إننا نعتقد إن إصلاح العلاقة المذهبية في الخليج، مرهون إلى حد بعيد إلى الإصلاح السياسي وبناء دولة وأنظمة سياسية محكومة بقانون ودستور ويكون (أي النظام السياسي) معبرا حقيقيا عن كل الأطراف والشرائح الاجتماعية بحيث تكون الدولة، دولة للجميع بدون انغلاق، أو نبذ لبعض المكونات والتعبيرات...
مفتتح:
تتكون منطقة الخليج العربي من (6) دول وكلها أعضاء في المؤسسات الإقليمية والقومية والدولية، ومنذ بداية عقد الثمانيات من القرن الماضي، شكلت هذه الدول مجلسا يضمها لتطوير علاقاتها البينية وصياغة سياسات دفاعية وخارجية مشتركة، وأضحت هذه المؤسسة (مجلس التعاون الخليجي) من المؤسسات الشاخصة على المستويين الإقليمي والدولي..
وتتشابه إلى حد كبير أنظمة الحكم في هذه الدول، فهي أنظمة ملكية وأميرية وسلطانية، إذ في كل دولة هناك عائلة تحكم وتدير الدولة ولم يقتصر التشابه على هذه المسألة، وإنما هناك تشابه يصل في بعض الملفات حد التطابق في خياراتها السياسية الخارجية، وفي اعتمادها على ثروات طبيعية هائلة، إذ حولها من دول ذات اقتصاديات محدودة، تعتمد على التجارة والزراعة والثروة البحرية، إلى دول ذات اقتصاديات متطورة، إذ تعتمد على (النفط) وتستخدم ريعه الهائل في تسيير شؤون الدولة والمجتمع المختلفة..
فهي دول ذات اقتصاد ريعي، وتعاني من ذات المشكلات التي يعاني منها أي اقتصاد ريعي، وأية دولة تعتمد على اقتصاد ريعي.. وعرفت دول الخليج العربي تغيرات وتحولات اقتصادية واجتماعية كبرى، مع اكتشاف النفط وانطلاق عملية التصدير والبيع..
إذ تحولت هذه الدول من دول محدودة الدخل إلى دول غنية وثرية، وتبدلت من جراء هذه قيم نظام العمل، وانفتحت هذه الدول لاستيعاب عمالة ماهرة وغير ماهرة، ودخلت أسواقها مئات الآلاف من الأيادي العاملة التي تنتمي إلى بيئات اجتماعية وقومية مختلفة، وتوسعت حركة التجارة، وازداد حجم رجال الأعمال في منطقة الخليج، وازداد دورهم الاقتصادي والتجاري..
وبدأت منذ تلك اللحظة ما يشبه التحالف بين العوائل المالكة في الخليج وطبقة رجال الأعمال..
ودخل من جراء هذه التحولات المتسارعة، اقتصاد المنطقة إلى طور جديد تضاءلت فيه حركة الإنتاج لصالح نزعة الاستهلاك وأضحى اقتصاد بلدان المنطقة أقرب ما يكون إلى الاقتصاد الريعي الذي يعتمد بطريقة شبه مطلقة على مداخيل النفط.. ولا ريب أن هذا التحول الاقتصادي الكبير، ترك أثره العميق على نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في بلدان المنطقة..
كما أن مجتمعات هذه الدول الخليجية تتشابه وتتطابق على مستوى اللغة والدين والأعراف والتقاليد الاجتماعية إضافة إلى التداخل الاجتماعي والقرابات العائلية الممتدة في كل أو أغلب دول الخليج العربي..
وعلى المستوى الفقهي – المذهبي، تنتشر في مجتمعات الخليج المذاهب الإسلامية الثمانية ويتفاوت هذا الانتشار من منطقة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر، إلا أن القدر المتيقن في هذا السياق أن مجتمعات الخليج العربي تتمذهب وتلتزم بمدارس فقهية ومذهبية ثمانية وهم المذاهب الإسلامية السنية الأربعة (الحنفية – المالكية – الحنبلية – الشافعية) إضافة إلى المذاهب الإسلامية – الشيعية (الإمامية – الزيدية – الإسماعيلية) إضافة إلى المذهب الأباضي الذي يتواجد فقط في سلطنة عمان..
فمجتمعات الخليج على المستوى المذهبي، هي مجتمعات متعددة ومتنوعة، وتحتضن كل التعبيرات المذهبية – الإسلامية.. والعلاقة بين أهل هذه المذاهب في الخليج متفاوتة، تبعا لتنوع الخيارات السياسية في التعامل مع الحقائق المذهبية..
فإذا كان الخيار هو المرونة والاستيعاب، فإن العلاقة تكون أقرب إلى الطبيعية وبدون توترات مقلقة للأمن والاستقرار.. أما إذا كان الخيار متشددا ويستخدم العصا الغليظة في إدارة التنوع المذهبي، فإن هذا التشدد ينعكس توترا وعلاقة مشوبة بالحذر والمخاوف المتبادلة.. فالسياسي وطبيعة تعامله مع هذه الحقائق، هو الذي يحدد إلى حد بعيد طبيعة العلاقة وتجاهها العام..
لهذا فإننا نعتقد إن إصلاح العلاقة المذهبية في الخليج، مرهون إلى حد بعيد إلى الإصلاح السياسي وبناء دولة وأنظمة سياسية محكومة بقانون ودستور ويكون (أي النظام السياسي) معبرا حقيقيا عن كل الأطراف والشرائح الاجتماعية.. بحيث تكون الدولة، دولة للجميع بدون انغلاق، أو نبذ لبعض المكونات والتعبيرات..
دول الخليج والاستقرار السياسي
كثيرة هي الحقائق والمعطيات الموجودة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي التي تؤكد أن الاستقرار السياسي في الدول الحديثة اليوم، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلعاتهم المشروعة. فالترسانة العسكرية ليست هي وسيلة جلب الاستقرار وحفظه. كما أن زهو القوة وخيلاءها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار.. فالعديد من الدول تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية متطورة، وكل مظاهر القوة المادية إلا أن استقرارها السياسي هش وضعيف، ومع أي ضغط أو تحول، نجد التداعي والاهتراء والضعف.
وفي المقابل نجد دولا لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطورة، إلا أن استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام.
فالاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عينا ساهرة على الأمن ورافدا أساسيا من روافد الاستقرار. وتخطئ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلب خطوات سياسية حقيقية تعمق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير..
ولذلك نجد أن الدول المتقدمة عسكريا وأمنيا والمتخلفة سياسيا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم..
فقوة الدول واستقرارها اليوم، لا يمكن أن تقاس بحجم الأسلحة وقوة الترسانة العسكرية أو عدد الأجهزة الأمنية، وإنما تقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة..
فالاستقرار السياسي اليوم، لا يتأتى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة سياسية حقيقية تتنافس فيه الأفكار والتصورات والمشروعات بوسائل سلمية - ديمقراطية..
فالعراق هذا البلد القوي على الصعيدين الأمني والعسكري، لم يستطع أن يحافظ على نظامه السياسي الشمولي، لكون المجتمع هو الضحية الأولى لهذا النظام القمعي والشمولي..
فالاستقرار السياسي ومن وحي التجربة العراقية والتجارب السياسية الأخرى، لا يأتي من خلال نظام شمولي، يقمع الناس ويئد تطلعاتهم ويحارب مصالحهم الحقيقية. لذلك نجد أن الدول التي تحكم بأنظمة قمعية وشمولية، هي المهددة أكثر في أمنها واستقرارها..
فالأمن المجرد لا يفضي إلى الاستقرار، والقوة العسكرية بوحدها لا تتمكن من مواجهة تحديات المرحلة.. لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية والإسلامية، إلى إعادة صياغة وعيها وفهمها لمقولة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية التي ترى أن سبيل الاستقرار، هو المزيد من الإجراءات والاحترازات والتضييق على حريات الناس، رؤية أثبتت التجربة قصورها وخطأها. فالقمع لا يصنع أمنا واستقرارا، بل يضاعف من عوامل وأسباب الانفجار السياسي والاجتماعي..
لهذا فإن دول الخليج العربي اليوم، بحاجة إلى صياغة رؤية ووعي جديد، تجاه مسألة الاستقرار السياسي.. لأن الرؤية السائدة في الكثير من الدول والبلدان لم تحقق الاستقرار، بل على العكس من ذلك تماما.. إذ أي خطر داخلي أو خارجي حقيقي كشف وهم الاستقرار الذي كانت تعيشه العديد من الدول والبلدان..
وفي تقديرنا ورؤيتنا أن مكونات الاستقرار السياسي في منطقة الخليج العربي هي:
1 وجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع، بحيث إن كل طرف يقوم بدوره الطبيعي في عملية البناء والعمران. فالاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الواقعي بعيدا عن انسجام الخيارات السياسية والثقافية بين السلطة والمجتمع.. والدول التي تعيش حالة حقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين السلطة والمجتمع، هي الدول المستقرة والقادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر.. لذلك فإننا نرى أهمية أن تخطو الدول العربية والإسلامية والمهددة في أمنها واستقرارها، إلى بلورة مشروع وطني متكامل للمصالحة بين السلطة والمجتمع.. فالاستقرار السياسي الحقيقي يكمن في مستوى الانسجام السياسي والاستراتيجي بين السلطة والمجتمع..
2 وجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع. فالأنظمة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق بحكومته، فإنه مهدد بشكل حقيقي في أمنه واستقراره.. لأن الأمن الحقيقي والاستقرار العميق هو الذي يستند إلى حقيقة راسخة وهي توفر الثقة العميقة والمتبادلة بين السلطة والمجتمع. هذه الثقة هي التي تمنح القوة لكلا الطرفين. فقوة المجتمع في انسجامه السياسي مع نظامه السياسي، وقوة النظام السياسي في ثقة المجتمع به وبخياراته السياسية والاستراتيجية.. لذلك فإن الاستقرار السياسي يتطلب وبشكل دائم العمل على غرس بذور الثقة بين السلطة والمجتمع..
ولا ريب أن خلق الثقة المتبادلة بين الطرفين، يحتاج إلى مبادرات حقيقية وانفتاح متواصل ومستديم بين مختلف القوى، حتى يتوفر المناخ المؤاتي للثقة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع.
3 توفر الحريات السياسية والثقافية.. فلو تأملنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لاكتشفنا وبشكل لا لبس فيه أن الدول التي تتوفر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق، هي الدول المستقرة والتي تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر.. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحش وتمنع شعبها من بعض حقوقه ومكتسباته السياسية فإنها دول مهددة في استقرارها وأمنها.. لأنه لا يمكن لأي شعب أن يدافع عن دولة هو أول ضحاياها.. لهذا فإن الاستقرار السياسي هو وليد طبيعي لتوفر الحريات في بلدان الخليج العربي..
ومن يبحث عن الاستقرار السياسي بعيدا عن ذلك، فإنه لن يحصل إلا على أوهام القوة والاستقرار.. واللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم على أكثر من صعيد، تتطلب تجديد فهمنا ووعينا لمعنى الاستقرار السياسي، والانخراط الفعلي في بناء المكونات الأساسية لخيار الأمن والاستقرار..
فكل التحديات والمخاطر لا يمكن مواجهتها، إلا باستقرار سياسي عميق، ولا استقرار حقيقي إلا بديمقراطية وتنمية مستدامة.. لذلك فإن الخطوة الأولى والاستراتيجية في مشروع مواجهة تحديات المرحلة ومخاطرها المتعددة هو بناء أمننا واستقرارنا على أسس ومبادئ حقيقية تزيدنا منعة وصلابة وقدرة على المواجهة.
وإن استمرار عملية التشظي والفرز الاجتماعي، لا يفضي إلى أمن واستقرار عميقين، بل إنه يولد كل أشكال الاحتقان التي قد تقود إلى انفجارات سياسية واجتماعية. وأحداث البحرين الأخيرة ليست بعيدة عن هذا السياق.
فمهما تحدثنا عن العوامل الإقليمية والخارجية، التي ساهمت في نظر البعض في تأجيج الأحداث المؤلمة في البحرين، إلا أن الفحص العميق في المشهد البحريني، يجعلنا نعتقد وبشكل جازم أن هناك عوامل وموجبات داخلية كثيرة تفضي إلى الانفجار السياسي والاجتماعي. لهذا فإننا نقول: إن من ينشد الأمن لا يساهم في عملية الفرز الاجتماعي - المذهبي، ومن يتطلع إلى الاستقرار لا يسمح ببث سموم الكراهية الدينية والمذهبية في وسائل إعلامه أو مناهجه التعليمية أو في وسائل التنشئة والتثقيف الأخرى.
فالاستقرار السياسي والاجتماعي في منطقة الخليج، لا يتحقق بالترسانات العسكرية أو الإجراءات الأمنية المتعاظمة، وإنما بإنهاء سياسي وثقافي بكل موجبات الاحتقان والتوتر.
فتعزيز أواصر العلاقة الايجابية بين الدولة والمجتمع، وتعميق أسباب الرضا العميق بين الطرفين، هو الذي يحقق الاستقرار ويحافظ على الأمن، ويمكن الجميع من مواجهة صعوبات الداخل وتحديات الخارج.
الدولة والطائفية في الخليج.. أية علاقة
يبدو حين التمعن في مسألة الدولة الحديثة وتجربتها في منطقة الخليج العربي، يجعلنا نعتقد أنها تشكل الحاضن الأكبر لكل آليات التفكيك الأفقية والعمودية في المجتمع، وذلك لأننا على الصعيد الواقعي لا نملك دولة (بالمعنى العلمي) مكتملة الأركان وتجبر هذا النقص البنيوي والمؤسسي بالاتكاء على فئة وعصبية اجتماعية محددة، وتمارس الإلغاء والتهميش مع بقية الفئات الاجتماعية الأخرى. فمنطقة الخليج اليوم مع تفاوت محدود بين دولها ومناطقها لديها سلطة مكتملة ودولة ليست ناجزة. فالدولة الخليجية المعاصرة، هي دولة عصبوية، مغلقة، وهي حاضنة للبعض ورافضة ونابذة لبقية التعبيرات والمكونات. وفي ظل هذا المناخ، تتولد أزمة إدارة التنوع في منطقة الخليج العربي.
ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن مجتمعات الخليج العربي هي مجتمعات قديمة ولها ذاكرة تاريخية موغلة في القدم، ولكن دولها بالمعنى الحديث ليست قديمة ولا تمتلك جذور تاريخية ومعرفية في النسيج الاجتماعي الخليجي. وبفعل ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة، أضحت على المستوى الواقعي، وكأنها جهاز تنفيذي، يسير الأمور انطلاقا من الثروات الطبيعية التي حباها الله لهذه الأرض. فالنسيج الاجتماعي بقي على انقساماته العمودية والأفقية، ولم يتبلور في الفضاء الوطني لكل دولة خليجية مشروعا وطنيا فعليا يتجاوز حدود المذهبيات والقبليات والأثنيات.
ولهذا تعايشت في التجربة السياسية الخليجية مظاهر متناقضة، فهي تمتلك أحدث السلع الحضارية والاستهلاكية وفي ذات الوقت، تعيش في انتماءاتها الأهلية والمجتمعية مرحلة ماقبل الدولة والانتماء إلى مواطنة جامعة ومشتركة. وبقيت التوترات القبلية والمذهبية والمناطقية قابعة تحت الرماد، ومع أي أزمة أو إشكالية سياسية أو مجتمعية، تبرز هذه التوترات على السطح، وترتدي ألبسه مختلفة تعود إلى طبيعة التوتر أو الظروف السياسية القائمة. والانقسامات الأفقية والعمودية في المجتمعات والأوطان، لا تعالج بالخطب الأيدلوجية المجردة، أو المواعظ الأخلاقية التي تستجلب القلوب والعواطف، دون أن تتمكن من تغيير موازيين القوى أو المعطيات السياسية القائمة. وإنما الذي يعالج هذه الانقسامات، هو وجود مشروع وطني جاد ومتعدد الأبعاد، يأخذ على عاتقة استيعاب كل الانقسامات في بوتقة وطنية واحدة دون افتئات على خصوصية هذه الانقسامات، وفي ذات الوقت دون السماح لها أيضا بالانحباس والتقوقع الفئوي والطائفي والقبلي.
فالدولة في الخليج لم تتعامل مع مواطنيها بوصفهم مواطنين، وإنما بوصفهم أعضاء إما في قبيلة أو مذهب، فأصبح الانتماء التقليدي للمواطن، هو العنوان الواقعي والحقيقي الذي يتم التعامل به معه. فالدولة في بلدان الخليج العربي، ولكونها، لا تمتلك مشروعا وطنيا ولاعقدا اجتماعيا (بالمعنى الحديث) يربطها بمواطنيها، لهذا فهي عملت كبديل عن ذلك، على إبقاء الانتماءات التقليدية حية، وكانت تعالج الآثار السلبية المترتبة على بقاء انتماءات تقليدية متجاورة، ومتوترة في آن بطريقين أساسيين وهما:
1- العطاء المالي الذي يضمن ولاء شيوخ القبائل وزعماء الطوائف، مع جهد لتسيد طبقة معنية ذات ولاء ومصالح مشتركة مع الحكومات في الفضائين القبلي والطائفي.
2- السياسات والإجراءات الأمنية التي تستهدف إخماد أي صوت يطالب بإصلاح الأوضاع و بناء علاقة بين جميع المكونات على أساس المواطنين المتساوية في الحقوق والواجبات. وأعتقد أن المأزق الحقيقي الذي تعانيه العلاقة بين الدولة والطائفة في منطقة الخليج العربي، أن الدولة وعبر أجهزتها المختلفة، لا زالت تتعامل مع أشواق هذه المجتمعات إلى الحرية والكرامة والإصلاح، بوصفها مشكلة أمنية. وبطبيعة الحال فإن العقل الأمني هوامشه في الحركة ضيقة، ولا يمتلك إمكانية فعلية للتسوية السياسية الحقيقية بين الطرفين. وقد عانت العلاقة في أغلب البلدان الخليجية من هذه المسألة بطرية وأخرى، وفي تقديرنا أن الخطوة الأولى لمعالجة الإشكالية بين الدولة والطائفة، هي إخراج العلاقة من الدائرة والمربع الأمني، والتعامل معها بوصفها مشكلة سياسية تتطلب مبادرات وآليات سياسية لمعالجة الوضع والمشكلة.
والدول الخليجية التي خطت خطوات بهذا الاتجاه كالكويت وعمان، تمكنت من إنهاء الكثير من عناصر المشكلة والأزمة، وتحظى بعلاقة إيجابية بين الدولة بمؤسساتها المختلفة ومكونات شعبها المذهبية. فالطوائف المذهبية في الخليج حقائق تاريخية واجتماعية ثابتة ومستقرة، ولا يمكن التعامل مع حقائق التاريخ والاجتماع بوسائل أمنية - قهرية، لأن هذه الوسائل لا تعالج المشاكل، بل تزيد هذه الحقائق رسوخا وعنادا في فضائها الاجتماعي والوطني. فالاعتقال والضغط الأمني على الخصوصيات المذهبية وغيرها من الوسائل الأمنية، لم تنهي هذه الحقائق ولم تعالج أزماتها العالقة بينها وبين الدولة في الخليج. وتوضح الكاتبة (تيدا سكوكبول) معنى الحقيقية التاريخية وتأثيرها على الدول والمجتمعات بقولها:
[ما إن نضع الدولة في مكانها المركزي الصحيح عند تفسير التغير الاجتماعي وتفسير السياسة حتى نضطر إلى احترام الحقيقة التاريخية الكامنة للهياكل الاجتماعية- السياسية، فتتجه بالضرورة إلى الاهتمام بالتشابك الذي لا مفر منه لمستويات التطور القومي وترابطها بالأطر التاريخية العالمية المتغيرة](1)..
من هنا فإننا نعتقد أن معالجة الأزمة الطائفية في الخليج، لا يمكن أن يتم ويتحقق إلا بإصلاح الدولة في الخليج، واستيعابها لجميع التعبيرات والمكونات. فمادامت الدولة في الخليج، هي دولة البعض القبلي والمذهبي، فهي بالضرورة طاردة لبقية المكونات. وتتفاوت دول الخليج العربي في عملية الطرد والنبذ لبقية مكوناتها وتعبيراتها، تبعا للظرف السياسي والاجتماعي الذي تعيشه هذه الدولة أو تلك، وتبعا لطبيعة علاقة كل دولة في الخليج مع مؤسستها الدينية.
فإذا كانت العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية محكومة بمعادلة تاريخية مرتبطة بطبيعة الشرعية السياسة والدينية للدولة كما هو حال المملكة العربية السعودية، فهي تمارس النبذ والإقصاء والتمييز لبعض مكونات شعبها بطريقة متعددة الوجوه والأشكال. وإذا كانت الدولة علاقتها بمؤسستها الدينية ومؤسساتها المدنية الأخرى متوازنة ويربطها بشعبها تعاقد دستوري كدولة الكويت فإن علاقة هذه الدولة بمكوناتها المذهبية علاقة إيجابية واستيعابية لها، لأنها تفسح للجميع ضمن إدارة واعية ومرنة لممارسة خصوصياتها ضمن ضوابط وطنية تشمل جميع المكونات والتعبيرات.
فالولاءات المذهبية والقبلية، لن تعود في مجتمعات الخليج العربي، إلى وضعها وحدودها الطبيعية إلا بإصلاح سياسي للدولة وتوسيع قاعدتها الاجتماعية وفتح المجال المؤسسي للشعب للمشاركة في شؤون الحياة العامة. إما إذا استمرت الدولة بعصبياتها التقليدية وانغلاقها السياسي، فإن الو لاءات الفرعية لدى المجتمعات ستزدهر وتتضخم لأنها وسائل الدفاع والحماية لدى أهل هذه الولاءات والانتماءات.
فقوة الدولة الحقيقية ليس في ترسانتها العسكرية، أو إمكاناتها المالية الضخمة، وإنما في مدى تمثيلها وتعبيرها عن مجتمعها.. فالدولة التي تنسجم مع خيارات شعبها، ويشعر شعبها بعمق إنها دولته التي تعبر عن إرادته، فهذه الدولة قوية حتى لو لم تمتلك ترسانة عسكرية أو إمكانات مالية ضخمة. وفي المقابل فإن الدولة التي لا تعبر عن إرادة شعبها، فإنها ضعيفة وغير مستقرة، حتى لو امتلكت كل الإمكانات العسكرية والمالية..
فالدولة القوية وفق علم الاجتماع السياسي المعاصر، هي التي تعبر عن إرادة شعبها، وفعاليات المجتمع عبر الوسائل الديمقراطية تشترك في مؤسسات الدولة وتسيير شؤونها المختلفة. لأنها مؤسسات مفتوحة لكل المواطنين بصرف النظر عن قوميتهم أو مذهبهم أو دينهم. فهي دولة الجميع وتحتضنهم جميعا بدون تفريق أو تمييز.
الإصلاح السياسي بوابة العبور:
من هنا فإننا نعتقد وبشكل جازم، أنه لا يمكن إصلاح وتطوير العلاقة بين المكونات المذهبية لمجتمعات الخليج العربي. بدون إصلاح سياسي، يعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي..
لإيماننا العميق أن المشكلة الطائفية في الخليج، ليست مشكلة دينية أو ثقافية بالدرجة الأولى، وإنما هي مشكلة سياسية. حيث أن الخيارات السياسية المتبعة، هي التي تولد نزاعات وتوترات مذهبية. فالمشكلة ليست وليدة التمايز الفقهي والمذهبي، بل هي وليدة ممارسة التميز بكل صوره وأشكاله. من هنا فإن المعالجة المتوخاة لهذه المشكلة معالجة سياسية.
ولكون المعالجة السياسية لا يمكن أن تتم وتتحقق بمعزل عن الإصلاح السياسي في الإطار الوطني. لهذا نحن نعتقد أن الإصلاح السياسي على المستوى الوطني، هو السبيل لمعالجة المشكلة الطائفية في منطقة الخليج العربي.. وهذا يتطلب من الدولة ومؤسساتها المختلفة القيام بمبادرات وسيرورات اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية، تستهدف التغلب التدريجي على الفروقات المذهبية وتحقيق أعلى درجات الاندماج بين المواطنين.
وإننا هنا ندعو كل دول الخليج، إلى مراجعة سياساتها وخياراتها، تجاه واقع التعددية المذهبية الذي تعيشه المنطقة. فلم يعد ممكنا لاعتبارات ذاتية وموضوعية، الاستمرار في سياسات الإقصاء والنبذ والتمييز، وإن المطلوب هو بناء إستراتيجيات وطنية متكاملة لتحقيق الاندماج الوطني في كل مجتمعات الخليج. وفي تقديرنا إن الخطوة الأولى في هذه الاستراتيجية هي تأسيس هيئات وطنية في كل دولة خليجية لمكافحة التمييز بكل صوره وأشكاله، وصياغة أنظمة وقوانين تجرم أي طرف يمارس التمييز أو يدعو إليه أو يبث الكراهية القبلية والمذهبية بين المواطنين.
الاعتراف بالآخر:
حين الحديث عن التنوع والتعددية في الحياة الاجتماعية والإنسانية، دائما ما يتم تداول مصطلح ومفهوم ضرورة الاعتراف بالآخر.. ويتم تكرار هذه المقولة في كل لقاء اجتماعي أو فكري، يتم فيه تداول طبيعة العلاقة بين المختلفين والمغايرين دينيا أو قبليا أو عرقيا أو مناطقيا أو ما أشبه ذلك..
فماذا نقصد بمقولة الاعتراف بالآخر، وما هي محددات هذه المقولة، هذا ما نحاول أن نتعرف عليه خلال الأسطر التالية.
لكل ذات إنسانية آخر، ومن خلال تحديد معنى الذات، يتحدد بطبيعة الحال نوعية الآخر.. فإذا كان الحديث بعنوان ديني فإن الآخر هو كل من ينتمي إلى دين آخر، وإذا كان الحديث بعنوان مذهبي في الدائرة الإسلامية، فإن الآخر هو كل من ينتمي إلى مذهب إسلامي آخر.. وهذا ينطبق على مقولات القومية والعرقية والمناطقية والجنوسة وما أشبه ذلك.. فالآخر يتحدد من خلال تحديد معنى الذات.. والاعتراف به في صورته الأولية يعني الاعتراف بوجوده وكينونته الإنسانية وبحقوقه الآدمية بصرف النظر عن مدى قبولنا أو اقتناعنا بأفكاره أو قناعاته العميقة والشكلية..
فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي الاعتراف بالآخر على المستوى الديني أو المذهبي أو القومي، وهو يهدده في وجوده وكينونته الإنسانية.. فالذي يعترف بالآخر، يحترم وجوده، وكل متطلبات حياته الإنسانية..
لهذا فإن مفهوم الاعتراف بالآخر، يناقض بشكل تام، استخدام وسائل القسر والقهر لإقناع الآخر أو دفعه إلى تغيير قناعاته.. فأنت ينبغي أن تعترف به كما هو، بعيدا عن المسبقات الأيدلوجية أو القومية أو ما شاكل ذلك.. وحينما نندفع إلى التوسل بوسائل قهرية للتغيير أو تبديل قناعات الآخر المختلف، فهذا ينم عن عدم التزام عميق بمفهوم الاعتراف بالآخر.. فلا يمكن أن ينسجم هذا المفهوم مع نزعات القهر والفرض والدفع بوسائل مادية لتغيير المواقع الأيدلوجية والفكرية وتبديلها.. فالاعتراف بالآخر في صورته الأولوية، يعني احترام حياته الإنسانية وكينونته الذاتية ومتطلباتهما، بعيدا عن أفكاري الخاصة تجاهه..
ويحاول البعض في سياق الحديث عن مقولة الاعتراف بالآخر، أن يحدد بعض الشروط لكي يقبل الآخر.. وحين التدقيق فيها نجدها تقتضي أن يتخلى الآخر عن ما هو عليه كشرط لقبوله..
وهذه من المفارقات العميقة، والتي تكشف رفض الكثير من الناس لهذا المفهوم..
فليس مطلوبا من أحد أن يتخلى عن قناعاته، من أجل أن يقبله الطرف الآخر.. للجميع حق رفض قناعات الآخر، والتعبير بوسائل سلمية عن هذا الرفض، ولكن ليس من حق أحد توهين أو تشويه قناعات وأفكار الآخر.. كما أنه ليس من حق أحد أن يطلب من الآخر تغيير قناعاته كشرط لقبوله.. فالاعتراف بالآخر، لا يلغي حق أحد في امتلاك وجهة نظر نقدية عن أفكار وقناعات الطرف الآخر.. ولكن في ذات الوقت فإن مقتضى مفهوم الاعتراف بالآخر القبول به كما هو يريد وليس كما أنت تريد..
فحينما نخلق مسافة عقلية بين قناعات الإنسان، وضرورات التعايش مع الآخرين بصرف النظر عن قناعاتهم وأفكارهم..
حينذاك يمكننا جميعا إنجاز مفهوم الاعتراف بالآخر في فضائنا الاجتماعي والثقافي.. ودون ذلك سنبقى نلوك هذه المفاهيم في ألسنتنا، ولكن واقعنا ومسيرتنا الاجتماعية والثقافية مناقضة لمضمون هذه المفاهيم.. والذي يفاقم من الأزمات والتوترات بين المختلفين على هذا الصعيد، حينما يقوم أحد الأطراف باستخدام وسائل التفجير والقتل بحق الآخرين بسبب اختلافهم الديني أو المذهبي لا غير.. فما جرى من تفجير إرهابي آثم أمام كنيسة القديسين للأقباط في مدينة الإسكندرية بمصر بعد دقائق من دخول العام الجديد يؤكد هذه الحقيقة، وما يجري في العراق يوميا بحق الأبرياء من قتل وتفجير يؤكد هذه الحقيقة أيضا.. حيث تقوم فئة إرهابية خالية من الأخلاق والضمير بقتل الأبرياء وزرع العبوات الناسفة التي تستهدف الجموع البشرية المحتشدة لقتل أكثر عدد ممكن، لا يخرج عن هذا السياق.. فالاختلاف العقدي والديني بين المسلمين والمسيحيين، لا يشرع لأحد قتل الآمنين من المسيحيين، وإبقاء سيف القتل على رقاب شركائنا في العروبة للاختلاف في شأن هنا أو هناك، يعد جريمة كبرى نكراء، ينبغي أن تدان من الجميع، ورفع الغطاء عن كل الحوامل الثقافية والدينية، التي تبرر عمليات القتل والتفجير..
كما أن عمليات القتل والتفجير المتبادلة، والتي تتم بعناوين مذهبية، ينبغي أن تدان ويرفع الغطاء الديني والسياسي عن مرتكبيها..
فالتعددية الدينية والمذهبية في العالم العربي، هي الضحية الكبرى لعملية القتل التي تجري اليوم لاعتبارات دينية أو مذهبية.. لأن هناك جماعات تكفيرية وإرهابية، تريد وتعمل من أجل إفراغ وإنهاء ظاهرة التنوع الديني والمذهبي من الواقع العربي، وتستخدم في سبيل ذلك كل الوسائل والممارسات الإرهابية التي لا تنسجم مع أي دين سماوي أو أخلاق إنسانية..
فالاعتراف بالآخر الديني والمذهبي، ينبغي أن يقود إلى التعايش، الذي يضمن حقوق الجميع بدون تعد وافتئات من قبل أي طرف على الأطراف الأخرى.. وحينما نفشل نحن العرب في حماية تنوعنا الديني والمذهبي، فإن عدونا الصهيوني هو المستفيد الأول من عملية الفشل.. وهو المناخ المؤاتي على المستويين الاجتماعي والسياسي للمزيد من تفسخ واهتراء الواقع العربي.. لهذا فإن وجود مبادرات مؤسسية وطنية وقومية، لحماية حقيقة التنوع الديني والمذهبي والقومي في الخليج العربي، هو أحد المداخل الأساسية لصيانة الأمن القومي العربي، وتعزيز قوته، وسد الثغرات التي قد ينفذ منها خصوم الأمة لأغراضهم ومصالحهم الخاصة..
فالوحدات الوطنية في كل دول الخليج العربي، لا تحمى بالخطابات الرنانة والمواعظ الأخلاقية المجردة، وإنما بالوقائع الميدانية والمبادرات المؤسسية، التي تستوعب جميع أطياف الوطن وتحمي تنوعه بقانون وإجراءات دستورية، تحول دون بقاء الفجوات والهواجس المتبادلة بين مكونات التعدد والتنوع سواء على المستوى الوطني أو المستوى القومي.. فالقوى التي تتربص بمنطقة الخليج عديدة ومتنوعة، ولا سبيل لنا جميعا لإفشال مؤامراتها وتربصها، إلا بالمزيد من الخطوات العملية التي تستهدف استيعاب حقيقة التنوع الموجودة في الخليج العربي، وحمايتها قانونيا وسياسيا..
فالسنة والشيعة وغيرهم، هم حقائق ثقافية تاريخية واجتماعية، لا يمكن استئصالهم.. وإن ممارسة الإرهاب والقتل بحق بعضهم لأي سبب من الأسباب، لن ينهي هذه الحقائق، وإنما سيزيدها صلابة ومتانة وقوة..
ولا خيار أمام الجميع إلا الاعتراف بهذا الوجود المتعدد والمتنوع في الخليج العربي.. التعدد الذي إذا أحسنا إدارته والتعامل معه، سيزيدنا قوة وثراءا على مختلف الصعد والمستويات.. وإن وجود توترات وأزمات في طبيعة العلاقة بين هذه المكونات، لا يعني أن المشكلة هي في طبيعة التعدد والتنوع، وإنما في طبيعة الخيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أوجدت تصنيفات حادة بين أهل الوطن الواحد تحت عناوين ويافطات دينية أو مذهبية أو قومية أو عرقية..
إن السبب الجوهري الذي أدى إلى بروز توترات بين تعبيرات الوطن والمجتمع الواحد هو في الخيارات المستخدمة مع هذه الحقائق والعناوين العميقة في الجسم العربي..
فخيارات القتل والإرهاب والاستئصال، تفضي إلى توترات أفقية وعمودية بين مجموع المكونات.. أما خيارات الحوار والحرية والتسامح والمساواة وصيانة حقوق الإنسان واحترام خصوصيات جميع الأطراف، فإنها تفضي إلى نسج علاقات إيجابية بين جميع الأطراف والمكونات وبناء استقرار سياسي واجتماعي عميق، لا تهدمه عواصف السياسة ومتغيرات الراهن، بل تزيده صلابة ووقوفا بوجه كل المؤامرات التي تستهدف تفتيت العالم العربي وضرب وحداته الوطنية..
والاعتراف بحقيقة التعدد والتنوع في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتوفير مقتضيات ومتطلبات حمايتها، هو الخطوة الأولى في مشروع إنهاء التوترات الاجتماعية وصيانة الأوضاع الخليجية من الداخل، لكي نتمكن جميعا من إفشال مؤامرات ومخططات من يتربص بنا الشر في السر والعلن..
ومطلب التجانس الوطني بين جميع الأطراف، لا يتحقق بالعنف وعمليات الاستئصال، وإنما من خلال ثقافة تحترم التعدد وتدافع عن مقتضياته، وخيارات سياسية تقوم بعملية الاستيعاب والدمج.. انطلاقا من مفهوم المواطنة بعيدا عن النزعات الضيقة التي تحول دون بناء فضاء وطني مشترك وجامع..
التحريض الطائفي والوحدة الوطنية:
يبدو من المعطيات القائمة اليوم، أن ثمة عودة للخطابات التحريضية الطائفية التي توزع الأحكام المطلقة الكاسحة، وتبث الكراهية بين المواطنين، وتسعى نحو خلق حواجز عميقة بين مواطن خليجي وآخر باعتبارات مذهبية.. فأصبحنا صبح مساء نسمع الرديح الطائفي الذي يوغل الصدور، ويشحن النفوس بغضا وكراهية وعداوة ضد الآخر المذهبي.. والذي يثير الأسى أن هناك شخصيات أكثر حكمة ووعيا وإدراكا لمآلات هذه الخطابات والنزعات، إلا أنها ولأسباب نجهلها وقعت في الفخ الطائفي، وبدأت تمارس عملية التحريض الطائفي.. والمادة المستخدمة في عملية التحريض وبث الكراهية المذهبية، هي مزيج بين أحداث التاريخ وأحداث الراهن، ومعادلة صفرية يعمل أصحاب هذا الخطاب على تعميقه في المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي الخليجي..
فالأحكام والأوصاف الشنيعة، لا تتجه نحو فرد ارتكب خطأ أو خطيئة، وإنما نحو مجتمعات بكاملها، يوصف بصفات أقل ما يقال عنها أنها ضد ومخالفة للتوجيهات القرآنية التي تقول [ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى] (المائدة 8).. فغابت ثقافة التمحيص والتبين، وشاعت الأحكام الجاهزة والسهلة، التي تعادي مجتمعات، وتطلق أوصافا مقززة للنفس لم يطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه على أعدائهم وخصومهم من الكفار والمشركين والمنافقين..
وفي زمن التحريض الطائفي، الجميع يدعي أن واجبه الديني والأخلاقي والوطني، يقتضي فضح هذه الفئة أو تلك، دون أن يتبصر أحد بمآلات ما يقولون أو يطلقون أحكاما ظالمة تجاه بعضهم البعض.. فليس سرا أن المسلمين اختلفوا أو توزعوا في مذاهب فقهية عديدة منذ مئات السنين، وأن لكل مذهب منظومته الفقهية والعقدية، وإن لكل مذهب مبرراته النقلية والعقلية لما يذهب إليه أو ما يؤمن به.. وهذا الأمر حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها وتجاوزها.. وإن الخلاف بين المسلمين لم يبدأ اليوم، وإنما من مئات السنين.. لهذا فإن التحريض المذهبي والطائفي اليوم، ليس بريئا، وإنما هو جزء من أجندة سياسية، تستهدف زيادة الشرخ الطائفي في منطقة الخليج، وزيادة وتيرة السجالات المذهبية لتمرير خطط ومؤامرات تضر بالسنة والشيعة في الخليج معا.. وإن صمتنا تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي أو مشاركتنا فيها، هي جزء من الخطايا التي نرتكبها بحق أنفسنا وبحق المجتمعات التي نعيش فيها..
فالتحريض الطائفي لن ينهي السنة أو الشيعة من الخليج، وإنما سيوفر لهما أسباب الاحتراب والكراهية.. وإن أسباب الاحتراب والكراهية حينما تتعمق في نفوس الناس، فإننا جميعا نصبح أمام خطر حقيقي على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.. فالنار الطائفية حينما تشتعل فإنها لن تحرق فقط خصمك المذهبي وإنما ستحرق أيضا شاعلها..
لهذا فإننا نحذر الجميع من الصمت تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي التي تشهدها منطقة الخليج هذه الأيام.. وأرى إن أي جهد تحريضي بين السنة والشيعة في الخليج، فإنه ينذر بمخاطر جسيمة علينا جميعا.. لهذا فإن المصلحة الخليجية العامة، تقتضي الإسراع في إخماد نار الفتنة والتحريض الطائفي، وعدم السماح القانوني لخطابات الفتنة والتحريض من الاستمرار في خلق الفتنة أو التحريض الطائفي بين مجتمعات الخليج..
ولعل من أهل المغالطات التي تلوكها الألسن هذه الأيام، أن من أجل الوحدة الوطنية في بلدان الخليج العربي، نحن نمارس عملية فضح هذه الجهة المذهبية أو تلك.. لأن التحريض الطائفي بكل أشكاله ومستوياته، هو مناقض للوحدة الوطنية في الخليج.. فالوحدة الوطنية في الخليج، لا تبنى بمحاربة السنة أو الشيعة، بل تنهدم كل أركانها حينما نسمح للحروب الطائفية بالاستمرار.. فالوحدة الوطنية كمفهوم وكحقائق اجتماعية وسياسية وثقافية، هي على النقيض من خطابات التحريض الطائفي.. وإن من يبحث عن تعزيز قيم الوحدة الوطنية في مجتمعات الخليج، فعليه أن يكف عن ممارسة التحريض الطائفي.. لأن مآلات خطاب التحريض المذهبي لا ينسجم ومقتضيات الوحدة الوطنية..
وإن السماح لأي طرف في أي دولة خليجية للاستمرار في خطاب التحريض وبث الكراهية المذهبية بين المواطنين، يعني على المستوى الواقعي السماح له بهدم مرتكزات الوحدة الوطنية في المجتمعات الخليجية.. وإن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة.. ليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحد..
فالمسألة الطائفية في منطقة الخليج العربي، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتوتير الأجواء وخلق الخطابات التحريضية التي تزيد المشكلة اشتعالا.. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة السياسة والعامة التي تفكك المشكلة من موقع التعالي عن الاصطفافات الطائفية.. فالدعاة والعلماء والخطباء والمثقفين والأدباء، ينبغي أن يكونوا جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.. وإننا مهما كان الوضع على صعيد العلاقات المذهبية صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والاحترام المتبادل.. ولا بد من الإدراك أن الخطابات الأخلاقية والوعظية بوحدها، لا تعالج المشاكل الطائفية.. وثمة ضرورة فائقة لإسناد هذه الخطابات والتوجيهات الأخلاقية، بسن منظومة قانونية متكاملة، تجرم وتعاقب كل من يسيء إلى مقدسات الآخرين.. وندعو هنا كل دول الخليج وهي جميعا تحتضن في مجتمعاتها تعددية مذهبية، إلى الإسراع في سن القوانين التي تجرم أية ممارسة تمييزية بين المواطنين على أسس مذهبية، وتحث من موقع القانون والإجراءات الدستورية والإدارية إلى الدمج بين المواطنين، وجعل قاعدة العلاقة على كل المستويات هي قاعدة المواطنة بصرف النظر عن الانتماء المذهبي للمواطنين..
وفي تقديرنا أن التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هو ليس بفعل الخلافات العقدية أو الفقهية أو التاريخية، وإنما بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية.. لذلك نجد أن موضوعات التوتر الطائفي اليوم، كلها أو أغلبها ليس له صلة بالخلافات التاريخية (مع إدراكنا أن بعض الأطراف تعمل على تفسير هذه التوترات بفعل هذه الخلافات) وإنما صلته الحقيقية بدائرة المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وعليه كلما كانت مشروعات التنمية متوازنة، وفرص العمل متكافئة، تتضاءل فرص التوتر الطائفي..
وأود في هذا السياق أن أثير المفارقة التالية وهي:
أن الإسلام في تجربته الأولى كان طاقة توحيدية ووحدوية واستيعابية خلاقة، فاستوعب جميع الأفرقاء والأقوام والقبائل تحت مظلة الإسلام.. أما ما يقدمه بعض دعاة وخطباء اليوم باسم الإسلام، فهو مفارق في المظهر والمضمون لتلك الميزة الاستيعابية الهائلة للإسلام في تجربته الأولى.. فبعض دعاة اليوم يتحدثون عن فهم وسياق فكري وثقافي وتاريخي واحد، والرافض لهذا الفهم والسياق، هو خارج عن الملة ومتورط في عملية هدم الإسلام من الداخل.. كما أن بعض خطباء اليوم يقدمون الإسلام وكأنه طاقة للتصنيف والتجزئة وكل القيم المضادة للتوحيد والوحدة..
لهذا فإذا أردنا أن نساهم في ضبط النزعات الطائفية في مجتمعاتنا، علينا التعامل مع الدين الإسلامي بوصفه طاقة توحيدية – استيعابية للجميع، وإن قسر الناس على فهم بشري واحد، هو مناقض لسعة الإسلام وتيسيره، كما أنه مضاد لتجربته الأولى التي جمعت أمزجة وأقوام شتى، جميعهم وجدوا في الإسلام ضالتهم الذي أشبع روحهم وعقولهم.. فتعالوا أيها الأحبة يا دعاة الإسلام من كل المذاهب والمدارس الفقهية، لا تضيقوا الإسلام، ولا تحولوه إلى عنوان للتمزق والاحتراب والكراهية بين الناس.. فالإسلام هو دين الرحمة، فلا نحوله بعصبياتنا الطائفية إلى دين القتل والاقتتال.. إنها مهمة وجودية ومعرفية قادرة على إخراج المسلمين اليوم من مآزق ومشكلات عديدة..
وحراسة قيم الدين وثوابته، لا تتأتى بطرد المختلفين معنا في الفهم والإدراك لقيم الدين، ولا باستعداء السلطات عليهم، بل بمساواتهم مع الذات في الفهم والالتزام والحقوق..
مخاطر الفتنة الطائفية:
تعيش منطقة الخليج العربي هذه الأيام، جملة من الأحداث والتطورات، فمن جهة الحدث اليمني بكل تداعياته ومآلاته الأمنية والسياسية والإستراتيجية، ومن جهة أخرى الحدث البحريني الذي تعددت عناوينه، وتعددت المواقف حوله سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، وتداعيات وصدى هذه الأحداث والتطورات على الداخل الخليجي سواء في الوقت الراهن أو المستقبل المنظور..
والذي يزيد هذه الأحداث والتطورات تأثيرا، هو الموقع الإستراتيجي لهذه المنطقة، وثرواتها النفطية، التي تعتمد عليها الأسواق العالمية..
والجانب الذي أود التطرق إليه في هذا السياق هو هذه الأحداث وانعكاساتها على الداخل الخليجي على صعيد العلاقة بين المكونات المذهبية الموجودة في المجتمعات الخليجية..
أي أن المنطقة بأسرها دخلت في أتون تأجيج طائفي مقيت، لا شك أن استمراره وتغذيته سيساهم في خلخلة النسيج الاجتماعي والوطني في دول الخليج العربي.. وهذا بطبيعة الحال مما نرفضه ونحذر الجميع منه ومن تداعياته الخطيرة على استقرار شعوب ومجتمعات الخليج العربي..
فنحن نقر أن هناك تعددية مذهبية في الخليج العربي، ونعتبر هذه التعددية حقيقة مجتمعية، ينبغي أن تدار بعقلية حضارية بعيدا عن نزعة الاصطفافات الطائفية المقيتة، وصناعة عداوة وكراهية بين هذه الوجودات لأي سبب كان.. فنحن بمقدار ما نعترف بهذه الحقيقة، نرى أن وجود هذه الحقيقة، ينبغي أن لا يقود أي طرف من الأطراف إلى دق إسفين بين هذه المكونات أو تأجيج الخلافات بين حقائقها المختلفة.. فالتعددية المذهبية حقيقة قائمة في أغلب مجتمعات الخليج العربي.. ولكن هذه الحقيقة وضرورة احترام مقتضياتها ومتطلباتها، لا تشرع لأي طرف إلى المساهمة القولية أو الفعلية بتشظية مجتمعات الخليج العربي بعناوين مذهبية وطائفية..
وأرى من الضروري لاعتبارات وطنية أخلاقية في ظل هذه الظروف الدقيقة والحساسة، أن أخصص حديثي عن الشيعة في منطقة الخليج العربي من خلال النقاط التالية:
1- الشيعة يتواجدون بنسب متفاوتة من ناحية عددهم وكثافتهم السكانية في دول الخليج العربي كلها (2).. وبعيدا عن لغة الأرقام والنسب والتي قد تثير التباسات وحساسيات نحن في غنى عنها، أود القول أن هؤلاء بكل تلاوينهم الفكرية والاجتماعية، هم جزء من أوطانهم.. ومن الخطأ الذي يصل إلى حد الخطيئة حينما يتعامل الشيعة الخليجيون مع شؤونهم وقضاياهم المختلفة بعيدا عن شركاءهم في الوطن ومقتضيات هذه الشراكة..
فنحن نرى أن المصلحة الوطنية في كل دول الخليج العربي تقتضي أن يتم التعامل مع الشيعة في هذه المنطقة بوصفهم جزءا أصيلا من نسيجها الاجتماعي والوطني، ولا يجوز لأي اعتبار أن يتم التعامل معهم وكأنهم جاليات وافدة.. فهم من صميم مجتمعاتهم وأوطانهم، ووجود مطالبات لديهم، لا يخرجهم من هذه الدائرة..
كما إنني في هذا السياق أوجه دعوتي إلى علماء ورجالات الشيعة في الخليج العربي، إلى ضرورة الالتزام بمقتضيات الشراكة.. لأن هذه الشراكة المتساوية هي التي تحافظ على استقرار المنطقة، وتخرجها من أية تصدعات طائفية ومذهبية..
فأوطاننا الخليجية تسعنا جميعا، ووجود آراء أو تباينات تاريخية أو معاصرة، لا يبرر لأحد أن يساهم في تصديع النسيج الاجتماعي لمجتمعات الخليج العربي.. فالشيعة في الخليج هم جزء من أوطانهم، وينبغي عليهم أن لا يتوقفوا عن تعزيز هذه الحقيقة، وعلى شركاءهم في الوطن أن يتعاملوا معهم وفق مقتضيات هذه الشراكة وبعيدا عن نزعات الإقصاء والطرد..
ومساهمات الشيعة على مختلف الصعد، ليست خافية على أحد، وينبغي أن لا نسمح لأي طرف كان أن يعبث بهذه الحقائق سواء لاعتبارات سياسية أو طائفية..
ولكون الشيعة جزء أصيل من أوطانهم، من الضروري أن يكسروا حاجز العزلة والانكفاء، ويعملوا على تجسير العلاقة بين شركاءهم في الوطن.. فالأوطان لا تبنى بالحواجز النفسية والاجتماعية التي تفصل بين مكونات المجتمع الواحد، بل بالانفتاح والتواصل والبعد عن كل الأشياء التي تسيء إلى العلاقة الإيجابية التي ينبغي أن تحكم أهل المذاهب الإسلامية مع بعضهم البعض.. ووجود اختلافات سياسات لدى الشيعة مع حكوماتهم، ينبغي أن لا يقودهم إلى الصدام العنيف معها، بل بالحوار والتواصل وتعزيز مقتضيات الشراكة الوطنية.. وهذا ليس يوتوبيا أو رومانسية، وإنما هو جزء من حركة المجتمعات الإنسانية.. فالصدامات العنيفة من أي طرف كان، لا يقود إلى السلم والاستقرار، بل إلى المزيد من تفاقم الأزمات والمشاكل.. ومهما كانت الصعوبات والمشاكل، فبوابة المعالجة والخروج من المآزق هو المطالبة بالإصلاح الوطني بعيدا عن عناوين الاصطفاف الطائفي.. فمشاكل الشيعة هي جزء من مشاكل أوطانهم، وعليهم أن يتعاملوا معها بوصفها مشكلات وطنية ينبغي أن تعالج في سياق وطني جامع..
2- إن تحصين الواقع السياسي ومجتمعات الخليج العربي من مخاطر الانزلاق إلى الفتن والحروب الطائفية، أضحى ضرورة ملحة لكل الأطراف.. فلا يجوز أن نصمت جميعا والأبواق الإعلامية التي تغذي الأحقاد الطائفية تلعلع في كل الأوقات، كما لا يجوز أن تكون علاقة الشيعة والسنة في الخليج صدى أو خاضعة لتأثيرات مشاكل طائفية في بلدان عربية وإسلامية أخرى..
فالواقع الخليجي ينبغي أن يكون محصنا تجاه مخاطر الأزمات والفتن الطائفية.. فنحن نرفض أن يظلم السني في المجتمعات الإسلامية ذات الأكثرية الشيعية، كما نرفض أن يظلم الشيعي في المجتمعات الإسلامية ذات الأكثرية السنية.. وينبغي لنا جميعا أن لا نكيل بمكيالين في كل الملفات والقضايا المتعلقة والعلاقة بين السنة والشيعة في الخليج العربي.. فنحن جميعا ينبغي أن نرفض أي طرف سواء كان داخلي أو خارجي يعبث بالورقة الطائفية، ويعمل على تأجيج النفوس والأحقاد بين أهل المكونات المذهبية في الخليج العربي..
فالعبث بهذه المسألة ينبغي أن يكون خطا أحمرا للجميع سواء كان من الشيعة أو السنة.. وآن الأوان أن نقف جميعا موحدين ضد أي طرف يوتر العلاقة بين السنة أو الشيعة في الخليج العربي.. أو ينفخ في بوق التوترات الطائفية.. لأن الدفع بالتوترات الطائفية إلى الأمام، مهما كانت مبرراته، هو لا ينسجم ومقتضيات الأمن والاستقرار السياسي في الخليج.. لأنه حينما تشحن النفوس بالأحقاد والضغائن، ويحدث الشرخ الطائفي العميق بين أبناء الوطن الواحد، فإن النتيجة المباشرة لذلك هي المزيد من التوترات والأزمات المفتوحة على احتمالات خطيرة وكارثية..
فالأوطان الخليجية ينبغي أن تسع جميع المواطنين بصرف النظر عن مذاهبهم وقبائلهم.. وإن أية محاولة لتضييق الوطن أو جعله بمقاس فئة أو شريحة دون الفئات والشرائح الأخرى، فإن هذه المحاولة تدشن لمرحلة من التوتر والتشظي الاجتماعي والوطني.. ولهذا فإننا بحاجة باستمرار أن نعزز مفهوم الوطن الذي يستوعب جميع أبناءه، ويحتضن جميع مكوناته ويحترم كل أطيافه وتعبيراته المجتمعية..
3- إن الحكومات الخليجية معنية قبل شعوبها بمشروع دمج مواطنيها في سياق وطني جامع..
فمجتمعات الخليج كغيرها من المجتمعات الإنسانية التي تحتضن تعدديات وتنوعات أفقية وعمودية وإن هذه التعدديات حقائق مجتمعية ضاربة بجذورها في تاريخ هذه المنطقة، وإن الحكومات الخليجية معنية بصياغة مشروع وطني متكامل يستوعب جميع المواطنين، ويعمل على دمج كل المكونات في إطار وطني، لا يلغي الخصوصيات، بل يحترمها ويجعلها في سياق قادر على التفاعل والمشاركة الإيجابية مع بقية فئات وأطياف الوطن والمجتمعات الخليجية..
لهذا فإننا ندعو وبمحبة تامة كل الحكماء والعقلاء في منطقة الخليج للوقوف الفعال بوجه الاصطفافات الطائفية المقيتة التي بدأت بالبروز في منطقة الخليج العربي..
فالسب والشتيمة لا يقابل بمثلهما، وإنما بالمزيد من الإصرار على تنقية مجتمعاتنا الخليجية من كل الشوائب والبؤر التي تساهم في تغذية الشحن الطائفي بين السنة والشيعة في الخليج.. ولا بد أن ندرك جميعا أنه ليس من الشجاعة في شيء، حينما نطلق العنان لألسنتنا وأقلامنا ببث الفتن والأحقاد بين المواطنين الخليجيين لاعتبارات مذهبية..
فالشجاعة الحقيقية تتجسد في محاصرة ومقاومة الشيطان الطائفي الذي بدأ يبرز تحت أسماء ومبررات عديدة.. فمهما كانت الصعوبات والأزمات ينبغي أن نستمر بخيار الحوار والتواصل ونبذ نزعات الإقصاء والتهميش، لأننا جميعا خاسرون حينما تستحكم الفتنة الطائفية في مجتمعاتنا وأوطاننا..
وجماع القول: إننا جميعا معنيون من مختلف مواقعنا للعمل على وأد الفتنة الطائفية وذلك بالمساهمة الفعالة في مشروع الاندماج الوطني والشراكة المجتمعية المفتوحة على كل المبادرات والخطوات التي تستهدف إخماد نار الفتنة الطائفية..
المواطنة طريق الوحدة الوطنية:
في ظل التطورات الكبرى و المتسارعة التي تمر بها المنطقة، تتأكد أهمية تمتين الجبهة الداخلية ورص الصفوف وتقوية أسباب الوحدة الوطنية. إذ أن من الخيارات الحيوية التي نستطيع من خلالها مجابهة التحديات والاستجابة الواعية لها، هي خيار تأكيد وتعميق الوحدة الوطنية، وتجاوز كل ما يسيء إلى مشروع الوحدة الوطنية.
وإن الخطوة الأولى الضرورية في هذا السياق، هي أن نتجاوز الخطابات الإطلاقية أو الكلانية، التي ترى الوحدة بمنظور شوفيني، ينزع إلى إلغاء التنوعات وإقصاء كل حالات التنوع والاختلاف، ويعتبرهما جميعا من عوائق الوحدة ومضادات التوافق الداخلي. لهذا فإن مفهوم الوحدة بحاجة أن ينفتح ويتواصل مع كل التجارب الوحدوية والتوافقية، التي استطاعت أن تؤسس لذات وطنية قوية، قوامها المزيد من الاحترام الوجودي والمؤسسي لكل التعبيرات الثقافية والمجتمعية ومكونات المجتمع.
فالوحدات الوطنية في الكثير من الدول والتجارب لم تبن على أنقاض حقائق المجتمع وتعبيراته القائمة. وإنما بنيت على خلق معادلة حضارية في التعامل مع هذه الحقائق. فالوحدة بنيت في هذه التجارب على قاعدة احترام حقائق المجتمع، وإفساح المجال لها، لكي تعبر عن ذاتها في سياق إثراء وتعزيز مفهوم الوحدة الوطنية. ومن يبحث عن الوحدة بعيدا عن هذا السياق، فإنه لن يجني إلا المزيد من التشظي والانقسام.
وهذا يتطلب بناء المواطنة وصياغة العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد على أسس المساواة والعدالة. وذلك لأن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية.
لذلك فإن الوحدة الوطنية الصلبة، هي التي تبني مواطنة قوية تتواصل مع كل التعبيرات وتنفتح على كل المكونات.
وهذا يتطلب الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا، لا للانحباس المتبادل، وإنما لانطلاق فعل تواصلي - حواري، ينمي المشتركات، ويسعى نحو مراكمة مستوى الفهم والاعتراف.
فالمطلوب من أجل بناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، هو أن ننفتح على مساحات الاختلاف ونتواصل مع المختلفين، من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من آليات العجز، وتجعلنا نقتحم آفاق جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفهوم الوحدة والتوافق الداخلي.
فالوحدة الحقيقية لا يمكن أن تعيش إلا في ظل المواطنة الكاملة. ومن الأهمية أن ندرك أن وحدة مصادر العقيدة والأحكام، لم يلغ الاختلافات بين المسلمين، وذلك لاختلافهم في مناهج النظر والاستنباط. وفي هذا التعدد والتنوع في مناهج النظر إثراء للمسلمين في مختلف الجوانب، ولا ضرر نوعي لهذا التنوع على المستوى النظري أو العملي. ولكن الضير كل الضير، حينما يفضي الاختلاف خلافا وقطيعة وخروجا عن كل مقتضيات الأخوة الدينية والوطنية، وسيادة هوس التعصب الأعمى.
والإنسان الذي يعيش الوحدة، هو الذي يحترم خصوصية صاحبه كما يريد من صاحبه أن يحترم خصوصيته. عندما تكون وحدويا، فإن عليك أن تفتح المجال لتحمي حرية صاحبك بأن يقول ما يشاء، تحميه من كل عواطفك وانفعالاتك، تحميه من كل ذلك وتقاتل في سبيل حريته.
وإننا في هذه اللحظة التاريخية، نهيب بجميع مكونات المجتمع الوطني، إلى ضرورة الانفتاح والتواصل مع بعضهم، وذلك من أجل تمتين الجبهة الداخلية وتعميق خيار التوافق وتجذير أسباب الوئام والالتحام الوطني. فلتتحول كل الجهود والطاقات صوب فريضة الوحدة، وذلك من أجل حمايتها وتطويرها.
والدول الوطنية المعاصرة في كل أصقاع الدنيا، تنطوي وتحتضن كل التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة، وإن الإدارة السياسية وطبيعة خياراتها، هي التي ستحدد مستوى وعمق الوحدة الوطنية في هذه المجتمعات. فإذا كانت إدارة استعلاء وتجاوز لكل حقائق ومقتضيات ما تنطوي عليه المجتمعات من تنوع وتعددية، فإن الوحدة الوطنية ستكون هشة وشكلية. إما إذا كانت الإدارة السياسية استيعابية ومرنة وتحترم خصوصيات مجتمعها، وتبني خياراتها السياسية على ضوء حقائق وطنها وشعبها، فإن الوحدة الوطنية ستكون صلبة وعميقة.
فالوحدة الوطنية في كل التجارب والدول، ليست معطى جاهز، بل هي مرتبطة بشكل أساسي بطبيعة النظام السياسي وخياراته الداخلية.. وعليه فإن المطلوب في كل دولنا ومجتمعاتنا، بناء الوحدة الوطنية على قاعدة المواطنة الجامعة والمتساوية، بعيدا عن كل عناوين الانتماء التقليدية كالمذهبية والقبلية والعشائرية.. فكل مواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قبيلته أو عشيرته، له ذات الحقوق وعليه ذات الواجبات. فهي دولة المواطنين جميعا، بدون تحيز أو تهميش لأحد. ولا شك أن هذه مرحلة نصل إليها، وليست حقيقة ناجزة، ولكن الخطوة الأولى في هذا المشروع هي إنجاز مفهوم المواطنة. فالاجتماع الوطني يحتضن التعدد والاختلاف، ولكن دولة هذه الاجتماع موحدة وواحدة، وتضبط حراك المجتمع بالقانون.. فالقبول بالتعددية لا يعني التشريع للفوضى، والاعتراف بالتنوع لا يعني تغييب حقائق وضرورات الوحدة. فنحن مع الوحدة بكل مستوياتها، التي تبنى على قاعدة المواطنة واحترام الخصوصيات وصيانة حقوق الإنسان.
وعليه فإن الوحدة الوطنية كعملية مفتوحة على كل المبادرات والعطاءات، لا تبنى على حساب الحريات وتطوير شبكات ومؤسسات المجتمع المدني. وإنما تبنى من خلال هذه الحريات ومؤسسات المجتمع المدني. فهي الأطر الحاضنة لكل مفاهيم وحقائق الوحدة الوطنية. ومن يبحث عن بناء وحدة وطنية، بعيدا عن قيم الحرية والشراكة والمسؤولية، فإنه لن يصل إلا إلى شكل الوحدة دون مضمونها، وإلى اسمها دون حقائقها. فحقائق الوحدة وتجلياتها العميقة، لا تبرز إلا بقيم التسامح والتعددية وصيانة حقوق الإنسان. فهذه هي بوابة الوحدة الوطنية الصلبة والسليمة في كل التجارب والممارسات..
خاتمة القول:
من المؤكد أن استشراء النزعة الطائفية في منطقة الخليج العربي، ينذر بتداعيات خطيرة على النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي، وإن المطلوب هو العمل بكل الوسائل والطاقات من أجل مواجهة هذا الانحدار نحو الاصطفافات المذهبية والاقتتال الطائفي.. فتعالوا جميعا من مختلف مواقعنا نعمل على وأد الفتن الطائفية المتنقلة في المنطقة، ورفض كل أشكال التعبئة والتحريض الطائفي سواء صدرت من طرف شيعي أو طرف سني.. لأن الانزلاق نحو الأحقاد والضغائن الطائفية، يحرق الجميع ويدفعهم نحو أتون سيئ وخطير على كل الأصعدة والمستويات.. وفي إطار مواجهة الخطر الطائفي الذي بدأت بعض أمواجه وتأثيراته، تصل إلى المنطقة ندعو الجميع إلى الآتي:
1- عديدة هي الموضوعات والقضايا التي نتفق حولها وتتقارب وجهات نظر الجميع حول أهمية تفعيلها وتحريك فئات المجتمع المختلفة نحوها..
فالإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، أضحى ضرورة وطنية وقومية في منطقتنا وإن وجود تباينات مذهبية تاريخية أو معاصرة، ينبغي أن لا يحول دون العمل على تشكيل كتلة تاريخية – خليجية، تعمل من أجل الإصلاح وتطالب به.. فالاختلافات المذهبية من الضروري أن لا تتحول إلى حاجز يحول دون التعاون والتعاضد في الموضوعات والقضايا المشتركة..
وإن إصلاح أحوال بلداننا ومجتمعاتنا، تتطلب جهود الجميع وتكاتفهم، فلا ننزلق وراء معارك جزئية لا تنفع حاضرنا ومستقبلنا، بل تزيد من ضعفنا وتشتتنا، وتضيع علينا القدرة على بناء واقع أفضل لأوطاننا وشعوبنا..
2- الموازنة بين نقد الذات ونقد الآخر، حيث إن العديد من الناس لا يحسن إلا نقد الآخرين وتحميلهم مسؤولية الفشل والإخفاق في العديد من الأمور والقضايا.. بينما حقيقة الأمر إننا جميعا وبدون استثناء نتحمل مسؤولية واقعنا وراهننا. وإذا أردنا التحرر من هذا الواقع، فعلينا أن نمارس نقداً لممارساتنا ومواقفنا وأفكارنا، كما نمارس النقد لأفكار الآخرين وممارساتهم ومواقفهم، وحيوية الحوار والتواصل دائما تنبع من عملية البحث الحقيقي الذي تبذله جميع الأطراف لمعرفة الحقيقة والوصول إلى صيغ عملية وممكنة وحضارية لإدارة الاختلاف والتنوع المتوفر في الفضاء الاجتماعي. والخطر كل الخطر حينما نحمل الآخر كل شيء ونزكي ذواتنا ونخرجها من دائرة المسؤولية.. بينما المطلوب دائماً وأبدا محاسبة ذواتنا ومحاكمة قناعاتنا ومجاهدة أهوائنا، وذلك من أجل أن نتحمل مسؤولياتنا على أكمل وجه، لذلك يقول تبارك وتعالى {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم 32)..
والأوضاع الوطنية اليوم يتطلب وبإلحاح شديد، من جميع الأطراف والأطياف أن يفحصوا قناعاتهم ويراجعوا أفكارهم ويمارسوا بصدق عملية نقد ذاتي، وذلك من أجل أن نتخلص جميعا من زوائدنا ومن رواسب التاريخ وأعبائه، وننطلق في بناء غدنا ومستقبلنا بعيداً عن الإحن والأحقاد والمواقف الجاهزة والمعلبة. ووجودنا الحقيقي سواء على المستوى الخاص أو العام، مرهون على قدرتنا على مساءلة واقعنا ومحاسبة أفكارها وفحص قناعاتنا باستمرار. ونحن هنا لا ندعو إلى جلد الذات وتحميلها مسؤولية كل شيء، وإنما ندعو إلى الخروج من حالة النرجسية في النظر إلى ذواتنا وقناعاتنا العامة وبالخصوص فيما يرتبط بطبيعة العلاقة والموقف من الآخر..
وفي سياق الموازنة في النقد بين الذات والآخر، من الضروري للجميع تجاوز منطق (لستم على شيء) إذ يقول تبارك وتعالى (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) (البقرة 113)..
فمهما كان الاختلاف والتباين بين الجماعات المذهبية، لا يصح من أي طرف من الأطراف نكران الآخر ونبذ فهمه ومعرفته ووجوده.. فمن حق الإنسان أن يقتنع بفكرة وعقدية ويدافع عنهما بكل الوسائل المشروعة، ولكن ليس من حق أحد ممارسة منطق (لستم على شيء) لأن هذا المنطق يناقض حقائق الأمور، ويؤسس إلى نزعة استئصاليه مقيتة.. إذ باسم الاختلاف يتم التعدي على الحقوق والكرامات..
فالاختلافات بين أهل الأديان السماوية، التي وثقها القرآن الحكيم ووضحها، لم تلغ المشتركات والجوامع العامة..
فـ(كل هذا الاختلاف وهو متعلق بقضايا هامة في الدين، بل ومن أشد قضاياه، لم يمنع القرآن من التمسك بحقهم أولا في البقاء على دينهم، احتراما للأصل المشترك الكبير معهم وهو الإيمان بمجمل الأصول الدينية السماوية من الاعتقاد بأن الله هو خالق الكون والإنسان، وأنه يبعث الأنبياء وينزل الكتب ويرسل الملائكة ويثيب بالجنة ويعاقب بالنار، ولم يقبل من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو غيرهم من أهل الأديان أن يقول الواحد منهم للآخر "لستم على شيء"، فإنكاره للانحراف في شيء لم يجعله يتنكر لكل شيء، ثم سمح لهم بالعبادة على طريقتهم وقال إنه يدفع الناس بالناس لئلا تهدم هذه الصلوات والمساجد والبيع، (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (الحج، 40)، ثم أجاز الزواج منهم، والأكل من طعامهم وإطعامهم فقال (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) (المائدة، 5)، إلا أن المسلمين لم يتأدبوا فيما بينهم بأدب القرآن فساقطوا حرماتهم بينهم، بخلاف هو أقل من خلاف أهل الكتاب معهم، فكان أهل الكتاب في أحيان كثيرة أشد أمنا بين المسلمين من أحد أطراف المسلمين أنفسهم..
قد افترى على الله كذبا كل من قال أن من الدين أن ينتهك حرمة من خالفه، سواء في حضوره أو غيابه، فكل أهل الإيمان قد أمروا بالدخول في السلم كافة فناداهم ربهم (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) (البقرة، 208)، وملعون من أخرج أمة محمد (ص) من السلم إلى الحرب لأجل طمع أو هوى أو عصبية، وجاهل من أطاع عبدا كائنا من كان في خلاف هذا، وإن دماء الناس وأعراضهم وأموالهم أمانة في عنق كل أحد، وعليه أن يحفظ هذه الأمانة، خصوصا إذا كان من الرعاة كالحكام وعلماء الدين)(3)..
والذي يثير الأسى حقا في واقعنا الإسلامي المعاصر، هو استمرار إذكاء روح العصبية المقيتة وبث السموم الطائفية وسفك الدم وقتل النفس، وحين نسأل عن دائرة المسلمين، نقر وكأن شيئا لم يكن بأن كل من شهد الشهادتين فهو مسلم وحرام كله..
يقول الباري عز وجل (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) (النساء 123)..
3- إن الاختلاف في القناعات والآراء والمواقف بين أهل المذاهب الإسلامية اليوم، حقيقة قائمة، لا يمكن نكرانها.. والاختلاف بذاته لا يبدو أنه مشكلة في الوجود الإنساني، لأنه من لوازم الاجتهاد وتعدد مناهج النظر في المرجعيات والأدلة الكبرى، ولكن المشكلة الحقيقية تبدأ، حينما يعمل أحد أطراف الاختلاف أو كلاهما معا، لحسم قضايا الاختلاف، واعتبار كل واحد منهم أن رأيه هو رأي الإسلام، ورأي الطرف خارج دائرة الإسلام.. وهذا بطبيعة الحال يقود إلى التعصب الأعمى الذي يفضي إلى ممارسة الظلم والافتئات على الطرف الآخر.. مما يفاقم من الإحن والمشاكل بين المكونات والتعبيرات المختلفة..
فالاختلاف حالة طبيعية وجبلة إنسانية، ولكنه لا يسوغ لأحد ممارسة الظلم بحق الآخرين أو امتهان كراماتهم وحقوقهم..
لهذا نجد أن آيات الذكر الحكيم تؤكد على حقيقة الاختلاف بين الناس، ولكنها في ذات الوقت توضح أن بعض هذه الاختلافات، لا يحسمها إلا الله سبحانه وتعالى.. وإن أي جهد إنساني لحسمها، سيكون على حساب حقوق وكرامات الآخرين.. إذ يقول تبارك وتعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) (الشورى 10) ويقول عز من قائل (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) (الحج 69)..
فنحن جميعا سواء أمام القانون والحق والحقيقة، فلا يجوز مهما تباينت أقوالنا ومواقفنا أن نفتئت على حقوق الآخرين، أو نهين مقدساتهم أو نمتهن كراماتهم..
فالمطلوب دائما الإقرار بحق الاختلاف مع ضرورة المساواة في الفرص والواجبات والحقوق وسيادة قيم الاحترام المتبادل على كل المستويات..
ومن يبحث عن رضا الله سبحانه وتعالى بإذلال المختلفين معه، والتضييق عليهم في شؤونهم الدينية والدنيوية واتهامهم بالضلال والكفر، فإنه يخالف توجيهات الباري عز وجل إذ يقول تبارك وتعالى (ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)..(المائدة 8)
فما أحوجنا اليوم في زمن الفتن الطائفية، إلى الرشد في القول والفعل، لكي نصون حرمات وكرامات المسلمين أفرادا وجماعات..
اضف تعليق