(فَبِمَا رَحْمَةٍ) هو نفسه الهدف والغرض والغاية من الخلقة المصرح به في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) إذ الظاهر أن المراد (وللرحمة خلقهم)، أي أن الغاية من الخلقة هي الرحمة، بل إن الغاية (لِيَعْبُدُونِ) تُعلل بالرحمة أيضاً، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)...
المستظهر هو أن (الرحمة) هي المنشأ الأساس لعالم التشريع، كما أنها السبب الكامن وراء عالم التكوين أيضاً، فقد قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (73)، وقال جل اسمه: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ) (74)، وقال سبحانه: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (75)، وقال عز من قائل: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (76).
والرحمة بإطلاقها، شاملة لكلا عالمي التكوين والتدوين، خاصة مع كونها عامة شاملة، إذ (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (77)، بل لقد افتتح الله تعالى كتابه بقوله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيم)، حيث خص مفتتح كتاب التدوين الخالد بصفتين من أعظم صفاته دون غيرهما، وهما صفتا (الرَّحْمنِ الرَّحيم)، ثم لم يكتفِ بذلك حتى كررهما جل اسمه بفاصل آية تقررّ أنّ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ)، مشعرةً بأن (الرَّحْمنِ الرَّحيم) هما التجلي الأعظم للرب العظيم، والحبل الممدود بينه وبين العالمين.
وعندما قيل للإمام السجاد (عليه السلام): (إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ وَ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا، فَقَالَ (عليه السلام): أَنَا أَقُولُ لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا وَإنمَّا الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ مَعَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّه) (78).
وعلى ما رواه أهل العامة، فـ(إن الله تعالى خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فأهبط رحمة منها إلى الأرض فبها تراحم الخلق، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء، وبها تعيش الخلائق) (79).
وفي الحديث القدسي: (قُل لعبادي: لم أخلقكم لأربح عليكم، ولكن لتربحوا عليّ) (80).
ولا يستثنى من ذلك إلا من رفض رحمة الله تعالى بملأ اختياره، بأن كان من الذين (اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) (81)، وأصروا على ذلك، (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (82).
من البصائر في آية الرحمة
وإذا ما توقفنا قليلاً لنستلهم بعض البصائر النيّرة من إحدى آيات البحث وهي: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ...) (83) فسوف نجد:
أ: أن الله تعالى اتخذ الرحمة المنطلق والأساس، وفرّع عليها تعالى بعض أعظم صفات رسوله المصطفى (وهو اللين)، ثم تفرعت منهما سلسلة من الأحكام على مستوى فقه المجتمع وفقه الدولة، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (84).
ب: فالرحمة هي مقصد المقاصد الإلهية، ولين الرسول (صلى الله عليه وآله)، (والقيادات الأخرى بالتبع) هو مقصد متفرع (85)، وعليها ابتنت الشريعة الإسلامية بكافة أحكامها الإنسانية، ولذا قال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (86)، بل لقد كانت بعثته بنفسها وبخصوصياتها وليدة الرحمة الإلهية، (هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ) (87)، وعلى سبيل المثال فإن كونه (صلى الله عليه وآله) (مِنْهُمْ) هو من تجليات رحمته.
ج: فقوله سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ) هو نفسه الهدف والغرض والغاية من الخلقة المصرح به في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (88)، إذ الظاهر أن المراد (وللرحمة خلقهم)، أي أن الغاية من الخلقة هي الرحمة، بل إن الغاية (لِيَعْبُدُونِ) تُعلل بالرحمة أيضاً، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (89) فلماذا يريد الله تعالى من خلقه أن يعبدوه وهو الغني عنهم؟!
الجواب: لكي يُرحَموا، فـ(الرحمة) هي علة العلل، وهي السبب الكامن وراء الخلقة، لبداهة أن الله تعالى غني عنها ولا ينتفع بها أبداً.
د: ثم إنّ لاستخدام مفردة (اللين) كشعاع من أشعة الرحمة الإلهية وفرع من فروعها، دلالة بليغة، إذ تؤكد بعض مديات الرحمة وعمقها التي تصل إلى مرتبة اللين الذي يجده الناس عادةً، على طرف النقيض من الحزم المطلوب على مستوى الإدارة والحكومة، لكنه (صلى الله عليه وآله) نبيّ الرحمة المبعوث من قبل الإله الرؤوف بعباده الذي (سبقت رحمتُه غضبَه) ولقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) ليّناً حتى قالوا في حقه أنه (أُذُنُ)، فقال تعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (90).
هـ : وبعد ذلك فإن (للّين) في قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، تجليات عديدة على شتى المستويات، كما أنه يستبطن اللين على المستوى الشخصي، وعلى مستوى الولاية والقيادة والحكومة، وربما أيضاً على مستوى التقنين والتشريع.
والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة كبير، والنسبة بينها هي العموم من وجه، إذ قد يكون الشخص ليّناً على المستوى الشخصي، وفي تعامله مع الآخرين كصديق أو زميل أو غير ذلك، لكنه يكون صارماً في التقنين، أو في تطبيق القوانين، غير متسامح مع من يخالف اللوائح، ومثل هذا الشخص قد لا تجد للعفو في قائمته عيناً ولا أثراً، وقد يكون الأمر بالعكس تماماً، فبينما تراه عنيفاً في تعامله الشخصي مع الآخرين، تجده متسامحاً بل متساهلاً في تطبيق القوانين.
وكذلك الأمر على مستوى القيادة والزعامة والرئاسة، فقد يكون القائد في حياته الشخصية ودوداً مع أصدقائه وجيرانه، أو حتى مع أعدائه، لكنه يكون في البُعد القيادي عنيفاً خشناً داخلياً، هجومياً خارجياً، وقد يكون بالعكس من ذلك تماماً.
أما الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فإنه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، وتنكير (رَحْمَةٍ) يفيد التعظيم، والإبهام في (ما) لعله يفيد عمقها وخفاء أسرارها وأبعادها وإن كانت بعض مجاليها بيّنة للعيان (91).
و: إضافة إلى ذلك، فإن اللين في قوله تعالى: (لِنْتَ لَهُمْ) يشمل اللين التكويني أيضاً، ويعني التكويني: أنه (صلى الله عليه وآله) كان بسجيته وطبعه وشاكلته النفسية ليّناً، عكس من يكون بطبعه وشاكلته فظاً غليظاً قاسياً عنيفاً شديداً، فإن هذه الصفة: اللين، وضدها العنف والفظاعة، كسائر الصفات النفسانية، فإن بعض الناس بطبعه حليم أو كريم أو شجاع، وبعضهم جبان أو بخيل أو غضوب.
والعبرة من ذلك: الإشارة إلى ميزة من الميزات التي ينبغي أو يجب ـ حسب مقتضيات الأمر ـ توفرها في القائد الذي يراد تعيينه أو انتخابه لقيادة الأمة أو الشعب أو حتى الحزب والعشيرة والاتحاد والنقابة، وهي ميزة كونه ليّناً بطبعه غير فظ ولا غليظ القلب.
وعليه: فلو دار الأمر، مثلاً، بين أن نختار:
1) معلماً دمث الأخلاق، ليناً هشاً بشاً، وبين أن نختار معلماً قاسياً عنيفاً، كان الأول أرجح بلا شك.
2) أو دار الأمر بين أن يختار الأعضاء قائداً للحزب، كذلك.
3) أو ينتخب الشعب رئيساً أو قائداً كذلك، أو غير ذلك.
وذلك لأنه إذا كان من أشعة رحمة الله تعالى أن يختار لمن يرسله إلى الناس كافة، رسولاً ليناً غير فظ ولا غليظ، وكان الله هو الأعرف بما يصلح لعباده وبما يصلحهم، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) أيضاً قدوة وأسوة، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (92)، كان الأولى بنا أن نختار للقيادة والإدارة في كافة المستويات الشخص اللين الخلوق السمح الوَصول الحكيم الرفيق.
ز: كما ألمح الله تعالى إلى أحد أسباب لين الرسول (صلى الله عليه وآله) لهم بقوله: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، مما يعني أن اللين ـ إضافةً إلى أنه كمال ذاتي ـ فإنه الطريق الأنجع والأصلح لسَوْق الناس إلى الكمال والتقدم والدين والأخلاق والفضيلة.
بل إن قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (93)، دليل على أن الغليظ قلباً يتجلى عنفه على جوارحه؛ إذ (وكل إناء بالذي فيه ينضحُ).
ح: واللين مغاير للضعف، فإن القائد الحكيم ليّن وليس بضعيف، إذ اللين منشؤه الحكمة، أما الضعف فمنشؤه العجز، واللين مدعاة للإكبار والإعجاب من القادر القوي العزيز، لكن الضعف مدعاة للرثاء إن لم يكن مجلبة للاستحقار، ولذلك كله (لانَ) الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لهم، ولم يضعف ولم يستكِن أبداً.
في القسم الثالث: الفصل الأول، مقاصد الشريعة على مستوى الأصول والفقه والقواعد
اضف تعليق