرجة منخفضة من العنف، بينما تكون أعمال الشغب أكثر عنفًا وتدميرًا.
يرى داريندورف أن الصراعات العنيفة قد تؤدي إلى إحداث تغييرات اجتماعية أكثر عمقًا وأعظم شمولاً. لنأخذ على سبيل المثال نضال المهاتما غاندي كمثال على الصراع بدرجة عالية من الشدة ولكن بدون عنف فيزيائي. غاندي هو أيضًا مثال جيد على التغييرات الاجتماعية العميقة التي يمكن أن يولدها الصراع الشديد. ومثل هذا الصراع السلمي الذي قاده غاندي لم يؤد إلى التغييرات الهيكلية الرئيسية في المجتمع الهندي فحسب، بل امتدّ تأثيره الكبير إلى مختلف أصقاع العالم.
ويمكننا أيضًا التفكير في الصراع الذي يعتمد على العنف، ومثال ذلك: الغزو الأمريكي للعراق الذي يمثل نموذجا واضح للصراع الدموي العنيف الذي أدى إلى إحداث شروخ واسعة في بينة المجتمع العراقي وتسبب في حدوث تغيرات جوهرية عميقة في تكويناتها الثقافية والسياسية والاجتماعية[7].
ويمكن القول في هذا السياق إن دارندورف يؤكد في نظريته حول الصراع والتغير الاجتماعي على الرباعية الآتية: إذ يرى بدايةً أن الصراع هو عملية مستمرة لا هوادة فيها، وهي تنجم عن قوى متعارضة داخل التكوينات الاجتماعية ممثلة في الجماعات والجمعيات والهيئات والتنظيمات التي تعبر عن مصالح مشتركة للأفراد الذين ينتسبون إليها؛ وفي المستوى الثاني يتم تسريع مثل هذا الصراع أو تأخيره من خلال سلسلة من الظروف أو المتغيرات الهيكلية المتداخلة؛ وفي المستوى الثالث، يؤدي حل النزاع في وقتٍ ما إلى وضع اجتماعي بنيوي ذي طابع مشروع اجتماعي؛ ومن ثَم − وفي المستوى الأخير وفي ظل ظروف محددة − تنشأ دورة جديدة من الصراع اللاحق والمستمر بين القوى المتعارضة في مسار الصراع على السلطة والقوة والمنافع [8].
وباختصار يرى دارندورف أن القوة والسلطة تشكلان الموارد النادرة المخيفة التي تتنافس عليها الجماعات وتتقاتل عليها المجموعات الفرعية داخل المؤسسات، وهي تشكل المصادر الرئيسية للصراع والتغيير الاجتماعي، والصراع ما هو في نهاية الأمر إلا انعكاس للتنافس بين الأفراد والجماعات على موارد السلطة والقوة والخيرات المادية والمعنوية.
11- مستوى العنف ومشروعيته
تتحدد درجة العنف في الصراع الاجتماعي − وفق داريندورف − بثلاث مجموعات متمايزة من العوامل الاجتماعية: (1) الظروف الفنية والسياسية والاجتماعية للتنظيم؛ (2) التنظيم الفعّال للنزاع داخل المجتمع؛ و (3) مستوى الحرمان النسبي. ويبيّن في هذا السياق أنه كلما استوفت الطبقة الشروط الفنية والسياسية والاجتماعية للتنظيم، تتراجع احتمالية أن يكون الصراع عنيفًا. وعلينا هنا أن نأخذ بعين الاعتبار أن مستوى معين من التنظيم ضروري لمجموعة ما للانتقال من مجموعة إلى مجموعة أخرى، وهذا يعني أنه كلما كانت المجموعة أفضل تنظيماً، زادت احتمالية أن يكون لها أهداف عقلانية تسعى إلى تحقيقها بوسائل موضوعية وعقلانية. ويرتبط عنف النزاع أيضًا ارتباطًا واضحًا بوجود طرق شرعية لتنظيم الصراع.
بعبارة أخرى، كلما زاد مستوى القواعد الرسمية أو غير الرسمية التي تحكم النزاع، زاد احتمال أن تستخدم الأطراف المتصارعة القواعد أو المسارات السلمية القضائية لحله، ومع ذلك، يتأثر هذا العامل بمدى استخدام الطرفين المتنازعين للطرق المشروعة في حلّ النزاع، وهذا يعني أنه يجب على الطرفين أن يعترفا بالعدالة الأساسية للقضية المعنية (حتى لو لم يتفقوا على النتيجة). وهذا يعني أيضًا أن الطرفين المتصارعين يجب أن يكونا على درجة عالية من التنظيم. وعلاوة على ذلك، فإن احتمال نشوب الصراع العنيف يرتبط إيجابيًّا بإحساس الأفراد بالحرمان النسبي الذي يؤدي إلى زيادة في منسوب العنف وشدته.
وفي مسار آخر يرى دارندورف أن شدة الصراع داخل النظام الاجتماعي تتحدد بمستوى الحراك الاجتماعي، والطريقة التي يتم بها توزيع السلطة والموارد النادرة في المجتمع. فالعنف والشدة مرتبطان بمستوى تنظيم المجموعة، ويبين في هذا السياق أن العنف وشدة النزاع يتجهان إلى الانخفاض وفقًا لدرجة التنظيم العقلاني للجماعات، وهذا يعني أنه كلما كان تنظيم الجماعات أفضل انخفضت درجة العنف وشدته، ويبنى على ذلك أن التنظيم الأكثر فعالية يتميز بفعالية عقلانية أكبر. فالناس يبدؤون بالتساؤل الاحتجاجي عن شرعية توزيع الموارد النادرة وذلك عنما تكون معظم السلع والمراكز الاجتماعية المرغوبة في المتناول الاحتكاري لطبقة محددة أو جماعة معينة. وهنا يتناول داريندورف هذه المشكلة ويبحث في طبيعتها إذ يرى أن احتكار طبقة ما أو جماعة ما للموارد يؤدي إلى زيادة حدة الصراع وشدته. وهذا الأمر سيؤدي إلى تعاضد أفراد الجماعة ذات المصالح للمشاركة في الصراع وتحديد أهدافه بدرجة كبيرة، وهم يوظفون صراعهم في تحقيق المزيد من المشاركة في الموارد بطريق مشروعة وقانونية.
12- ما بين ماركس ودارندورف:
تشكل النظرية الماركسية المحك الأساسي الذي يمكن اعتماده في استكشاف نظرية دارندورف الصراعية وتحديد مفاصلها الأساسية. لقد أوضحنا منذ البداية تأثر دارندورف بالتصورات الماركسية حول مفهوم الصراع في المجتمع ولاسيما تلك التي تدور حول الصراع الطبقي. ومع أهمية التأثر الكبير بالنموذج الماركسي ومنهجياته العملاقة، استطاع دارندورف أن ينفلت من مدار النظرية الماركسية وأن يشكل لنفسه محورًا مداريًّا جديدًا من خلال توجيه النقد إلى الماركسية نفسها وتطوير بعض مقولاتها الأساسية.
لقد بين دارندورف − متجاوزًا الفكرة الماركسية − أن الصراع يتجاوز حدود الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية التي تملك وسائل الإنتاج، وأن هذا الصراع يمتد ليشمل جوانب أخرى من الصراعات التي تتأجج في قلب الحياة الاجتماعية مثل الصراع العرقي، والصراع الثقافي، وصراع الهويات، والصراع على المصالح، والصراع بين الأجيال، وبين الجماعات المدرسية والجامعية.
وأشار دارندوف إلى أن كلاسيكيات ماركس لم تعد قادرة على تفسير الجدة والحداثة في المجتمعات الرأسمالية الحديثة التي شهدت تطورًا نوعيًّا بالمقارنة مع الزمن الماركسي في القرن التاسع عشر. ولم يعد مفهوم الطبقة الماركسي يتكيف مع مفهوم الطبقة العاملة في الزمن الليبرالي الجديد؛ فلم تعد الطبقة الواحدة بأهدافها وتطلعاتها الكلاسيكية موجودة. فالزمن الجديد يضعنا في صورة الطبقات ذات المصالح المتباينة المتقاطعة في نسيج معقد من المصالح والاهتمامات، فالفرد الواحد يمكنه اليوم أن يدخل في نسيج جماعات متعددة وطبقات متباينة ومؤسسات مختلفة، وهذا الأمر لم يكن مألوفًا أو حتى موجودًا في الزمن الماركسي. فالحياة اليوم، على خلاف الزمن الماركسي، تضج بالمصالح والرغبات والاهتمامات المختلفة التي تضع أفراد الطبقة الواحدة في مسارات متباينة ومواقع متعددة ومراكز متنوعة.
وفيما يتعلق بوضعية الملكية، يتحدث دارندورف عن هذا الانفصال الكبير بين الملاك الرأسماليين وبين المدراء الذين يقومون بإدارة هذه الممتلكات، وهذا يعني تراجع سلطة الطبقة التي تملك لصالح فئة الخبراء والمديرين الذين اتخذوا لأنفسهم مواقع القوة في علاقات الإنتاج وتوزيعاته[9]. ويبين دارندورف في هذا السياق أن ظروف الطبقة العاملة قد تحسنت اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا بفضل هذا الانشطار في السلطة بين الخبراء الإداريين والمالكين لوسائل الإنتاج، وهذا لا يعني بحال من الأحوال غيابًا للصراع أو تغييبا له، فالصراع رغم ذلك ما زال يضرب بقوة ويتغلغل في مختلف مناحي المجتمع طولاً وعرضًا وارتفاعًا، وقد أثبت "الواقع" أن الصراع لم يغب يومًا عن الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية " [10].
لقد شهد النظام الرأسمالي الجديد تغيرات جوهرية تمثلت في توسع الطبقة الوسطى، وانفصال الملكية وظهور المجتمع الرأسمالي الليبرالي الجديد، ونمو الملكيات الفكرية، وتعاظم أهمية الرأسمال الثقافي والمعرفي، وثورة المعلومات والأوتوماتيك، ومثل هذه التغيرات الحادثة في بنية النظام الرأسمالي، لا تعني أبدًا – كما يرى دارندورف – أن النظام الرأسمالي قد أصيب بالضعف والشلل، بل على العكس من ذلك ما زال هذا النظام يمتلك عناصر قوته، ويُحكم السيطرة على مصادر الثروة والقوة والسلطة في المجتمع. وتتجلى قوة المجتمع الرأسمالي في صمود التراتبية الاجتماعية الهرمية القائمة على توازنات الانشطار: بين الحاكم والمحكوم، بين الظالم والمظلوم، بين الأقوياء والضعفاء، بين الأغنياء والفقراء، بين المقهورين والقاهرين، وهي السمات الأساسية للمجتمع الرأسمالي الليبرالي الجديد الذي تتشكل أمواجه على تقلبات القوة والسيطرة والخضوع. وهو الأمر ذاته الذي يؤدي إلى توليد التنظيمات الاجتماعية المتسقة الفاعلة في الصراع، كما يشكل القوة التي تدفع إلى التغيير الاجتماعي والسياسي من أجل إعادة توزيع القوة والسلطة والموارد. وينتهي دارندورف إلى التأكيد على أن الصراع في المجتمع الصناعي يولد من علاقات القوة والسلطة، لا من علاقات الإنتاج القائمة على التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته كما يرى الماركسيون الكلاسيكيون، وهذا يعني أن دارندورف تجاوز تصور ماركس عن الصراع الاقتصادي المادي واستطاع أن يجترح رؤية جديدة تبلورت فيها أنواع جديدة من الصراع، ولا سيما الصراع السياسي الثقافي الذي أولاه أهمية أكبر مقارنة بالصراع الصراع القائم على إعادة التوزيع العادل للخيرات المادية في النظرية الماركسية [11].
وعلى الرغم من التأكيد على مصادر مختلفة للصراع، فإن نموذجي دارندورف وماركس يكشفان عن سلاسل سببية مماثلة للأحداث التي تؤدي إلى الصراع وإعادة تنظيم البنية الاجتماعية. فعلاقات الهيمنة والخضوع والقهر تخلق معارضة "موضوعية" ترتبط بالمصالح. وكلاهما يؤكد أن الوعي من قِبل الخاضعين الذي يحدث في ظل ظروف معينة محددة يؤدي إلى الانتظام السياسي لأفراد الجماعة أو الطبقة. وهذا الوعي يستقطب الجماعات المقهورة عادة ويمكنها من المشاركة في الصراع ضد المجموعات المهيمنة والمسيطرة؛ ومن ثم يتفق كلا الرجلين على أن الصراع يؤدي إلى نمط جديد من التنظيم الاجتماعي، ولكن هذا النمط الجديد ينطوي في داخله على أنماط أخرى جديدة من الصراعات والتباينات في القوة والمصالح التي ستؤدي في النهاية إلى احتدام الصراع الذي يؤدي من جديد إلى التغيير الاجتماعي ضمن متوالية جدلية لا تتوقف أبدًا. وقد أكد كل من ماركس ودارندورف على أن تشكُّل الوعي بالمصالح المتعارضة من قبل الخاضعين سيؤدي إلى تسييسهم واستقطابهم في مجموعات الصراع من أجل المصالح.
ومن أوجه التوافق بين دارندورف وماركس يمكن استحضار النقاط الآتية:
1. يقرّ كلاهما - دارندورف وماركس – بالحضور الدائم للصراع في مختلف الأنظمة الاجتماعية.
2. يفترض كلاهما أن الصراع ناتج عن المصالح المتعارضة التي تكمن حتمًا في بنية المجتمع. ويريان أن الصراع عملية مستمرة ناشئة عن قوى متعارضة داخل الترتيبات الهيكلية في المجتمع.
3. ينظر كلاهما إلى المصالح المتعارضة على أنها انعكاسات للاختلافات في توزيع السلطة بين المجموعات المسيطرة.
4. ينظر كلاهما إلى المصالح على أنها تميل إلى الاستقطاب في مجموعتين متنازعتين.
5. بالنسبة لكليهما، يعتبر الصراع جدليًّا، حيث يؤدي حل نزاع واحد إلى إنشاء مجموعة جديدة من المصالح المتعارضة التي ستؤدي في ظل ظروف محددة إلى مزيد من الصراع. وهذا يعني أن الوصول إلى حلّ للنزاع في وقتٍ ما لن يمنع من نشوب مزيد من الصراعات في وقت ما بين القوى المتعارضة [12].
6. يريان أن التغيرات الاجتماعية القائمة على الصراع تشكل الطابع العام للحياة الاجتماعية، وأن هذا الصراع يخضع للقوانين الجدلية القائمة على مبدأ وحدة وصراع الأضداد أو قانون نفي النفي الماركسي.
7- يتم تسريع مثل هذا الصراع أو تأخيره من خلال سلسلة من الظروف أو المتغيرات البنيوية المتداخلة في المجتمع.
ومع أهمية التوافق، يلاحظ النقاد أن ثمة اختلافات جوهرية بين نظريتي ماركس ودارندورف وقد أشرنا إلى بعضها سابقًا. فعلى خلاف الرؤية الطبقية للصراع عند ماركس يرى داريندورف أن علاقات السلطة والقوة تشكل مكمن الصراع ومصدره الأساسي، وهو الموقف الذي يختلف كثيرًا عن موقف ماركس، الذي نظر إلى علاقات السلطة هذه على أنها مجرد بنية فوقية أقامتها الطبقات المهيمنة، وأن هذه البنية الفوقية ستزول وتتفكك على المدى الطويل عبر عمليات التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته التي تؤدي إلى تغيير جذري في بنية المجتمع ولاسيما بنية السلطة والقوانين.
يرى دارندورف على خلاف ماركس أن علاقات السلطة تشكل المصدر الأساسي للصراع الاجتماعي، ومن المعروف أن ماركس يرى أن مصادر الصراع تكمن في البنية التحتية أي في مستوى الإنتاج المادي للمجتمع، وتعود إلى التفاوت في الوصول إلى مصادر الثروة، ويشكل موقف دارندورف خروجًا عنيفًا على النظرية الماركسية التي تؤكد على البنية الاقتصادية التحتية في تحديد طبيعة السلطة بوصفها بناءً فوقيًّا، ولم يكن دارندورف موفقًا برأينا في فرضيته هذه، وقد تبين لاحقا أنه قد واجه صعوبة في تحديد مصدر الصراع الحقيقي في المجتمع.
ويمكننا القول في هذا السياق: إن إهمال دارندوف لمركزية الصراع الطبقي أفقده القدرة على تحليل الأسباب الحقيقية للصراع الاجتماعي. ومع أن النظرية الماركسية ما زالت تعاني من ضعفها في تحليل مظاهر الحياة المعاصرة فإنه التصورات التي قدمتها للسببية الاجتماعية الاقتصادية ما زالت تتميز بدرجة عالية من الدقة والوضوح. فالماركسية تُبين بوضوح كبير أن المصالح الاقتصادية تُشكل المصدر الأساسي للصراع، وأن هذا الصراع يتجلى في صيغ فوقية (نسبة إلى البناء الفوقي) وأن التشكلات الفوقية تُشكل نتاجا للتفاعل الاقتصادي والصراع على المصالح الاقتصادية. وقد أخفق داريندورف في تحديد مصدر الصراع بشكل واضح وبقي يدور في فضاء نتائج الصراع وليس في أسبابه، والسياسة كما يقال تعبير مكثف عن الاقتصاد الذي يكون دائما في أولوية الفعل الاجتماعي؛ وهذا يعني أن دارندورف بحث في الفروع وليس في الأصول، وخاض في النتائج دون المقدمات الأساسية لمسألة الصراع. وهو في رؤيته المثالية هذه قد أوقع نفسه في مستنقع البنائية الوظيفية بعد أن حاول الخروج من مصائدها.
13- خاتمة نقدية:
استطاع دارندورف أن يتوغل في عمق الحياة الاجتماعية، مستكشفًا أبعادها باحثًا في بنية الصراع الاجتماعي لدى المجتمعات الرأسمالية الحديثة، واستطاع أن يشيد نظرية متكاملة في مجال الصراع الاجتماعي وقد أرادها أن تكون قادرة على تحليل البُنى الاجتماعية وتشكُلاتها في اتجاه الكشف عن دور الصراع الاجتماعي في تشكل المجتمع وفي قيام الجماعات، وقد قدر له فعلاً أن يقدم منظومة من المفاهيم التحليلية الرشيقة التي مكنته من ممارسة التحليل الموضوعي للظواهر الثقافية والاجتماعية في المجتمعات الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين الذي يشكل الفضاء العام لزمن الرأسمالية السائلة أو ما يسمى بالرأسمالية الليبرالية الجديدة.
واستطاع دارندورف في تناوله لظاهرة الصراع في المجتمع أن يوظف مختلف الأدوات الماركسية والوظيفية، وأن يحقق نوعًا من التوازن الوظيفي الماركسي في تحليله للصراع الاجتماعي، واستكشاف دوره الحيوي في تحقيق التماسك الاجتماعي من جهة، وإحداث التغيير الاجتماعي المطلوب نحو آفاق جديدة في مجال التطور الاجتماعي والثقافي.
ويلاحظ النقاد أن الجهود الكبيرة، التي بذلها دارندورف في مجال الصراع، تشكل اليوم تراثًا فكريًّا يتميز بالعطاء والخصوبة، وقد امتاز بقدرته على توظيف مختلف النظريات السابقة في تشييد عمله وبناء نظريته، التي تنطوي في ذاتها على بذور الماركسية (نسبة إلى كارل ماركس) والماكس فيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر) والوظيفية (نسبة إلى رواد الوظيفية:دوركهايم وكونت وبارسونز) واستطاع أن يستجمع هذه النظريات وأن يخصِّبَها برؤيته الجديدة في المجتمع في ضوء التغيرات الحادثة والتطورات المهولة التي اعترت الحياة الاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى هذه المنهجية التي انطلق من تمثل النظريات الكلاسيكية الكبرى واستطاع في الوقت نفسه أن يتجاوزها ليقدم لنا رؤية مبتكرة لمفهوم الصراع ودوره في الحياة الاجتماعية.
ويمكن القول إن دارندورف استلهم كل من ماركس وماكس فيبر ودوركهايم في تقديم فهم جديد ورؤية جديدة للصراع الاجتماعي، وكان في ذلك أكثر تأثرًا بالنظرية الماركسية التي تركت ملامحها في مختلف جوانب نظريته. استلهم من ماركس فكرة الصراع الطبقي وعمَّمه على مختلف أوجه الصراع في المجتمع، واستطاع أن يوظف المنهج التاريخي الديالكتيكي الماركسي بمهارة وإحكام، وأن يوظفه في تحليل ظاهرة الصراع في مختلف جوانب ومناحي المجتمعات البرجوازية المعاصرة.
ولم يقف دارندورف بعيدًا عن وهج النظرية الفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر) وقد تجلَّت أفكار ماكس فيبر واضحة في نظرية دارندورف عندما استلهم مفهومي القوة والسلطة ليوظفهما بصورة إبداعية في تحليل ظاهرة الصراع الاجتماعي، وقد شكل مفهوما القوة والسلطة الفيبريين مفهومين مركزيين في تحليل دارندورف لظاهرة العنف والصراع في المجتمعات الرأسمالية؛ بدلاً من النظر إلى الطبقة باعتبارها السمة المركزية للمجتمع الحديث، وقد وجد أن مفهوم القوة يشكل السمة الأساسية التي تتغلغل في جميع مظاهر العلاقات الاجتماعية.
ولا يمكن في نهاية التحليل أن نتجاهل هذا الحضور المدوّي للمفاهيم الوظيفية التي تغلغلت في مختلف مناحي نظرية دارندورف الصراعية، ولاسيما مفاهيم التوازن والضبط والانسجام والمحافظة، ورغم الانتقادات التي وجهها دارندورف إلى الوظيفية فإنه لم يستطع تجاوز كثير من مفاهيمها التي فرضت نفسها في مختلف جوانب نظريته.
ويمكننا القول − في هذا المسار − إن نظرية دارندورف تعكس في ذاتها ثلاثة أطياف فكرية متناقضة إلى حد كبير وهي الماركسية والفيبرية والوظيفية، وتُشكّل هذه الجوانب الثلاثة عماد نظرية دارندورف في نظريته عن الصراع الاجتماعي. وعلى هذه الصورة يمكن النظر إلى نظريته الصراعية بوصفها توليف إبداعي نادر تجلت فيه النظريات الكلاسيكية في أطياف مبتكرة إبداعية حديثة حاول دارندورف من خلالها الاستفادة من مختلف المنهجيات والرؤى والتصورات الكلاسيكية في علم الاجتماع.
ويغلب الظن على أن تأثر دارندورف بالماركسية كان أعمق وأشمل وأشد، ويمكن القول في هذا السياق: إنه لم يستطع أن يمتلك القوة الكافية ليشكل بنظريته مدارًا مستقلاً عن الماركسية، إذ ظل يدور في فلكها ويستوحي مفاهيمها ويرتد إليها، وقد أخفق كثيرًا عندما أراد الخروج بعيدًا عن هذا المدار الماركسي، وكانت نظريته في كل مرة تعاني من الاهتزاز عندما يريد أن يحلق بعيدًا عن الجاذبية الماركسية.
ويُقر النقاد اليوم بأن نظرية دارندورف تشكل رؤية جديدة متقدمة لمفهوم الصراع الاجتماعي، وتكمن عبقرية نهجه في قدرته الفائقة على تناول المفاهيم ودمجها، وتمكنه من صوغ فرضياته بوضوح كبير ورشاقة سوسيولوجية متميزة، ومهما يكن فإنه استطاع أن يوظف الأُطر النظرية الكبرى في رؤية أمبيريقية، وأن يُخضع النظرية لمتطلبات الحاجة إلى الفهم المباشر والعميق لطبيعة الصراع ودوره في تشكيل الجماعات الإنسانية القائمة على وحدة المصالح، وقد تجلى هذا الإبداع في تحديد الشروط الموضوعية الميدانية الثلاثية للصراع القائم في المجتمع والكامن في قلب التكوينات الاجتماعية الحيّة، مثل شروط التنظيم التي تؤثر على تحول المجموعات شبه الكامنة إلى مجموعات صراع واضحة، وظروف الصراع التي تحدد شكل الصراع وشدته، وبنية التغيير الهيكلي التي تؤثر على عمق التغيرات في البنية الاجتماعية ونوعها وسرعتها. ومن اللافت أيضًا المنهجية المميزة التي استطاع دارندورف أن يوظفها في تحديد أهم ملامح نظريته بوضوح إذ يرى بأن كل مجتمع عرضة لعمليات التغيير والتغير تحت قوة الصراع الاجتماعي ضمن صيرورة التوافق والتناقض بوصفها عملية شمولية، وقد أوضح في هذا السياق أن كل عنصر من عناصر الوجود الاجتماعي يسهم في عدم التكامل داخل النسق ويؤدي إلى التغيير، وأن كل مجتمع يرتكز على قهر بعض أعضائه للبعض الآخر [13].
ومن الواضح في هذا السياق أن رالف دارندورف قد ركز في نظريته على الصراع بوصفه محركًا لتاريخ الحياة الاجتماعية وقوة فاعلة في إحداث التغيير الاجتماعي، وفي مسار التوازن يرى أن المجتمع يشهد فترات زمنية يسود فيها الانسجام والتضامن وتغيب فيه ومضات الصراع تاركًا المجال لوضعية الاستقرار الاجتماعي، ومن أكثر الأفكار أهمية وخطورة في نظريته هي فكرة أن الثبات والاستقرار الكامل قد يأخذ المجتمع إلى وضعية التفكك والانحلال. فالصراع قوة حيوية مصيرية تلازم الوجود الاجتماعي وتشكل قوة حيوية في تحقيق تماسكه وقوته على خلاف النظريتين الماركسية والبنيوية.
اضف تعليق