فكرة الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية، التي ظهرت ملامحها في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مستهدفة بذلك عدداً من الأندية الكروية الأوروبية ذائعة الصيت، ساعية من خلال استثمارها إلى تحقيق عدد من المنافع المرجوة، واكتساب أرباح معنوية ومادية، من الانتشار الواسع لهذه الأندية على المستوى العالمي...
بقلم: سلسبيل سعيد
مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 بدأت تظهر ملامح جديدة للمجتمع الدولي المُتشكل في تلك الحقبة، ومن هذه الملامح ظهور مصطلح “الحرب الباردة” الذي كان له تأثير كبير في الجوانب العسكرية والسياسية والاقتصادية. كذلك ظهر مصطلح “النظام الدولي ثنائي القطب”، تتوزع بحسبه دول العالم بناء على أيديولوجيتها السياسية وعقيدتها الأمنية إلى مجموعتين رئيستين؛ مجموعة الشرق ومجموعة الغرب، ومن ثم “نظام أحادي القطب”، الذي هيمنت فيه الولايات المتحدة على المشهد الدولي وفرضت نفوذها على مناح واسعة حول العالم.
ومع نهاية القرن التاسع عشر دخلت الرأسمالية مرحلتها الثالثة، المتمثلة في “الرأسمالية المالية”، بوصفها أهم مفهوم لاقتصاد العالم، ومعها بدأت تنتعش أسواق الأوراق المالية، وتظهر المؤسسات المصرفية العالمية والشركات القابضة، وفي هذه المرحلة انتقلت الرأسمالية من المناقشات الأكاديمية والأوساط الفكرية والسياسية إلى ممارسات الأفراد العامة في حياتهم اليومية. وعلى الرغم من أن الملمح الرئيسي للرأسمالية هو الانفتاح الاقتصادي وتحرر السوق من القيود المحلية والانتقال للعالمية، فإن “الرأسمالية” كظاهرة لامست مختلف الميادين الإنسانية: السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وأثرت كثيراً في أسُسها المعرفية الخاصة بها.
يعد هذا نتاجاً طبيعياً لتداخل المجالات الإنسانية بعضها ببعض، وتأثرها فيما بينها في حلقة متداخلة من التفاعلات المختلفة. وقد أفرز تفاعل “الرأسمالية” مع مجالات الحياة الأخرى نتيجة أساسية تمثلت في تثمين كل ما يمكن تثمينه، واستخدام لغة الأرقام مع كل قيمة مادية أو معنوية، بهدف تداولها واستثمار المنفعة منها.
لغة الأرقام دخلت أيضاً عالم الرياضة، فإذا أراد نادٍ رياضيٌّ أن يكسب البطولات ويحقق نجاحات عالية فلا بد من ضمان النجوم الرياضيين الكبار واللاعبين المحترفين في تشكيلة النادي، وهو بلا شك يتطلب مبالغ هائلة لشراء اللاعبين. لهذا، أصبحت الأندية الكروية تبحث عن مصادر كفيلة بتمويل أنشطتها، وعن شركات استثمارية تدر الملايين لها، في مقابل حصول الداعم الرياضي أيضاً على منفعة مادية أكبر من استثماراته لدى النادي الرياضي.
ونظراً لارتباط مظاهر السوق المفتوحة للرأسمالية بمفهوم “العولمة”، الذي يعني جعل كل شيء عالمياً، وتُغيب الحدود الوطنية لحركة النشاط التجاري أو الاجتماعي أو السياسي، جاءت فكرة عولمة النشاط الرياضي، لتتمكن الأندية الكروية ذات الصيت العالي من تأمين مصادر تمويلها من خارج حدودها الجغرافية، وذلك بهدف ضمان استمرارها حتى في حالة الأزمات المالية الكبرى العاصفة ببلدانها.
ومن هنا جاءت فكرة الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية، التي ظهرت ملامحها في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مستهدفة بذلك عدداً من الأندية الكروية الأوروبية ذائعة الصيت، ساعية من خلال استثمارها إلى تحقيق عدد من المنافع المرجوة، واكتساب أرباح معنوية “بشكل أساسي”، ومادية، من الانتشار الواسع لهذه الأندية على المستوى العالمي.
تسعى الدراسة إلى التعرف على استثمارات الدول الخليجية لدى المستديرة الأوروبية من خلال أربعة محاور أساسية. فالمحور الأول يبحث في معالم وآليات الاستثمارات الخليجية، ويناقش خريطة الاستثمارات، وقد رُتبت حسب الأسبقية في التوجه الخليجي للاستثمار في الأندية الأوروبية. ويبحث المحور الثاني في مكاسب وخسائر الاستثمار الخليجي في هذا النوع من الاستثمار، انطلاقاً من سؤال رئيسي: هل حقق الاستثمار الخليجي مرتجاه من خططه الاستثمارية في الأندية الأوروبية أو تعرض لعراقيل حالت دون تمكنه من ذلك؟
والمحور الثالث يحاول مناقشة آثار الاستثمار المختلفة وانعكاساتها على الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدول الخليج، وفي الأخير يحاول المحور الرابع استشراف مستقبل الاستثمار من خلال قياس عدد من المحددات للاستمرار أو التوقف في هذا الاستثمار.
المحور الأول: معالم الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية وأهدافها
رياضة كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية حول العالم لدى مختلف الفئات والأعمار، والأقدم تاريخياً من غيرها من الرياضات الحالية، حيث لُعبت كرة القدم منذ آلاف السنين، ولعبتها بشكل ما معظم حضارات العصور القديمة من الصينيين إلى اليونانيين والرومانيين والمصريين القدماء. ففي دراسة أجراها مكتب براءات الاختراع الموجود في ميونخ بشأن التعرف على تاريخ تطور لعبة كرة القدم، وجدوا أن كرة القدم ترجع إلى عام 2697 قبل الميلاد، وذلك عندما أطلق الصينيون اسم “TS Uh-KUH” على لعبة “كرة مليئة بالريش والجلد تُضرب بالقدم”[1].
أولاً: التطور التاريخي لعملية الاستثمار في النوادي الرياضية
مع تطور الزمان تطورت الرياضة، وأصبحت تديرها طوعياً المجاميع المهتمة بهذه الرياضة، إذ شُكلت الأندية في سبيل رعاية المجاميع الرياضية، و”أشرف على إدارتها مجموعة من المتفرغين لمصلحة أعضاء النادي من المجتمع الذي يعيشون فيه، ليس كمؤسسة تجارية وإنما كمؤسسة اجتماعية مدنية”[2]. لم تكن إدارة النادي عند نشأتها تحظى بأي مصالح مادية من نشاطها الإداري، إلى أن بدأت بوادر التحول الإداري من نشاط اجتماعي غير نفعي إلى ظهور مفهوم الملكية المحدودة للنادي في أواخر القرن العشرين (1880-1890).
بعد مدة قصيرة جداً أصبح الاستثمار أمراً ممكناً في ملكية النادي لكل من أراد الاستثمار فيه، وهو ما جعل عدداً من المستثمرين يشترون جزءاً من ملكية النادي أو النادي بالكامل بهدف تحقيق الأرباح، وبعد ذلك انتقل الاستثمار إلى مرحلة أخرى تمثلت في التعامل مع بورصة الأوراق المالية، وكان أول تعامل للأندية الرياضة مع البورصة عام 1983 عند تعويم نادي توتنهام هوتسبيرز، ليتبعه بعد ذلك تعويم نادي مانشستر يونايتد عام 1991[3].
ومنذ العقد الأخير من القرن العشرين، شهدت القارة الأوروبية عملية تنمية اقتصادية واسعة النطاق، بالإضافة إلى موجة عالية في تسليع المجتمع، بمعنى آخر رفع مستوى الاستهلاك بين الأفراد من خلال زيادة وسائل الإعلان والتسويق. وخلال هاتين العمليتين تحولت رياضة كرة القدم من مشروع تجاري صغير إلى قطاع أعمال بملايين اليوروات، نتيجةً طبيعيةً لدخول الرياضة مجال العولمة والتسويق[4].
وهكذا، تحولت رياضة كرة القدم بمرور الزمن من رياضة للترفيه ومتنفس لأوقات الفراغ إلى وسيلة للربح والاستثمار والمضاربة التجارية. إذ أصبحت قوانين كرة القدم وخطوطها الحمراء تُحسب جميعها بالأرقام ونسب الأرباح والخسارة، وتحولت الأندية الرياضية إلى شركات استثمار ضخمة تُدار عقودها بملايين الدولارات، ولم يَعد اللاعبون مجرد أشخاص يبرعون في لعب كرة القدم وإنما رأس مال يُستثمر هنا وهناك.
هذا ليس بمستغرب في ظل العولمة والنظام الرأسمالي السائد، فالقيمة المادية تطفو على مختلف المعاملات الإنسانية، لا سيما مع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي وصل تأثيرها تقريباً إلى كل مناحي الحياة، وجعلت من السهل التفاعل والتأثير بين المستثمر والمستهلك.
وقد أصبح لرياضة كرة القدم دور مهم في هيكلة الاقتصاد العالمي، نظراً لمساهمتها في جانب الدعاية والترويج للمؤسسات الاقتصادية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وسهولة وصولها إلى ملايين البشر في لحظة واحدة، وهو ما يجعلها في مرتبة عليا من مراتب التأثير الإعلامي العابر للحدود. ومن ناحية أخرى، تتأثر رياضة كرة القدم تأثراً كبيراً من العامل الاقتصادي، وذلك على اعتبار أنها نظام اجتماعي يحتاج إلى منشآت وأجهزة تدريب وأدوات رياضية ومعدات فنية تساعد على الإعداد والتدريب، بالإضافة إلى حاجته إلى أماكن إقامة المنافسات وما إلى ذلك، وهو ما يعني أن الرياضة كنظام اجتماعي لا يمكن أن تستمر دون النظر في متطلباتها الاقتصادية[5].
أصبحت كرة القدم بهذا الشكل مجتمعاً عالمياً “ينسق” نفسه في تفضيلات محددة عابرة للحدود الوطنية من اللاعبين والأندية العالمية والمشجعين ومستهلكي البضائع الخاصة بهذه الرياضة، وبما يمكن وصفه بـ”الشتات الافتراضي المخترع ذاتياً”، حيث تم تشكيله من الانتشار العالمي للصور والمنتجات التي تركز على الأندية، ومن التعريف الطوعي للأفراد الذين لديهم رموز وممارسات مرتبطة بالنادي، ومن اللاعبين المهرة من مختلف دول العالم المجتمعين في أشهر الأندية الرياضية (بما يجعلها أندية عرقية) مملوكة لمستثمرين عالميين (بما يجعلهم محتفظين بروابط رمزية بوطنهم المنشأ)[6].
وبالعودة إلى ملامح الاستثمار العربي في الأندية الأوروبية، فإن بدايته تعود إلى رجل الأعمال المصري محمد الفايد، الذي اشترى نادي “فولهام” الإنجليزي عام 1997، الذي يعد من أعرق أندية لندن في التسعينيات، وكان للاستثمار العربي دوره في تحقيق النادي إنجازات عديدة، ومنها تمكن النادي من العودة مجدداً إلى الدوري الإنجليزي بعد أن كان يقبع في دوري الدرجة الثالثة، وفوزه بدوري الدرجة الأولى الإنجليزي لموسم 2000-2001، بالإضافة إلى وصوله إلى النهائي الأوروبي عام 2010. وعلى الرغم من كل هذه الإنجازات قرر الفايد التخلي عن رعاية النادي بعد خسائر مالية فادحة، وبيعه لرجل الأعمال الأمريكي من أصل باكستاني شهيد خان، بصفقة بلغت قيمتها 200 مليون باوند[7].
توالت الاستثمارات العربية بعد ذلك على الأندية الأوروبية؛ باستثمار الإماراتي منصور بن زايد، والقطري عبد الله بن مساعد، والمصري ناصيف ساويرس، والأردني حسين أسميك، وغيرهم من رجال الأعمال العرب، وما تبع ذلك من دخول الصناديق السيادية لبعض الدول الخليجية مشاريع الاستثمار في الأندية الأوروبية.
وقد أتت الاستثمارات العربية، والخليجية على وجه الخصوص، منسجمة مع عولمة رياضة كرة القدم ورؤى الفيفا الاقتصادية التي حولت الرياضة إلى سلعة استغلالية تخضع لقوانين العرض والطلب، والربح أولاً، وغيرها من قوانين اقتصاد السوق[8].
وحين بدأ الاستثمار الخارجي في مجال الأندية الأوروبية امتزجت الأهداف الاستثمارية بغيرها من الأهداف الاقتصادية والأمنية والسياسية. وهذا ما لُوحظ من نشاط المستثمرين الخليجيين داخل الأندية الأوروبية، خاصة بعد أن تطورت الاستثمارات سريعاً من مرحلة الرعاية الجزئية إلى مرحلة الاستحواذ على الأندية كلياً.
أيضاً لم يكتف المستثمرون الخليجيون بالاستثمارات داخل الأندية فقط، بل توسع الأمر إلى حد الحصول على امتيازات رياضية أخرى، فعلى سبيل المثال أنفقت السعودية نحو 120 مليون يورو بهدف الحصول على استضافة الأدوار النهائية من كأس السوبر الإسباني[9] ثلاثة مواسم 2020 و2021 و2022[10]، ومُدِّد العقد سبع سنوات إضافية حتى عام 2029 بقيمة إجمالية تتراوح ما بين 240 و320 مليون يورو[11].
أيضاً تعد رياضة سباق الخيل من أهم وجهات الاستثمارات الخليجية، “إذ تعد شركة “غودلفين”، المملوكة للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، واحدة من أكبر الشركات في العالم، حيث توظف 1500 شخص لرعاية 4500 حصان، وتمتد مساحة الإسطبلات ومضامير السباق الخاصة بها على مساحة تبلغ 10 آلاف فدان من الأراضي الموجودة في مدينة سوفولك (Suffolk) الواقعة على بعد نحو 100 كيلومتر شمالي لندن”[12].
بالإضافة إلى الاستثمارات الخليجية الأخرى في استضافة الفعاليات الرياضية العالمية، وأنشطة رياضة كرة القدم المتنوعة من معسكرات تدريب للأندية المُستثمر فيها على الأراضي الخليجية، ومعسكرات تدريب مشتركة بين الأندية الأوروبية والخليجية، وما إلى ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن المحاولات الخليجية في الاستثمار في الأندية الأوروبية لم تتمكن جميعها من تحقيق النجاح، فهناك صفقات لم يتمكن الجانب الخليجي من إتمامها لعدة أسباب، منها المتعلقة بشروط الصفقة المالية، وأخرى ربما مرتبطة بسياسة النادي. ومن أبرز الصفقات غير الناجحة عدم تمكن الجانب القطري من الحصول على عقد شراء نادي “مانشستر يونايتد” الإنجليزي عام 2011، وشراء نادي روما الإيطالي عام 2019، وعدم حصول شركة دبي إنترناشونال كابيتال على ملكية نادي “ليفربول” الإنجليزي، وغيرها من العقود[13].
ثانياً: خريطة الاستثمار الخليجي
أدى تراكم الثروة المالية الناتجة عن صادرات النفط لدول الخليج إلى بناء احتياطيات ضخمة في صناديق الثروة السيادية الخليجية، لا سيما بين عامي 2002 و2006، حيث بلغ فائض أموال الصناديق ما يقارب 642 مليار دولار، وتم بالفعل استثمار أموال هذه الصناديق في دول الاتحاد الأوروبي في مختلف القطاعات، بما يقارب نحو 100 مليار دولار وقتها[14].
إذ إنه بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 برزت الصناديق السيادية في دول مجلس التعاون الخليجي لتمويل الطوارئ لدى دول الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال استحوذ جهاز أبو ظبي للاستثمار على حصة قدرها 6 مليارات دولار في بنك باركليز (Barclays) البريطاني عام 2009، وفي أغسطس/آب 2011، ضخت شركة (Paramount Services Holding)، وهي أداة استثمارية تابعة للعائلة المالكة القطرية، 500 مليون يورو في كيان نتج عن اندماج المؤسستين الماليتين اليونانيتين (Alpha Bank) و.(Eurobank) وفي العام نفسه أعلن رئيس الوزراء القطري حمد آل ثاني آنذاك استعداد صناديق الثروة السيادية في قطر لاستثمار 300 مليون يورو في بنوك الادخار الإسبانية المتعثرة[15].
خريطة الاستثمار الحكومي في القطاع المالي الأوروبي شجعت المستثمرين من رجال الأعمال الخليجيين على المضي قدماً في التوجه نحو أوروبا للبدء بأنشطتهم الاستثمارية الخاصة، وكان قطاع الرياضة من أوائل القطاعات التي استثمر فيها رجال الأعمال.
ونتيجة لتوجه رأس المال الخليجي نحو القارة الأوروبية فقد وجدت الأندية الكروية ضالتها في أصحاب رؤوس الأموال الخليجيين خلال الأزمة المالية التي ضربت العالم عام 2008، والتي أدت إلى انخفاض أرباح العديد من الأندية الرياضية، خصوصاً أندية كرة القدم، وأجبرت المسؤولين في الأندية على البحث عن المستثمرين من مختلف أنحاء العالم، للمساهمة في تمويل الفرق بما يساعدها على الاستمرار[16]، ويمكن إيجاز الاستثمارات الخليجية في التالي:
1- الاستثمارات الإماراتية
أولى الاستثمارات الخليجية كانت استثمارات إماراتية خاصة، وذلك بشراء الشيخ منصور بن زايد أسهم نادي “مانشستر سيتي” الإنجليزي بنسبة 90% عام 2008، وشراء النادي بالكامل في العام الذي يتبعه. قام الشيخ بن زايد بضخ ملايين الدولارات في النادي، إذ تشير تقارير إلى أن ما يقرب من مليار باوند صُرفت على النادي منذ تملك بن زايد[17]. كذلك أجرى عدة صفقات لشراء اللاعبين المهرة وإضافتهم إلى تشكيلة النادي، وهو ما جعل النادي من أفضل الأندية الإنجليزية خلال تلك الفترة.
وبهدف تطوير الاستثمار الإماراتي وتوسيع آثاره عالمياً، أسست مؤسسة أبو ظبي المتحدة للاستثمار والتطوير، التي يملكها الشيخ منصور بن زايد، مجموعة سيتي لكرة القدم (CFG)، للإشراف على إدارة شبكة متصلة من أندية كرة القدم، بجانب فعاليات رياضية أخرى تنطلق من رعايتها لنادي (مانشستر سيتي).
شملت المؤسسة رعاية قرابة تسعة أندية حول العالم في إنجلترا والولايات المتحدة وأستراليا واليابان والأوروغواي وإسبانيا والصين والهند وبلجيكا. كل هذا في إطار شركة استثمار رياضي واحدة، بهدف تدعيم الأهداف الاستثمارية لتلك المؤسسة من حول العالم[18].
ففي عام 2014 تمكنت مجموعة سيتي من تملك نادي “ملبورن” الأسترالي مقابل 12 مليون دولار، واستثمرت في ذات العام أغلب أسهم نادي “يوكوهاما مارينوس” الياباني[19]. وفي عام 2015 تمكنت المؤسسة من تملك 80% من أسهم نادي “نيويورك سيتي” الأمريكي، بالإضافة إلى استحواذها على نادي “أتلتيكو توركي” الأوروغواياني عام 2017، ونادي “جيرونا” الإسباني عام 2017، ونادي “سيشوان” الصيني عام 2019[20]، وغيرها.
إضافة إلى ذلك، اشترى رجل الأعمال الإماراتي سليمان الفهيم، في عام 2009، نادي “بورتسموث” الإنجليزي بصفقة بلغت قيمتها 60 مليون جنيه إسترليني[21]، ليبيع بعد مدة 90% من أسهمه إلى رجل الأعمال السعودي علي الفراج.
تبعت أعمال الشراء الخاصة للأندية قيام المؤسسات الخاصة باتخاذ إجراءات مماثلة تتمثل في تملك مجموعة رويال دبي، التي يملكها الشيخ بطي بن مكتوم آل مكتوم، لنادي “خيتافي” الإسباني عام 2011، في صفقة بلغت قيمتها بين 70 و90 مليون يورو، أي ما يعادل أكثر من مئة مليون دولار[22].
2- الاستثمارات القطرية
بدايات الاستثمارات القطرية كانت لرجال أعمال كبار، وأولى هذه الاستثمارات كانت بتملك الشيخ عبد الله بن ناصر الأحمد آل خليفة نادي “ملقا” الإسباني، عام 2010، بـ25 مليون يورو، لينقذه من الإفلاس بعد مشاكل مالية عصفت به. وقد استعاد الشيخ آل خليفة مبلغ شرائه بعد موسمين فقط من عقد الشراء[23]، وهو ما عُد صفقة ناجحة للجانب القطري، وفتح المجال من أوسع أبوابه للمستثمر القطري في الأندية الأوروبية.
تبع ذلك الاستثمار استحواذ مؤسسة قطر للاستثمارات الرياضية، التي يملكها رجل الأعمال القطري ناصر الخليفي، على 70% من أسهم نادي “باريس سان جيرمان” الفرنسي عام 2011، وبعد عام اشترت المؤسسة النسبة المتبقية، لتكون بذلك المالك الوحيد للنادي بقيمة شراء بلغت إجمالاً 100 مليون يورو[24].
إضافة إلى ذلك، امتلكت مؤسسة “أسباير زون” القطرية نادي “يوبين” البلجيكي عام 2012[25]، أحد أكبر الأندية البلجيكية اللاعبة في الدوري الممتاز، واستحوذت أيضاً على ملكية نادي “كولتورال ليونيسا” الإسباني عام 2015[26]، الذي يلعب في الدرجة الثانية للدوري الإسباني.
وما زالت المحاولات القطرية للاستثمار في أندية أوروبية أخرى، والوصول إلى صفقات مربحة مع أندية؛ فمن ذلك محاولة شركة قطر للاستثمار شراء ملكية نادي “توتنهام هوتسبير” الإنجليزي عام 2015[27]، ومساعي هيئة الاستثمار الرياضي في قطر للاستثمار في نادي “أرسنال” الإنجليزي عام 2021[28]، وغيرها من المحاولات.
يمكن القول إن كرة القدم أصبحت الأداة الأكثر أهمية في برنامج دولة قطر للتنمية الاقتصادية، وبنداً مهماً في مشاركة قطر العالمية، حيث تنفق حكومة قطر حالياً ما يقرب من 250 مليار دولار لاستقبال كأس العالم 2022 في بلدها[29]، فضلاً عن الاستثمارات المذكورة السابقة في رعاية وامتلاك أندية أوروبية عديدة، وحصولها على حقوق البث الحصرية لكرة القدم الأوروبية في جميع أنحاء دول المنطقة العربية عبر شبكتها الرياضية (beIN SPORTS).
3- الاستثمارات السعودية
بدأت رحلة الاستثمارات السعودية في الأندية الأوروبية في وقت متأخر، تحديداً في عام 2013، عندما أعلن الأمير السعودي عبد الله بن مساعد تملكه نصف حصص نادي “شيفيلد يوناتيد” الإنجليزي، الذي أغرقته الديون المتراكمة، وفي عام 2019 تمكن الأمير بن مساعد من شراء بقية حصص النادي، لتصبح ملكيته بالكامل سعودية خالصة.
وفي عام 2019 قرر تركي آل الشيخ (رئيس هيئة الترفيه الحالي ورئيس هيئة الرياضة السابق) شراء نادي ” ألميريا”، أحد أندية دوري الدرجة الثانية الإسباني، بعد استحواذه على 99.8% من أسهم النادي، ليصبح أكبر المساهمين فيه[30].
جاءت الاستثمارات الرسمية متأخرة، مع شراء صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي يرأسه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لنادي نيوكاسل الإنجليزي عام 2021، بمبلغ قدره 300 مليون جنيه إسترليني (370 مليون دولار)[31]، وبذلك دخلت السعودية على خط استثمارات الصناديق السيادية الخليجية في الأندية الأوروبية.
يُلاحظ من الاستثمارات السعودية أنها كانت في بدايتها مرتكزة على الصفقات الشخصية دون إقحام الصندوق السيادي بمسألة الاستثمار الرياضي في الأندية الأوروبية، ولكنها أخذت بالتحول مع الإعلان عن رؤية المملكة لعام 2030، وهو ما يدعم توجهات المملكة الرامية إلى تنويع اقتصادها القائم على النفط ومشتقاته، وانتقاله إلى مرحلة ما بعد النفط.
4- الاستثمارات الخليجية الأخرى
بالنسبة لبقية الاستثمارات الخليجية خارج الدول الثلاث السابقة فقد اتصفت بالمحدودية والخصخصة لرجال أعمال ومستثمرين خليجيين. ومن هذه الاستثمارات استحواذ رجل الأعمال الكويتي، فواز الحساوي، على نادي “نوتنغهام فورست” الإنجليزي مقابل نحو 75 مليون جنيه إسترليني عام 2012[32].
كذلك، استحوذ رئيس المجلس الأعلى للرياضة والشباب في البحرين الشيخ ناصر بن حمد بن عيسى آل خليفة على نادي “قرطبة” الإسباني، أحد أندية الدوري الإسباني للدرجة الأولى، وذلك عبر شركة البحرين “إنفينتي كابيتال” خلال عام 2019[33].
وليس ثمة استثمارات رسمية للدول الخليجية المتبقية (الكويت والبحرين وسلطنة عمان) في مجال الأندية الأوروبية، وربما فضلت صناديقها السيادية التركيز على قطاعات أخرى للاستثمار فيها، أو كونها لا تزال في مرحلة التخطيط لاقتحام مجال الاستثمار الرياضي العالمي.
ثالثاً: آليات الاستثمار وصوره
وجدت دراسة استقصائية لـ (FIFA)، أجرتها مؤسسة (Big Count) في عام 2006، أن هناك نحو 265 مليون لاعب كرة قدم مسجل لدى اتحاد الفيفا، بالإضافة إلى نحو 5 ملايين شخص يشغل منصباً إدارياً أو منصب حكم في لعبة كرة القدم، أي نحو 270 مليون شخص أو 4٪ من سكان العالم يشاركون بنشاط في لعبة كرة القدم[34].
أظهرت الدراسة أيضاً أن هناك عدداً متزايداً من الأندية يظهر مع مرور الوقت، فقد نما عدد الفرق الرياضة خلال سبع سنوات من عام 1999 إلى ٢٠٠٦ بزيادة قرابة 12٪، وأصبح عدد فرق كرة القدم (خارج إطار الأندية الرياضية) قرابة مليون و750 ألفاً، في حين أصبح عدد الأندية الرياضية نحو 300 ألف ناد[35].
صحيح أن هذه الأرقام قد تغيرت بالزيادة أو النقصان منذ تاريخ الدراسة، ولكن المؤكد أن للعبة كرة القدم مجالها الخاص في عالم الاستثمار والأرباح، وتأثيرها الفعال في مجمل القطاعات الأخرى المتداخلة بها.
يعد شراء الأسهم أو شراء النادي بأكمله أبرز صور الاستثمار الخليجي في الأندية الأوروبية، وهو ما تم إيضاحه في البند السابق. إلا أن هناك صوراً أخرى للاستثمار الخليجي داخل الساحة المستديرة الأوروبية، وأهم هذه الصور:
1- حملات رعاية القمصان
تعد شركات الطيران الخليجي هي المستثمر الأبرز في هذا المجال، فقمصان كبريات الأندية الأوروبية تحمل العلامة التجارية لعدد من شركات الطيران الخليجي. فقد بلغت الاستثمارات الخليجية (الإمارات العربية المتحدة وقطر بشكل أساسي) في رعاية قمصان الأندية الأوروبية لموسم 2015 قرابة 160 مليون يورو هذا الموسم في أكبر ست مسابقات للدوري بالقارة الأوروبية، بما يعادل نحو 25 % من إجمالي إنفاق شركات العالم العاملة بمجال رعاية القمصان، حسب إحصائيات مجموعة أبحاث السوق الرياضية (ريبوكوم)[36].
وتعد شركة “طيران الإمارات” أكثر الشركات التي يوجد شعارها على قمصان الرياضيين الأوروبيين، حيث إن علامتها التجارية موجودة على عدة قمصان أندية أوروبية، ومنها نادي “تشيلسي” الإنجليزي، ونادي “أرسنال” الإنجليزي بين عامي 2006 -2024، ونادي “سان جيرمان” الفرنسي بين عامي 2005 و2019، ونادي ريال مدريد الإسباني منذ عام 2011 حتى الآن، بالإضافة إلى رعاية جزئية لأندية: “ميلان” الإيطالي، و”أولمبياكوس” اليوناني، و”بنفيكا” البرتغالي، ونادي “هامبورغ” الألماني[37].
في عام 2008 عقدت شركة “طيران الاتحاد” المملوكة بالكامل لحكومة أبو ظبي اتفاقية طويلة الأمد مع نادي “مانشستر سيتي”، لتشمل رعاية قميص الفريق الأول وقمصان التدريبات، وحقوق تسمية ملعب الفريق وأكاديميته للناشئين.
في حين يطبع شعار مؤسسة قطر على أقمصة نادي “برشلونة الإسباني”، وشعار شركة طيران القطرية على قمصان نادي “روما” الإيطالي، وكلها في إطار الاستثمار الرياضي في حملات رعاية قمصان الأندية.
تحاول كل الاستثمارات التابعة لشركات الطيران الخليجية أن تظهر بلدها أمام العالم داعماً للرياضة، ونقل صورة إيجابية عنه إلى مشجعي الساحرة المستديرة العابرين للقارات، وهذا ما أوضحه سيمون تشادويك، أستاذ الاقتصاد الرياضي بجامعة سالفورد في مانشستر لموقع “ريفيرسبورت” الألماني: إنها طريقة لتقديم بلد ما لنفسه أمام العالم، وبالطبع فإن الخطوط الجوية القطرية ونادي برشلونة يسعيان لنقل صورة إيجابية، بمعنى: أفضل ناد في العالم قد يجعل الناس يعتقدون أن الخطوط الجوية القطرية هي أفضل شركة طيران في العالم[38].
2- امتلاك حقوق تسمية الملاعب ومراكز التدريب
في إطار الشراكة الاستثمارية للجانب الخليجي مع الأندية الأوروبية، احتوت بعض عقود الاستثمار على حيازة حقوق تسمية بعض الملاعب الخاصة بالنوادي الرياضية. ويعد نادي “أرسنال” المثال الأبرز في هذا المجال.
إذ تمتلك شركة طيران الإمارات ملكية تسمية ملعب نادي “أرسنال” الكائن في شمال العاصمة لندن، وذلك في إطار اتفاقية الرعاية الممتدة لأكثر من عشرين عاماً، وتحافظ الشركة على حقوق تسمية الملعب الذي أصبح يعرف باسم ملعب الإمارات حتى عام 2028[39].
أيضاً، وفي إطار صفقة رعاية لشركة الاتحاد للطيران مع النادي الإنجليزي “مانشستر سيتي” أُطلق اسم “الاتحاد” عليه بدلاً من اسمه السابق “إيست لاندز”، حيث وصلت القيمة الإجمالية للصفقة إلى حوالي 100 مليون جنيه إسترليني، وتمتد نحوَ عشر سنوات منذ عام 2011 وحتى 2021، على أن تشمل الصفقة حقوق تسمية الحرم الرياضي المحيط بالملعب، بالإضافة إلى رعاية قمصان النادي، والتعاون في مبادرات إعلامية وتجارية مختلفة[40].
وقد دخلت شركة اتصال “أوريدو” القطرية مجال رعاية القمصان ورعاية أسماء الملاعب الرياضية، فقد وُضعت علامة “أوريدو” (Ooredoo) التجارية على ملعب “بارك دي برينسيس” الموجود في مدينة باريس الفرنسية، فضلاً عن تغيير اسم المجمع التدريبي لنادي “باريس سان جيرمان” من “كامب دو لوج” إلى “مركز أوريدو (Ooredoo) للتدريب” لقاء عقد الشراكة من عام 2013 وحتى 2018[41].
رابعاً: أهداف الاستثمارات الخليجية
عند خروج الاستثمار من نطاقه المحلي إلى العالمي فإنه في الأغلب يسعى إلى تحقيق فوائد وأرباح في بيئة توفر له الحصول على ما لم توفر له البيئة المحلية، وهذا ينطبق تماماً على الاستثمار الخليجي في الأندية الأوروبية، الذي سعى إلى تحقيق عدد من الأهداف، ومنها:
1- القوة الناعمة للاستثمارات الخليجية
تعد استراتيجية القوة الناعمة أحد العناصر الرئيسية لصناديق الثروة السيادية للدول الخليجية، إذ أسهمت هذه الاستراتيجية في دفع الدول الخليجية إلى الاستثمار العالمي في الشركات المتعددة الجنسيات والشركات الممتازة والعقارات المدروسة وغيرها من عناصر القوة الناعمة، ويكون الهدف الأسمى فيها الظهور في العناوين الأساسية دون تحقيق أرباح بالضرورة[42].
توجه الدول الخليجية إلى استراتيجيات القوة الناعمة انطلق في الأساس من حاجة تلك الدول إلى إيجاد قنوات فعالة تضمن لها أدواراً في الساحة الدولية بما يؤمن لها مصالحها الخاصة، لا سيما مع الأجواء المضطربة في المنطقة العربية، التي تجعل من الاستثمار في المنطقة أمراً صعباً على الدول الخليجية المالكة لعناصر التأثير وأداء الأدوار الإيجابية إقليمياً وعالمياً في مختلف المجالات.
الأمر ذاته يحدث في عالم الرياضة، حيث تُضَخُّ استثمارات خليجية بملايين الدولارات في تنظيم ورعاية الأحداث الرياضية، وتشييد البنى التحتية الرياضية، وامتلاك حقوق البث، وغيره من مجالات الاستثمار في سبيل فتح قنوات بين الدول الخليجية وعالم المال والأعمال.
وهذا ما أكده العضو المنتدب لسوق دبي الحرة المملوكة لعائلة آل مكتوم، في بيانه الصحفي عام 2004: “أينما وحيثما نستطيع، نعزز الرسالة التي مفادها أن سوق دبي الحرة هي واحدة من أفضل عمليات البيع بالتجزئة في المطارات في العالم، وأن الرعاية الرياضية هي وسيلة فعالة للغاية لنشر هذه الرسالة”[43].
كما أكد ذلك الشيخ أحمد آل مكتوم، رئيس مجلس إدارة طيران الإمارات، عند توقيع اتفاقية رعاية طيران الإمارات لنادي “أرسنال” الإنجليزي، وامتلاك حقوق تسمية ملعب نادي “أرسنال” الجديد باسم “الإمارات”، عام 2004، حيث قال: “توفر الرعاية الرياضية منصة دولية للتواصل مع عملائنا. نعتقد أن الرعاية هي إحدى أفضل الطرق للاقتراب من عملائنا. يتيح لنا مشاركة مصالحهم ودعمها وبناء علاقة شخصية معهم. ليس ثمة وسيلة أفضل لهذا من كرة القدم الإنجليزية، ونحن نتطلع إلى علاقة طويلة وسعيدة للغاية مع أرسنال”[44].
وعليه تعد استثمارات الخليج للمجال الرياضي أداة لتحقيق التأثير الناعم في شعوب المنطقة العربية والعالم، بحيث لا يقتصر الخليجيون في التأثير على المجال الأوروبي فقط، وإنما يكون الانطلاق من الأندية الأوروبية للتأثير في كل بلدان العالم.
فعندما يمدح ويشكر اللاعبون المشهورون والنجوم الكبار، عقب فوزهم ببطولة أو حصولهم على جائزة ما، الدول الخليجية المالكة أو الراعية للأندية على وسائل الإعلام التي يتابعها مئات الملايين من الناس من حول العالم، فإنه بلا شك يخلق فوائد هائلة للدول الخليجية؛ ومن ثم توظِّف رعايتها للأندية في ممارستها للقوة الناعمة وترسيخ السمعة الجيدة عنها عالمياً.
2- تنمية الاستثمار الرياضي في الداخل
منذ حرب الخليج الأولى كان هناك اتجاه حكومي واستثماري لرجال أعمال في تنمية المجال الرياضي، واستغلال شغف شعوب المنطقة الخليجية بكرة القدم لما يعود بالنفع على المشاريع الاستثمارية المربحة، وبما يعود بالنفع على الاقتصاد المحلي والإقليمي. لذلك سعت النخب الحاكمة ورجال الأعمال في الخليج إلى جذب اهتمام مطوري الأعمال والمشغلين متعددي الجنسيات للأندية الرياضية الخليجية.
فضلاً عن استضافة الفعاليات الرياضية الكبرى بهدف الربط بين الجهات الأجنبية والمحلية، والرفع من مستوى الإنتاج الرياضي المحلي، ولعل مدينة زايد الرياضية في أبو ظبي، ومدينة دبي الرياضية، وأكاديمية أسباير زون في الدوحة، أبرز الأمثلة على ذلك[45].
إذ تسعى المؤسسات الحكومية من إنشاء مثل هذه المشاريع الرياضية إلى تحقيق عدة أهداف داخلية وخارجية، فتشجيع الرياضة، وتمتع أفراد المجتمع بصحة جديدة، بالإضافة إلى تنمية المهارات الرياضية لشريحة معتبرة من الشباب، يعد من أهم الأهداف الداخلية لإنشاء المدن الرياضية الخليجية. ومن جهة أخرى، يعد هدف إظهار المجتمعات الخليجية مجتمعاتٍ رياضيةً تدعم وتمارس مختلف الأنشطة الرياضية من أهم الأهداف الخارجية، فالدول الخليجية بحاجة إلى إظهار مواكبتها لركب الحياة العصرية، وهذا ما وفره بناء المدن الرياضية الضخمة.
وربما يؤدي الاستثمار الرياضي للأندية الأوروبية إلى تحسين شبكة العلاقات الخليجية في المجال الرياضي، ونقل الخبرات الأوروبية إلى الداخل الخليجي للتدريب والتأهيل والتطوير؛ إذ إن مهمة التطوير الداخلي ربما كانت تأخذ مدة أطول من المدة الحالية التي تأخذها الأندية الخليجية في الرفع من مستواها العام.
3- التسويق الإعلامي للدول الخليجية
لرياضة كرة القدم ميزة كبيرة على بقية الاستثمارات الأخرى؛ وذلك لما تقدمه أندية كرة القدم من نشر وترويج لعلامة تجارية معينة بشكل فعال بين الناس في جميع أنحاء العالم. ومن ثم يمثل الاستثمار في كرة القدم الأوروبية فرصة ضخمة للترويج والإعلان لاسم معين أو دولة أو علامة تجارية ما[46].
لذلك، تهدف الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية، إضافة إلى العائد المادي- على الرغم من ضآلته- إلى امتلاك منافذ تسويق معتبرة داخل القارة الأوروبية؛ “فالدوريات الأوروبية، لا سيما الدوريات الخمس الكبرى (إنكلترا -إسبانيا -إيطاليا -فرنسا -ألمانيا)، تتمتع بقاعدة جماهيرية عابرة للقارات، خصوصاً في الولايات المتحدة وشرق آسيا”[47]، وهو ما يدفع الدول الخليجية إلى تبني استثمارات سيادية عند الأندية الأوروبية بهدف التسويق السياحي والاقتصادي، وهو ما يساهم في تعزيز مشاريعها الوطنية وخططها الاقتصادية.
وبالفعل بدأت انعكاسات الاستثمار الرياضي على الداخل الخليجي تنمو تصاعدياً في وقت قياسي، من خلال زيادة عدد السياح، ونمو عمل القطاعات الخدماتية المرتبطة بالسياحة، وهو ما يجعلها في المستقبل القريب تشكل مصدراً للدخل القومي.
كذلك، تحاول الدول الخليجية من خلال استثماراتها إرساء سمعة عالمية كوجهة رائدة لتنظيم الأحداث الرياضية الدولية، فالاستثمارات تأتي في عجلة متلاحقة من الأحداث، من حيث الانتقال لرعاية ملكية نادٍ ما، إلى تبني دوريات لعدد من النوادي، وصولاً إلى تنظيم فعاليات رياضية عالمية.
كل هذا بلا ريب يمنح الدول الخليجية المستضيفة لتلك الفعاليات نقاطاً تمييزية أفضل على مستوى العالم، فأصبحت دول الخليج على مشارف أن تصبح أكثر دول العالم استضافة للفعاليات الرياضية الدولية.
4- إنشاء شبكة علاقات
إن ما يهم المستثمر الخليجي في استثمارات الأندية الأوروبية هو تحقيق مزيد من المكاسب المادية، وليس بالضرورة أن يكون المكسب من خلال النادي الرياضي فقط؛ إذ إنه ما إن يبرز اسم المستثمر في نادٍ ما، ويتكرر اسمه مراراً وتكرراً في الأوساط الاستثمارية المشجعة أو الداعمة للنادي، حتى تُخلق له عدة فرص استثمارية في بلد النادي أو غيره من البلدان.
لا سيما أن المستثمر الخليجي يحضر في بيئة جديدة له، وربما تكون علاقاته فيها محصورة جداً، وهو ما قد يشكل عقبة كبيرة أمام طموحاته الاستثمارية التي يسعى إلى توسيعها بأكبر قدر ممكن.
ولما كان الاستثمار الرياضي يمنح الأطراف الخليجية (الرسمية والخاصة) فائدة الظهور والتعريف بها، فإنه بلا شك يشكل وسيلة للتشبيك في ذات مجال الاستثمار أو مجالات أخرى مرتبطة به، خاصة في بيئة الاستثمار الأوروبية المحمية بالقوانين والسياسات، وتوفر مناخ استثمار فعالاً من حيث البيئة القانونية والإدارية، ومستوى الفساد، والبنى التحتية الارتكازية، والعوامل الاجتماعية والثقافية، وعوامل المناخ من درجات حرارة ورطوبة[48]، وكلها بلا شك تجذب رؤوس الأموال الأجنبية الراغبة في استثمارات طويلة الأجل وإقامة مشاريع كبرى على الأراضي الأوروبية.
وعليه فإن خلق عدة استثمارات في بيئة مستقرة تجلب معدلات ربح وفائدة كبيرة، واستراتيجية المستثمر الخليجي في هذا الجانب تهدف إلى تدعيم مشاريعه الاستثمارية بشبكة علاقات واسعة تضمن له الاستمرار والحصول على مكاسب ربحية لأطول مدة ممكنة. ويساهم الاستثمار الرياضي في منحه ميزة تطوير شبكة العلاقات المالية والاستثمارية لأصحاب رؤوس الأعمال والمستثمرين الخليجيين.
المحور الثاني: المكاسب والخسائر من الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية
رعاية رياضة كرة القدم والاستثمار فيها تدر مكاسب عديدة لجميع أطراف المعادلة الرياضية، وهذا ما جعل الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، الذي يعد أكبر شركة استثمار رياضي، يتفاعل بشدة مع اقتصاد العالم، خاصة بعد أن أصبحت ميزانيته تفوق ميزانيات عشرات الدول، وإيراداته تنمو نمواً سريعاً عاماً بعد عام دون أن يتأثر كثيراً بالأزمات العالمية؛ من حروب وأوبئة ومشاكل اقتصادية.
فقد زاد حجم ميزانية (الفيفا) إلى أكثر من 10 أضعاف حجمها ما بين عامي 1995 و1999 بمبلغ قدره 257 مليون دولار، وسجّل (الفيفا) عائدات بلغت 5,718 مليارات دولار بين عامي 2011 و2014، وبلغ الاحتياطي النقدي الخاص به بنحو 1,523 مليار دولار.
والإيرادات لا تقف عند مستوى محدد، بل تزداد مع مرور الوقت، فبين 2015-2018 بلغت إيرادات الفيفا نحو 5 مليارات دولار، وحقق إيرادات بنحو 2,3 مليار دولار من التسويق وتذاكر المباريات، وإيرادات 2,7 مليار دولار من بيع حقوق البث التلفزيوني للبطولات التي ينظمها الاتحاد[49].
كما يشرف الفيفا على الأنشطة التي تقوم بها الدول المستثمرة، وتعد الدول الخليجية -كما سبق معنا- من أهم المستثمرين في مجال الرياضة حول العالم، وأصبحت مصدراً أساسياً لتمويل الفعاليات الرياضية، ودعم الملاعب والأندية الخاصة بالرياضات المختلفة من حول العالم، وإقامة المؤتمرات الرياضية والدولية، وغيرها من الأنشطة.
هذا التفاعل الرياضي الخليجي ربما عُد إنجازاً لاستثماراته الرياضية في الأندية الأوروبية، الذي ابتدأ بشراء الشيخ منصور بن زايد ملكية نادي مانشستر سيتي، وصولاً إلى مونديال قطر، وربما يتوسع مستقبلاً إلى آفاق أخرى.
يحاول هذا المحور التعرف على أهم المكاسب والخسائر التي لحقت الاستثمار الخليجي في الأندية الرياضية الأوروبية، من خلال النقاط التالية:
أولاً: مكاسب الاستثمارات الخليجية
تتميز حركة الاستثمار الخليجية في الأندية الأوروبية بتقارب وجهات نظر رأس المال العام والخاص في تحقيق أهداف مشتركة، مع اختلاف النطاق والفعالية. إذ إن الغالب في هذه الاستثمارات يبحث عن تثبيت الدول والمنشآت الخليجية كوجهات أعمال مهمة ومربحة في مجموعة متنوعة من القطاعات، فضلاً عن تقوية شبكات النفوذ الاقتصادية والسياسية والرياضية على مستوى العالم لا أوروبياً فقط[50].
نذكر هنا أهم المكاسب التي تحققت للدول الخليجية المستثمرة في المجال الرياضي الأوروبي الخاص بكرة القدم:
1- التغير الملموس في الصورة النمطية عن دول الخليج في أوروبا
ارتبط التعريف التقليدي لدول الخليج وشعوبها في الإعلام ووسائل التواصل الأوروبية بمفاهيم محددة؛ كتلك المتعلقة بالنفط أو الدين أو الصحراء وما إلى ذلك، ومع تطور الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية أخذ ذكر دول الخليج لدى وسائل الإعلام المرئي والمسموع يأخذ منحى آخر بعيداً عما كان سابقاً.
ويمكن إرجاع هذا التغير إلى الحضور الخليجي في التفاعلات العالمية المختلفة، وتوسيع أنشطتها الخارجية خارج الصندوق النفطي المحصور، وهو ما أسهم بصورة ما في تغير عدد من المفاهيم لدى الأطراف الأوروبية السياسية والشعبية.
إضافة إلى ذلك، فقد أسهمت الاستثمارات الخليجية الأخيرة في خلق فرص جديدة، نتيجة تعرف المشاهد الغربي على مناحٍ أخرى مرتبطة بالدور الخليجي وأنشطته العالمية. لذلك ظهرت دعوات أكاديمية وسياسية إلى خلق علاقة قوية واستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي.
هذه الدعوات لم تأت مدفوعة بالمصالح الأوروبية في الإمدادات النفطية الخليجية فقط، ولكنها جاءت بعد التغير الملموس في النظرة الأوروبية بشأن الخليج ودوره الدبلوماسي والاقتصادي في مستوياته الإقليمية والدولية. فقد أصبح من الواضح في تصريحات دول الاتحاد الأوروبي الرسمية مؤخراً أن دول الخليج قوة لا يستهان بها، ومن ثم فإن الشراكة الاستراتيجية معها أمر ملح ومهم للغاية[51].
هذه الشراكة، كما يفسرها بعض المحللين الغربيين، تعد مكسباً مهماً لا للاتحاد الأوروبي فقط ولكن للجهات الفاعلة الخارجية الأخرى، لما اكتسبته دول الخليج من “مكانة بارزة في جدول أعمال الأمن الدولي”، ودور دول الخليج “في حل التحديات العالمية”[52].
2- توسع النشاط السياحي في الخليج
في إطار تنمية الموارد الخليجية غير النفطية، حددت الرؤى الخليجية (2030 الخاصة بالسعودية والبحرين وقطر وإمارة أبو ظبي، و2035 الخاصة بالكويت، و2040 الخاصة بسلطنة عمان)[53] عدداً من القطاعات التي من المتوقع أن يتوسع الاستثمار الحكومي أو الخاص فيها. أحد هذه القطاعات كان قطاع السياحة، غير المعروف عالمياً، والمُتوقع رسمياً أن يكون مصدراً مهماً من مصادر الدخل القومي.
ولأجل جذب السياح من مختلف بقاع الأرض، كان لازماً على دول الخليج البحث عن قنوات الإعلان والدعاية العالمية. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت بدور كبير في هذا المجال، لكن التأثير سيكون أقوى عندما تُمارس الدعاية ضمن أُطر الإعلان الموجه.
هذا ما نراه فعلياً على شاشات التلفزة العالمية، فمحطات الإعلام العالمي تنقل الصورة، صورة قمصان الأندية الأوروبية وعليها شعارات شركات الطيران الخليجية، كذلك تتخلل ساحة المعلب الإعلانات حول الرعاة والممولين، وتشمل الفواصل الإعلانية بين شوطي المباراة الإعلانات التجارية حول ذات الداعمين والرعاة.
كل ذلك مثل بيئة خصبة لدول الخليج لأنشطة الدعاية والإعلان للسياحة في بلدانها، حيث تطمح كل دولة إلى أن تكون أهم وجهة سياحية في المنطقة العربية حسب رؤيتها.
في سياق ذلك فإن للاتفاقيات الرياضية دوراً كبيراً في تنشيط السياحة في دول مجلس التعاون الخليجي، إذ يجري التنسيق مع الدوائر السياحية من أجل أن تحضر الأندية الأوروبية- حين تكون على أراضي الإمارة- في الجولات الخارجية للتعريف بالإمارة، سواء رياضياً أو مجتمعياً، وذلك بهدف تحقيق المردود الترويجي والسياحي إلى جانب المردود الرياضي عند إجراء مثل هذه الاتفاقيات، كما يؤكد ذلك رئيس مجلس الشارقة الرياضي، عيسى الحزامي، عقب توقيعه اتفاقية تعاون مع نادي “مانشستر سيتي” الإنجليزي[54].
وهو ما يعني أن التوجهات الرسمية الخليجية تتطلع إلى دعم السياحة الرياضية، والتي تعني قطاع السياح الذين يسافرون لأجل المشاركة في الفعاليات الرياضية، سواء كانوا لاعبين أو مشاهدين، وسواء كانت من مكان لآخر داخل الدولة أو خارجها[55].
كما نجد أن هيئات السياحة لدى بعض الدول الخليجية استثمرت في مجال رعاية القمصان، مثل رعاية هيئة السياحة القطرية لقمصان نادي “برشلونة” الإسباني، بعقد دعائي لمدة أربع سنوات بين عامي 2012 و2016 بمبلغ وصل إلى 300 مليون يورو، وتوقيعها أيضاً عقداً دعائياً مع نادي “باريس سان جيرمان” الفرنسي لمدة أربع سنوات بين عامي 2012-2016 مقابل 200 مليون يورو سنوياً[56].
الاتجاه الحكومي لدعم السياحة الرياضية يزيد من أهمية هذا القطاع ودوره في زيادة القوة الشرائية للبلاد، والتعبئة العامة للفنادق والمطاعم والأسواق وغيرها من المرافق الخدمية الاستثمارية[57]. وكل هذا يصب في خطط التغيير التي تتبناها الحكومات الخليجية بالتحول الاقتصادي إلى مصادر دخل أكثر استدامة.
3- إقامة شراكات كبرى داخل العالم الرياضي وخارجه
تقوم منهجية الاستثمار على عدد من العناصر، ومنها أن الاستثمار الناجح يخلق فرصاً استثمارية أكثر نجاحاً، كما أن شبكة العلاقات تتطور لتنشئ شبكات أخرى متفرعة من ذلك الاستثمار، وهذا ما يحدث تماماً في عالم الاستثمار الرياضي.
ولعل المستثمرين الخليجيين في القطاع الخاص هم من يحاولون تحصيل هذه الفائدة للاستثمار الرياضي، خاصة مع الدعاية الإعلامية المضمونة للنشاط التجاري، وعندما سئل مالك نادي “تشيلسي” الإنجليزي، رجل الأعمال الروسي رومان أبراموفيتش، عن فحوى استثماراته الهائلة في النادي، ذكر أن جميع المستثمرين داخل أوروبا وخارجها يرغبون في التواصل معه والدخول في شراكات تجارية معه، وقريباً من ذلك يمكن وصف الاستثمارات الخليجية الخاصة المنتشرة في الأندية الأوروبية.
كذلك، هدفت الاستثمارات الخليجية في تحركها نحو الخارج للعودة مجدداً نحو الداخل ومعها استثمارات أجنبية خلال مدة قصيرة، وذلك قد يكون إحدى ثمار الاستثمار الرياضي الخليجي داخل القارة الأوروبية.
هذا ما يُلاحظ من خلال حضور عدد كبير من مكاتب الشركات الأوروبية العابرة للقارات في إمارة دبي أو أبو ظبي؛ بالإضافة إلى وجود شركات عالمية أخرى على أراضي المملكة السعودية، لا سيما بعد القرار السعودي برفض التعامل الرسمي مع الشركات العالمية التي ليس لها مقر إقليمي داخل الرياض؛ وبلوغ الاستثمارات الأوروبية مستويات عالية في مختلف القطاعات في دولة قطر، مثل “تربع الشركات الأوروبية على عرش الشركات العاملة تحت مظلة مركز قطر للمال، وبنسبة تناهز 31%، وهو تقريباً ثلث الشركات المرخص لها للعمل في المركز”[58].
ثانياً: خسائر الاستثمارات الخليجية
الأهداف الخليجية من الاستثمار في الأندية الأوروبية لا تقتصر على مجرد تحقيق الأرباح المادية، بل تتعداها إلى الأرباح المعنوية التي قد تكون هي الأهم أولاً، ومن ثم ينبغي التأكيد على أن المردود المالي لا يُنتظر من الاستثمارات الخليجية بقدر ما تنتظر تلك الأهداف المعنوية التي ستفتح مجالات أوسع وتحقق أرباحاً متعددة.
ولهذا، يبدو أن الهدف العام الذي يسعى إليه المستثمر الخليجي يكمن في كيفية الحفاظ على نسبة الخسائر أقل من نسبة الأرباح، خصوصاً أن الاستثمار الخليجي يواجه عدداً من العراقيل تتعلق بالتباين بين الثقافات الأوروبية والعربية، حيث ترى بعض الأندية أنه “غزو” أجنبي مخالف لثقافة وعادات أوروبا، في حين تراه أخرى أنه استثمار غير مدروس يهدف لتحقيق مصالح خاصة على حساب المصلحة العامة للنادي، وما إلى ذلك من اتهامات.
ومع ذلك، فإن زيادة الأعباء المالية على الجانب الخليجي قد تشكل جزءاً من الخسائر إذا ما قورنت بالمبالغ المالية التي ينفقها المستثمرون الأجانب في الأندية الأوروبية، وفي ما يأتي إجمال لأهم النقاط التي يمكن أن تعد خسارة على الجانب الخليجي:
1- حجم الإنفاق المكلف
الاحتكار الشديد لرياضة كرة القدم ودخولها عالم التجارة من أوسع أبوابه أدى إلى تحول الرياضة إلى سوق استثمارية واسعة النطاق، فلم تعد مشاهدة مباريات كرة القدم أمراً متاحاً بصورة مجانية لكل من يريد مشاهدتها كما كان في الماضي، بل أصبحت المشاهدة اليوم لمن يدفع فقط. وعلى الرغم من تحول مشاهدة كرة القدم إلى سلعة وجب الدفع لأجلها، لم تنخفض أعداد المشاهدين لهذه اللعبة، وتحول نطاق اهتمام عشاق اللعبة من المحلي إلى العالمي، وهو ما أدى إلى زيادة حدة المنافسة بين القنوات التجارية والرياضية، سواء من حيث جودة تقديم الخدمة أو تكلفة الاشتراك[59].
ومع ذلك نجد من خلال تتبع النتائج المالية للاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية الكبرى أن نسبة الأرباح الصافية ضئيلة جداً مقارنة بحجم الإنفاق. فعلى سبيل المثال: “تشير النتائج المالية لموسم 2017-2018 إلى أن نادي “مانشستر سيتي” حقق إيرادات بواقع 535.2 مليون إسترليني، وبلغت أرباحه 10.1 ملايين، أي بنسبة 1.8%، في حين بلغت إيرادات نادي “باريس سان جيرمان” حوالي 542 مليون يورو، مسجلاً أرباحاً بـ 31.5 مليون، بنسبة 5.8%”[60]، وذلك على الرغم من أن الناديين يتصدران قائمة الأندية الأوروبية الأكثر إنفاقاً، والأكثر حصولاً على الدعم المالي.
ولا تتوافر إحصائيات أخرى بشأن بقية الأندية المُستَثمر فيها، ولكن الصورة العامة هي ذاتها، فالإنفاق يفوق حجم الربح، وهو ما جعل الاستثمارات الخليجية في دائرة المراقبة الإعلامية الأوروبية والدولية، للبحث عن مصروفات الأندية وحجم المبالغ التي يضخها المستثمرون الخليجيون فيها.
2- المتابعات القانونية
يشكل قانون اللعب المالي النظيف (UEFA Financial Fair Play Regulations)، الذي بدأ الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا) بتطبيقه عام 2011، مسألة جوهرية أمام الاستثمارات الخليجية، وذلك لكونه “يضع العديد من الضوابط والعقوبات التي تضمن عدالة المنافسة بين الأموال السيادية والاستثمارات الخاصة”[61]، بمعنى أن الضوابط التي أقرها القانون تحد من ضخ الأموال المبالغ فيها، والتي ربما لا تنسجم مع إيرادات النادي ومن ثم تؤثر في نزاهة المنافسة الرياضية.
وبالفعل عوقب كل من فريقي “باريس سان جيرمان” الفرنسي و”مانشستر سيتي” الإنكليزي لخرقهما لوائح اللعب النظيف عام 2014، و”ذلك بفرض عقوبة مالية بلغت 60 مليون يورو لكل منهما، وهي أعلى عقوبة فرضت على نادي كرة قدم في تاريخ اللعبة، بالإضافة إلى حرمان الناديين من زيادة رواتب لاعبيهم، وهو ما أعاق عملية شراء لاعبين جدد”[62].
مجدداً عوقب نادي مانشستر سيتي، في فبراير/شباط 2020، من قبل اليويفا بحرمانه من المنافسات الأوروبية “لمدة عامين مع تغريمه 30 مليون يورو (32.60 مليون دولار) بسبب انتهاكات كبيرة لقواعد اللعب المالي النظيف”[63]، وهو ما دفع بالنادي إلى تقديم طعن إلى محكمة التحكيم الرياضية.
وبالطبع لم تسلم الأندية من الاتهامات غير المؤكدة بأدلة ثابتة، إذ نشرت مجلة “دير شبيغل” الألمانية عدداً من الوثائق المسربة حملت اسم “فوتبول ليكس”، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، التي أشارت إلى “أن جاني إنفانتينو، الرئيس الحالي للاتحاد الدولي لكرة القدم الذي كان وقتها أميناً عاماً للاتحاد الأوروبي للعبة، تفاوض بشكل مباشر على الاتفاق مع الناديين لتقليص الغرامة التي فرضت عليهما عام 2014”[64].
ورد نادي سيتي بأن الوثائق نشرت معلومات مضللة وانتزعت من سياقها، ونفى بدوره نادي جيرمان كلياً ما نشرته مجلة “دير شبيغل”، وقال إنه يمثل دوماً اللوائح والقواعد الخاصة بالمؤسسات الرياضية في القارة الأوروبية.
إجمالاً، يؤدي تكرار تعرض الأندية المُستثمر فيها خليجياً للملاحقات القانونية إلى عرقلة عملية الاستثمار الخليجي، ومن ثم فإن دوائر الاستثمار الخليجي أصبحت تراجع كل تحركاتها الاستثمارية قبل المضي قدماً في ضخها للأموال لاستمارتها المبرمة سلفاً، أو استحداث استثمارات تشمل نوادي جديدة أو التوجه إلى قطاعات استثمار أخرى في القارة الأوروبية.
3- الاتهامات المعادية للاستثمارات الخليجية
في كثير من الأحيان لا يُنظر إلى الاستثمارات الخليجية في الإعلام والمجتمع الأوروبي بكونها استثمارات أجنبية بحتة مكفولة بحكم القوانين الأوروبية، لكن يجري التعامل معها في كثير من الأحيان بكونها وسيلة للتأثير الاجتماعي والسياسي لدول الخليج عليهم؛ إذ يشار في العادة إلى الفروقات الدينية والثقافية عند عرض الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية.
فمثلاً عندما قرر نادي “ريال مدريد” إزالة رمز الصليب من شعار الفريق الخاص بمنطقة الشرق الأوسط رسمياً عام 2014، بعد الإعلان عن اتفاقية الشراكة التي أبرمها النادي مع بنك أبو ظبي الوطني لمدة ثلاث سنوات، ثار الغضب الشعبي والإعلامي لدى الأوساط الأوروبية، لا سيما من اليمين المتطرف المعادي للمسلمين، واتُّهم النادي بالتنازل عن ثقافته الأوروبية مقابل الحصول على الثروة الخليجية[65].
كذلك، عندما يقرر المستثمر الخليجي البدء بأنشطة الاستثمار في الأندية الأوروبية يظهر عدد من المصطلحات الصحفية المعادية لذلك الاستثمار، حيث تصفه الصحافة المعادية بأنه عبارة عن “غسل رياضي”؛ أي ممارسة استخدام الرياضة لتنظيف سمعة مشوهة أو صورة عامة، أو استخدام الرياضة لصناعة “الإمبراطوريات الخاصة على حساب مصالح النادي”، لإقناع العالم بأنهم “رجال طيبون”[66]، وغيرها من المفردات المعادية للاستثمارات العربية في عالم الكرة الأوروبية.
وعموماً، ربما يشكل الإعلام المضاد للاستثمار الخليجي تحدياً أمام طموحات التأثير الخليجي داخل القارة الأوروبية وحول العالم، وهو ما قد يفرض على الدول الخليجية تقوية الجانب الإعلامي لديها لتوسيع درجة التأثير، وحتى لا تترك فجوات يستغلها اليمين المتطرف وغيره في مهاجمة مشاريع الاستثمار الخليجية العربية عن غيرها من المشاريع الأجنبية.
المحور الثالث: آثار الاستثمار الخليجي في الأندية الأوروبية
حركة الاستثمار الخليجية التي شهدتها الأندية الأوروبية خلال العشرين عاماً الماضية كان لها أثرها في الأندية الأوروبية من جهة، وفي الجانب الخليجي من جهة أخرى. فقد استطاعت الأندية تحقيق أرباح هائلة، وساعدتها على النجاة من الأزمات المالية التي عصفت بها، وفي المقابل تمكن الجانب الخليجي من تحقيق رصيد لا بأس به من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، وكان لها انعكاسها المباشر وغير المباشر على الداخل الخليجي.
يحاول هذا المحور في أقسامه الثلاثة التعرف على آثار الاستثمار الرياضي في الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بالمستثمر الخليجي، وذلك بهدف قياس مستوى النجاح أو الفشل الذي حققه الاستثمار الخليجي خلال عملياته الاستثمارية، واكتشاف المواطن الفعلية التي تأثرت من ارتباط مشاريع الاستثمار الخليجية بملاعب الكرة الأوروبية.
أولاً: الآثار الاجتماعية للاستثمار الخليجي في الأندية الأوروبية
يتميز المجتمع الخليجي عن غيره من شعوب العالم بخصائص اجتماعية وثقافية جعلته يتمتع بهوية محافظة وثقافة متجانسة مع مكتسباته التاريخية بما يمكن وصفه بـ”الثقافة التراثية المفعمة بالمواطنة الأصيلة”[67]. وقد امتزجت عناصر هذه الثقافة في النظام السياسي والاقتصادي للدولة الخليجية قبل اكتشاف النفط وبعده.
فلم تؤد الثورة النفطية في بادئ الأمر إلى إحداث تغييرات جذرية في الهيكل العام للمجتمع والنظام الحاكم في المنطقة الخليجية، بل كانت أداة أساسية تدعم المزج بين العناصر الثقافية الخليجية ومحركات الحداثة العالمية. بمعنى آخر لم تتمكن الآثار الثقافية للعولمة من الاختراق الكلي للنسيج الخليجي، على الرغم من النشاط التجاري لنفط الخليج منذ سبعينيات القرن الماضي حتى وقت قريب.
وربما يعود ذلك إلى الخصائص الدينية والقبلية للعناصر الثقافية للمجتمعات الخليجية، التي أظهرت محافظة كبيرة لخصائصها المميزة، ومقاومة لا بأس بها في التمسك بالهوية التاريخية. إلا أن الأمر تغير شيئاً فشيئاً مع زيادة شروط الاقتصاد المفتوح والمنافسة التجارية الشديدة بين عناصر المجتمع الدولي.
حيث فرضت المسارات العالمية على دول الخليج ضرورة تجديد المنهجية الداخلية والخارجية الخاصة بها، بما يفضي إلى استدامة مصادر أمنها وطاقتها وحيويتها في النظام العالمي ودورها في الاستثمار الرياضي. لذلك تم تفعيل عناصر العولمة بجوانبها المختلفة، وتم الانتقال من مرحلة التمسك الراسخ بالأصالة التاريخية إلى التعاطي مع الأدوات العالمية.
من جانب آخر، يشارك جزء كبير من أفراد العائلة المالكة في الدول الخليجية الرقص الفلكلوري خلال المهرجانات الوطنية، ويظهرون شغفهم بالرياضات التقليدية مثل الصقور وسباق الهجن ورياضات الفروسية وغيرها، ويتفاعلون مع أنشطة الأعياد الوطنية الخاصة بالشباب والأسرة وبقية مكونات المجتمع، وكل هذا ينعكس في التفاعل الإيجابي لشرائح المجتمع الخليجي مع النشاط الثقافي الذي يمارسه أفراد الأسر المالكة، وإظهار ارتباطهم الوثيق بالعادات الأصيلة للمجتمع، وظهورهم كقادة وطنيين محافظين على سمات المجتمع الخليجي العريق.
وقد ساعد الاستثمار الرياضي في الأندية الأوروبية الهيئات الحاكمة على تذليل مهمة دخول مجتمعاتها إلى عصر العولمة، فالانفتاح الثقافي الذي صاحب الخطط الاستثمارية الرياضية تحت قواعد العولمة والقيم الإنسانية المشتركة جعل الشعوب الخليجية تكتسب سمات اجتماعية وثقافية جديدة على تلك التي عهدتها في السابق، وجعلها أكثر قابلية للتفاعل مع شعوب العالم الأخرى، مع الحرص المجتمعي على المحافظة على القيم الثقافية والاجتماعية الرئيسية للشعوب الخليجية.
ثانياً: الآثار السياسية للاستثمار الخليجي
مكنت الطفرة النفطية دول الخليج من اتباع عدة سياسات تنموية وإنجازات اقتصادية، ووفرت استقراراً داخلياً ورضى مجتمعياً بناء على خدمات دولة الرفاهية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية الشاملة، وهو ما منح الأنظمة الحاكمة مزيداً من الشرعية والقبول. إلا أن سياسة دولة الرفاهية بدأت بالتناقص شيئاً فشيئاً، لتتجه السياسة العامة في الخليج نحو الخصخصة وإشراك المواطن في تحمل الأعباء المالية إلى جانب الدولة.
كذلك، اتجهت الدبلوماسية الخليجية منذ مطلع القرن الحادي والعشرين إلى اعتماد قنوات نفوذ وتأثير إقليمية ودولية جديدة، فضلاً عن مركزية النفط والموقع الجغرافي، في علاقاتها الخارجية، وكان الاستثمار الرياضي أحد هذه القنوات المستخدمة حديثاً.
ونظراً لكون عالم السياسة والاقتصاد متداخلين إلى حد عدم الفصل بينهما، كان لتأثير إمبراطورية اتحاد “الفيفا” ما يفوق تأثير عشرات الدول المكونة للمجتمع الدولي، ولذلك كان لازماً على كل من يملك القدرة على النفوذ في عالم الرياضة أن يمارسها لتحقيق مصالحه السياسية الخاصة بالإضافة إلى المصالح الأخرى.
ولعل الهدف العام من هذا الاستثمار يعود إلى الحرص الخليجي على المصلحة السياسية بشكل أساسي، سواء على مستوى الأندية الأوروبية أو عالمياً، من خلال إظهار استجابة السلطات الحاكمة الخليجية لاتجاهات العولمة والقيم العالمية واحترام الثقافات المختلفة، بما يضمن أدواراً فعالة لهم داخل المجتمع الدولي، يمنحها تأمين مصالحها عبر توطيد شبكة علاقاتها الدولية.
وعند قراءة الاستثمارات الخليجية في ساحة المستديرة الأوروبية نجد أن أغلبها ركزت على الاستثمار لدى أندية الدول التي تملك تاريخاً طويلاً في دعم الدول الخليجية أمنياً وسياسياً ولوجستياً، وهو ما يوصلنا إلى فرضية أن اعتماد الصناديق السيادية الاستثمار الرياضي يهدف في جزء كبير منه إلى تحقيق أغراض سياسية.
فعلى سبيل المثال حينما قررت قطر استضافة دورة الألعاب الآسيوية في الدوحة عام 2006، كان ذلك بمنزلة بدء مرحلة جديدة من الحضور السياسي القطري في المجال العام للنظام الدولي. تبع تلك الاستضافة عدد لا بأس به من الفعاليات الرياضية العالمية مثل “بطولة العالم للسباحة القصيرة لعام 2014، وبطولة العالم لكرة اليد عام 2015، وكذلك بطولة العالم للدراجات على الطريق 2016، وبطولة 2018 الفنية للجمباز”[68].
الأساس المنطقي الذي يدفع حكومة قطر، وغيرها من الحكومات الخليجية، إلى تنظيم الأحداث الرياضية الدولية هو الاستفادة من اتجاهات العولمة الحديثة بما يعود بالنفع الداخلي سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
وكحلقة متداخلة تتسلل السياسة إلى الثقافة بشقها الرياضي، لتمنح الدول الداعمة ميزة تفضيلية عن غيرها من الدول؛ “متجاوزة بذلك قوانين الفيفا التي تمنع اللاعبين والمدربين من ارتداء أي دلالات سياسية، ويتم الاكتفاء بظهور شعارات الدولة ورموزها على قمصان اللاعبين وعلى شريط الإعلانات حول الملعب لتحقيق الهدف، أو أن يتم التداول بها في الصحف وعلى لسان الجماهير”[69]. وهو ما يمنح الدول الخليجية ميزة التأثير عن بعد في مختلف شعوب العالم، وصنع صورة إيجابية عنها ومنجزاتها المختلفة.
فضلاً عن ذلك، لا تمانع العائلات الحاكمة في الخليج من إظهار مشاركاتها في المحافل الرياضية الدولية، فعلى سبيل المثال تشارك العائلة الحاكمة في دبي بانتظام في بطولات سباق الخيل الدولية[70].
وربما يُراد من هذه الأنشطة إظهار الأسر الحاكمة قريبة من عامة الشعب، فضلاً عن رسم صورة إيجابية عن الشخصيات الحاكمة للبلدان الخليجية لدى مختلف الشعوب من حول العالم، وهو ما يمنح حكمهم وسلطتهم مزيداً من الشرعية والتأييد.
ومع ازياد شعبية كرة القدم الأوروبية في الأوساط الشعبية الخليجية، ظهر دور استثمارات الصندوق السيادي في مجال كرة القدم الأوروبية في تعزيز الدعم الشبابي المجتمعي لسياسات السلطات وأدوارها في الداخل والخارج، نظراً لدور المستديرة الترفيهي في أوقات فراغ المجتمع (لا سيما بين الشباب)، ومساهمة الجانب الرسمي في هذا الترفيه وتسهيله لهم من خلال عروض البث وميزات رياضية أخرى يمنح الجانب الرسمي رضى مجتمعياً واسع النطاق.
ثالثاً: الآثار الاقتصادية للاستثمار الخليجي
أطلقت الدول الخليجية رؤيتها الاقتصادية في فترات زمنية متقاربة، وجميعها هدفت بشكل عام، حسب التصريحات الرسمية، إلى تنويع الاقتصاد المحلي وتقليل الاعتماد على المشتقات النفطية في الناتج المحلي.
احتاج التحول الاقتصادي لدول الخليج إلى مقاربات عديدة داخلية وخارجية لتوطين هذا التحول، فمن جانب ظهرت الحاجة إلى تعويد المجتمع على تبعات تخفيف الاعتماد على النظام الريعي، وإدماجه ضمن خطط اقتصادية تجعله شريكاً مساهماً في الناتج المحلي. ومن جانب آخر، كان لا بد للدول الخليجية أن تعكس صورة إيجابية لدى الخارج عن قدرتها على الاندماج في الأسواق العالمية، والمحافظة على مكانتها الدولية من خلال امتلاكها جزءاً لا بأس به من ثروة العالم.
وعند مراجعة الاستثمارات الخليجية في الأندية الأوروبية نجد أنها صنعت “هالة” إعلامية قوية ساعدت الدول الخليجية على بناء العلامة التجارية العالمية، ومكنتها من تنمية قنوات اقتصادية أخرى.
ومن أبرز الأمثلة على تأثير رعاية الأندية في تنمية قطاعات أخرى ما نتج عن شراء رجل الأعمال القطري، الشيخ عبد الله بن ناصر، نادي “مالاجا” الإسباني عام 2010، إذ تمكن من الفوز بعقد هائل بقيمة 550 مليون دولار لتطوير مرسى يخوت “ماربيلا” الإسباني بعد عام واحد فقط من الشراء[71].
ومن ذلك أن الدعاية الإعلامية المرافقة للدوريات الأوروبية، وانجذاب الآلاف، وربما الملايين، لشعار الطيران على قمصان اللاعبين أثناء المباريات، يخلق فرصاً أوسع أمام الطيران الإماراتي، ومما يؤكد ذلك إعلان طيران الإمارات ارتفاع أرباحها للعام المالي 2013-2014 بنسبة 325% لتصل إلى حوالي 4,1 مليارات درهم، مقابل 3.1 مليارات درهم للعام المالي 2012-2013. وكذلك ذكرت دراسة استقصائية أعدتها شركة “Trip Adviser” عن تفضيل المسافرين البريطانيين لطيران الإمارات وحلوله في المرتبة الثالثة ضمن أفضل شركات النقل الجوي بالنسبة للبريطانيين[72]. وهذا الأمر يوحي بتأثير الدعاية الرياضية في قناعة الشعوب الأوروبية.
إضافة إلى ذلك، يستفيد المستثمر الخليجي بطريقة ما من عائدات حقوق البث التلفزيوني أو الدعاية والإعلان عند تملكه أو شرائه حصصاً معينة للنادي الأوروبي. فعائدات البث التلفزيوني للمباريات الأوروبية، التي تعد من أهم الموارد المالية لخزائن الأندية الأوروبية، في اتجاه تصاعدي مستمر؛ إذ تخطت عائدات الدوريات الأوروبية الخمسة الكبرى حاجز الستة مليارات يورو خلال منافسات موسم (2016-2017)[73].
ويعد الدوري الإنجليزي صاحب المركز الأول في نسبة عائدات البث التلفزيوني، وتستمر عائداته من البث التلفزيوني في الارتفاع لتصل إلى أرقام قياسية. فقد وقع الدوري الانجليزي عدداً من العقود لبث مبارياته خارج إنجلترا مقابل 10.4 مليارات جنيه إسترليني ما بين 2022 و2025[74].
قد لا تنعكس هذه الأرقام على تنمية الإيرادات عند المستثمر الخليجي بالنسبة المتوقعة أو المرجوة في حسابات البورصة والأرباح، ولكنها بلا شك تفتح آفاقاً أخرى للاستثمار؛ فكلما تمكنت الأندية الأوروبية من تحقيق مزيد من الإيرادات والفوز بالبطولات وزيادة شعبيتها عالمياً بفضل الاستثمار الخليجي الرسمي والشعبي، فتحت قنوات جديدة للاستثمار والاستفادة الاقتصادية أكثر.
من جانب آخر، برزت فكرة الاستثمار الرياضي على الأراضي الخليجية خلال الفترة الأخيرة، فكل دولة خليجية تسعى إلى استغلال ما حصدته خلال أنشطتها الاستثمارية لبناء إمبراطوريتها الرياضية الجاذبة للاستثمار، وبما ينعكس على القطاعات الاقتصادية الأخرى.
في هذا السياق، تشير استضافة مونديال 2022 إلى حرص قطر على أن تكون المركز الرياضي والسياحي والأكاديمي الأول في المنطقة العربية، ومن ثم عمدت إلى زيادة المرافق السكنية والخدماتية لتحقيق هذه الغاية[75]، وهذا كله جزء من خطة وطنية شاملة طويلة الأمد (نوعاً ما) للريادة الإقليمية في الاستثمار الرياضي بجوانبه المختلفة.
هذا العامل من المتوقع أن يكون له أثره الاقتصادي لا على قطر وحدها، بل يتعداها إلى الدول الخليجية والعربية المجاورة، التي ستستفيد إلى حد ما من الاستضافة القطرية للمونديال. فشركات الاستثمار المنفذة لخطط المونديال وفرت آلاف فرص العمل للعمالة العربية وغيرها خلال السنوات الماضية، فضلاً عن المكتسبات المستقبلية للمونديال المتمثلة في ترسيخ الخبرة والتجربة العالمية لدى شعب وحكومة قطر، التي ربما تنتقل إلى الدول المجاورة المترابطة ثقافياً واجتماعياً معها.
كذلك فإن الاستثمارات الخارجية تنعكس أحياناً على الاستثمار الأوروبي في دول الخليج، فعلى سبيل المثال جاء استثمار نادي ريال مدريد الإسباني في إمارة رأس الخيمة الإماراتية بتنفيذ مشروع سياحي ورياضي تحت اسم “جزيرة منتجع ريال مدريد” بتكلفة تقديرية تصل إلى مليار دولار، يشمل شققاً سكنية، وغرفاً فندقية، ومعلب كرة قدم لعشرة آلاف متفرج، وحديقة مائية، ومرسى لليخوت، ومتحفاً خاصاً بنادي ريال مدريد[76].
انتقل تنفيذ المشروع من رأس الخيمة إلى أبو ظبي عام 2013، ثم أُعلن توقف تنفيذ المشروع حتى إشعار آخر. وفي حال الانتهاء منه أو إنشاء مشاريع مشابهة له فإنه بلا شك سيمثل وجهه سياحية فريدة للأفراد من حول العالم، فضلاً عن توفيره لمئات فرص العمل، ويدعم الخطط الاستثمارية، بما يمنحها مزيداً من الفرص التطويرية في مجال السياحة والنقل وغيره، وهو أمر يُدرج في خطط دولة الإمارات الاقتصادية المستقبلية، فمشاريع الاستثمار الرياضي المحلي آخذة في الزيادة والتطور.
المحور الرابع: استشراف مستقبل الاستثمار الخليجي
لم تتوقف حركة الاستثمار في الأندية الأوروبية، بل لا تزال مستمرة وفي استقرار نسبي على الرغم من الأزمات الاقتصادية العالمية التي عصفت على نحو متعاقب بدول العالم، كالمشاكل الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا، واضطرابات السوق المالية المتأثرة بعدم استقرار أسواق النفط العالمية، وغيرها من المشاكل المالية العالمية.
في هذا المحور نحاول استشراف مستقبل الاستثمار الخليجي، وعوامل استمراره من عدمه في الأندية الرياضية الأوروبية، وذلك من خلال المحددات التالية:
أولاً: محددات تنامي الاستثمار
كان للاستثمار الخليجي في الأندية الأوروبية دور لا بأس به في تطوير تلك الأندية التي تم الاستثمار فيها وزيادة شعبيتها وارتفاع قيمتها المالية، فضلاً عن وصول بعض منها إلى الدوريات النهائية، وهو ما يمكن أن يعد إنجازاً لمصلحة المستثمر الخليجي، نظراً لاستقطاب الأندية المُستثمَر فيها المزيد من العوائد وعقود الرعاية وعروض التسويق وغيرها.
أسهم الاستثمار الخليجي في التأثير في اقتصاديات الدولة المضيفة، وتوسع تأثيره إلى أن وصل إلى العالمية، وانعكست آثاره على الدول الخليجية نفسها، التي تسعى في الفترة الحالية إلى جعل النشاط الرياضي جزءاً لا يتجزأ من مصادر الدخل القومي.
ويرتكز استمرار الاستثمار الخليجي في الأندية الأوروبية على عدد من المحددات المحلية والخارجية، ولعل أهمها:
1- الحاجة إلى مزيد من الاستقرار للقوة الناعمة لدول الخليج في النظام الدولي
حققت الدول الخليجية نفوذاً عالمياً لا بأس به من خلال وسائل التأثير الرياضية والفنية والأدبية وما إلى ذلك، وتتفاخر الدول الخليجية بمستويات التأثير التي حققتها من جراء استخدامها الاستراتيجيات المختلفة لخلق القوة الناعمة.
هذا الإنجاز الخليجي بحاجة إلى امتلاك الوسائل اللازمة لديمومته، إحدى هذه الوسائل هي ممارسة الأنشطة المؤسسة للقوة الناعمة، وفي حالة الأندية الرياضية يعني تنامي رعاية وامتلاك وشراء أسهم الأندية الأوروبية.
2- زيادة مجالات التبادل والتعاون الخليجي الأوروبي
الحاجة إلى زيادة التبادل والتعاون الخليجي الأوروبي في مختلف المجالات الحيوية والتنموية ربما تفرض على الجانب الخليجي الانطلاق من الأساس المتين الذي أسسه من خلال استثماراته في الأندية الأوروبية، والاستمرار في تمويلها ودعمها بهدف زيادة التعاون الاستراتيجي مع الغرب، وزيادة الغرب لأنشطته الاستثمارية مع الخليج خارج إطار معادلة (النفط والأمن) التقليدية.
3- المحافظة على المكتسبات التي حققها المستثمر الخليجي
لا تزال الأندية الأوروبية تتربع على عرش الاستثمار الرياضي الخليجي، على الرغم من العراقيل التي واجهتها تلك الاستثمارات. ولهذا يتوقع أن تتنامى جهود المستثمر الخليجي لدى الأندية الأوروبية، خاصة إذا استمرت تلك الاستثمارات في تحقيق أغراضها، ومن ثم استمرارها أداةً خليجية لتلبية الأغراض المطلوبة منها أوروبياً وعالمياً.
4- تمكن عناصر العولمة في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية الخليجية
التحول الاجتماعي والاقتصادي لدول الخليج في الوقت الحاضر ينطلق جوهرياً من الحاجة الخليجية إلى الاندماج في عناصر العولمة، خصوصاً بعد انضمام دول الخليج إلى منظمة التجارة العالمية في تسعينيات القرن الماضي، وتخليها شيئاً فشيئاً عن نظام دول الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية، وسعيها إلى توفير بيئة العمل الاقتصادي الحر وتشجيع الشركات العابرة للقارات على الاستثمار على أراضيها[77].
هذا التحول الهيكلي والتكيف المؤسسي مع متطلبات السوق العالمية ربما يدفع الدول الخليجية إلى زيادة استثماراتها الرياضية لدى الأندية الأوروبية كشرط مهم في استجابتها الإيجابية للعولمة والسوق المفتوحة غير المقيدة، خاصة أن التركيبة السكانية لدول الخليج في ازدياد طردي، وموارد دولة الرفاهية الرئيسة في نضوب طردي أيضاً.
ثانياً: محددات تراجع الاستثمار
في المقابل، ثمة عدد من المحددات في حال لم تتحقق على النحو المرجو أو لم تتفاعل فيما بينها، بالإضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية الأخرى، فقد يخلق ذلك توجهاً خليجياً إلى التوقف عن الاستثمار في الأندية الأوروبية أو تخفيفه، ومما قد يدفع إلى تراجع الاستثمار الخليجي ما يأتي:
1- عدم تمكن الجانب الخليجي من تحقيق هدفه المرجو من الاستثمار الرياضي
عندما يدخل المستثمر في أي نشاط استثماري بأهداف محددة المعالم، ولا يتمكن من تحقيق مبتغاه، خاصة الأهداف غير المادية، فإنه قد تتراجع نسبة تحمسه مع المشاريع الأخرى، وهذا أمر ممكن في الاستثمار الرياضي الخليجي.
2- زيادة أعباء الاستثمار دون تحقيق أهداف ملموسة
زيادة أعباء الاستثمار الرياضي مستقبلاً مع توقف الفوائد المرجوة خليجياً أو عدم تطورها، قد يخلق شعوراً خليجياً بضرورة التراجع عن الأنشطة الاستثمارية في الأندية الأوروبية، والتوجه ربما إلى مجال آخر للاعتماد عليه في تحقيق أهداف الصناديق السيادية الخليجية ورجال الأعمال الخليجيين.
3- التغيرات العالمية المرتبطة بالاختراقات الإلكترونية وسرقة حقوق البث
تعد الحروب السيبرانية هي حروب القرن الحادي والعشرين. وقد تصاعد في الآونة الأخيرة تصاعداً كبيراً جداً مهاجمة أنظمة دفاع متطورة لدول كبرى كالولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها. يقابل هذه الحروب السيبرانية في عالم الرياضة سرقة حقوق البث، التي تكبد الأندية والقنوات الراعية خسائر عديدة، وتدخلهم في معارك قضائية عديدة.
وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي يتخذها اتحاد الفيفا وهيئاته المتعددة، فإن مسألة سرقة حقوق البث والاختراقات الإلكترونية لا تزال متصاعدة، وهو ما يجعلها بيئة غير آمنة للاستثمار فيها في المستقبل. ولا يشكل هذا العامل عنصراً رئيساً للتوقف عن الاستثمار، ولكن اتحاده مع عوامل أخرى قد يدفع المستثمر الخليجي لتغيير مساره عن الاستثمار الرياضي في الأندية الأوروبية.
الخاتمة
في قرار التوجه نحو الأندية الأوروبية استغل المستثمر الخليجي حالة الركود الاقتصادي في القارة الأوروبية نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية لتحقيق مآرب خاصة به، وهو أمر يحسب إيجاباً للدول الخليجية من منظور استثمار الفرص. وقد كانت هناك رغبة خليجية من تلك الاستثمارات في اختراق مجال التأثير الأوروبي إلى العالم، وإيجاد قنوات سهلة الوصول إلى المشاهد العام في أي مكان حول العالم؛ وذلك نظراً لما منحته العولمة من مميزات لمن يستثمر أكثر في العناصر المؤثرة في العالم المعولم.
إلا أنه لم تتدارس الدول الخليجية فيما بينها مجال التأثير بهدف توحيد الجهود، فضلاً عن ضعف التنسيق بين المجال الرسمي والخاص في مجال الاستثمار الرياضي في الأندية الأوروبية، ومن المتوقع أن يكون الحال مغايراً لو تبنت الدول الخليجية منهجية الاستثمار المنسق والمنتظم فيما بينها، وربما كانت الجدوى الاستثمارية أعلى شأناً مما هي عليه الآن.
كذلك، في بعض الاستثمارات لم يتوسط الخليجيون في تعاملهم المالي مع الأنشطة الاستثمارية في الأندية التي لم تحقق النتائج المرجوة، فهم يختلفون عن نظرائهم من المستثمرين الأجانب في إغداق الأموال دون حدود على الأندية، وهو ما قد يجبرهم في وقت ما على الخروج من تملك تلك الأندية من دون تحقيق العوائد المرجوة.
ويُنظر إلى أن المستثمر الخليجي ربما يستمر مستقبلاً في الاستثمار في الأندية الأوروبية، نظراً لتنوع المجالات التي اكتسبها مؤخراً في صنع الآلة الترويجية الخاصة به، وهو ما سهل له الطريق للتأثير العالمي، ومنح إدارات الدول الخليجية المعرفة الجيدة بشروط وعناصر السوق العالمية واقتصادات دول الدخل القومي المرتفع.
فالسعودية على سبيل المثال دخلت مؤخراً مجال الاستثمار، وارتبط هذا الإجراء برؤية 2030، ويُتوقع أن تستمر عدة سنوات حتى تحقق رصيداً معتبراً من الإنجاز في هذا المجال، فضلاً عن العقود التي أبرمتها كل من الإمارات وقطر مع الأندية الأوروبية والممتدة لسنوات طويلة قادمة.
أما بالنسبة للدول الخليجية التي لم تدخل مضمار الاستثمار الرياضي في الأندية الأوروبية، فربما يُتوقع أن تستفيد من التجارب الخليجية السابقة، وتستثمر معها في ما تم إنجازه، بمعنى أن ينصب مجال اهتمام الدول الخليجية المتبقية على أنشطة الاستثمار الرياضي العالمي الموجود على الأراضي الخليجية للدول السابقة في الاستثمار كالإمارات وقطر والسعودية.
اضف تعليق