إذا أذعنّا بأن اللين والرحمة والتسهيل هي من مقاصد الشريعة فإن ذلك قد يوجب عدم الاندفاع لتأسيس أصالة الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية والوجوبية، والموضوعية، بل يكون الأصل حينئذٍ هو البراءة والحِلّية، عدم التسرع في الاحتياط في الفتوى (وهو غير الفتوى بالاحتياط)، بل تكون النتيجة التخيير بينهما إن تساوت المصلحتان...
أولاً: اللين والرفق الموازن الاستراتيجي للاحتياط
إن بعض مقاصد الشريعة ـ ولنقتصر الآن على الرحمة واللين واليسر المصرّح بها في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (94)، و: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) (95)، قد تعدّ الموازن الاستراتيجي أصولياً وفقهياً للاحتياط؛ ذلك أن سيرة كثير من العلماء جرت على تحبيذ الاحتياط والسَوْق إليه؛ حسب القاعدة التي تقول (إن الاحتياط حسنٌ على كل حال) (96)، لأنه موجب للتحفظ على مصلحة الواقع حتماً، ولكن إذا أذعنّا بأن اللين والرحمة والتسهيل هي من مقاصد الشريعة حسبما يستفاد من قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (97)، فإن ذلك قد يوجب:
أولاً، أصولياً: عدم الاندفاع لتأسيس أصالة الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية والوجوبية، والموضوعية، بل يكون الأصل حينئذٍ هو البراءة والحِلّية، وغاية الأمر لزوم الفحص في الشبهات الحكمية، وقد ذهب مشهور الأصوليين إلى أصالة البراءة بعد الفحص في الشبهات الحكمية، وإلى أصالة الحل في الشبهات الموضوعية حتى قبل الفحص، بينما ذهب بعض الأخباريين إلى أصالة الاحتياط في الشبهات التحريمية.
كما قد يوجب ثانياً، فقهياً: عدم التسرع في الاحتياط في الفتوى (وهو غير الفتوى بالاحتياط)، بل تكون النتيجة التخيير بينهما إن تساوت المصلحتان (98)، أو ترجيح جانب مصلحة التسهيل واللين والرفق على جانب الإحراز القطعي لمصلحة الواقع.
وذلك هو ما قد تشهد به، في عالم الجعل، العديد من الروايات الآتية الدالة على مجموعة من القواعد الفقهية المجعولة شرعاً من منطلق الرحمة والتيسير واللطف الإلهي بالعباد.
1: (سوق المسلمين) أمارة تسهيلية من منطلق الرحمة والتيسير
فقد روى مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، قَالَ: (سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ الْجُبُن؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ. فَقَالَ (عليه السلام): أَمِنْ أَجْلِ مَكَانٍ وَاحِدٍ يُجْعَلُ فِيهِ الْمَيْتَةُ حُرِّمَ (99) فِي جَمِيعِ الْأَرَضِينَ؟! إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ فَلَا تَأْكُلْهُ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وَبِعْ وَكُلْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ، هَذِهِ الْبَرْبَرَ وَهَذِهِ السُّودَانَ) (100).
ومن الواضح أن الكلام في الشبهة غير المحصورة، وأن (وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ) ليس من دائرة شبهة الكثير في الكثير الموجب لتنجز العلم الإجمالي.
وذلك كله مع أن إحراز مصلحة الواقع بالاحتياط هي أمر ممكن، بل كان من الممكن أن يقيد الإمام (عليه السلام) الاقتحام في أكلها بصورة عدم العسر والحرج، فإطلاق القول بـ: (وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَاشْتَرِ وَبِعْ وَكُلْ)، و: (وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْتَرِضُ السُّوقَ فَأَشْتَرِي بِهَا اللَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالْجُبُنَّ، وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ كُلَّهُمْ يُسَمُّونَ هَذِهِ الْبَرْبَرَ وَهَذِهِ السُّودَانَ) دليل على أرجحية مصلحة التسهيل والرفق على مصلحة الاحتياط. ولتحقيق ذلك والأخذ والرد فيه مجال آخر، إذ الكلام كما سبق إنما هو بنحو الإشارة.
2: (اليد) أمارة تسهيلية من منطلق اللطف والرحمة
كما روى عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: (قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِذَا رَأَيْتُ شَيْئاً فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ؟ قَالَ (عليه السلام): نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَلَا أَشْهَدُ أَنَّهُ لَهُ، فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ! فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَفَيَحِلُّ الشِّرَاءُ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): فَلَعَلَّهُ لِغَيْرِهِ، فَمِنْ أَيْنَ جَازَ لَكَ أَنْ تَشْتَرِيَهُ وَيَصِيرَ مِلْكاً لَكَ ثُمَّ تَقُولَ بَعْدَ الْمِلْكِ هُوَ لِي وَتَحْلِفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَنْسِبَهُ إِلَى مَنْ صَارَ مِلْكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إِلَيْكَ (101)؟ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ) (102).
ومن الواضح أن اعتبار قاعدة اليد أمارة، وبحسب الحدود الواسعة التي جعلها الشارع كذلك والتي بلغت درجة صحة الشهادة أنها له مع أنها في يده فقط، والتي أثارت استغراب السائل، دليل على أن هنالك مصلحةً مزاحمة أخرى إلى جوار مصلحة إدراك الواقع غالباً أو في الجملة، اقتضت هذا التشريع، والمستظهر أنها مصلحة التسهيل والرفق بالمسلمين ولعل لسان (لَوْ لَمْ يَجُزْ هَذَا لَمْ يَقُمْ لِلْمُسْلِمِينَ سُوقٌ) ناطق بذلك.
ثانياً: مقاصد الشريعة تصلح دليلاً على الانصراف أو العكس
إن مقاصد الشريعة قد (103) تصلح مساعدةً على دعوى الانصراف، أو تأكد دعوى العدم، فإن الفقهاء كثيراً ما يستندون في عدم شمول عامٍ لحصةٍ من الحصص، إلى دعوى الانصراف عنها رغم الشمول لفظاً، والمقاصد لو أذعن بها الفقيه قد تكون إحدى الأدلة أو على الأقل المؤيدات على الانصراف.
أمثلة تطبيقية:
ومن الأمثلة على ذلك: أن العديد من الفقهاء ارتأى أن المتنجس الأول منجسّ، أما المتنجس الثاني فليس بمنجس إذا لاقى غير المائع، بينما الرأي الآخر: هو أن المتنجس الثاني منجس دون الثالث، والرأي الآخر: أن المتنجس الثالث منجس دون الرابع فصاعداً، وقيل: المتنجس منجس مطلقاً، فلو لاقت: أ) اليد اليسرى مثلاً نجاسةً كالبول فجفّت، ب) ثم لاقت اليد اليمنى الرطبة اليد الأولى تنجست، ج) فلو لاقت اليد اليمنى الثوبَ المرطوب تنجس على رأي ولم يتنجس على رأي آخر، د) فلو لاقى الثوبُ شيئاً آخر كالجدار لم يتنجس، وإن قيل إنه يتنجس مطلقاً فتوىً أو احتياطاً.
والشاهد: أنه قد يكون الانصراف هو الوجه في دعوى عدم منجسية غير المتنجس الأول أو الثاني، أو عدم سراية النجاسة إلى سلسلة لا متناهية، وقد يكون من مؤيدات الانصراف وبواعثه بحسب المرتكز في أذهان المتشرعة، أن تسلسلها إلى ما لا نهاية خلاف الرفق بالخلق والرحمة بهم.
وكذلك لو قيل: بانصراف نجاسة الدم عن الذرات غير المرئية بالعين المجردة، فإن قاعدة الرحمة واللطف مُعينة ومساعدة، بل لو قيل بأن الوجه هو عدم صدق الدم عرفاً عليها فنقول: إن اعتبار الشارع الموضوع هو خصوص العرفي منه لا الدقي أيضاً يتجانس إن لم ينبعث عن الرحمة الإلهية ومصلحة التسهيل، فتأمل.
ثالثاً: مقاصد الشريعة، مرجحات في باب التعارض
إن مقاصد الشريعة تصلح مرجحات في باب التعارض (104)، بناءً على التعدي عن المرجحات المنصوصة، كالشهرة وموافقة الكتاب، بل ومثل (الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا) (105)، إن قيل بأنها من مرجحات الرواية لا الحاكم، (والظاهر خلافه)، إلى غير المنصوصة، كما هو مسلك الشيخ الأنصاري (قدس سره)، وحينئذٍ فإن مقاصد الشريعة تصلح كمرجّح غير منصوص لدى تعارض الروايتين.
فلو ورد حديث بالحرمة، وآخر بالكراهة أو الجواز، وتكافئا في الجهات السندية والدلالية والجهوية، كان مقتضى الرحمة واللين والرفق واليسر بالعباد المصرح بها في قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، و: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) (106)، ترجيح الكراهة أو الجواز على الحرمة، وكذا لو تباين خبر دال على الوجوب مع آخر دال على الجواز، ولا يخفى أنه يكون مرجحاً مضمونياً.
أمثلة تطبيقية:
أ: تقديم الطوافين على الوقوفين اختياراً
من المعروف أن أعمال الحج متسلسلة متعاقبة حسب جدول زمني وترتيب خاص بينها (107): فيجب مثلاً الإحرام، ثم الوقوف بعرفات، ثم بالمشعر، ثم أداء مناسك منى الثلاث، ثم طواف الزيارة وركعتاه والسعي وطواف النساء وركعتاه، ولا يجوز ولا يصح تقديم الطوافين والسعي على الوقوفين من غير عذر حسب المشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً.
ولكن ذهب إلى خلاف ذلك جمع قليل جداً، فقالوا: بأنه يجوز حتى اختياراً ومن غير عذر، تقديم الطوافين على الوقوفين وأعمال منى. والسبب في الاختلاف وجود طائفتين من الروايات تبدوان متعارضتين:
الجمع الدلالي بين الطائفتين من الروايات
قال السيد الوالد (قدس سره): (والجمع الدلالي بين الطائفتين بعد إسقاط ضعيف الدلالة منهما، يقتضي جواز التقديم. وهذا هو الذي يقتضيه الاعتبار، فإن كثرة الحجاج يقتضي أن يجوز ذلك، لئلا يقعوا في العسر بلزوم طوافهم وسعيهم كلهم مرة واحدة بعد الحج، خصوصاً عند من يرى أن وقتهما إلى ثلاثة أيام بعد العيد) (108).
وذلك يعني، بعبارة أخرى: أن قاعدة اليسر من المرجِّحات غير المنصوصة لدى التعارض.
وتوضيحه: أن قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)، يكشف عن واحد من (أهم) مقاصد الشريعة، ولكن حيث إن من الواضح أنها (109) تشكل إحدى الملاكات، لذا لا يمكن استنباط الحكم منها مباشرة، إذ لا يعلم لعل هناك ملاكاً آخر أقوى مزاحِماً لملاك التيسير، كما في الجهاد والخمس والزكاة والحج وغيرها.
ولكن ومع ذلك، وفي الاتجاه المقابل، فإن مقاصد الشريعة، كدليل اليسر، يمكن أن تعتبر مرجحاً في باب تعارض الأخبار، بناءً على التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها حسب ما ذهب إليه الشيخ الانصاري (قدس سره) (110).
ب: حرمة الغدر مطلقاً حتى مع الكفار
كما يمكن الاستناد إلى مقاصد الشريعة كمؤيد أو كدليل، وبمعونة الارتكاز المتشرعي ومناسبات الحكم والموضوع، في رفض مجموعة من القواعد غير الأخلاقية، ومنها قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة)، ولعل المثال الفقهي التالي يعدّ من مصاديق ذلك:
فقد طرح الفقهاء مسألة الغدر مع الكفار، وذهب جمع منهم إلى جوازه في الجملة.
وفي المسألة قولان:
القول الأول: جوار الغدر معهم.
القول الثاني: حرمته (وهذا هو الذي اختاره المشهور، مستندين إلى جملة من النصوص، بل ادعى بعضهم عدم الخلاف فيه، حاملين للروايات (111) على الوجوب، بالإضافة إلى قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقيمُوا لَهُمْ)( (112، خلافاً للقول الأول الذي حملها (113) على ضرب من الاستحباب.
والقول بالحرمة هو الأقرب؛ لما تقدم من جملة من الروايات الناهية عن الغدر الذي هو نقض العهد، بخلاف الخدعة التي هي الالتواء في القول والفعل في حالة الحرب، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر لأصبغ بن نباتة في أثناء خطبة له: (لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ كُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، أَلَا إِنَّ لِكُلِّ غُدَرَةٍ فُجَرَةً، وَلِكُلِّ فُجَرَةٍ كُفَرَةً، أَلَا وَإِنَّ الْغَدْرَ وَالْفُجُورَ وَالْخِيَانَةَ فِي النَّارِ) (114).
وفي خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سَأَلْتُهُ عَنْ قَرْيَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَلِكٌ عَلَى حِدَةٍ، اقْتَتَلُوا ثُمَّ اصْطَلَحُوا ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الْمَلِكَيْنِ غَدَرَ بِصَاحِبِهِ فَجَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَغْزُوَ مَعَهُمْ تِلْكَ الْمَدِينَةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْدِرُوا، وَلَا يَأْمُرُوا بِالْغَدْرِ، وَلَا يُقَاتِلُوا مَعَ الَّذِينَ غَدَرُوا، وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ) (115).
إلى غيرها من الروايات المذكورة في مستدرك الوسائل في باب تحريم الغدر من كتاب الجهاد) (116).
أقول: واللافت هو التعميم الواسع في الرواية الشريفة حيث:
1: لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا.
2: ولا أن يأمروا بالغدر.
3: ولا أن يقاتلوا مع الذين غدروا.
وهذه الأحكام خاصة الثالث منها، تمنحنا رؤية واضحة عن مدى الإنسانية في الدين الإسلامي، إذ يحرّم القتال إلى صفّ الكفار الذين غدروا بدولة أخرى حتى وإن لم يكن بيننا وبينها عهد.
(وتتمة المروي عن علي (عليه السلام) دليل على الحرمة، و(لا ينبغي) يحمل على الحرمة بالقرينة الموجودة في الرواية، فإنه يستعمل في الحرام والمكروه والمستحيل، مثل: (وَما يَنْبَغي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (117)، ومن المعلوم أن السرايا كانت تمر ببعض من عاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى أن معناه: إن أعطيتم الأمان لأحد فلا تنقضوه، فالقول بالحرمة هو المتعين) (118).
ونضيف: أن تحريم نقض العهد يمكن تعميمه ـ بإطلاق بعض أدلته السابقة وغيرها المؤكد (119) بالاستناد إلى فقه المقاصد ـ لغير الجانب العسكري أيضاً، فنلتزم بحرمة نقض العهود الاقتصادية والحقوقية والثقافية ونظائرها، مع الدول الأخرى حتى إذا استكشفنا فوائد كثيرة تعود لنا من نقض العهد.
وذلك كله يكشف عن مديات إنسانية الشريعة الإسلامية، وابتنائها على المقاصد الأخلاقية السامية والمثل العليا، وعلى الرحمة حتى بالعدو مهما كان، وترجيح الالتزام بالكلمة والعهد على كافة المصالح الأخرى، كما نكتشف منها أيضاً أن (الغاية لا تبرر الوسيلة) في منظار مقاصد الشريعة أبداً.
ويكفينا دليلاً، قول الإمام علي (عليه السلام) في عهده لواليه على مصر مالك الأشتر: (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً؛ فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ "والصِّدْقِ (120).
وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ "مِنْ عَهْدِكَ (121)؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً، مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ، مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ. وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ.
فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ. فَلَا إِدْغَالَ وَلَا مُدَالَسَةَ وَلَا خِدَاعَ فِيهِ) (122) (123).
اضف تعليق