إنّ هناك ثلاث عوامل "تقليدية" وحاسمة، تتحكّم في قدرة وإمكانية القطاع الخاص على تشغيل قوة العمل العاطلة، وعلى الإستخدام الأفضل للموارد الإقتصادية الأخرى، وهي: الدولة، وبيئة ممارسة الأعمال وهي ليست اقتصادية فقط، بل سياسية ومجتمعية وقِيَميّة ايضاً، والقطاع الخاص ذاته بطبيعته وخصائصه وسماته الأساسيّة...
المقدمة
إنّ هناك ثلاث عوامل "تقليدية" وحاسمة، تتحكّم في قدرة وإمكانية القطاع الخاص على تشغيل قوة العمل العاطلة، وعلى الإستخدام الأفضل للموارد الإقتصادية الأخرى، وهي: الدولة، وبيئة ممارسة الأعمال (وهي ليست اقتصادية فقط، بل سياسية ومجتمعية وقِيَميّة ايضاً)، والقطاع الخاص ذاته (بطبيعته وخصائصه وسماته الأساسيّة).. وهذه العوامل جميعها غير مؤاتية الآن، وتمارسُ دوراً سلبياً في هذه "العملية" لأسباب كثيرة ستتم الإشارة إلى أهمها في سياق هذا البحث.
إن التصدي لمشكلة البطالة والتشغيل في العراق يتطلب العمل بآليات تنفيذ تأخذ بنظر الأعتبار إمكانات ومحددات عمل القطاع الخاص في بيئة أعمال معينة، وضمن إشتراطات مرحلة معينة، هي مرحلة الانتقال من الاقتصاد المركزي إلى اقتصاد السوق.
فلا يمكن التعويل إلى الأبد على قيام القطاع العام بتشغيل نسبة من العاطلين عن العمل، مع تضاؤل هذه النسبة عاما بعد آخر، بسبب تزايد أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل (بفعل المعدلات المرتفعة لنمو السكان، وارتفاع وتيرة الهجرة من الريف إلى المدينة، وزيادة مخرجات التعليم، وغيرها من الأسباب).. مما يفرض مهام ومسؤوليات ضخمة على قطاع هشّ ومتواضع الأمكانات ومستنزَف، كالقطاع الخاص في العراق.
من جانب آخر لا تشكل بيئة ممارسة الأعمال في العراق عنصراً جاذباً للقطاع الخاص الأجنبي. لهذا كله فأن من الصعب مطالبة قطاع "محلّي"، كالقطاع الخاص العراقي، بتبني سياسات تشغيل طموحة (يتطلبها حجم البطالة، ومعدّلاتها المرتفعة في الاقتصاد العراقي)، في حين يعاني هذا القطاع ذاته من ضعف الدور، و إلتباس الوظيفة، وهشاشة بنية العمل، وإختلالها، على مدى عقود طويلة.
أن نمط التشغيل الحالي هو انعكاس للبنية الاقتصادية-القطاعية، والخصائص التقنية والتنظيمية للاقتصاد العراقي. وهذا النمط مبدِّد للموارد الاقتصادية (النفطية أساساً الآن)، من خلال استيعاب جزء يسير من إجمالي العاطلين في فرص متدنية الإنتاجية (بل وعديمة الإنتاجية في الغالب)، بدلاً من استخدام هذه الموارد في إنجاز تنمية حقيقية تتيح فرص تشغيل متزايدة ومستدامة.
لقد تدهورت جميع مؤشرات نمو القطاعات الإنتاجية (بشكلٍ عام) منذ عام 1990. وبعد عام 2003 تعرض ما تبقى من النشاط الخاص الى ضغوطات ومعيقات داخلية وخارجية أدت الى انحسار كبير في قدرته على التشغيل، في ذات الوقت الذي تفاقمت فيه معدلات البطالة المقنّعة في القطاع الحكومي.
• وهكذا فأننا لم نحافظ لا على قدرات التنظيم البيروقراطية – المركزية السابقة، التي نجحت الى حد ما في استيعاب جزء من قوة العمل (بمعدّل إنتاجية مقبول اقتصادياً)، ولا على ديناميكية القطاع الخاص الذي وجد نفسه ضائعاً في خضم عملية "تحوّل" (لم تنجز إلى الآن، وقد لا تُنجَز أبداً)، وهي عملية الإنتقال من الاقتصاد المركزي الى أقتصاد السوق.. تماماً مثل تلك "العملية" التي لم تُنجّز طيلة سبعينَ عاما ً(وقد لا تُنجَز أبداً)، وهي عملية"الإنتقال" التي طالت، واستطالت، أكثر ممّا يجب، من نمط الإنتاج "شبه الإقطاعي "المُتخلِّف، إلى نمط إنتاجي أكثر تطورّاً منه(مهما كان توصيف ذلك "النمط"، أو ذلك "النظام").
.. وهذا يعني أن دور الدولة في التشغيل بعد عام 2003(وبالذات في القطاعات ِالمُنتِجة من الإقتصاد،(وهي قطاعات التنمية الحقيقية) قد تراجع كثيراً، بينما لم يتمكن القطاع الخاص(المحلي والأجنبي) من ملء الفراغ .
• وفي حين لم تتمكن الدولة (بكل إمكاناتها) من مواجهة تحديات تشغيل ثلثي السكان في سن العمل( بإنتاجية مقبولة ودائمة، وبما يسمح بمستوى معيشي لائق ومستقّر) فأن السؤال الجوهري هنا هو كيف يستطيع القطاع الخاص( ببنيته الاقتصادية والمؤسسية الحالية) من تحقيق ما فشلت الدولة ذاتها بإمكاناتها الضخمة من تحقيقه؟
• أن مواجهة هذا التحدي تتطلب مغادرة سريعة للنمط القائم على تخصيص الجزء الأكبر من عائدات الصادرات النفطية للاستهلاك العام( تحت تأثير الالتباس في فهم معنى نظام الاقتصاد الحر في العراق، وإقتصار هذا المعنى على تكريس السياسة التجارية لخدمة نزعة الاستهلاك الاستيرادي المنفلت والسيّء الأثر بكل المقاييس).
وهذا "الالتباس" هو الذي سمحَ للدولة العراقية بتخصيص الجزء الأكبر من الموارد النفطية للأنفاق التشغيلي– الاستهلاكي(العام)، على إفتراض أن القطاع الخاص هو الذي يتولى(تلقائياً) خلق فرص الاستثمار والإنتاج والاستخدام على المستوى الكلي، مقابل إيمان الدولة (وإيمانها فقط) بضرورة الأنتقال من الاقتصاد المخطط مركزياً الى اقتصاد السوق.
• أن من المستحيل تكليف قطاع، أو أنشطة مستنزَفة وهزيلة و متشظية الامكانات، كأنشطة القطاع الخاص العراقي (الهامشية والطفيلية في الغالب) بحجم هائل من المسؤوليات الاقتصادية، التي هي من المهام الرئيسة للحكومات (كدعم وتفعيل قطاعات الزراعة والري والطاقة والبناء والتشييد والأرتقاء بالوضع المزري للبنى التحتية).
• أن تفعيل وتطوير عمل هذه القطاعات، هو الشرط الضروري (بل والكافي)، لخلق بيئة ملائمة لتشغيل نام ومستقر. ولكنّ تحقيق ذلك يتجاوز بمراحل كثيرة قدرات وأمكانات الحكومة العراقية (سواءً على الصعيد التنظيمي المؤسسي، أوعلى صعيد توفير التمويل اللازم، المرتبط هو الآخر بالنمط المتخلف لإدارة الموارد الاقتصادية).. فكيف يمكن للقطاع الخاص العراقي(أو حتى الأجنبي) أن ينجح في تحقيق ما لا يمكن للدولة العراقية المُتخَمة بالريع النفطي تحقيقه( في ظل ظروف ومعطيات معينة باتت معروفة للجميع)؟
هذا هو ما سيحاول هذا البحث الإجابة عليه.
وبقدر تعلّق الأمر بالهدف الرئيس لهذا البحث، سيتم بحث قضية التشغيل في العراق، ودور القطاع الخاص فيها، والعوامل الحاكمة (والمُتحكِّمة) في تحديد مسارها واتّجاهاتها، من خلال المحاور الآتية:
المحور الأوّل
المؤشرّات والمعطيات الرئيسة
سيتم التركيز في هذا المحور على طرح أهم المعطيات والمؤشرات ذات الصلة بموضوع البطالة والتشغيل في العراق، مع إيضاح دور هذه المؤشرات في تكوين رؤى وتصورات محددة قد تعمل على تأسيس مقاربات معينة يمكن من خلالها للقطاع الخاص(المحلي والأجنبي) أن يسهم (بطريقة ما) في معالجة مشكلة البطالة والتشغيل في العراق. كما يمكن لهذه المعطيات والمؤشرات أن تزيل اللبس بصدد سياسات التشغيل المعتمدة، ومدى كفاءتها، وإمكانية صياغة سياسات بديلة عنها، مع تحديد أكثر دقة لدور القطاع الخاص فيها. ويمكن طرح هذه المؤشرات والمعطيات( بحسب أهميتها النسبية في تناول موضوع البحث الرئيس)، كما يأتي:
أوّلاً : المؤشّرات والبيانات الرئيسة للإقتصاد الكلّي
1- الناتج المحلي الإجمالي
- بلغ الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 ما قيمته 198.7 ترليون دينار(بالأسعار الأساسية الجارية). أمّا بالأسعار الثابتة (سنة أساس 2007)، فقد بلغ 188.1 ترليون دينار.
- يشكّل نشاط التعدين والمقالع ما نسبته 61.46% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020(بالأسعار الثابتة).. تليه من حيث نسبة المساهمة(الأهمية النسبية)، أنشطة خدمات التنمية الإجتماعية والشخصية(9.86%)، وتجارة الجملة والمفرد والفنادق وماشابه(7.40%)، والنقل والإتصالات والخزن(6.94%)، والمال والتأمين وخدمات العقارات(5.29%).
- بينما شكّل النفط الخام ما نسبته 61.38 % من الناتج المحلي الإجمالي في العراق لعام 2020(بالأسعار الثابتة).. لا تشكّل أنشطة الزراعة والبناء والتشييد والصناعة التحويلية مُجتمعةً(وهي القطاعات الإنتاجية الأكثر تشغيلاً للأيدي العاملة)، إلاّ ما نسبته 7.74% فقط من إجمالي الناتج المحلي للعراق.
(المصدر: وزارة التخطيط / الجهاز المركزي للإحصاء/ التقديرات الأوليّة للناتج المحلي الإجمالي لسنة 2020، مديرية الحسابات القومية2021، p12).
- انخفضت النسبة المئوية للقيمة المضافة للصناعات الصغيرة(من إجمالي القيمة المضافة للصناعة التحويلية)، من 26.7% في عام 2015، إلى 22.9% في عام 2018 .. أي انها لا تشكل بالرغم من ضخامة عددها أكثر من 30% من اجمالي القيمة المضافة للصناعة التحويلية في العراق.
(المصدر: منظمة العمل الدولية، وآخرون: تشخيص الاقتصاد غير المنظم في العراق، نوفمبر/تشرين الثاني 2021، ص46-47).
- أسهم القطاع الخاص خلال المدة 2004 – 2018بحوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي (33.8)، فيما بلغ أعلى إسهام له 42.7% في سنة 2016، وأدنى إسهام له سنة 2006 عندما بلغ 29.7%.
- يسهم القطاع الخاص بما نسبته (99%) من الناتج في قطاع الزراعة، و (57%) في قطاع الصناعات التحويلية، و (97%) في قطاع التشييد والبناء، (90%) في قطاع التجارة والفندقة و (93%) في قطاع النقل والمواصلات والخزن.
(المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء/ المجموعة الإحصائية السنوية/ سنوات متفرقة).
2- تكوين رأس المال الثابت
أ - القطاع العام
- بلغ اجمالي تكوين رأس المال الثابت لسنة 2019(بالأسعار الثابتة لسنة أساس 2007)، 51.3 ترليون دينار.
-إنّ نسبة مساهمة القطاع العام في اجمالي تكوين رأس المال الثابت لعام 2019(بالأسعار الثابتة) قد بلغت 78.1%. وتركّزت الإستثمارات في القطاع العام في نشاط التعدين والمقالع، حيث بلغت 21.6 ترليون دينار، وبنسبة مساهمة قدرها 53.9% من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في القطاع العام.. يليه نشاط خدمات التنمية الإجتماعية حيث بلغت الإستثمارات فيه 8.2 ترليون دينار، وبنسبة مساهمة بلغت 20.5%.. ونشاط الكهرباء والماء حيث بلغت الإستثمارات فيه 6.5 ترليون دينار، وبنسبة مساهمة قدرها 16.2% من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في القطاع العام.
وهذا يعني أنّ ثلاثة أنشطة فقط، هي أنشطة التعدين والمقالع، والخدمات الإجتماعية، والكهرباء والماء، تستحوذ على ما نسبته 90.6% من إجمالي تكوين رأس المال الثابت للقطاع العام.. تليها في الأهمية أنشطة النقل والإتّصالات(3.57%)، والصناعة التحويلية(1.95%) على التوالي من حيث نسبة مساهمتها، وأهميتها النسبية في إجمالي تكوين رأس المال الثابت للقطاع العام.
أمّا نشاط الزراعة والغابات والصيد فلا يُشكّل سوى ما نسبته 1.62 %، ونشاط البناء والتشييد ما نسبته 0.96% فقط من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في القطاع العام)مع أنّ هذين النشاطين هما من أكثر الأنشطة تشغيلاً للأيدي العاملة، ويُعدّان من بين الأنشطة المحركّة للنمو في الإقتصاد).
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، التقديرات الفعلية لإجمالي تكوين رأس المال الثابت في العراق لسنة 2019، 4 p).
ب – القطاع الخاص
- إنّ نسبة مساهمة القطاع الخاص في اجمالي تكوين رأس المال الثابت لعام 2019(بالأسعار الثابتة) قد بلغت 21.9%..مقابل نسبة مساهمة بلغت 34.7 % في عام 2015، وهو مؤشّر على بيئة غير تمكينية ومناخ استثماري سلبي للقطاع الخاص.
- تركّزت أكبر استثمارات القطاع الخاص في نشاط ملكية دور السكن، حيث بلغت 5.9 ترليون دينار(بالأسعار الثابتة)، وبنسبة مساهمة قدرها 52.5% من مجموع الإستثمارات في هذا القطاع.. يليه نشاط الصناعة التحويلية(2.1 ترليون دينار، وبنسبة مساهمة بلغت 18.7%)..ثم نشاط النقل والإتصالات والتخزين(1.5 ترليون دينار، وبنسبة مساهمة 13.8%).. ونشاط تجارة الجملة والمفرد(1.1 ترليون دينار، وبنسبة مساهمة 9.9%).
- وهذا يعني إن ملكية دور السكن تشكّل أكثر من نصف الإستثمارات الإجمالية للقطاع الخاص.. بينما لا تشكّل الإستثمارات في أنشطة الصناعة التحويلية، والنقل والإتصالات والتخزين، وتجارة الجملة والمفرد(مُجتمِعةً) سوى ما نسبته 42.4% من إجمالي استثمارات القطاع الخاص(منها 18.7% للصناعة التحويلية، وبمبلغ ضئيل جداً هو 2.1 ترليون دينار فقط).
- والمفارقة الغريبة والمحزنة هنا، هو أنّ نشاط الزراعة والغابات والصيد(الذي يهيمن عليه القطاع الخاص بالكامل، ويُفترض أن يكون هو نشاطه"الإنتاجي" الرئيس)، لا يشكّل إلاّ مانسبته 0.26% فقط(أي رُبع الواحد بالمائة) من إجمالي استثمارات القطاع الخاص، وبمبلغ لا يمكن تصديق ضآلته، بلغت قيمته 29.1 مليار دينار فقط لا غير.
وهذا يعني أنّ إجمالي استثمارات القطاع الخاص في نشاطي الصناعة التحويلية والزراعة في عام 2019(بالأسعار الثابتة) لايتجاوز2.3 ترليون دينار.
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، التقديرات الفعلية لإجمالي تكوين رأس المال الثابت في العراق لسنة 2019، 12 p).
تُرى كم بوسع القطاع الخاص أن يُشغِّل(أو يوفّر فرصاً إضافية للعمل)، بقيمة استثمارات متواضعة كهذه، في الأنشطة الإنتاجية الرئيسة للإقتصاد ؟؟
3- السكان والقوى العاملة ومعدلات النشاط الاقتصادي
- يبلغ عدد العاطلين عن العمل 2.5 مليون نسمة، من إجمالي عدد السكان في سن العمل الذي يُقدّر بنحو 20 مليون نسمة( تقديرات البنك الدولي 2018).
- إنّ 60% من السكان هم دون 25 عاماً، ويتوقّع زيادة عدد السكان في سن العمل بنسبة 54%(من 20 مليون في عام 2015، إلى 32 مليون بحلول عام 2030)..(تقديرات البنك الدولي 2018).
- إنّ نسبة مشاركة القوى العاملة في النشاط الإقتصادي هي 49% في المحافظات التابعة للحكومة الإتحادية، و40% في محافظات إقليم كردستان، ويمثِّل هذا أحد أدنى نسب المشاركة إلى إجمالي السكان في العالم.
- إنّ ربع القوى العاملة إمّا عاطل عن العمل تماماً، أو عاطل عن العمل جزئيّاً.
- مع أكثر من 2.5 مليون عراقي في سنّ العمل، عاطلين عن العمل، فإنّ معدل البطالة الوطني يصل إلى 16%.
- تصل نسبة البطالة بين الشباب إلى 36%، وتقدّر العمالة الناقصة بينهم بحوالي 28%.
- يعمل اختلال الهيكل الإقتصادي(من بين عوامل أخرى) على تقويض دور القطاع الخاص كمحرّك رئيس "وحقيقي" للإستخدام والتشغيل"المُنتِج" للقوى العاملة، حيث أنّ حوالي 39% من جميع الوظائف هي من حصّة القطاع الحكومي"العام"، مقابل 40-50% للقطاع الخاص.
(المصدر: منظمة العمل الدولية وآخرون، تشخيص الإقتصاد غير المنظّم في العراق، تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ص 11).
- إنّ العمالة في الصناعة التحويلية (كنسبة مئوية من مجموع العمالة)، تبلغ حوالي 9.2% فقط.
- 20% فقط من النساء في سن العمل، دخلن إلى سوق العمل، و27% منهنّ عاطلات عن العمل(مقارنةَ بـ 14% من الرجال).
- إنّ 65% من الشابّات عاطلات عن العمل في أقليم كردستان، مقارنةً بـ 32% من الشباب.
(المصدر: البنك الدولي، الوظائف في العراق، كتاب تمهيدي عن خلق فرص العمل على المدى القصير، 2018).
4- البطالة والفقر والهشاشة
- ارتفعت معدلات الفقر الوطني من 20.5% في عام 2018 الى 31.7% خلال عامي 2021 و2022.
- إنّ هناك ما يقرب من 4.5 مليون عراقي (11.7% من اجمالي السكان)، هم دون خط الفقر الوطني .
- يعاني 42% من سكان العراق حرماناً يقابل أكثر من بُعد واحد من أبعاد دليل الهشاشة في مجالات التعليم، الصحة، ظروف المعيشة، وتأمين الموارد للعيش الكريم.
- يُقدّر عدد النازحين داخلياً في العراق(تقديرات 2020)، بما يقرب من 1.3 مليون نسمة.. 27% منهم عاطلون عن العمل، ومعظمهم يعمل في القطاع غير الرسمي من الإقتصاد، وفي مجالات عمل غير لائقة(نتيجة الضغوطات التي يتعرّضون لها من قبل الجهات الأمنية، للحصول على تصاريح الإقامة والعمل).
(المصدر: المنظمة الدولية للهجرة، الوصول إلى حلول دائمة بين النازحين في العراق، سبل العيش والأمن الإقتصادي في حالات النزوح، 2020).
ثانيّاً: المؤشرّات الخاصة ببيئة ممارسة الأعمال
رغم مرور ما يقرب من عشرين عاماً على ما يفترض أنه بداية الانتقال الى اقتصاد السوق، فأن التقارير التي أصدرها البنك الدولي بخصوص واقع أداء الأعمال في العالم، قد كشفت عن تدهور موقع العراق في الجداول الخاصة بذلك.
ولأن التقدم، أو التراجع، في مؤشرات هذا المسح تمثل، أو تشكّل، معياراً لمدى التحسن في البيئة الاستثمارية بالنسبة للقطاع الخاص(المحلي والأجنبي)، فأن هذا التراجع يعد بمثابة صدمة لهؤلاء الذين يفكرون في إمكانية إستغلال الفرص المتاحة أو الواعدة في الاقتصاد العراقي.. ويمكن إيضاح ذلك من خلال ما يأتي:
- احتل العراق المرتبة 172 من بين 190 دولة في تقرير ممارسة أنشطة الأعمال الصادر عن البنك الدولي(2020).
وتُعَد هذه أسوأ مرتبة مقارنةً بالمتوسط الحسابي على الصعيد الإقليمي.
- يحتل الاقتصاد العراقي المرتبة 152 من أصل 190 اقتصاداً لبدء تأسيس الأعمال التجارية فيه، حيث يتطلب ذلك حوالي 26.5 يوماً لكي يتمكن المواطن العراقي من تأسيس شركة صغيرة أو متوسطة الحجم(ذات مسؤولية محدودة)، وأنّ الحد الأدنى لتكلفة التأسيس يصل إلى حوالي 14.6% من إجمالي الدخل الفردي للمواطن.
وهكذا جاء العراق في مرتبة أدنى من بقية دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث إجمالي الوقت والتكلفة ومتوسط عدد الإجراءات.
- تمّ تصنيف العراق كواحد من أكثر البلدان صعوبةً في استكمال الإقرارات الضريبية، حيث يفتقر العراق إلى أنظمة وبنية تحتية متطورة في هذا المجال، مما يجعل الإمتثال الضريبي بطبيعته أكثر صعوبة في العراق منه في أيّ مكان آخر.
-احتل العراق المرتبة 147 عالمياً(من بين 190 دولة) في تطبيق شروط عقود العمل.
- احتل الإقتصاد العراقي المرتبة 186(من بين 190 اقتصاداً) من حيث سهولة الوصول إلى الموارد الماليّة(الحصول على الإئتمان)، مما يشير بوضوح إلى وجود عقبات كبيرة أمام عملية تمويل المشروعات.
(المصدر: البنك الدولي: تقرير ممارسة أنشطة الأعمال/ 2020، ص 6-9).
إنّ حل مشكلة التشغيل يتطلب تغيير بيئة الأعمال في العراق تغييراً جذرياً. وهذه المهمة تتجاوز قدرات القطاع الخاص (الحالي) بكثير. فالمتطلبات والاشتراطات والأمكانات ذات الصلة بخلق هذه البيئة ليست اقتصادية فقط.. إنها مؤسسية – قيمية – سلوكية – ثقافية أيضاً. وأن وجود هذه البيئة يفترض الالتزام بضوابط ومدونات سلوك، وآليات لبناء الثقة بين جميع الأطراف ذات العلاقة. وبدون ذلك لا يمكن أن يتحقق الأمن الاقتصادي للجميع، ولن يتحرر المستثمر من رعب المخاطرة. ولا توجد أي فرصة حقيقية للإنجاز في غياب الإيمان بضرورة الإيفاء وعلى نحو سريع بجميع هذه الاشتراطات بإرادة اجتماعية وسياسية واضحة ومعلنة وملزمة للجميع.
المحور الثاني
القطاع الخاص والدولة في العراق: إشكاليات المفاهيم والأدوار الرئيسة
أوّلاً: إشكالية المفاهيم
تستخدم الوثائق الحكومية اصطلاح "القطاع الخاص"، على الرغم من عدم وجود تعريف إجرائي له، وإن
كانت استراتيجية القطاع الخاص الصادرة عن هيئة المستشارين بمجلس الوزراء قد قبلت تعريفه بأنه
"ذلك الجزء من الاقتصاد الوطني غير الخاضع لسيطرة الدولة المباشرة ويُدار من أجل الربح" . وبالمعنى
نفسه يشيع استخدامه الأكاديمي، إذ أن هناك فرزاًواضحاً بينه وبين القطاع الخيري أو التعاوني .
ولكنّ القطاع الخاص ليس فقط نشاط (أو مجموعة أنشطة) تُدار من أجل الربح، بل يُعَد محوراً أساسياً في عملية التنمية المستدامة، سواء في الدول المتقدمة أم النامية، لما يتمتع به من ميزات وإمكانات تؤهلّه للقيام بدور ريادي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية،وفي ظل اتجاه عالمي لمنحه المزيد من الأدوار.
وقد خضعت علاقة القطاع الخاص بعملية النمو الاقتصادي، لنقاش معمّق في إطار التعاون الدولي، إذ تؤكد غالبية الدراسات على وجود علاقة إيجابية وقوية بينهما، وإن نمو الإنتاجية يرتبط بشكل وثيق بالاستثمارات الخاصة.
إنّ التحوّل في السياسات الاقتصادية نحواقتصاد السوق(كظاهرة عالمية) قد عزز الاعتماد الكبير على القطاع الخاص، ودفع الكثير من البلدان إلى الشروع في عمليات تنفيذ برامج الخصخصة بشكل
واسع، ما أدى إلى زيادة نسبة استثمارات القطاع الخاص إلى مجمل الاستثمارات من ناحية، وإلى زيادة نسبة الاستثمارات الخاصة إلى الناتج المحلي الإجمالي من ناحية أخرى .
فضلاً عن ذلك فقد عزز هذا التوجه زيادة الاستثمارات الخارجية في عدد من الدول، نظراً لكفاءة
استثمارات القطاع الخاص وإنتاجيتها، مقارنة مع إنتاجية استثمارات القطاع العام. وتؤكد بعض الدراسات أن التأثير الإيجابي لاستثمارات القطاع الخاص في النمو، يفوق بأكثر من مرة ونصف تأثير الاستثمارات العامة.
وهذه المعطيات بمجملها تؤكد درجة ارتباط استثمارات القطاع الخاص باستدامة التنمية والنمو الاقتصادي في المجتمعات التي تتمتع بالبيئة المناسبة للإسهام في عملية التنمية المستدامة.
وفي العراق تظهر الحاجة إلى مساعدة القطاع الخاص في عملية تمويل التنمية المستدامة لتحقيق أهداف هذه التنمية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، لاسيما مع تفاقم مشكلات الدولة وتراجع قدرتها على تمويل التنمية المستدامة وتحقيق أهدافها.. بل أنّ هناك من يدعو إلى مساءلة القطاع الخاص عن تقصيره في أداء دوره الذي يُفتَرَضُ أن يقوم به، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
(المصدر: د. حسن لطيف كاظم، القطاع الخاص في العراق،مساءلة القطاع الخاص لتحقيق التنمية المستدامة. شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية annd، 2020، 1-7 P ).
ثانياً : إشكالية تحديد الأدوار والمسؤوليات في سياسات التشغيل الوطنية
1- الإشكاليات المرتبطة بتحديد الأدوار والمسؤوليات
• أن مشكلة التشغيل في العراق هي أكبر وأهم من مشكلة البطالة. فحين يجسد نمط التشغيل السائد الطابع اللاإنتاجي للاقتصاد العراقي، ويعمل على إعاقة عملية التنمية الحقيقية (من خلال التركيز على تهيئة فرص العمل "الزائفة" في القطاع الحكومي)، فأن هذا النمط ذاته سيعمل على تفاقم مشكلة البطالة وعلى أستدامتها، وسيصبح هو أساس مشكلة البطالة بدلاً من أن يكون أحد الحلول الرئيسة لها، هذا أذا لم يكن هو الحل الناجح الوحيد المتاح للحكومة الآن.
• واستناداً لبيانات وزارة التخطيط/ الجهاز المركزي للاحصاء/ فإنّ المؤشّرات السكانية تشير إلى أن عدد السكان قد بلغ 42,248,900 نسمة في عام 2022، ويتوقّع أن يرتفع إلى 51,211,700 في عام 2030، مع معدل نمو سكاني هو من بين المعدّلات الأعلى في العالم، ويُقدّر بـ 2.3% سنويّاً.
إنّ هذا الوضع السكّاني خطير جداً، وقد تترتب عليه عواقب وخيمة في العديد من المجالات، مما يُحمّل جميع المعنيّين الرئيسيّين بذلك( الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني) مسؤولية الالتزام الصارم باشتراطات والتزامات وتكاليف عملية تحول العراق من أمة مستهلكة وطفيلية وفاسدة ومبدّدة للموارد، الى أمة صناعية منتجة.
أن أول ما ينبغي أصلاحه هو نمط التشغيل الحكومي السائد، فهذا النمط لا يشكل فقط نمطاً معيباً وشاذاً للتصرف بالفائض الاقتصادي، بل أن مخاطره تتجاوز ذلك بكثير لتصل الى حد تخريب نظام الحوافز في القطاع الخاص(والذي يُعَد الأجر المكتسب فيه واحداً من أهم عناصر ديناميكيته الذاتية).
• وأنها لمفارقة محزنة، وغير مُنصِفة، أن تتمتع الأسر التي يعمل أثنان من أفرادها في القطاع الحكومي(دون أي إنتاجية تذكر)، بمستوى معيشي مُرضٍ(وكافٍ)، بينما ينهش الفقر وعدم أستدامة الدخل، والأفتقار الى الاستقرار الاقتصادي، أُسر العاملين في القطاع الخاص، وذلك في تعارض صارخ مع ما يحدث في جميع الأمم والدول المنتجة في العالم( بما في ذلك الكثير من الدول النامية).
• أن الدولة العراقية تنتهج "نمط تشغيل" مقابل راتب للوظيفة العامة، هو في حقيقته مجرّد نظام "إعانات حماية اجتماعية". ولأنها لا تمتلك نظام لإعانة البطالة( بسبب تخلف أساليب التنظيم الاقتصادي بشكل عام) فأنها تستبدل هذا النظام بنظام تشغيل زائف يعمل على تكديس الالآف من الموظفين في مؤسسات متخمة بالبطالة المقنعة والسافرة على حد سواء.
• أن من أهم مشاكل العراق الحالية هو عدم وجود إرادة سياسية قادرة على دعم وتعزيز جهود المختصين(سواء أكانوا خبراء وطنيّين أم خبراء عاملين في المنظمات الدولية) لتمكينهم من توجيه أو تصويب مسار عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ككل، أو عملية الاستثمار بشكل خاص، وبما يسمح لهؤلاء الخبراء والمختصين بتوقع تغيرات سوق العمل والتنبؤ بها، لتشكل دليل إرشادي، وخارطة طريق يمكن للقطاع الخاص(المحلي والأجنبي) الأسترشاد بها والعمل على وفقها، بدرجة معقولة من التوكد من المستقبل.
• إن العمل على وفق هذا المنظور طويل الأجل، سيسمح بتبني مشاريع استثمارية تستديم من خلالها فرص الإنتاج والتشغيل، وأن لا تبقى هذه الفرص محصورة في مشاريع طفيلية تحاول اقتناص أوجه نشاط آنية (قصيرة الأجل) ليس لها أي تأثير إيجابي(جذري) على واقع التشغيل في العراق.
2- الإشكاليات المرتبطة بوضع وتنفيذ السياسات
إنّ هناك ضعف واضح في عملية إعداد السياسات الحكومية، و هناك تلكّؤ صريح في تنفيذ ما يتم اقراره منها، مع غياب تام للسياسات الوقائية، وتراجع كبير في الجودة التنظيمية، الأمر الذي أضعف بدوره من سلطة وسيادة وإنفاذ القانون على الجميع، فضلاً عن غياب الثقة في تنفيذه بعدالة.
ويتجسّد هذا الضعف والتراجع وعدم الكفاءة في صُنع وتطبيق السياسات، بما يأتي:
• ضعف فاعلية وجدوى السياسات المرسومة، و تضارب وتخبّط القرارات المُتخذة، وما ترتب على ذلك من ضعف الاتّساق(والتنسيق) بين السياسات الكلية في العراق. وهذا قاد بدوره الى هدر وضياع الكثير من الجهود التي بُذلَتْ من قبل الحكومة(وأطراف أخرى عديدة، بينها وكالات الأمم المتحدة العاملة في العراق) لوضع سياسات واستراتيجيات وبرامج كفيلة بتفعيل وتطوير دور القطاع الخاص في الاقتصاد، وأدى بالتالي إلى تقويض ثقة القطاع الخاص بقدرة الدولة العراقية على انتهاج سياسات جادّة، ومُمكنة التنفيذ، وقابلة للاستدامة بهذا الصدد.
- تلكؤ عملية الاصلاح الاقتصادي، وصعوبة تنفيذ المزيد من الاصلاحات التشريعية والسياسية والتنظيمية والمؤسساتية.
• عدم الايفاء بالمسؤوليات والالتزامات والأدوار الانتقالية للحكومة والقطاع الخاص والتي كان ينبغي الايفاء بها خلال المرحلة الأولى (2017- 2014) من استراتيجية تطوير القطاع الخاص (2014- (2030، والإستراتيجية الصناعية(لغاية 2030)، وخطة التنمية الوطنية(2018-2022).
- الصعوبات والتحديات التي تواجهها الدولة في محاولتها لتعزيز الاستقرار والأمن في العراق، وبسط سلطة القانون على الجميع، بهدف اتاحة المجال لمؤسسات وشركات ومشاريع القطاع الخاص بأن تستثمِر وتتطوّر، وتصبح أكثر قدرة على المنافسة.
- ضعف قدرة الحكومة على تطبيق نهج تشاركي وشمولي مع القطاع الخاص، يتيح له القيام بدور أكبر وأكثر فاعلية في صنع القرار الإقتصادي وقيادة السوق .
- ضعف عمليات المراقبة والتقييم بصدد التقدم المحرز في تنفيذ استراتيجية القطاع الخاص 2030-2014)) .
- ضعف قدرة الحكومة (بل وعجزها)على تطبيق أفضل الممارسات البيئية.
- ضعف الاهتمام الحكومي بحماية حقوق الملكية الفكرية.
-عدم قدرة القطاع الخاص على تعزيز دور وفاعلية (وقوة) الاتحادات والجمعيات والمنظمات المعنيّة بقضاياه، وضعف امكاناته في رفع كفاءة أدائها(المهني والتقني)، وتعزيز قدرتها على الاستدامة، وعجزه عن ضمان تمثيل أعلى لمؤسسات الأعمال الخاصة فيها.
- ضعف المساهمة الجادّة والبنّاءة للقطاع الخاص في جهود الحكومة لتأسيس منبر دائم للحوار بينها وبينه.
- ضعف وعدم جديّة القطاع الخاص في التأسيس لمشاركة فاعلة في صياغة السياسات والخطط القطاعية التي من شانها ان تصبح من مكونات خطط التنمية الوطنية، وتواضع دوره في مساعدة الحكومة بصدد وضع وتحديد الوسائل الكفيلة بتنفيذ هذه المكوّنات.
- عدم تنفيذ "حزمة السياسات والاجراءات" الهادفة لدعم القطاع الخاص، المُعدّة من قبل فريق الخبراء الوطني، و بمشاركة الفرق الفنية الأخرى(فريق التمويل والتأمين / فريق القطاع الصناعي / فريق تحسين بيئة الأعمال / فريق تبسيط الاجراءات)، الصادرة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 239 لسنة 2015، وما تضمّنته من توجهات وسياسات حكومية، واجراءات وأدوار محددة للقطاع الخاص، ومن تحديد لمُدد التنفيذ، وللجهات المسؤولة عن التنفيذ، وبما يسمح بتحقيق الأهداف الواردة في اطار المحاور الرئيسة لهذه "الحزمة".
• واجهت حوكمة القطاع الخاص في العراق عدداً من التحديّات والمعيقات، أهمها ما يأتي:
- عدم وجود رؤية واضحة لحوكمة القطاع الخاص.
- غياب إطار عمل واضح للدولة، ينظّم الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
- ضعف جاهزية الجهات الحكومية للتعامل بفاعلية مع القطاع الخاص.
- ضعف وعي القطاع الخاص لدوره في المسؤولية المجتمعية، وضعف استعداده لتحمّل الأعباء (والكُلَف) المترتبة عليها .
- ضعف ثقافة (وممارسات) اعادة هيكلة الشركات العامة لدى المؤسسات الحكومية، وشيوع ظاهرة الخوف من "الخصخصة"(بأشكالها المختلفة) لدى جميع "أصحاب المصلحة" المعنيين بها.
- التداعيات (السلبية) المرتبطة بتراجع الوضع الأمني والاقتصادي على عملية حوكمة القطاع الخاص.
إن تحليل تأثير السياسات على الوظائف هو من المهام الرئيسة لمنظمة العمل الدولية( وبقدر أقل للبنك الدولي). ومن دواعي القلق هو أن هاتين المؤسستين لاتكادان تملكان أي تأثير على الأداء الاقتصادي للحكومات(وبالذات في مجال صنع السياسة العامة)، وبما يجعل هذه الحكومات مطلقة اليد في صياغة الأهداف الوسيطة والنهائية للسياسة الاقتصادية على نحو يخدم التوجهات السياسية الآنية( التعبوية -الشعبوية)على حساب المنظور الأكثر جدوى واستدامة، أي الإيفاء باشتراطات والتزامات المنظور طويل الأجل.
إنّ التصدي لمشكلتي البطالة والتشغيل في العراق(وهما مشكلتان مترابطتان، ولكنهما مختلفتان تماماً) يجب أن يبدأ من صياغة وتنفيذ سياسة تشغيل وطنية تأخذ بنظر الاعتبار ثلاث قضايا رئيسة تعد بمثابة تحديات أساسية تواجه صياغة وتطبيق أية سياسة في العراق، وهي:
1- وجود إشكاليات عديدة في كيفية تحديد واحتساب المؤشرات والمتغيرات الأقتصادية الكلية، وفي مدى دقتها.. لأن من غير الممكن تحديد الرؤى والتصورات ودالة الهدف الخاصة بسياسة ما، دون الاتفاق على حجم وطبيعة المشكلة التي تتصدى هذه السياسة لتذليلها.
2- لايمكن طرح أية سياسة تشغيل وطنية، بمعزل عن نمط التشغيل الحكومي القائم. إن هذا النمط يتعارض، ويعيق، ويبدّد أية جدوى إقتصادية أو اجتماعية أو تنموية من سياسة التشغيل الوطنية التي يُفتَرَضُ بها ان تُقدّمَ بدائلَ عن هذا النمط.
خلاف ذلك فإنّ بقاء نمط التشغيل الحكومي على حاله سيؤسّس لتعارض صارخ بين واقع نمط التشغيل"الحكومي" المعتمد من قبله، وبين توجهات السياسة البديلة(أي سياسة التشغيل)، التي أعدّتها، وصادقت عليها، الحكومة ذاتها.
3- إن سياسات التشغيل الوطنية، التي أقرّتها الحكومة العراقية حتّى الآن، هي أحوج ما تكون الى آليات عمل محددة، وفاعلة، وملزِمة لكافة الشركاء المعنيين بها.
كما إنّ هذه السياسة(كما هو شأن جميع السياسات والخطط والاستراتيجيات الوطنية الأخرى) ينبغي أن تكون مُلزَمة إبتداءً بالأجابة على أسئلة محددة تتعلق بطبيعة وحجم المشاكل والأزمات والإشكاليات التي تعكسها المؤشرات والأولويات القطاعية(والأجتماعية) للحكومات المحلية في المحافظات، وللمؤسسات التابعة للحكومة الإتّحادية في ذات الوقت.
واذا اذا كان السبب الرئيس لفشل السياسات (والخطط والاستراتيجيات المختلفة) في العراق قبل عام 2014 هو نقص الالتزام وليس نقص التمويل، فإن هذه المشكلة أصبحت مُركبّة منذ عام 2014. فحتّى عندما يكون هناك التزام، فإنّ هناك مشكلة عدم القدرة على التعبير عن هذا الالتزام من قبل الجهات (وأصحاب المصلحة) المعنيّين بهذه السياسات. وتتحمّل الجهات المُكلّفة بالتخطيط (فضلاً عن صنّاع القرار)، المسؤوليات المترتبة على عدم ايجاد حلول واقعية لمشاكل كهذه .
المحور الثالث
القطاع الخاص، النمو، التنمية، التشغيل:
خلاصة التحديّات والمحدّدات والمعيقات الرئيسة
أوّلاً : طبيعة الدولة/ الإرادات السياسية في إطارها/ ونمط تقسيم الوظائف والأدوار من خلالها
بينما يعتاش القطاع "العام" الحكومي، ويتطفّل على الريع النفطي(عائدات صادرات النفط الخام)، ويتم استخدامه "سياسياً" لترسيخ وإدامة ظاهرة "الدولة العميقة"(وهي دولة موازية أكثر قوّةً ونفوذاً وفاعلية من الدولة التقليدية، لأنّها أكثر تحرّراً من رقابة السلطات الأخرى عليها، وأكثر حريّةً في العمل والتصرّف و "الإنجاز" منها).. وبينما يسمح ذلك لهذه الدولة "العميقة" بمقايضة الرواتب والوظائف والمناصب والإمتيازات بـ"الصوت الإنتخابي".
بينما يحدث كل ذلك على مستوى "فوقي- دولتي" مُعيّن من الإقتصاد، يعمل "القطاع الخاص" في العراق حاليّاً على مستوى"بُنى تحتيّة" تابعة للمستوى الأوّل، ويقوم بأداء وظائف وأدوار"سياسية" من خلال ممارسته لأنشطة "اقتصاديّة" محدّدة، ومُرتفعة الربحيّة، يكون هدفها الرئيس هو"خلق" و"مُراكمة" "رأس المال المالي" اللازم لضمان سيطرة "القوى السياسية" الرئيسة الحاكمة، والمُتحكِّمة في العراق الآن.. وضمان تقاسم "رأس المال" هذا، وتوزيعه، و"مُحاصصته" بين هذه"القوى" ذاتها لأطول مُدّةٍ ممكنة، وتقديم مبررات"شرعية"، و"مشروعة" لتبرير التشبّث به، وعدم السماح لأي"قوى" أخرى(عداها) بانتزاعه منها.
وهذا الدور، وهذه الوظيفة لـ "القطاع الخاص" في العراق ليست جديدة.
لقد سبق لـ "الدولة" العراقيّة(في مراحل سابقة) وإن قامت بـ "خلق" و"توظيف" قطاع خاص"موازي" للقطاع الخاص التقليدي، وأوكلت إليه مهام وأدوار مشابهة لهذه..غير أنّ الفرق بين الحالتين هو أنّ تلك "الدولة" لم تكن متماهية مع هذا "القطاع"، وكانت "مُستقِلّة"عنه تماماً، و"مُترفِّعة"عليه، وكان هو من "يتطفّل"عليها، ولم يكن يحصل منها إلاّ على "حصّةً" معلومة(ومُحدّدة بصرامة سلطوية شديدة المركزية) من"الفائض الإقتصادي"الذي كانت تُهيمن عليه، كما لم تكن هذه "الدولة" تستمّد أسباب بقاءها و "نفوذها" و"هيمنتها"منه(كما يحدث الآن).
لقد كان "القطاع الخاص" في العراق دائما"اقتصاديّاً"، أو يعمل في إطار"ترتيبات" تُبقيهِ قطاعاً "اقتصادياً" بدرجة أساسية، وتكون الأدوار الأخرى له(بما في ذلك دوره السياسي) أهداف ثانوية. أمّا الآن فقد اصبح هذا القطاع "سياسياً" بامتياز، وباتت الكثير من أنشطته "الرئيسة"، و"فائقة الربحيّة" الآن تتمتّع بـ "حصانة" سياسية هائلة تجعل هذه "الأنشطة" عابرةً للمساءلة والرقابة والمُلاحقة والعقاب، وغير مُكترثة بـ "الآليات" القانونية التقليدية التي تعمل هذه "الترتيبات" الرادعة في إطارها العام.
إنّ الأنشطة "الإقتصادية" للقطاع الخاص الآن، هي جزء من الأنشطة "السياسية" للمنظومة الحاكمة في العراق، وبالتالي فإنّ القطاع الخاص ذاته قد أصبح(وبالضرورة) جزءاً من هذه المنظومة.. وكنتيجةٍ منطقيةٍ لذلك، لم يَعُد من مصلحة الأطراف الفاعلة والمهيمنة في هذه "المنظومة"، إضعاف هذه الأنشطة(ناهيكَ عن العمل على تفكيكها أوتقويضها).
لقد بات الجزء الرئيس والفاعل من القطاع الخاص العراقي الآن(في الغالب الأعمّ) عبارة عن "أذرع"، تستمدّ قوتها وثروتها ونفوذها من"تعسفّها" في استخدام السلطات الموكَلَة إليها، ومن الحصانة الممنوحة لها( كما لو أنّها فوق القانون، أو غيرُ معنيّةٍ بأحكامه).
ولم يكن لكلّ ذلك أن يحدث، لولا أنّ هذه "الأذرع" تتصرّف بصفتها"وكيل" أو "سركال"، ينوب عن قوى سياسية متنفذّة تريد وتسعى لأن يبقى هذا الوضع على حاله، لأنّهُ أفضل الأوضاع بالنسبة لجميع الأطراف المستفيدة منه.. بما في ذلك هذا "النمط الخاص"، من "القطاع الخاص"، الذي يُمارِس أنشطته"السياسية-الإقتصادية" في العراق حاليّاً.
إنّ هذا "القطاع" غير معني(بل وليس من مصلحته) توثيق التفاصيل ذات الصلة بالأنشطة التي يمارسها، ولا بالإطار القانوني المنظِّم لها، ولا بأنظمة الحوافز المرتبطة بها .. فشرعيته، كما حوافزه، كما نطاق عمله، كلّها مرتبطة بعلاقته "العضوية" مع "المنظومة" السياسية التي بات جزءاً منها.
ومنذ عام 2003(وإلى الآن)، يُمارِس هذا "النمط الخاص" من"القطاع الخاص" نشاطه "الإقتصادي" في مجالات رئيسة هي:
- نشاط الأستيراد الذي يشمل نطاقاً واسعاً من السلع .. ليقوّض بذلك أيّة أمكانية للنهوض بإنتاجية القطاعات الرئيسة، ويُضعِف قدرتها(الضعيفة أصلاً)على المنافسة، ويعمل على تفكيك"سلاسل القيمة" الخاصة بها(زراعة/ صناعة/ مستلزمات بناء وتشييد/أدوية ومستلزمات طبية/ صناعات غذائية وكيمياوية..).
- نشاط المقاولات الحكومية(وهو نشاط بدائي ومُتخلّف تقنيّاً وإجرائيّاً).. حيث لا إمكانية لأي تحديث وتطوّر في البنى التحتية الأساسية.
- نشاط التعليم.. حيث لا إمكانيّة لأي تحديث أو تطوّر في نظام و"منظومات"التعليم القائمة حالياً، والتي باتت الآن من بين "المنظومات" الأكثر تخلّفاً، والأدنى نوعية، مُقارنةً حتّى بدول"مُتخَلّفَة" أخرى.
- نشاط المُضاربة، والتجارة غير المشروعة، وتهريب العملة، وغسيل الأموال، والإفلات من "السلطات" الضريبية والجمركّية.. حيثُ لا إمكانيّة لتحقيق أيّ استقرار مالي أو نقدي.
و في المحصّلة ستنتكِس جميع المؤشرّات الإقتصاديّة"الكُليّة" الرئيسة(معدلات نمو الناتج، والتضخّم، والبطالة، وتكوين رأس المال الثابت..)، وستُقمَع المبادرات والمشاريع الريادية(الفردية والجماعية) في جميع المجالات، وتختفي الحوافز اللازمة للعمل والإستدامة.. وستتحوّل أي خطة أو استراتيجية تنموية إلى مجرّد خدعة، أو أكذوبة نظرية، لا قيمة ولا معنى لها على أرض الواقع.
ثانياً: الشباب والبطالة و التشغيل/الدور السياسي-الإقتصادي للشباب في المرحلة الإنتقالية
إنّ عدم وضوح دور الدولة والقطاع الخاص في المرحلة الأنتقالية، ونشوء"شراكة"من نوع خاص تجمع بين رأسمالية الدولة المالية، و"القطاع الخاص المالي"( المرتبط والمستفيد من السلوك الريعي لهذه الدولة) يشكل في جميع الأحوال عائقا أمام تنامي الدور الأقتصادي للشباب. فمجالات عمل الشباب تقع تماما خارج دائرة "الشراكة" أعلاه.
إن المشروعات متناهية الصِغر، والصغيرة، والمتوسطة، والخدمات غير المالية، وجميع أوجه النشاط الحقيقي القائمة على المبادرة(وهي مجالات العمل المفضلة للشباب في العراق حاليا) تقع كلها خارج إطار العلاقة "التشاركية" بين الدولة والقطاع الخاص المشار إليها في اعلاه.
وربما كان هذا أحد أسباب"تغريب" الشباب أقتصاديا في بلدهم، وتحويلهم إلى"أدوات" سياسية، أو إلى "وسطاء" هامشيين في سوقهم الوطنية، وتضاؤل حصتهم من الفائض الأقتصادي، وحرمانهم من الحصول على فرص حقيقية لبناء التراكم الرأسمالي الكافي، والضروري، ليكونوا عنصر الأستقرار والتوازن والسلام في هذا البلد، بدلاً من الخيارات الضارّة والسلبية التي يفرضها سلوك الدولة والمجتمع عليهم الآن .
ومع التسليم بان البعد الأقتصادي هو المُحدّد الرئيس لدور الشباب في المجتمع، فإنّ علاقة الشباب بالسوق، أو بوسائل الأنتاج، لاتزال ملتبسة وغير واضحة. والسبب في ذلك يعود لعدم وضوح وألتباس موقف الدولة ذاتها بصدد دورها، ودور الأنشطة الخاصة في الأقتصاد. وكلما طالت مرحلة عدم اليقين هذه، كلما بقيت الأنشطة الأقتصادية للشباب موّزَعة بين الدولة كخالقة للوظائف، وبين السوق كخالق للثروة والمكانة وقوة الدور .
وهذا هو ما يعيق تحول الشباب إلى قوة اقتصادية وسياسية حقيقية، انطلاقا ً من كونهم فاعلين اقتصاديين ضمن فئة اجتماعية محددة، وذات مصالح تستحق العمل من أجلها، وقابلة للدفاع عنها في ذات الوقت .
ان الشباب يقومون بدورهم في السوق،سواء أكانت سوق رسمية، أو سوق غير رسمية. ولكن لا يمكن للشباب أن يكونوا منتجين، أو مؤمنين بقيم الأنتاج والكفاءة التنافسية، في اقتصاد ريعي يفتقر الى المؤسسية والتنظيم ووضوح السياسات، ويخضع لكم هائل من الضغوط (الداخلية والخارجية) الناجمة عن الإنقسام السياسي(بدرجة اساسية) .
ان الإشكالية التي يواجهها الشباب في العراق( في المجال الأقتصادي) لا ترتبط بالأنتاج والسوق، بل من عدم إدراك القوى السياسية الحاكمة حاليا لقدرتهم على احداث التغيير(والتحوّل) المطلوب، والإنتقاص من إمكاناتهم وقدراتهم بهذا الصدد .
ان الإصرار على "توزيع الريع" (الذي يتجسد في عوائد الصادرات النفطية التي تهيمن عليها الحكومة هيمنة مطلقة) يجعل الدولة الريعية مترفعة عن الدور الأقتصادي للشباب(كما غيرهم من الفئات والشرائح المجتمعيّة). كما أنّها ومن خلال آليات هذا التوزيع ستعمل على تحييدهم سياسيا ً، إن لم تنجح في دمجهم في منظوماتها الريعية(وهي منظومات قيم ثقافية وسلوكية، ومؤسسات دولة، وانماط ادارة حكومية تتغلغل وتمارس هيمنتها في مجالات العمل والنشاط كافة).
وبهذا يتم تجريد الشباب من امكاناتهم الفعلية، وقدرتهم الحقيقية على احداث التغيير، من خلال دفعهم للعمل في انشطة غير قابلة للأستدامة، ومكرسّة للسلوك الطفيلي، وعاجزة عن تعظيم فائضها الأقتصادي الخاص بها في نهاية المطاف.
ثالثاً: مخرجات قطاع التربية والتعليم، وأحتياجات سوق العمل
إنّ احتياجات سوق العمل من مخرجات التعليم، هي (وبشكل رئيس) احتياجات القطاع الخاص ذاتها.
وإلى هذه اللحظة فإنّ هذه المخرجات تتسّم بالعشوائيّة(كمّاً ونوعاً)، ولا رابط بينها وبين احتياجات سوق العمل الفعليّة إلاّ بالصدفة.. والتشغيل بالصُدفة، ليس تشغيلاً(بالمعنى المُستدام للتشغيل).
إنّ أسباب ذلك كثيرة، ومنها:
- إنّ تركيز العاطلين عن العمل على اكتساب المهارات التي قد تتيح لهم فرص للعمل في القطاع الحكومي" العام"، على حساب التخصّصات والمهن والحرف والمهارات التي يتطلبها العمل في القطاع الخاص، قد أدّت إلى عدم تطابق هذه "المهارات" مع الإحتياجات الفعلية لسوق العمل.
- ليس للجامعات(الأهلية والحكومية) آليات رصد لإحتياجات سوق العمل، وتصميم أنظمة القبول على وفقها. فنظام القبول مايزال مركزيّا(بل وشديد المركزيّة)، وليس للجامعات أي"استقلال" علمي أو مهني بهذا الصدد.
- إنّ نظام القبول المركزي "البائس" هذا هو أفضل دليل على أنّ "مدخلات" التعليم ستؤدّي بالضرورة إلى "مخرجات" لا علاقة لها بإحتياجات سوق العمل. فهذا النظام يُركِّز على زجّ جميع خريجي الإعدادية(بما في ذلك الإعداديات المهنيّة) في الكليّات، ليحصلوا على بكالوريوس "الوجاهة" المجتمعيّة "الزائفة"، وليس بهدف ترسيخ أسس رصينة لتنمية "المهارات" الشخصيّة مرتفعة الإنتاجية، الخالقة لفرص التشغيل، والمُدِرّة للدخل.
- لقد تدنّت نوعية التعليم بشكل كارثي(وهي المتدنيّة أصلاً) خلال المدة 2019-2021( بسبب الإضطرابات السياسية، و حركات الإحتجاج، وجائحة كورونا) .. وتخرّجت أعداد كبيرة من الطلبة خلال هذه السنوات(والكثير منهم وجدوا فرصاً للعمل أثناء دراستهم، بسبب عدم التحاقهم بالدوام "حضوريّاً" في كليّاتهم، وقيام المؤسسات التعليمية بتدريسهم "ألكترونيّا" أو عن بُعد)، ليجدوا أنفسهم في خضم ركود اقتصادي كبير، وظروف سوق سيّئة، جعلتهم يهملون دراستهم، ويقبلونَ بوظائف غير لائقة و متدنية الأجر(هذا اذا توفرّت مثل هذه الوظائف أصلاً).
- إنّ المؤسسات التعليمية التي تقوم بتهيئة "الكوادر الوسطية"(وهي الكوادر التي يحتاج اليها القطاع الخاص بشدّة)، أمّا أنّها "ماتت"(علميّا ومهنيّا)، أو أنّها على وشك"الإنقراض".
- مع أنّ حصّة الإنفاق على التعليم من إجمالي الإنفاق الحكومي العام هي 27.8%(مقابل 10.2% للصحة، و 3.2% للحماية الإجتماعية/ 2018)، إلاّ أن هذا التعليم لا يفي إلاّ قليلاً باحتياجات سوق العمل للقطاع الخاص. (المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، تقرير أهداف التنمية المستدامة 2020، ص 8).
- لا يمارس أصحاب الأعمال في القطاع الخاص، ولا المدراء التنفيذيون الحكوميّون( في جميع المجالات بشكلٍ عام، وفي القطاع الصناعي بشكلٍ خاصّ) سوى دور محدود في تحديد الأولويات الاستراتيجية ذات الصلة بتنمية القوى العاملة(أي من خلال تنسيق إداري– إحصائي – نمطي – مع وزارة التخطيط)، وذلك على الرغم من رغبتهم في تحقيق ذلك، وعلى الرغم من مشاركتهم في الكثير من"اللجان التنسيقية" لأصحاب المصالح.. هذه "اللجان" التي لا تتمتّع بأيّة صلاحيات، أو آليات عمل، أو سلطات واضحة.
- إنّ جميع المؤسسات ذات الصلة تعمل ومنذ سنوات عديدة(على الأقلّ منذ عام 2003) من أجل تنمية قدرات القوى العاملة في العراق.. ومع ذلك لم يتم وضع"إطار وطني للمؤهّلات"، أو الإتّفاق على معايير محددة للكفاءة، أو طرق لإختبار المهارات واعتمادها، أو سياقات لإعتماد التعليم والتدريب الفني والمهني .. كما أنّ الروابط ما تزال ضعيفة بين مختلف البرامج التدريبية والتعليمية.
- إنّ معظم الجهات المختصّة بتقديم التدريب ترتبط بالحكومة وقطاعها العام. وهذه الجهات تتمتّع بدرجة محدودة من الإستقلالية. وفي ذات الوقت هناك عدد قليل من الجهات المختصّة بتقديم التدريب في القطاع الخاص. ويعود ذلك إلى البيروقراطية الحكومية، و نقص الطلب، وضعف القطاع الخاص على الصعيد المؤسّسي، وضعف الروابط (المحدودة أصلاً) بين المراكز التدريبية وأصحاب العمل والمراكز البحثيّة.
- إنّ القطاع الصناعي(الخاص بالذات) لا يتدخّل في تصميم المناهج التدريبية، ولا في تحديد مواصفات المعايير الخاصّة بها، ولا في تعيين الخبراء والمدراء والمدربّين، ولا يأخذ في الحسبان رسوخ خبرتهم في هذا المجال.
- وكما في كلّ مجالٍ آخر، فالعراق يفتقر لوجود نظام بيانات متكامل للتعليم والتدريب الفني والمهني.
وهذا يعني أن الأبعاد الوظيفية الثلاثة التي وضعها البنك الدولي(مع الشركاء المحليّين)، كإطار تحليلي لتنمية قدرات القوى العاملة ومؤسّساتها في العراق(منذ عام 2013) قد فشلت جميعها، وهي: الإطار الاستراتيجي، والإشراف على النظام، وتحديد جهات تقديم الخدمات.
(المصدر: البنك الدولي وآخرون: تنمية قدرات القوى العاملة في العراق، التقرير الوطني لنهج النظم من أجل تحسين نتائج التعليم، العراق 2013 ص 2-4).
- وليس هذا الجهد هو من نالهُ الإخفاق بهذا الصدد ..
فمنذ عام 2011 أكّدت "سياسة التشغيل الوطنيّة" (الأولى) على "وضع استراتيجية وطنية للتعليم والتدريب الفني والمهني"، وعلى إنشاء "مجلس وطني" لتنسيق عملية تنفيذها.. وعلى أن تتضمن مسؤوليات هذا المجلس أيضاً "توجيه المزيد من السياسات الوطنية نحو المجالات المتعلقة بتنمية المهارات والقدرات، وفقاً للإحتياجات الحالية والمستقبلية لسوق العمل".
ومنذ عام 2012 تم بذل مجهودات كبيرة من أجل إعداد "استراتيجية للتعليم والتدريب المهني" (بالتنسيق والتعاون مع منظمة "اليونسكو"، ومجموعة متنوعة من "أصحاب المصلحة" في القطاعين العام والخاص)، على أن يتم وضعها موضع التطبيق في عام 2014 .
- إن التركيز يجب أن ينصبّ الآن على تأسيس"هيئة تشغيل وطنية" لها مهام "غير توزيعيّة" لجزء من الريع النفطي، بدلاً من الإعتماد على "مجلس الخدمة العامة الإتّحادي" .. وهو مجلس يُكرّس النهج "السياسي" القائم على توزيع الريع النفطي بشكل إعانات على "جيوش" من الموظفّين العاطلين عن العمل، ويُعيد توزيع جزء من هذا الريع كـ "حُصص" سياسية غير مُنتِجة من خلال"التوظيف" الحكومي.
وفي حين يُفتَرَض أنّ هدف مجلس الخدمة العامة الإتّحادي الرئيس(على وفق قانونه الأساسي) هو أن يعمل، ويكون مسؤولاً عن "التطوير المهني في القطاع الحكومي"، فإنّهُ لا يفعل أكثر من توزيع الوظائف الحكومية على عدد محدود(وفي نطاق محدود) من "المُستفيدين" من القطاع الحكومي المترهِّل أصلاً.
- بالرغم من إعداد ثلاث خطط تنمية وطنية(في غضون عشر سنوات فقط اعتباراً من عام 2010)، وإقرارها من قبل مجلس الوزراء، إلاّ أن هذه الخطط لا تتضمن أي استراتيجية أو برنامج عمل تفصيلي و واضح لتنمية قدرات القوى العاملة في العراق، ولا تُقدّم أيّة حوافز لتنميتها، ولا توضِّح عناصر الطلب عليها، أو تُحدّد المجالات التي تواجه فيها قيوداً حرجة .. كما أن القطاع الخاص لم يشترِك(على نحو جدّي وفاعل) في وضعها(بالرغم من كل دعوات وزارة التخطيط بهذا الصدد). ويعود ذلك بدرجة أساسية إلى الظروف الحاليّة التي يعمل القطاع الخاص في اطارها(وتحت ضغوطها)، وبالصراع بين من يُفتَرَض أنّهم "مُمثلّيه"(أو من يدّعون تمثيله).
رابعاً: قطاع العمل غير الرسمي في نطاق الإقتصاد غير المنظّم في العراق
1 - طبيعة عمل القطاع
تعمل نسبة كبيرة من المشتغلين في الوحدات الإقتصادية، في الإقتصاد غير المُنظّم، ضمن بيئة اقتصاد كلّي، وسياق اقتصادي يتميّز بوجود قطاع عام كبير، وفرص محدودة في قطاع خاص ضعيف، وبيئة أعمال غير مُستقرّة وغير مؤاتية(سواء مع الإضطرابات الأمنية والصراعات السياسية،أو بدونها)، و ضعف وقصور الإطار القانوني المُنَظِّم والحاكم والداعم للتشغيل والتوسّع في المشاريع، وانهيار منظومة الخدمات ومرافق البنية التحتية الأساسية.. وأخيراً الفساد الذي يؤدي إلى انعدام الثقة في المؤسسات.
- إنّ معظم مشاريع القطاع الخاص تعمل في نطاق الإقتصاد غير المنظّم، وهي مشاريع متناهية الصغر، وصغيرة، ومتوسطة، تديرها العائلات، وتواجه عدداً لا يحصى من المشكلات التي تحد من قدرتها(المحدودة أصلاً) على توظيف المزيد من العاطلين.. وهي غير قادرة على الوصول إلى الخدمات المالية وغير المالية، وغيرجاذبة أصلاً للباحثين عن عمل دائم، لأنها تجمع بين سلبيات ومساويء القطاع غير المنظّم من جهة، والمشكلات"التقليدية" التي يواجهها القطاع الخاص ذاته، من جهة أخرى.
- ومن بين مكونات التشغيل في الاقتصاد غير المنظّم هناك الأطفال(الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15-17 سنة) المنخرطين في سوق العمل، والذين ارتفعت نسبتهم من 4.9% في عام 2016، إلى 7.3% في عام 2018.
- وعلى وفق بيانات البنك الدولي فإنّ 3.4 مليون من أصل 7.0 مليون طفل في سنّ المدرسة هم خارج المدرسة .. وأنّ 33% من الشباب (الذين تتراوح أعمارهم بين 15-29 سنة) أُميّون.
- واستناداً إلى البرنامج الإنمائي للأمم المتحدّة undp فإنّ ما نسبتهُ 31.6% من القوى العاملة العراقية تُعرّف بكونها من ضمن فئة "العاملين الفقراء" بأجر يومي يقل عن 3.10 دولار.
- ومع أن نسبة التشغيل في القطاع العام تصل إلى 39% تقريباً من اجمالي القوى العاملة في العراق، (مقابل 40-50% للقطاع الخاص)، فإنّ هذا القطاع(ببطالته المقنّعة وإنتاجيته الضئيلة جداً) هو بحكم الأمر الواقع عبارة عن "شبكة أمان اجتماعي"، يصطفّ العراقيون العاطلون عن العمل في طوابير للحصول على وظيفة"آمنة" فيه، بأجر أعلى، ونظام تقاعد سخيّ.
وحتّى في القطاع العام هذا، تظهر السِمة غير المُنظَّمة في حالة المقاولين من الباطن.
وهكذا، وعلى غرار القطاع العام، فقد فشل القطاع الخاص المُنظّم في استيعاب الأعداد المتزايدة من الشباب الداخلين إلى سوق العمل(لأسباب تمّ التطرق إليها في سياق هذا البحث)، مما جعل القطاع غير المنظَّم يقوم بدور رئيس في استيعاب العاملين الذين لا يتمكن القطاع العام والقطاع الخاص"الرسميّان" معاً من استيعابهم.
- إنّ سمة العمل غير المنظّم هي احدى القضايا الرئيسة التي تتحكّم بطبيعة ومحتوى "بُنية" القطاع الخاص في العراق، وتكرّس اختلالاته الرئيسة.. وهي تؤثّر على نحو حاسم في جودة المنتجات والخدمات، وكذلك على مردودات الوظائف.
وهكذا فإنّ القطاع الخاص(في المحصّلة النهائية) سيكون لديه متوسط أجور أقلّ، وحوافز أقلّ، وعدم استقرار وظيفي أكبر.
إنّ هذا الإنتشار المتزايد للأنشطة الصغيرة في الإقتصاد غير المنظّم يعكس سعي الأفراد لمواجهة أزمات نقص التشغيل والدخل في الأجل القصير، ولكنّه سيكون غير قادر على الإستدامة في الأجل المتوسط والطويل، وسيعمل على تكريس جميع سلبيات ومساويء العمل غير المنظّم في الإقتصاد.
- وباستخدام نوع التشغيل كمؤشر رئيس للسمة غير المُنظمَّة في الإقتصاد، فإنّ 30% من السكان يعملون لحسابهم الخاص(2020). ويعمل عدد كبير من سكان الريف في أنشطة زراعية ضمن هذا التصنيف.
- إنّ 14% فقط من العاملين المشمولين بالمسح أعلاه لديهم عقود مكتوبة.
- إنّ 8% فقط يحصلون على إجازة سنوية مدفوعة الأجر، مما يشكّل دليلاً على اثبات الطبيعة غير المنظَّمة لعلاقات العمل.
- إنّ غالبية العمال في المسح(91%) لا يتمتّعون بأيّة تغطية ضمان اجتماعي تتعلق بالعمل.
(المصدر: منظمة العمل الدولية وآخرون، مسح القوى العاملة(LFS)، 2021).
- تشير أحدث البيانات الحكومية إلى أنّ الضمان الإجتماعي يغطّي حاليّاً 600 ألف عامل في القطاع الخاص(من إجمالي عدد العاملين البالغ 5.25 مليون عامل تقريباً).
(المصدر: منظمة العمل الدولية وآخرون، تشخيص الإقتصاد غير المنظَّم في العراق، نوفمبر/تشرين الثاني، ص23).
2- دوافع السِمة غير المُنَظّمَة للإقتصاد:
أ- الأوضاع الأمنية
- ما يزال الوضع الأمني في العراق بعيداً عن الإستقرار(لأسباب عديدة منها استخدام العنف لحل النزاعات أو للوصول إلى الموارد، وإنعدام الثقة بين الحكومة والمواطنين).
- وأدى هذا الوضع غير المستقّر منذ عام 1991 إلى ارتفاع معدلات الفقر والحرمان.
وهذا الوضع يعرقل عملية إضفاء الطابع المُنظَّم على الإقتصاد من خلال عدة قنوات منها الأثر على مستويات التعليم، حيث تم خلق "جيل ضائع" من الشباب ذوي التحصيل العلمي المحدود والمهارات التقنية القليلىة القابلة للتشغيل.
ب- الفساد الإداري والمالي والسياسي
- هناك علاقة طردية بين الفساد والإقتصاد غير المنظّم.
و يحتل العراق مرتبة متقدمة في الفساد ضمن مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، باعتباره واحداً من أكثر الدول فساداً في العالم.
- وحتّى في إطار تقييمات ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، وتقارير مراقبة وإنفاذ التشريعات واللوائح الصادرة عن مصادر وجِهات مختلفة، فإنّ هناك إشارات صريحة وواضحة إلى أوجه قصور كبيرة من حيث المهنية والشفافية والنزاهة.
- إنّ الفساد في العراق لا يرتبط فقط بتدني جودة المؤسسات والإفتقار إلى الحوكمة، ولكنه يؤدي أيضاً إلى غياب القدرة على التنسيق والتوزيع الواضح للمسؤوليات، وإلى قدرة أقل على التخطيط المالي والإداري، وإلى سوء إدارة الموارد، وبالتالي إلى إعاقة عملية التنمية.
ولهذا فإن أصحاب المشاريع وروّاد الأعمال يُصنِّفون الفساد بإعتبارهِ أكثر التحديّات والعقبات خطورةً أمام ممارسة الأعمال في العراق، لأنّ الفساد يجعل تكوين الأنشطة وممارستها ذو كلفة باهظة، في بيئة هي غير ملائمة أصلاً لممارسة الأعمال على نطاق واسع ومستدام.. مما يفسِّر نمو حجم الأنشطة في إطار الإقتصاد غير المنظَّم في العراق.
ج- الإطار القانوني غير الملائم
- تتجسّد المعوّقات في هذا المجال بالقدرات المحدودة للحكومة على إنفاذ وتطبيق أحكام القوانين ذات الصلة بتنظيم التشغيل وممارسة الأعمال.. هذا إضافة للعوامل التقليدية بهذا الصدد، مثل البيئة التشريعية المتقادمة، والقيود على التشريعات الجديدة، وعدم وجود لوائح تنفيذية للقوانين التي ما تزال نافذة وسارية المفعول.
- ويمكن أن يكون لمحدودية وعي العمال والمؤسسات بالحقوق والإلتزامات التي تنصّ عليها أحكام القوانين النافذة صلة بهذا الموضوع.
- كما يعمل انعدام الثقة بالمؤسسات الحكومية(بإعتبارها سلطات داعمة لتطبيق القانون بشكل عادل على الجميع، وعلى تقديم الخدمات دون تمييز، بشكل منصف وكفوء وفعّال)على تبرير الإنخراط المتزايد في أنشطة الإقتصاد غير المنظّم(ارتباطاً ببنية الفساد المشار اليها آنفاً).
د- ارتفاع الكلف، وضآلة المنافع، وقصور نظام الحوافز
- تتحمّل المشروعات كلف مرتفعة للدخول في إطار واشتراطات الطابع المُنظّم للإقتصاد، مقارنةً بالمنافع المحدودة المتوقعّة من ذلك.
- ويزداد عبء هذه الكُلف مع محدودية الحوافز الكفيلة بإضفاء الطابع المُنظّم، مقارنةً بالبقاء ضمن الطابع غير المُنظّم للإقتصاد.
- ولهذا يتم التعامل مع منافع قطاع الأعمال غير المنظّم في العراق، بعدّها أكبر من تكاليفه الإقتصادية(والمجتمعيّة أيضاً).
- إن هناك يقين راسخ لدى الكثير من العاملين وأصحاب الأعمال في العراق، بأنّ القطاع غير المُنظّم يقوم بتشغيل ما لا يستطيع القطاع المنظّم تشغيله.. وبالتالي فلا يمكن مقايضة هذه المنافع الحاليّة بأيّة مكاسب مستقبليّة يشُكّون كثيراً في إمكانية تحقيقها، في ظل الظروف الصعبة لبيئة ممارسة الأعمال التي يعمل الإقتصاد، بقطاعاته كافة، في إطارها الآن.
تُرى ما الذي بوسعنا فعله بهذا الصدد.. بواقعية، وموضوعيّة .. آخذين بنظر الإعتبار خصوصية واقع الحال.. للناسِ، والبلدِ، والإقتصاد ؟
إن لدينا إتّجاهينِ للحلّ:
- الإتّجاه الأول هو الذي أكّدت عليه منظمة العمل الدولية بهذا الصدد، والذي يؤكّد على أنّ حلّ الإشكالات المرتبطة بهذه القضية يتم من خلال المضيّ قُدُماً في تطبيق "خطة العمل لتطوير استراتيجيات الإنتقال من الإقتصاد غير المنظّم إلى الاقتصاد المُنظّم"، التي اقترحتها منظمة العمل الدولية في شباط/فبراير2021، بمراحلها الخمس(اعتماد الإطار الوطني للإنتقال/ تشكيل مجموعة عمل وطنية وتعزيز قدراتها على إعداد الإستراتيجية/ صياغة الاستراتيجية/اعتماد الاستراتيجية/ إطلاق وتنفيذ الاستراتيجية).(المصدر: منظمة العمل الدولية، تشخيص الاقتصاد غير المنظّم في العراق، مصدر سبق ذكره، p 62-56)
وإلى أن يتمّ ذلك(وقد لا يتمّ ذلك في الأجلين القصير أو المتوسّط، لأسباب عديدة أهمّها أنّنا غير مُهيّئين لإنجاز ذلك، أو غير جادّين في فعل ذلك!!).. فإنّ الحلّ هو ليس بـ "شنّ الحرب" على أنشطة ممارسة العمال في القطاع غير المنظّم من الإقتصاد.
ولا بـ"اجتثاثِ" فرص التشغيل فيه، ومُحاصرتها، ومُطاردتها من شارع إلى شارع، ومن "بسطيّة" إلى أخرى.
الحلّ هو ليس في أن نأتي بـ "بجرّافاتنا"(في ممارسةٍ تشوبها أيضاً الكثير من شبهات الفساد).. فنمنع العشرات من العمل في مكانٍ ما، ونسمح لغيرهم بالعمل(في إطار التجاوزات ذاتها)، في مكانٍ آخر.
- إنّ الإتّجاه الثاني للحلّ هو .. أن نجعل هذا "القطاع" أقلّ فوضى.. وأن نجعل "تنظيمه" مقروناً بحوافز أكثر، ومنافع أكبر، وكلفةً أقلّ.
الحلّ على وفق هذا الإتّجاه .. هو أن نجعل العمل فيهِ لائِقاً، كلّما كان في وسعنا فعل ذلك.
وقبل صياغة الخطط والسياسات والستراتيجيات، ومن ثمّ العمل على وضعها موضع التطبيق.. علينا أن نجعل"الوضع العام" مُهيّئاً لفعل ذلك، ولتقبّل ذلكَ أيضاً.
علينا تغيير "منظومات" العمل كلّها.
علينا إيجاد بدائلَ أكثر نفعاً، وأقلّ ضرراً، وأدنى كلفة.
دون ذلك، فإنّ أيّ عملٍ(مهما كانت النوايا حسنةً بصدده)، سيكون مجرد عبثٍ لا طائل من وراءه.
خامساً: السياسة الماليّة والموازنة العامة للدولة: الأثر على التشغيل من خلال"التوظيف" الحكومي، وتوزيع تخصيصات الإنفاق العام
1- نمط توزيع "التخصيصات"
إنّ التوزيع الرئيس لتخصيصات الموازنة العامة يتركّز على شقّين هما:
-الموازنة التشغيلية(رواتب وإنفاق استهلاكي وطلب).
-والموازنة الإستثماريّة( نمو، وتنمية، وإستدامة التشغيل).
- في الأجل القصير يمكن لتخصيصات الموازنة التشغيلية أن تشكّل مصدراً لتراكم رأس المال في القطاع الخاص، إن تعاملَ معها على هذا الأساس(أيّ كمصدر للتوسّع والتطوير والتراكم).
غير أنّ القطاع الخاص في العراق لا يفعل ذلك(أو لا يُسمَح لهُ بفعل ذلك لأسباب سبق لنا التطرّق إليها في سياق هذا البحث).. بل يُجاري نمط الإنفاق التشغيلي(غير المُنتِج) في الموازنة العامة، ويؤسّس مشروعات صغيرة قصيرة الأجل، تتكيّف مع نمط الإنفاق التشغيلي هذا، لجني مردودات قصيرة الأجل تفتقِر إلى الإستدامة، ويمكن أن تتغيّر بتغيّر تخصيصات الموازنة، عاماً بعد آخر.
- ولا تدعم السياستين المالية والنقدية أنماط تشغيل مستدامة.
فنشاط القطاع المصرفي الخاص(وهو قطاع كثيف رأس المال، لايُسهِم إلاّ بنسبة تشغيل واطئة جداً)
غير معني بالإستثمار المُنتِج( قد يكون الإستثناء الإيجابي الوحيد هنا للقطاع المصرفي الخاص هو تلك القروض المقدّمة لقطاع البناء والتشييد، وهي قروض يقدّمها القطاع العام أيضاً).. وهو يعتاش بدرجة رئيسة على تقديم قروض ذات طابع استهلاكي، ويمتهن المضاربة من خلال التطفّل على نافذة بيع العملة الأجنبية في البنك المركزي العراقي(وفي إطار هذا النشاط يتم دعم وتعزيز تجارة الإستيراد التي ألحقت بالنشاط الإقتصادي المحلي خسائر جسيمة).
- غير أنّ مجمل النشاط الخاص الذي يعتاش على تخصيصات الموازنة العامة(الإستثماريّة)، ما يزال متلكِئاً، ومُتعثِّراً، ويواجه صعوبات جمّة(بعضها حكومي- إجرائي، وبعضها الآخر يتعلّق بالكفاءة في انجاز المشاريع).
- إنّ نمط تعامُل القطاع الخاص، وأسلوبه التقليدي في التعامل مع هذه "التخصيصات"(بشقيّها التشغيلي، والإستثماري)، قد كرّس الطبيعة "المايكرويّة" و"العائلية" للمشاريع، وحافَظَ على خصائصها الرئيسة التي لا تسمح بإستدامة الدخل والتشغيل والنمو(مستوى الإنتاجية المنخفض، وقدرات محدودة وضعيفة على صعيد تكوين وتراكم رأس المال الثابت).
2- مكونات الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة للدولة(للسنة المالية 2021)
- يُقدّر إجمالي الإيرادات بمبلغ 101.320 ترليون دينار.
- تقدّر الإيرادات النفطية بمبلغ 81.171 ترليون دينار، وتشكّل ما نسبته 80% من إجمالي الإيرادات.
- تقدّر الإيرادات غير النفطية بمبلغ 20.149 ترليون دينار، وتشكّل ما نسبته 20% من إجمالي الإيرادات.
- يُقدّر إجمالي النفقات بمبلغ 129.993 ترليون دينار.
- تقدّر النفقات الجارية(تشغيلية، برامج خاصة، مديونية)، بمبلغ 100.856 ترليون دينار، وتشكل ما نسبته 77.6% من إجمالي النفقات.
- تقدّر النفقات التشغيلية( النفقات حسب الوزارات)، بمبلغ 90.559 ترليون دينار، وتشكل ما نسبته 69.6% من إجمالي النفقات.
- تقدّر النفقات الرأسمالية بمبلغ 29.136 ترليون دينار، وتشكل ما نسبته 22.4% من إجمالي النفقات.. بضمنها مبلغ 23.532 ترليون دينار للمشاريع الإستثمارية المحلية(ويشكّل ما نسبته 18.1% فقط من إجمالي النفقات).. وبضمنها أيضاً مبلغ 4.573 ترليون دينار للمشاريع الإستثمارية المُموّلة من القروض الأجنبية.
3- العجز المُخطّط والإستثمار
- يبلغ إجمالي العجز المُخطّط 28.672 ترليون دينار.
- إنّ نمط إعداد الموازنة العامة في العراق يتعامل مع هذا "العجز"، وكأنّهُ "التخصيصات" المقرّرة للإستثمار.. فإن لم يكن هناك عجز"حقيقي"، كان هناك استثمار، وإن كان هناك عجز"فعلي"، فإنّ الضحيّة هو الإستثمار.
- إنّ "عجز" الموازنة هنا، هو عجز التنمية، وهو قبل كلّ شيء العجز عن تحقيق نمو اقتصادي قادر على توفير فرص"حقيقية" و "مُنتِجة" للتشغيل.
4 - القوى العاملة، وتعويضات الموظفين
- يبلغ عدد القوى العاملة للوزارات والدوائر الممولة مركزياً 3.264 مليون موظّف.
- تبلغ تخصيصات "تعويضات الموظفّين" في الموازنة 53.839 ترليون دينار، وتشكّل ما نسبته 41.4% من إجمالي النفقات العامة، و ما نسبته 53.1% من إجمالي الإيرادات.. أي أنّ أكثر من نصف الإيرادات العامة(النفطية وغير النفطية) تُخصّص كرواتب للموظّفين، وهذه النسبة تُعَد من أعلى نسب تغطية الإيرادات العامة لرواتب الموظفين الحكوميين من بين دول العالم كافّة.
( المصدر: قانون رقم (23) لسنة 2021، قانون الموازنة الإتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2021، جريدة الوقائع العراقية، العدد 4625/ 12 نيسان 2021).
5- الرسوم الكَمركَية
- بحسب تقديرات وزارة المالية فإنّ نسبة تحصيل الرسوم الكمركية لا تتعدى 10% من وعاءها الحقيقي، بسبب ضعف وتخلّف وفساد الإدارة في المنافذ الحدودية.
- إنّ هناك فجوة واسعة بين الايرادات الكمركية المتحققة، وقيمة الاستيرادات للسلع الداخلة الى العراق، وذلك بانخفاض قيمة الايرادات الكمركية مقارنةً بقيمة الاستيرادات الإجمالية، وبحدود تباعد لم تســفر الاّ عن نســبة 2.8% كمتوســط لنسبة التعرفة المتحققة على السلع المستوردة خلال المدة 2003-2018.
- وهناك فجوات أخرى عند النظر الى علاقة الارتباط بين الايرادات الكمركية والناتج المحلي الاجمالي وحجم الايرادات العامة للدولة، حيث لم تتجاوز نسبة الايرادات الكمركية الى الناتج المحلي الاجمالي 0.29% كمتوسط للمدة 2003-2018، وما تزال هذه النسبة قائمة(كاتجاه عام) حتّى الآن، مما يعني انخفاض العبء الكمركي مقارنة بحجم الناتج المحلي الاجمالي.
(المصدر : وزارة التخطيط / الجهاز المركزي للاحصاء / المجاميع الاحصائية السنوية لسنوات متفرقة / أيضاً : تقارير تنفيذ الموازنة العامة ــ وزارة المالية / دائرة المحاسبة).
- إنّ اختلال هيكل الإيرادات هذا هو انعكاس للإختلال الهيكلي في الإقتصاد ككل(وليس هذا هو الموضوع الذي يهمنا هنا).
لذا، و بقدر تعلّق الأمر بالسياستين المالية والتجارية، فإنّ مقتضيات الحدّ الأدنى من الحماية (للمنتجات المحليّة التي تتمتع بميزة تنافسية نسبية)، والتي لا تشكّل أدواتها الماليّة(وأهمها الرسوم الكمركية) عبئاً كبيراً على الفقراء، والفئات الهشّة من السكان، ستعمل، وبسرعة، على تحقيق إيرادات إضافية كبيرة للموازنة العامة للدولة من جهة، وستوفّر قدراً ضرورياً(وإن لم يكن كافياً) لدعم الأنشطة الإنتاجية للقطاع الخاص المحلّي، وستوفر للفقراء(في نهاية المطاف) مصادر لتوليد الدخل، وسلعاً أساسيةً رخيصة من جهة أخرى..
وهذا ما سيتّضح لنا في الفقرة(سادساً) الخاصة بموضوع التجارة الخارجية، والسياسة التجارية.
سادساً : التجارة الخارجية والسياسة التجارية
1- التجارة الخارجية
أ- الاستيرادات
- بلغ إجمالي الاستیرادات لسنة 2020 للمواد السلعیة والمنتجات النفطیة (15.4)
ملیار دولار، أي ما یعادل ( 18.4 ) تریلیون دینار عراقي.
- بلغ إجمالي الاستیرادات لسنة 2020 للمواد السلعیة غیر النفطیة(13.8) ملیار دولار( أي ما یعادل 16.5 ) تریلیون دینار عراقي .. وتشكّل هذه الإستيرادات ما نسبته(89.90%) من إجمالي الإستيرادات.
- بلغ إجمالي الاستیرادات لسنة 2020 للمنتجات النفطیة (1.6) ملیار دولار أي ما
یعادل ( 1.9 ) تریلیون دینار عراقي .. وتشكّل هذه الإستيرادات ما نسبته(10.10%) من إجمالي الإستيرادات.
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، مديرية احصاءات التجارة/تقرير الاستيرادات لسنة 2020/ تموز 2021،جدول 5، p6-7)
- بلغ اجمالي استيرادات القطاع الحكومي(غير النفطية) لسنة 2020 ما قيمته (6.204) مليار دولار(أي ما يعادل 7.399 ترليون دينار عراقي).. وتشكل ما نسبته 45% من إجمالي الإستيرادات السلعية غير النفطية.
- بلغ اجمالي استيرادات القطاع الخاص(غير النفطية) لسنة 2020 ما قيمته (7.281) مليار دولار(أي ما يعادل 8.714 ترليون دينار عراقي).. وتشكل ما نسبته 53% من إجمالي الإستيرادات السلعية غير النفطية.
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، مديرية احصاءات التجارة/ تقريرالاستيرادات لسنة 2020/ تموز 2021، p 23)
ب – الصادرات
- بلغت قيمة إجمالي الصادرات للنفط الخام والمنتجات النفطية والمواد السلعية(47.9) مليار دولار(بما يعادل57.1 ترليون دينار) لسنة 2020.
- بلغت قيمة صادرات النفط الخام (41.8) مليار دولار(بما يعادل49.7 ترليون دينار لسنة2020).. وبما نسبته 87% من قيمة الصادرات الإجمالية.
- بلغت قيمة الصادرات السلعية (3.8)مليار دولار(بما يعادل 4.6 ترليون دينار لسنة 2020.. وبما نسبته 8% من قيمة الصادرات الإجمالية.
- بلغت قيمة صادرات المنتجات النفطية (2.4)مليار دولار(بما يعادل 2.8 ترليون دينار لسنة 2020.. وبما نسبته 5% من قيمة الصادرات الإجمالية.
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، التقرير السنوي للصادرات لسنة 2020، مديرية إحصاءات التجارة/ آيار2021، p 3-6 )
ج– عجز الميزان التجاري(للإستيرادات والصادرات غير النفطية)
- يعاني الميزان التجاري للعراق من العجز في تبادلاته التجارية مع الكثير من البلدان(التي يفترض أنّها أقلّ نموّاً، أو اكثر تخلّفاً منه).. حيثُ أنّ صادرات هذه البلدان(غير النفطية) إليه، هي أكثر من استيراداتها(غير النفطية) منه.. ومن بين هذه البلدان:
المملكة الأردنية الهاشمية، الكويت، لبنان، المملكة العربية السعودية، البحرين، قطر، سلطنة عمان، الإمارات العربية المتحدة، اليمن، فلسطين، جمهورية مصر العربية، تونس، الجزائر، المغرب.. بل وحتّى الصومال!!!.
هذا إضافة لبلدان أخرى منها: الصين، كوريا الجنوبية، تركيا، ايران، جنوب أفريقيا، الأرجنتين.
- إنّ المجموع العام لقيمة الإستيرادات(غير النفطية) في الميزان التجاري للعراق لسنة 2020 قد بلغ (13.836) مليار دولار(أي ما يعادل 16.532 ترليون دينار عراقي).
- إنّ المجموع العام لقيمة الصادرات (غير النفطية) في الميزان التجاري للعراق لسنة 2020 قد بلغ (3.765) مليار دولار(أي ما يعادل 4.629 ترليون دينار عراقي).
- وبهذا يكون إجمالي العجز في الميزان التجاري للعراق لسنة 2020 (الفرق بين قيمة الإستيرادات وقيمة الصادرات غير النفطية) لجميع البلدان، قد بلغ( 10.071- ) مليار دولار(أي مايعادل( 11.903-) ترليون دينار عراقي.
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، مديرية احصاءات التجارة، تقرير الإستيرادات لسنة 2020، تموز2021،p14-19)
د- الشركاء التجاریین
- الصين: بلغت أعلى قیمة للاستیرادات لسنة 2020 من الصین بقیمة (2.2) ملیار دولار أي ما یعادل (2.6) تریلیون دینار عراقي، وبنسبة ( 15.8 %) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- كوریا الجنوبیة: بقیمة استيرادات بلغت (2) ملیار دولار، أي ما یعادل ( 2.4 ) تریلیون دینار عراقي، وبنسبة (14.3%) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- أوكرانیا : بقیمة استيرادات بلغت(1.5) ملیار دولار، أي ما یعادل ( 1.8 ) تریلیون دینار عراقي وبنسبة(11.1%) من اجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- ايران: بقیمة استيرادات بلغت(1.27) ملیار دولار، أي ما یعادل (1.52) تریلیون دینار عراقي وبنسبة(9.2%) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- الولايات المتحدة الأمريكية: بقیمة استيرادات بلغت(979.3) مليون دولار، أي ما یعادل (1.17) تریلیون دینار عراقي وبنسبة(7.1%) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- الأرجنتين: بقیمة استيرادات بلغت(767.4) مليون دولار، أي ما یعادل (913.2)مليار دینار عراقي وبنسبة(5.5%) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- الهند: بقیمة استيرادات بلغت(636.5) مليون دولار، أي ما یعادل (760.6)مليار دینار عراقي وبنسبة(4.6%) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
- تركيا: بقیمة استيرادات بلغت(433.7) مليون دولار، أي ما یعادل (519.1)مليار دینار عراقي وبنسبة(3.1%) من إجمالي الاستیرادات السلعیة غیر النفطیة.
(المصدر: وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، مديرية احصاءات التجارة/تقريرالاستيرادات لسنة 2020، تموز 2021،جدول 5، p12)
مما تقدّم يمكن ملاحظة ما يأتي:
- إنّ إجمالي الصادرات هو انعكاس لحجم الصادرات النفطية بدرجة أساسية، وأنّ الصادرات الأخرى غير النفطية لا تكاد تشكّلُ أهميةً تذكر بهذا الصدد.
- إنّ إجمالي الاستيرادات هو بدوره، دالة للعائدات النفطية بدرجة أساسية، وأنّ حجم هذه الإستيرادات كبير جداً، وأنّ أساليب تمويل التجارة الخارجية (من خلال نافذة بيع العملة)، هي التي تحافظ على وتيرة مرتفعة للإستيرادات(حتّى إذا انخفضت حصيلة العائدات النفطية).
- إنّ استمرار الاستيرادات بهذه الوتيرة وهذا الحجم، يعكس ضعف قدرة القطاع الخاص على الاستفادة من الفرص المهمة التي يتيحها حجم الطلب في السوق المحلية، وعدم قدرته على التعويض، ولو جزئيّاً، عن الكثير من السلع التي يتم استيرادها من الخارج.
كما أنّ استمرار الاستيرادات بهذه الوتيرة وهذا الحجم، يعني أنّ الدولة والقطاع الخاص معاً، عاجزان عن تحويل "الفرص" إلى "إمكانات".
إنّ حجّة عدم مرونة العرض(الإنتاج المحلّي) لتبرير الإستمرار بالإستيراد(بنمطه الحالي)، هي حُجّة"قاتلة" هنا.
فعدم مرونة الإنتاج المحلّي لا تدفعنا في هذه الحالة إلى رفع معدّلات مرونة المعروض(المحلّي) السلعي، وإنّما إلى رفع وتيرة الإستيرادات من الخارج.
والمفارقة هنا، أنّ الدولة عندما تجد نفسها في مواجهة ارتفاع المستوى العام للأسعار، وأنقطاع سلاسل التوريد والتجهيز، وتجد نفسها(في ذات الوقت) عاجزة عن التعويض من خلال إنتاجها المحليّ، فإنّها تتراجع على الفور عن وقف استيراداتها السلعية(الإستهلاكية والغذائية والخفيفة في الغالب)، بل وتستأنف هذا الإستيراد بوتيرة أكبر وأسرع من السابق.. وأنّها تستخدم (القطاع الخاص) ذاته( والذي يُفترّض أنّهُ المتضرِّر الأكبر من ذلك كلّه) لإنجاز هذه المهمّة، دون أن تتوقّف ولو للحظةٍ واحدة للتفكير في إعداد إجراءات وسياسات وخطط(أو تطبيق ما هو موجود منها)، بهدف تحفيز مصادر توليد الناتج المحلي(ولو جزئيّاً) على تعويض جزء(ولو كان ضئيلاً) من السلع المستوردة(المُثقلَة هي أيضاً بعبء التضخّم المُستورَد).
وهكذا، وبدلاً من أن تُعزّز الدولة قدرات إنتاجها المحلي"المتواضعة" في مواجهة جزء من مشكلة نقص المعروض السلعي(وترفع جزئيّاً حجم التشغيل المحلّي للقوى العاملة لديها)، فإنّها تُفنِّد وتقوّض أيضاً حُجّتها الرئيسة لتبرير الإستيراد الكثيف.. لتزيد بذلك من مستويات الركود، و معدلات البطالة والتضخّم في آنٍ واحدٍ معاً.
أمّا لماذا يقوم"القطاع الخاص" ذاته بهذه المهمّة، فإنّ هذا يتعلّق (كما ذكرنا سابقاً) بتحوّل جزء كبير من "القطاع الخاص" في العراق لممارسة أنشطة الإستيراد بكثافة، بعد إن تحوَّلَ "قطاع التجارة الخارجية" ذاته إلى نشاط للمضاربة "السياسية"، ومصدر لتمويل "الأنشطة السياسية" و"الإستثمار السياسي"، بهدف ترسيخ السلطة، وتعظيم الثروة و"الفائض" - الإقتصادي- السياسي.
وكانت من النتائج الكارثية لهذا النهج هو وجود(وتكريس) بيئة ممارسة أعمال طارِدة للإنتاج والإستثمار المحلّي، ودفع ما تبقّى من القطاع الخاص"الوطني" للعمل والإنتاج والتشغيل في "الخارج"، والتصدير للداخل.
وفي إنتاج سِلَع تبدأ من"الحلاوة الطحينية، والسمسمية، والتمر(ومشتقّاته)، والطماطم(ومشتقّاتها).. وتنتهي بالصناعات الكيمياوية"البسيطة"، والأجهزة والمواد الكهربائية"الخفيفة".. يعمل القطاع الخاص"العراقي" في الخارج، ويُشغِّل "مواطني" الدول الأخرى على حساب بطالة أبناء بلده، ويسحب فرص التشغيل من الداخل، ويخلقها للأيدي العاملة في الخارج.
ولا يقتصر ضرر نمط التجارة الخارجية القائم هذا على "استيراد كلّ شي"، على تحويل فرص التشغيل من الداخل للخارج فقط، بل ويحرم الإقتصاد العراقي أيضاً من الفرص الإضافية التي تخلقها "الترابطات الأمامية والخلفية" لقطاعات توليد الناتج المحلي الإجمالي أيضاً.
وهذا كلّه هو نتيجة منطقية لسياسات إنتاج وتصنيع حمقاء، ولإدارة غير كفوءة للشأن الإقتصادي، تقوم على سياسة تجارية بليدة وسلبية.. أي أنّ كلّ هذا هو نتيجة لسياسة اقتصاديّة مُفكّكة وغير مترابطة .. ومؤذية.
وكما نصّت على ذلك الكثير من "الخطط" و"الإستراتيجيات" الوطنية ذات الصلة بهذا الموضوع، فإنّ الحلّ(الذي كان يُفترَض العمل على وفقه منذ سنوات "ضائعة" طويلة)، هو في تَبَنٍّ جاد لاستراتيجية تنموية تقوم على نمط إنتاج وتشغيل وتصنيع مناسب.. ويمكن أن تنتهِج استراتيجية بعيدة الأمد لـ"إحلال الواردات" تدريجيّاً.
إنّ كل" إحلال" محلّي لجزء من السلع المستوردة(ومعظمها خفيف واستهلاكي)، سيرفع من معدلات التشغيل، ويُخفّض معدلات البطالة والتضخم،و يُقلل من الأثار السيّئة للركود الإقتصادي.
وهذا "الحلّ" واقعي، وقابل للتطبيق، وليس حلاًّ مستحيلاً، أو صعباً، أو غير واقعيٍّ الآن، كما هو شأن استراتيجيات أخرى.. كالتصنيع من أجل التصدير.
وينبغي التأكيد هنا على أنّ من السذاجة الإقتصادية، أن تتمّ الدعوة إلى تقديم"دعم مُطلَق"، أو "حماية مُطلقة" للمنتجات المحلية القادرة على "الإحلال".. بل الدعوة إلى وضع وتطبيق سياسة تجارية ذات أهداف و وسائل عمل واقعية، ومُحفِّزة، ومناسبة لواقع الحال.
إنّ الحماية والدعم"المُطلقان" لا يُوفّران، بل يُقوّضان النمو المُستدام للناتج المحلّي، وبالتالي يُقوّضان إمكانيات التشغيل المستدام.
سابعاً: اللامركزية وتنمية الأقاليم
- تشوب اللامركزية الإدارية والمالية في العراق الكثير من العيوب، منها ما يتعلق بإشكاليات الإطار القانوني والدستوري المُنظِّم لها، ومنها ما يتعلّق بعدم وضوح السياسات والإجراءات، أو ممارسة الضغوط السياسية على الإدارات التنفيذية في المحافظات(غير المنتظمة في إقليم، وإلى هذه اللحظة)، أو بعدم إمكانية تطبيقها في ظلّ الظروف الحاليّة، أو بعدم وضوح السياسات والتخصصات والصلاحيات، (وبالتالي عدم الإتّفاق على آليات توزيعها) بين الحكومة الإتحادية والحكومات المحليّة.
لهذا كُلّه، ليس هناك وضوح لما يمكن للقطاع الخاص أن يقوم به في إطار برنامج"تنمية الأقاليم".
- إنّ توزيع الإستثمارات بما يحقّق التوزيع الأمثل للموارد، وبما يُراعي الميزة النسبية لكل محافظة، وهويتها الإقتصادية، وإمكاناتها من الموارد الطبيعية والزراعية والمعدنية، يمكن أن يُتيح للقطاع الخاص فرص أكبر للتشغيل، والتنويع الإقتصادي، وأن يُسهم بالتالي في تصحيح الإختلالات البنيوية في الإقتصاد.
- وهذا يرتبط بحسم الموقف الوطني من قضية اللامركزية في العراق.. لأنّهُ من غير الممكن وضع "الإطار الاستراتيجي للتنمية الحضرية في محافظات العراق- 2019" موضع التطبيق، دون حلّ جميع الإشكالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية المرتبطة بموضوع اللامركزية في العراق، ودون تكامل البنى القانونية والإدارية والمالية الداعمة والمعزّزة لها.
- وكما هو الأمر في كلّ موضوعٍ ذي صلة بموضوع البحث الرئيس، فإنّنا لن نستطيع إقامة مناطق صناعية واستثمارية في المحافظات، ولن نتمكّن من تفعيل الإستثمار في "مناطق التجديد والتأهيل الحضري"، ولن ننجح في إعداد "استراتيجية وطنية للتنمية الحضرية"، والإلتزام بمؤشّراتها، ولا وضع برامج للتنمية المكانية، دون "إرادة سياسية" تضع مصالح العراق السيادية العليا فوق كلّ اعتبار.
- وكما ورد في "التقرير الوطني الطوعي الثاني" فإنه يمكن لمقاربة مدروسة تحقيق جميع هذه الأهداف الواردة في أعلاه، إذا ما حظيت هذه الإجراءات والسياسات بثقةٍ دوليةٍ كافية، وبدعم كافٍ من الشركاء المحليين.
وفي إطار السعي لتحقيق ذلك يمكن الحصول على مزيج من استثمارات القطاعين العام والخاص لإنشاء شركات مُستثمِرة وصناديق استثمار، يمكن لأنشطتها أن تشكّل نطاقاً واسعاً للتشغيل، وذلك في ذات الوقت الذي يتمّ فيه تحويل رأس المال المتبقّي لتنفيذ خطّة وطنية مكرّسة لتطوير البنية التحتية.
(المصدر: وزارة التخطيط، اللجنة الوطنية للتنمية المستدامة، التقرير الطوعي الوطني الثاني، تموز/يوليو 2021،(p 62.
ثامناً: الخلاصات والإستنتاجات ومقترحات الحلول الرئيسة
مع الزيادة الكبيرة في عدد السكان، فإنّ عواقب ضآلة فرص العمل، وأنخفاض مستوى التشغيل في الإقتصاد، وزيادة معدلات البطالة، لن تكون إقتصادية فحسب.
فالتماسك المجتمعي، والسلم الأهلي، يعتمدان أيضاً على ضرورة الشروع بإعادة تأسيس"عقد اجتماعي جديد"، يستطيع العراقيّون بموجبه إعالة أنفسهم من خلال العمل المُنتِج واللائق والمُستدام.
واستناداً لذلك، فإن خلق فرص العمل للعاطلين من السكان، وزيادة مستويات التشغيل(من خِلال الأنشطة المُنتِجة، والمُربِحة للقطاع الخاص، وبالذات المحلّي منه)، ستكون هي الإختبار الحقيقي للتقدّم المُحرَز في هذا المجال.
و بقدر تعلّق الأمر بالهدف الرئيس لهذا البحث، فهناك طريقان(أو منهجان) للحلّ، ينبغي أن يكونا مترابطان ومتلازمان ومكمّلان لبعضهما البعض:
1- المنهج الأوّل هو ذلك المُتعلّق بالحلول التنفيذية - الإجرائيّة التي تتسّم بقدر كبير من الواقعية(والموضوعية)،والتي يجب الشروع بها على الفور، ومن بين تفاصيلها الكثيرة ما يأتي:
- دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، التي ترتبط مدخلاتها الرئيسة بالمنتجات الزراعية، للإيفاء بمتطلبات زيادة معدلات النمو في أنشطة الصناعات الخفيفة، القادرة على تأمين إحلال سريع للسلع المصنّعة، ونصف المصنّعة، المناظِرة، التي يتمّ استيرادها حاليّاً .
- توفير البنى التحتية البسيطة والضرورية المرتبطة بالنشاط الزراعي القائم، والنشاط الصناعي القادر على استئناف نشاطه على الفور.. كالنقل، والخزن، وأنظمة التصرّف بالفائض، وتسهيل التسويق، وتوفير الوقود، والكهرباء.. وغيرها من المتطلبات.
- استغلال القدرات المتاحة، و الكامنة، لزيادة انتاج المحاصيل الزراعية، والمنتجات الصناعية التي اعتاد العراق على زراعتها، وتصنيعها، وعلى الفور .. ومنها الخضروات والفواكه/ الإنتاج الحيواني / الصناعات الغذائية/ المنتجات الكيمياوية/ الأجهزة المنزلية/ العُدد، والآلات، ومعدات النقل.
- دعم وتسهيل تسويق المنتجات الزراعية (التي يتم انتاجها من قبل المزارعين حالياً) في منافذ التسويق الخاصة بها داخلياً "العلوات"، ومنحها الأفضلية، والأولوية، في البيع للمشترين، مقابل فرض قيود على تسويق المنتجات المستوردة، واطئة الكلفة، والمنافِسة للسلع الزراعية المحلية في هذه "العلوات" ذاتها.
- اتخاذ اجراءات سريعة، لا تتطلّب أطر قانونية معقدّة، وبإمكانها، وبسرعة، أن تكون معزّزة لأنشطة القطاع الزراعي، وبعض أنشطة القطاع الصناعي القادرة، وعلى الفور، على التعويض عن الكثير من السلع المستوردة المناظرة.
- تقديم دعم حكومي مقنّن، ومحدود، وسريع، يستهدف الفلاحين – المُنتجين الأكثر هشاشة في مواجهة الأزمات.
- قيام المنافذ الحد ودية كافة، والجهات الأمنية، والجهات الأخرى، بالتشديد عل إجراءات حماية المنتج الزرا عي المحلي، والالتزام الصارم بذلك.
- تطبيق أنظمة تشغيل الشباب في القطاع الزراعي، المعمول بها في دول أخرى كثيرة، والتي كان معمولاً بها في العراق، من خلال تخصيص الأراضي المناسبة لممارسة هذا النشاط(بدلاً من السماح بتجريفها، وتحويل "جنسها" من أراض] زراعية إلى أراضٍ سكنيّة).. وتوفير الحد الأدنى من متطلبات ممارسة النشاط فيها، وبما يحقق أفضل عائد اقتصادي واجتماعي ممكن، وبأقل كلفة ممكنة.
- تحديد واستثمار التدخلات التي من شأنها زيادة الكفاءة والقدرة التنافسية والإستدامة، لسلاسل القيمة الحاليّة، وخاصة تلك التي لم تحصل على الكثير من الدعم الحكومي لغاية الآن.
- التركيز على ثلاث سلاسل قيمة على وجه الخصوص تكشف عن إمكانات كبيرة لخلق وتوسيع فرص العمل، وتعزيز النمو الإقتصادي، وهي : الدواجن، والطماطم، ونخيل التمر.
- إحياء أنظمة الدعم الخاصة بالمزارعين، بعد مراجعتها، وتطويرها، وتحسين الإستهداف فيها.
- دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، التي ترتبط مدخلاتها الرئيسة بالمنتجات الزراعية، للإيفاء بمتطلبات زيادة معدلات النمو في أنشطة الصناعات الغذائية.
- - توفير المدخلات الزراعية لأنشطة الصناعات الغذائية، والكيمياوية، ووضع الضوابط والتعليمات، وإقرار الآليات الكفيلة بتحقيق ذلك.
- اعادة بناء قطاع الأغذية الزراعية في العراق، وتطوير طرائق جديدة للعمل فيه، من خلال تسخير خبراته التاريخية والتقنيات الحديثة في تعظيم إمكاناته التنافسية.
- إعادة تشغيل المشاريع الصناعية المتوقفة عن العمل حالياً، والقادرة على استئناف نشاطها على الفور.. من خلال توفير المتطلبات الأساسية لتسهيل استئناف التشغيل(مثل تقديم جميع تسهيلات التمويل، وتقديم تسهيلات وحوافز لاستيراد المستلزمات الصناعية للمشاريع التي يتم تشغيلها على الفور، استثناءً من التعليمات والقيود والضوابط الحكومية التي تحول دون ذلك).
- دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، القادرة على تأمين إحلال سريع للسلع المصنّعة، ونصف المصنّعة، المناظرة، التي يتمّ استيرادها حاليّاً .
- توفير الدعم الحكومي الضروري للقطاع الصناعي الخاص، وتصميم أنظمة الدعم هذه بعناية شديدة ليكون الدعم فاعلاً ومُنصِفاً، ومُعزِّزاً للتنافسية، مع تحسين الإستهداف.
- توفير الأمن والحماية اللازمة للمشاريع والمعامل، والعاملين فيها، والمالكين لها، بعد استئناف التشغيل.
- تنفيذ "الإستراتيجية الصناعية"، بتفاصيلها كافة، واستناداً إلى الأولويات الواردة فيها، ووضع أكثر برامجها كفاءة موضع التطبيق.
- تنفيذ "استراتيجية تطوير القطاع الخاص 2014-2030"، بتفاصيلها كافة، واستناداً إلى الأولويات الواردة فيها، ووضع أكثر برامجها كفاءة موضع التطبيق.
- تنفيذ التوصيات والإجراءات التي تضمنّتها الدراسة القيّمة التي أعدّتها هيئة المستشارين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء(2015)، والمُقرة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم (67) لسنة 2015، الموسومة بـ "إعادة هيكلة الشركات العامة المملوكة للدولة في العراق"، مع الأخذ بنظر الإعتبار التعديلات والملاحظات اللاحقة التي قدّمتها الجهات ذات العلاقة بصددها.
2- المنهج الثاني هو ذلك المنهج المرتبط بالجهود التي يجب أن تُبذَل(بأسرع ما يمكن، وقبل فوات الأوان)، بهدف تحديد طبيعة الدولة العراقية، و وظائفها الإقتصادية الرئيسة، وأسلوبها في ادارة وتخصيص الموارد، والأهم من ذلك كلّه هو "توصيف" نظامها الإقتصادي، الذي لا "توصيف" محدّد له، إلى هذه اللحظة.
لأنّهُ دون ذلك، لا يمكن تنفيذ الحلول الإجرائية - التنفيذية المشار إلى بعضها في(1) أعلاه.
لقد تمّ طرح الكثير والكثير من الحلول(والتجارب الدولية المماثلة الناجحة)التي لم يأخذ بها أحد.. وقدعمل على صياغتها وتقديمها خبراء(وطنيّون ودوليّون)، ولم تجد طريقها للتطبيق، بل ولم يُسمَح لها بأن تُطبّق(لأسباب وتفاصيل كثيرة، معروفة ونمطيّة، لاأجِدُ أنّ ثمّةَ داعٍ لإعادة سردها الآن).
- إنّ السؤال الأهمّ هنا، هو كيف يمكن وضع خطط واستراتيجيات(في جميع المجالات)، أو حتّى بذل جهود حقيقية تتمحور حول تنمية قدرات الأيدي العاملة(من قبل أصحاب المصلحة المعنيّين بهذا الموضوع)، دون أن يتم ذلك في إطار مقبول من الإتّساق مع "الأولويات" الإجتماعية والإقتصادية للدولة؟
تُرى ماهي الأولويات الإجتماعية والإقتصادية للدولة؟
ماهو التوصيف الدقيق لنظامها الإقتصادي؟
ماهي "فلسفتها" الإقتصادية التي تُحدّد موقفها من "الفاعلين" الإقتصادييّن الآخرين عداها(كالقطاع الخاص تحديداً).. وهل أن تطوير وتنمية هذا القطاع هو هدف استراتيجي لها، لكي يمارس دوره الإقتصادي والإجتماعي"الطبيعي" بدلاً عنها، أم هو(من وجهة نظرها) مجرّد "أداة" آنيّة لخدمة المصالح السياسية لـ "شرائح" معيّنة"مُستفيدة" فيها؟
تُرى هل هناك "دولة" أصلاً، بوسعها الإجابة عن جميع هذه الأسئلة؟؟
لهذا كلّه فشلت فشلاً ذريعا(ومُرّاً) جميع الجهود المبذولة للتحوّل من "وضع مفاهيم السياسات" في العراق، إلى "تطبيق" هذه السياسات على أرض الواقع .. وما يزال هذا الفشل قائماً ومُستداماً.
ومع ذلك يمكن إعادة التذكير بأنّ الحل يمكن أن يبدأ من خلال تطبيق برنامج حقيقي وجذري ومتكامل للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، ودون ذلك لن يتمكن العراق والعراقيّون من تحقيق أيّ شيء.. لا تطوير التربية، ولا الإرتقاء بنوعية التعليم، ولا تحسين فرص تدريب الشباب، ولا خفض معدلات البطالة في أوساطهم، ولا التحفيز الفوري طويل الأمد للإستثمارات المحلية والأجنبية، ولا تطوير البنية التحتية، ولا إعادة الإعمار.. ولا تحقيق الحد الأدنى من "الجودة" والكفاءة في صُنع السياسات، وتخصيص الموارد.. و "تنظيم" الإقتصاد.
بكلّ بساطة، ودون إعادة اختراعِ لـ"عجلات" كثيرة، بعضها"حداثوية" شكلاً، وبعضها عفا على "مضمونها" الزمن.. فإنّ العراق الآن بحاجة إلى دولة مؤسسات"قويّة"(بمعنى دولة فاعلة وحديثة، تؤمن عناصرها الرئيسة بالتداول السلمي للسلطة، وبإدارة الثروة والموارد الوطنية وتخصيصها على أساس مُنصِف وعادل وكفوء.. وليست دولة أبويّة - استبداديّة).
وهذه الدولة هي دولة تعمل بـ "نظام السوق الإجتماعي"، أي تعمل على توفير بيئة مناسبة وملائمة لكي يعمل القطاع الخاص(المحلي والأجنبي) بحريّةٍ فيها، وعلى نطاق واسع.. مع تعزيز قدرة هذه الدولة في الوقت ذاته(من خلال وضع الإطار القانوني والدستوري المناسب)على حماية الملكية الخاصة، وتحصينها من "ولاية" وابتزاز القوى السياسية عليها.. وأيضاً على ضبط "إيقاع" السوق، والحدّ من اختلالاته وتشوّهاته وانحرافاته، وتقليل كلفته المجتمعيّة على الشرائح الأكثر ضعفاً وهشاشةً من الناس.
دولة كهذه، داعمة لقطاع خاص كهذا، هي القادرةعلى خلق أكثر من"دفعة قويّة" في الإقتصاد.
دولة كهذه،داعمة لقطاع خاص كهذا، هي الأكثر قدرة على الإستفادة من "الميزة النسبيّة" و"سلاسل القيمة"، و"الهوية الإقتصادية" للمحافظات.
دولة كهذه، داعمة لقطاع خاص كهذا،يمكن أن تنجح في تنفيذ تنمية "مكانيّة" ناجحة بالإعتماد على قدرات وموارد محليّة مُتاحة وعاطِلة(أو مُعطّلة)، و في تحقيق عملية تنمية"وطنيّة"، اقتصادية واجتماعية، أكثر شمولاً واستدامة.
وقد تكون هذه أيضاً هي مجرّد"عجلة" نُعيد التأكيد هنا على اختراعها من جديد.. غير أنّنا في الحقيقة لا نملكُ "عجلةً" أخرى غيرها الآن.
ليس بوسعنا الآن اجتراح حلول غير تقليديّة، هي في الغالب عبارة عن قرارات وإجراءات"شعبويّة" قصيرة الأجل، ودفع مُجتمَعٍ مُنهَك ومَنقَسِم إلى تحمّل كلف إضافية لتجريبها.
إنّ بإمكاننا "ركوب" هذه العجلة بسلاسة(وقد سبق وإن ركبتها اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والصين والإمارات.. رغم اختلاف أنظمة الحكم فيها)، وأن نعمل من خلالها على تنويع الإقتصاد والتخلّص من"عبوديته" للريع النفطي.. وأن نقطعُ بها، ولو متراً واحداً، في طريقنا الطويل لمغادرة هذه المرحلة، التي هي الأسوء، في تاريخنا الإقتصادي"والسياسي" المليء بالخيبات والعثرات والأخطاء.
اضف تعليق