وهذه الدراسة جاءت لكي تأسس موقفاً وخطاباً حوارياً مع الغرب. وهذا لا يعني ابتداءاً تبني إطروحات الغرب ومفاهيمه وأنماط معيشته، وإنما يعني أن شرط المواجهة الناجحة هو المعرفة، وطريق المعرفة الأفضل الحوار العميق لنفهم الآخر عن قرب ويفهما هو أيضاً كذلك فلا يمكن أن نحقق...

في إطار التدافع الحضاري الذي تعيشه البشرية جمعاء، لا زالت الأسئلة التاريخية والمصيرية تلقي بظلها، وتبحث عن إجابات وافية ودقيقة في الفكر العربي والاسلامي. وتندرج هذه الأسئلة المصيرية في حقول معرفية عديدة، لعل أبرزها علاقة الحاضر بالمستقبل، وكيف نتعاطى مع قوى الحاضر وصولاً إلى المشاركة في صنع نسيج المستقبل..

وفي هذا الإطار تبرز أهمية بلورة الرؤية ومعرفة الآخر الحضاري، وإضاءة النقاط المظلمة والمجهولة في مسيرة التطور الغربي التاريخي والحضاري.

ولكي لا نقع في حلقة مفرغة في عملية التدافع، أو بالأحرى لكي لا نقع أسرى اليأس والجهل بالآخر، ونتجاهل قدراته المتعاظمة في الكثير من المجالات والحقول..

فالتوازن النفسي والمعرفي من الشروط الضرورية لمعرفة الآخر حق المعرفة (هياكله – مؤسساته – مراكز القوى – استراتيجياته – طرائق التفكير والتخطيط.. وما أشبه).

وينبغي التأكيد في هذا المجال، على أننا قدمنا الكثير من الضحايا ووقعنا في الكثير من الاخفاقات والاحباطات، بسبب انطواءنا على أنفسنا، وعدم الانفتاح على غيرنا وصولاً إلى بلورة صيغة عملية للتواصل الحضاري بيننا وبين الحضارة الحديثة..

ويعزى ذلك إلى غياب المنهج الواضح والدقيق في عملية التواصل، مما جعل الرؤية ضبابية أو خاضعة لمزاج فرد أو هوى مجموعة أو مصلحة تكتل. ضاعت بين هذه وتلك الرؤية الاستراتيجية الواضحة في عملية التواصل الحضاري مع الآخر.

إن التحدي الذي تعيشه الأمة اليوم، لا يستدعي الإنكفاء وإنما الانفتاح والتجديد، لأننا لا يمكننا أن نواجه التحدي بالهروب إلى الوراء، ولم يسجل لنا التاريخ أن أمة استطاعت مقاومة التحديات التي تواجهها بالإنكفاء على ذاتها. كل التجارب التاريخية تؤكد وتثبت العكس. بمعنى أن الأمة التي تريد تجاوز أزماتها، والانتصار على ظالميها، أن السبيل إلى ذلك كله هو الانفتاح المعتمد على الأصالة والتجديد المتكئ على الثوابت والقيم الراسخة..

وهذه الدراسة جاءت لكي تأسس موقفاً وخطاباً حوارياً مع الغرب. وهذا لا يعني ابتداءاً تبني إطروحات الغرب ومفاهيمه وأنماط معيشته، وإنما يعني أن شرط المواجهة الناجحة هو المعرفة، وطريق المعرفة الأفضل الحوار العميق لنفهم الآخر عن قرب ويفهما هو أيضاً كذلك..

فلا يمكن أن نحقق المعاصرة والحداثة بإلغاء الأصل، كما إننا لا يمكن أن تلغي العصر بدعوى الحفاظ على الأصالة.

إن أصالتنا الاسلامية تدعونا إلى استغلال الطبيعة أحسن استغلال لإشباع حاجاتنا المعيشية والاجتماعية، وتحترم في سبيل ذلك كل وسيلة اكتشفها الانسان أو اخترعها، وكل قوة سخرها، وتقنيات استعان بها ونظم اتخذها وتجارب تعلم منها بشرط أن لا تتعارض والمثل الروحية والخلقية..

وإن من الحقائق الأساسية التي لا بد من إدراكها وعدم الغفلة عنها، أن الآخرين دخلوا عالم المعاصرة ليس حينما تخلوا عن ذواتهم ومقدساتهم، وإنما بالنقيض من ذلك تماماً. دخلوا إلى عالم العصر والمعاصرة، حينما عضوا بالنواخذ وتمسكوا بجدية بذواتهم ومقدساتهم.

ويكفي أن نضرب مثلاً على ذلك بالولايات المتحدة الأمريكية، مع العلم أن من جميع أنحاء العالم هاجروا إليها واستوطنوا فيها إلا أنها وبحكم عوامل عديدة انتصرت للذات الأنكلوسكسونية. وعن طريق هذه الذات والاعتزاز بها دخلوا عالم المعاصرة، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة العالم والقوة العظمى.

فشرط المعاصرة هو التأصيل، فلكي تكون عصرياً ناجحاً وحقيقياً كن أولاً أصيلاً ومحافظاً على مقدساته وذاته الحضارية، وهذا ما تعلمنا إياه جميع الحضارات والأمم التي كان لها شأن على وجه هذه الأرض.

كما أن عملية الانفتاح والتفاعل مع الآخر، لا تعني إلغاء الخصائص الذاتية والحضارية، وإنما الانفتاح والتفاعل سبيل إلى تكريسها وتطوير آثارها ومداليلها. لذلك ينبغي أن يسبق عملية الانفتاح والتفاعل تكريس للذات الحضارية في الواقع المجتمعي وفي كل الحقول والجوانب.

بالتالي فإن عملية الانفتاح والتفاعل ليست عملية فوقية، لا تصيب إلا سطح المجتمع وبناه الفوقية، وإنما هي عملية صميمية مرتبطة بالدرجة الأولى بالبنى الأساسية والتحتية للمجتمع. فلا يمكن أن نقوم بعملية التفاعل مع الآخر ونحن نعيش واقعاً اقتصادياً واجتماعياً ضعيفاً ومهترءاً.

إن قوة المجتمع واقتصاده وبناه الأساسية هي المقدمات الضرورية والأساسية لعملية التفاعل. لأنها لا تعني الاستجداء من الغير الخبرة والكفاءة والتقنية، إنما تعني بكلمة واحدة تأسيس أرضية مناسبة لمشاركة جميع الطاقات والكفاءات الانسانية بعيداً عن انتماءاتهم السياسية والعرقية في بناء مستقبل أفضل للبشرية.. نتجاوز فيه الحدود المصطنعة الضيقة الذي قدمت البشرية من ورائها الكثير من الضحايا والانكسارات والخسائر. إننا نبشر بعصر تسوده قيم العمل والعطاء والعدالة والسلام والأمن، عصر مسكون بهاجس تقدم الانسان المادي والمعنوي معاً..

ويشير ابن رشد في كتابه (فصل المقال ما بين الحكمة والشريعة من اتصال) إلى نظرية التفاعل بقوله: "إنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء أكان ذلك الغير مشاركاً لنا في الملة أو غير مشارك، فإن الآلة التي تصح بها التذكية، ليس يعتبر في صحة التذكية بها، كونها آلة المشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة، وأعني بغير المشارك كل من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام وكان كل ما يحتاج إليه من النظر قد فحص عند القدماء أتم الفحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه"..

وعلى هذا فإن عملية التفاعل مع الآخر الحضاري، لا تعني الذوبان أو الانسلاخ من المدى الثقافي الأصيل، والانتقال أو القفز إلى المدى الثقافي المضاد، المهيمن، المسيطر، الغالب. وإنما التفاعل يعني: إن ما من جسم حضاري إلا وله ركائزه ومقوماته ونقاط قوته، يحاول تعميمها ونشرها في ربوع العالم، لذلك فالتفاعل لا يعني المماثلة وتقليده في ركائزه وأنماط معيشته، وإنما التفاعل هو عبارة عن حركة داخلية – ديناميكية - تجري في عروق المجتمع والأمة متحفزة للبناء والتطوير، وتمتلك الاستعداد النفسي الكافي لتكوين حالة تثاقف أو تفاعل مع الجانب الحضاري الآخر.

إن هذا المخزون المعنوي الهائل، والإندفاع الذاتي المتعاظم هو الأرضية الطبيعية لمقولة أو موقف التفاعل. بالطبع لا نكتفي بهذا المخزون وإنما نحاول ترجمته، وتحويله إلى أطر عملية وخطوات تنفيذية وبرنامج ومشروع للتواصل الحسن الإيجابي مع ا لآخر الحضاري.

إذاً التفاعل يعني: الأصالة مع الانفتاح، إبراز الهوية الحضارية الذاتية دون إغفال مكاسب الانسانية الحضارية والعلمية، القدرة على التكيف الايجابي مع تطورات الحياة دون نسيان القيم والثوابت. وبكلمة التفاعل هو رسالة وموقف الانسان المسلم في هذه الحياة، لأن رسالته وعقيدته تدعوه إلى ذلك وتحفزه إلى السعي والكدح من أجل بلوغ المراتب العليا في مدارج الكمال الانساني..

فالحضارة الحديثة ليست شراً مطلقاً ينبغي الابتعاد والانزواء عنها، وإنما هي تحمل الوجهين، والتفاعل يختص بالجانب الانساني من هذه الحضارة، لذلك فإن عملية التفاعل ليست بسيطة وإنما هي دقيقة ومعقدة. ولذلك في إطار موقف التفاعل الذي ندعو إليه مع الجانب الحضاري والانساني في المدنية الحديثة نؤكد على الأمور التالية:

1- إن الجهة المؤهلة نفسياً وفكرياً وعملياً لعملية التفاعل، هي الجهة التي تعيش الأصالة بكل قيمها ومبادئها وتطلعاتها. لأن التفاعل بحاجة إلى مؤهلات لا تتوفر إلا في الأصيل أو من يدعو إلى الأصالة وإبرازها في عملية التحدي الحضاري..

ولكن لماذا أن الجهة الوحيدة المؤهلة لممارسة دور التفاعل مع الحضارة الحديثة، هي تلك الجهة التي تمتلك نصيباً كافياً من وعي لذاتها الحضاري، وتعتز بانتمائها إلى تراثها الاسلامي وتستمد منه قيمها ومبادئها ومناهج ونظام حياتها.. لماذا هي المؤهلة دون غيرها.. لعدة أسباب:

أ- لأن النخب والجهات الأخرى التي تعيش الاغتراب على مستوى الأيديولوجية والمنهج، ولا يمكن لمن نما بعيداً عن ثقافة الذات ومحارباً لقيمه الاسلامية وأصالته الحضارية، أن يكون هو المباشر لعملية التفاعل مع الحضارة الحديثة. لأنها تنظر إلى الأمة والواقع الاسلامي بأعين ونظارات مستعارة وتتحدث بلغة غير لغة الأمة وجهازها المفهومي والقيمي.

ب- إن غياب الهوية من جراء عملية الاغتراب يمنع أيضاً من أن تكون هذه الجهات هي المباشرة لعملية التفاعل.

إذ لا يعقل أن نوكل أمورنا المصيرية والحضارية إلى نخب وكتل بشرية لم تهتد بعد إلى هويتها وحقيقة وجودها، لأن غياب الهوية يعني فيما يعني الضياع والفراغ وأن يكون هؤلاء ساحة مفتوحة لكل التجارب على حد تعبير (لأوسيبوف) في كتابه (قضايا علم الاجتماع)..

ويقول الاستاذ محسن عبدالحميد أن النخب العلمانية (واجهوا الغرب وحضارته وعلمه وأدبه وفنه وواقعه. واجهوه بعقول خاوية وقلوب فارغة ونفوس مجردة عن معاني الأصالة والعزة، إنهم يواجهون من منطلق الجهل بالذات والشعور بالهزيمة) (1).

فالنخب العلمانية المتغربة كانت صدى للتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية في العالم الغربي. لذلك نجد في العالم العربي والاسلامي امتداداً لتطورية داروين ووضعية كانط ونشوئية سبنسر وحتمية ماركس وأنجلز المادية وفرويد الجنسية ودور كهايم الاجتماعية ووجودية سارتر وهيدكر وعبثيتهما وبنيوية ميشيل فوكو وموت الاله وصنمية الانسان عند جوليان هكسلي ونيتشه ورسل. إنها صورة فسيفسائية لواقع النخب التغربة في عالمنا العربي والاسلامي.

"وكانت نظرية دارون في التطور والارتقاء إغفالاً لدور الخالق ومحاولة لتقديم صورة حركية للكون والانسان معاً. وكان المذهب الماركسي محاولة لخلق نظرة جدلية في رؤيتنا لطبيعة الدوافع الكامنة وراء مفاهيم التغير في العالم. فالأشياء تتغير وفق دوافع كامنة في نفسها ولهذا كان تطوره حتمياً. وغيرت نظرية فرويد في اللاشعور من نظرة الانسان إلى نفسه وإلى قيمه وما يتحكم في سلوكه من عوامل ودوافع، ومنحت الغرائز والانفعالات دوراً مماثلاً لدور العقل المتحكم في سلوك الانسان. كذلك زعزعت حقائق اينشتاين في النسبية الايمان في نفس الاوروبي بوجود حقائق مطلقة ونهائية مؤكدة نسبية الحقيقة العلمية والمعرفة الانسانية والقيم والثقافات بل نسبية كل شيء.

وذهبت الوجودية إلى أن الوجود الوحيد في الكون هو الوجود الانساني ولم يتورع سارتر عن القول بأن الانسان يتحقق انساناً كي ما يكون الله. والأساس العام للوجودية هو إنكار وجود أية ماهية سابقة وحصر الوجود بالنسبة إلى الانسان في الحقيقة الوحيدة اليقينية وهي الكوجيتو الديكارتي. أي تفكير الفرد" (2).

جـ- إن النخب العلمانية المتغربة هي التي نشرت موقف المهادنة والخضوع للغرب، وقامت بتعبئة الرأي العام العربي والاسلامي باتجاه أنه لا مناص من الخضوع للغرب والقبول بالواقع الذي يريد أن يفرضه ويعممه على العالم بأسره.. ويقول سلامة موسى في كتابه (اليوم والغد): " يجب أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوروبا فإني كلما ازدادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي وتعلقي بها وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها".

لهذا كله تبقى الجهة الوحيدة القادرة على عملية التفاعل مع الآخر الحضاري، هي تلك الجهة المتمسكة بذاتها الحضارية والمعتزة بمبادئها وقيمها الاسلامية..

2- إن التفاعل ينبغي أن يسبقه معرفة بالآخر الحضاري، حتى يؤتي التفاعل ثماره بما يخدم الانسانية جمعاء. وأن وتيرة التفاعل تتصاعد باستمرار بشكل حسن وإيجابي حينما تكون هناك معرفة دقيقة بالآخر الحضاري، كما أن معرفة الآخر تزيد مجالات التفاعل وخياراته.

وإننا كمسلمين لا يمكننا أن نستفيد استفادة حقيقية من مكتسبات الشعوب والحضارات الأخرى من موقع الدونية والتبعية ومركب النقص. إن المدخل الوحيد للاستفادة من مكتسبات الآخرين الحضارية هو مدخل التفاعل والتعاطي الايجابي المنطلق من ذات تعتز بذاتها وحضارتها وتسعى نحو الإضافة الفعلية لواقعها الحضاري بما يخدم طموحاتها الحضارية.

وينبغي التأكيد على أن الخطيئة الحضارية الكبرى، التي وقع فيها الغرب، أنه قام بعملية الربط والالتقاء بين تقدمه وتطوره التقني والمادي، وتقدمه في مجال القيم والأخلاق والسلوك. لذلك فهو يصدر تكنولوجيته مع قيمه، وتطوره التقني مع أخلاقه ونمط معيشته. واعتبر أن الالتحاق بركبه الحضاري لا يتم إلا عن طريق الغربنة في السلوك والأخلاق أولاً ومن ثم في الاقتصاد والسياسة وما أشبه..

بينما موقف التفاعل يحافظ على الذات، ويهضم معطيات الآخر الحضاري.. كما أن الوعي السطحي بالغرب، يحعل الفكر العربي والاسلامي، يعيش دوماً مرحلة الانفعال والدهشة بانجازات الغرب وتقنيته المتقدمة. كما أنه يمنع عناصر الإبداع والتجدد في فكرنا الذاتي بفعل حالة الأسر والانبهار الفكري والنفسي.

ولهذا يمكن القول إن أغلب الحركات العلمانية، التي تدعو إلى الارتماء في أحضان الغرب، والاقتباس منه كل شيء هي حركات تدفعنا إلى السير باتجاه أفقي ينتقل بنا من حالة انحطاط إلى أخرى تخدعنا ببعض الألوان والمظاهر..

كما أن نظرية القطعية وغلق الأبواب والنوافذ اتجاه الغرب، نظرية طوباوية ولا نصيب لها من الواقعية والشرعية، لأن الغرب ليس استعماراً وسيطرة ونفوذ وحسب. وإنما إضافة إلى ذلك هو تكنولوجيا وتقنية متقدمة وثورة معلوماتية واتصالية. لذلك لا يمكن لنا أن نستغني عن الحضارة الحديثة، وحتى الذي ينادي بنظرية القطيعة هو يقتبس من الحضارة الحديثة الكثير الكثير دون الافصاح عن ذلك.

إننا ينبغي أن نستفيد من الانجازات الحضارية والمكاسب الانسانية، التي حققتها الحضارة الحديثة، وموقف القطيعة يمنع الاستفادة من كل هذا. لذلك فإن النظرية المثلى التي ينبغي لنا أن نتبناها اتجاه الحضارة الحديثة التفاعل والتثاقف معها في الأمور التالية:

1- الانجازات التكنولوجية والتقنية الهائلة التي حققتها الحضارة في مختلف الحقوق والجوانب.

2- النشاطات العلمية والأكاديمية، التي يبتغي تطوير الحياة، ورفع مستوى الوعي والإدراك لدى البشرية.

3- الهياكل المعرفية المرتبطة بالدفاع عن حقوق الانسان، والحفاظ على البيئة. لأن هذه قيم سليمة وعادلة. صحيح أنها استنبطت بعيداً عن الوحي الالهي إلا أنها لا تعاديه وإنما تقترب إليه في اختياراتها الكبرى.

من كل هذا نستطيع القول، أن نظرية التفاعل تسعى إلى ترشيد الحضارة الحديثة، وسد الفراغ الذي تعيشها وإنهاء أو تقليص نقاط التطرف التي تعاني منها هذه الحضارة.

وبكلمة إننا كمسلمين مسكونين بقيادة العالم والشهادة على الأمم وفي هذه الظروف لا يمكننا أن نحقق قيمة الشهادة والقيادة من دون التفاعل مع الحضارة الحديثة.

إننا مسؤولون اتجاه الحضارة المعاصرة. مسؤوليتنا تتمثل في ترشيد المسيرة وتقويم الإعوجاج وتأصيل الاختيارات الكبرى للحضارة، والتبليغ للإسلام بما يتناسب ومتطلبات العصر.

وجميع هذه الأمور لا تتحقق من دون التفاعل. فالتفاعل هو قدرنا ومصيرنا. وإذا لم نخطط للتفاعل ونبلور استراتيجيات علمية للتعاطي، فإننا سنقع في مهاوي الاستلاب والذيلية والتبعية.

لذلك فإن خيارنا الاستراتيجي والمستقبلي اتجاه الحضارة الحديثة هو التفاعل.. ونقصد بالتفاعل الآتي:

1- الالتزام بالأصالة والقيم الحضارية للإسلام، والتأكيد على دور الجذور في عملية التحديث.

إذ ثمة حقيقة أساسية في عملية النهوض الحضاري بشكل عام، وهي أن أمة من الأمم لم تنهض ولم تحقق قفزة حضارية مطلوبة بدون الإعتزاز بالذات الحضارية، والعمل على تجسيد قيمها ومبادئها في مسيرة المجتمع الحاضرة. وكأن شرط النهوض الرجوع إلى الذات، وأية عملية نهضوية لا تستمد من اصالتها الحضارية خريطة عملها ومبادئ مسيرتها هي أقرب الا الابتذال منها إلى الأصالة.

إذ أن الأصالة تشكل قاعدة التكوين التي لا غنى عنها في عملية الوثوب الحضاري. وهذا يؤدي بنا إلى الاعتقاد الجازم، أنه لا نهضة حقيقية ولا تطور وتقدم اجتماعي وحضاري بلا اصالة، فالأصالة شرط النهضة ومنطلق التقدم والتطور ولنا وفي التجربة اليابانية خير مثال..

2- الانفتاح والتعاطي الموضوعي مع العصر ومتطلباته:

لأن الانغلاق والانطواء عن منجزات الحضارة الحديثة هو بالدرجة الأولى، إفقار للوجود الذاتي، بحيث تضحى هذه الأمة المنطوية والمنغلقة وكأنها تعيش في القرون السالفة بعيدة كل البعد من انجازات الانسان المعاصر، وآثار العلم وحسناته.

وإننا كمسلمين من الطبيعي ان نرفض بعض أجزاء وأسس وتجليات الحضارة الحديثة لأننا في بعض حقب تاريخنا الطويل طحايا لهذه الأسس أو التجليات. فإننا نرفض مبدأ الاستعمار بكل تبريراته ونظرياته، كما أننا نرفض تغليب القيم المادية الجوفاء على قيم الانسان والعدالة والحرية والمساواة وما أشبه.

إننا وعبر تاريخنا المجيد كان لدينا مشاريع مقاومة لهذه الأسس والتجليات المنحرفة. فتشكلت في كل بقاع العالم الاسلامي حركات وتيارات واجهت المستعمر وطردته من ديارنا، ومشاريع للتحرر من ربقة السيطرة والهيمنة المادية والثقافية التي تفرضها علينا قوى الحضارة المادية الحديثة.

وإن المشروع الاسلامي الحضاري ليس مشروعاً مغلقاً ومقفلاً ولا يقبل التعايش والتنوع، وإنما هو مشروع مفتوح على كل الامكانات والطاقات الانسانية والمنجزات التقنية والعلمية، مشروع يؤمن التفاعل والانفتاح مع الآخر كثابتة من ثوابت منهجه وكركيزة من ركائز مسيرته. إنه مشروع يجمع لا يفرق، يوحد لا يشتت، يحترم الطاقات والكفاءات لا ينفيها أو يتجاهلها. مشروع مسكون بالإمتداد والانتشار ودعوة الناس جميعاً إلى الخير والهداية..

إنه مشروع يؤمن بضرورة التطوير والتجديد والإبداع، ولا يعتبر نفسه اقنوماً جامداً لا حياة فيه ولا تطور، إلا أنه يرى أن شرط التطوير والتجديد والإبداع الانطلاق من الأصالة والهوية لا تجاوزهما. ويقول الفيلسوف الكندي "وينبغي أن لا نستحي من استحسان الحق واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأخبار القاصية عنا، والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق، وليس ينبغي بخس الحق ولا تصغير قائله ولا الآتي به ولا أحد يخس بالحق، بل كل يشرفه الحق".

وبالتالي فإن التفاعل ليس ذوباناً في الآخر، وإنما هو امتداد واكتشاف لإمكانات الذات الكامنة، وصياغة نوعية لقوانين التواصل والاتصال مع الآخر الحضاري. فالتفاعل هو الموازنة الفذة بين الضرورة والحاجة..

3- تأسيس خطاب حضاري منبثق من قيمنا وأصالتنا ينسجم والتعاطي مع الآخر الحضاري. والجدير بالذكر هنا إننا حينما ننادي بالتفاعل كنظرية وموقف للتعاطي مع الحضارة الحديثة، نقصد بذلك التفاعل مع نتائج ومكاسب الحضارة لا مع أسسها ومبانيها الفكرية والفلسفية.

إذاً التفاعل هو فعل إيجابي يمارسه الانسان المسلم لصالح دينه وأمته. فهمزة الوصل المقترحة التي تربطنا بالحضارة الحديثة هي التفاعل لا الانسحاق والذوبان في المنظومة الحضارية المعاصرة. وهذا هو خيارنا المستقبلي إذا أردنا أن نحافظ على هويتنا الذاتية ونعيش في العصر الحديث. لننطلق إذن من التفاعل لا الانبهار في التعاطي مع الحضارة القائمة. فالتفاعل هو نظام الرؤية والمعرفة المقترح في التعاطي مع الحضارة الحديثة. والذي يؤكد أن الخيار الوحيد والسليم الذي ينبغي أن ننتهجه هو خيار التفاعل هو أننا نعيش في فضاء معرفي هائل، استطاعت من خلاله الحضارة الحديثة أن تصل إلى مخادع نومنا، وفي كل جزئيات وتفاصيل حياتنا بحيث أنه من الصعوبة بمكان الاستغناء بشكل فعلي عن منتجات الحضارة التقنية والتكنولوجية وغيرها.

إننا نرفض منطق النفي والإلغاء، ولا يمكننا أن نتبناه، وموقف القطيعة التامة من الحضارة الحديثة هو الوجه الآخر لمنطق النفي والإلغاء، لذلك نحن نرفضه ونتجاوزه.

فالتفاعل هو وسيلة التواصل مع الآخر، وهو شرط الوثوب والنهضة وبد تزداد مسيرة النهضة حيوية ودينامية. هو نقلة من اللافعل إلى الفعل، من الهامش إلى القلب، من المجرد إلى المحسوس، من الظلام إلى النور، من العدم إلى الوجود. لذلك كله فهو سلاحنا وخيارنا الذي ينبغي أن نتبناه في زمن لا يرحم من يعيش وحده، ولا يمكنه أن يستغني عن غيره بدعوى الكمال أو ما أشبه. إنه زمن تتماهى فيه الحدود بمختلف أشكالها وأنواعها، ومن يغرق الغافل والمنطوي في متاهاته ودهاليزه..

وأن الحل الحضاري الوحيد للأمة الإسلامية للخروج من نفق التخلف والإنحطاط لا يأتي من الخارج شكلاً ومادة، بل هو من صميم الداخل الإسلامي. إذ أن مادة التغيير والتحول الحضاري يجب إنتاجها من الأمة وتاريخها وعقائدها لا من أعدائها. ومن المؤكد أن الإنبهار والتقليد الأعمى للنموذج الغربي في البناء الحضاري يجر في النهاية إلى الإقتداء والتمثل والسقوط فيه ولو بعد حين.

وإن هذه العملية (التفاعل) هي التي تجسد بحق الوعي بالذات دون إستلاب، وإعتراف بالآخر دون الإمتثال له..

والسؤال الذي يطرح في هذا المجال هو ما هي المنطلقات النظرية لموقف ونظرية التفاعل في التعاطي مع الشأن الحضاري الغربي..

أولاً: سيادة الذات الحضارية

إن المواقف المتخذة من قبل الكثير من المدارس الفكرية والسياسية إتجاه الغرب والحضارة الحديثة، هي مواقف لا تعكس حالة الإعتزاز بالذات الحضارية للأمة. بل هي تنطلق من أرضية معرفية مغايرة ومعادية للأرضية الإسلامية. لذلك فهي مواقف في إطار الغرب لا خارجه، بمعنى أن مؤداها الأخير هو الإندماج في الغرب والذوبان فيه..

فالمشروع العلماني المطروح في الساحة العربية والإسلامية، ومن خلال تجارب عديدة هو مشروع غربي الإنتماء والوجهة، ولا يؤدي إلا إلى الإرتماء في أحضان الغرب. كما أن مشروع الإنعزال والإنكفاء على الذات يؤدي من الناحية العملية والفعلية إلى حالة من الإزدواجية الرهيبة التي تصيب الإنسان. ظاهراً وفي العلن يمقت الغرب ومنتجاته وإنجازاته. وفي الخفاء والسر هو يلهث وراء أقتناء آخر إنتاج الغرب وتقنيته..

وحال المواطن الذي يعيش في الدول ذات الأنظمة الشمولية نموذج واضح في هذا الإطار. يبقى الخيار التفاعل، هو الخيار الذي ينطلق من حالة إعتزاز بالذات، ويؤدي إلى بقاء سيادة الذات الحضارية في الفكر والسلوك. لا ينهيها أو يشوبها بشوائب الإنبهار والإنكسار النفسي والمعنوي. إنه موقف يعكس عمق الإنتماء الحضاري، وصلابة الروح ومتانة المعنويات التي يتمتع بها الإنسان المؤهل نفسياً ومعرفياً للتفاعل مع الآخر الحضاري.

إنه موقف ضد جميع أشكال اللاإنتماء أو ضياع الهوية والإرتماء في الآخر نفساً وفكراً ومعرفة.

وكل هذا يعني أن التفاعل هو صيرورة، تربط حاضرنا بتاريخنا، وهو ليس تفاعل علاقات وحسب، بل هو حركة دائبة ودائمة يسكنها المقدس والمثال والأنمودج وتحاول ترجمته على أرض الواقع. إنه جهد متواصل لوعي يعيد للذات إعتبارها ويستدرك مافات من جراء عصور الظلام والتخلف والإنغلاق.

ومن الملاحظ أن غياب نظرية التفاعل بشروطها وعناصرها التامة , هو الذي أدى إلى فوضى على صعيد المنهج والنظم الفكرية والثقافية السائدة. لذلك نجد أن (رينيه حبشي) في كتابه (حضارتنا على المفترق) يدعو إلى العودة إلى ماضينا المتوسط. فيقول: "علينا أن نطلب من الماركسية والشخصانية والوجودية اضوائها في الحاضر مع الغوص على فلسفة ان سينا وابن رشد وتوما الأكويني وأغسطينوس كي نجد عندهم أطر عقلنا. علينا أن نتجه نحو العلم الأكثر إيجابية والأشد جرأة بشرط أن نلاقي جذورنا الدينية لدى الغزالي الأشعري وغريغوريوس النازبانزي ويوحنا الدمشقي. علينا أن نجرب أكثر وصفات الإختبار تجديداً وكي لا نغرق، علينا أن نطلب النصح قبل ذلك من أرسطو وأفلاطون. علينا أن نتمنى أغرب الثورات الإجتماعية واجرأها، شرط أن نبدأ بتأمل حقائق الإنجيل والقرآن الكريم"..

كما أن غياب نظرية التفاعل في علاقتنا بالآخر الحضاري، هو الذي جعل الغرب في حاضرنا مقياساً نقيس من خلاله أوضاعنا وأحوالنا وبالتالي فالغرب هو الذات الفاعلة المؤثرة ونحن هو الموضوع المنفعل. وبالتالي فإن هزيمتنا إتجاه ذاتنا لعدم قدرتنا على صنع حالة التفاعل مع المحيط الحضاري الذي نعيشه هو الذي هيأ الأرضية ووفر الأسباب للهزيمة الحضارية إتجاه الغير والآخر. لأنه لا يمكن أن يكون الغرب بعبعاً لولا اننا نرى أنفسنا صغاراً في مواجهته والتفاعل مع أدواته الحضارية..

ثانياً: حضور الإسلام

أين الطريق أو ما هو السبيل إلى الخروج من ربقة التخلف الحضاري، والإنطلاق في رحاب البناء والتطور والتقدم؟.

بادىء ذي بدء ينبغي أن نؤكد أن الحلو التي قدمتها لنا العقلية الغربية في مختلف شؤون حياتنا لم تؤد إلا إلى المزيد من التخلف والإنسحاق أمام الغول الحضاري الحديث. فالفشل الذريع هو حال الحلول الغربية لواقعنا العربي والإسلامي. "فلم تستطع أوروبا أن تعطينا في الحقيقة سوى منهج واضح لتفتيت مكوناتنا الاجتماعية وتمزيق أوصالنا. جاء ذلك على مستوى بدائلها الرأسمالية والإشتراكية على نحو سواء.. والمسألة هنا ليست راجعة إلى طريقة فهمنا للإختيارات الأوروربية وعجزنا الذاتي عن ملاءمة واقعنا بها، ولكنها ترجع إلى أن الإختيارات الأوروبية نفسها قد جاءت صادرة عن فلسفة الصراع أصلاً وممنهجة له تاريخياً واجتماعياً وإقتصادياً"(3) فالدواء الغربي لواقعنا ما هو في حقيقته إلا مجموعة أساليب وتكتيكات لتبديد طاقات الأمة، وبعثرة جهودها في أمور لا تؤدي إلى الانعتاق من الآخر الحضاري بل تكرس التبعية وتداعياتها المختلفة. والسبب في ذلك أن الحلول الغربية "خاطبت عقله دون أن تخاطب وجدانه وروحه، وقدمت له برامج إجتماعية دون أن تقدم له أجوبة مقنعة حول أسئلته الوجودية وأحواله الشخصية وعلاقاته الأسرية والتزاماته الأخلاقية. وألزمته بالنضال الخارجي دون أن يكون لها سلطان على خلجات نفسه وأشواق روحه" (4).

فالمحصلة النهائية لكل ذلك هو فشل النظريات الغربية في إنتشال الأمة من واقع التخلف الحضاري. والسبيل الوحيد للخروج من نفق التخلف وظلمة الإنحطاط هو "حضور الإسلام" في كل جوانب وحقول حياتنا.

إذ أن كل التجارب على مدى العقود الماضية أثبتت بشكل جلي على أنه لا تقدم ولا تطور ولا خروج من ربقة التخلف في ظل غياب وتغييب الإسلام لأن الأيدلوجيات المستوردة إضافة إلى نقاط القصور الذاتية، لا تمتلك القدرة في تعبئة طاقات الإنسان وإستنفار هممه ودفعها في المسار الإيجابي.. وهذا هو الذي دعا الكثير من المفكرين والكتاب إلى إعادة النظر في دور الإسلام في تحريك الشعوب، واعتباره عاملاً رئيسياً في سبيل الخروج من واقع التخلف والإنحطاط..

فهذا الدكتور محمد جسوس الماركسي المغربي المعروف يقول: "إن الإسلام كان ولا يزال يمثل مركز الشرعية الأول والأخير بالنسبة للأغلبية الساحقة من الجماهير العربية التي نتعامل معها. وإن كل الطروحات الأيديولوجية الأخرى لم تتمكن من الحصول على بصيص من الوفاء والإلتزام الذي أمكن الوصول إليه عن طريق الإسلام "(5).

كل هذا يؤكد أن عملية البناء الحضاري إنطلاقاً من الإسلام ونظمه المختلفة عملية تلقائية لا إعتساف فيها ولا تكلف ولا قسر. لأن الإسلام هو الأيديولوجية الكفيلة بتحقيق متطلبات الإنسان المادية والمعنوية، ويتوافق وينسجم مع فطرة الإنسان وحقائقه الأولى. ويشير إلى هذه المسألة السيد محمد باقر الصدر بقوله: " إن عملية البناء لن تبدأ من الصفر لأنها ليست غريبة عن الأمة، بل لها جذور تاريخيه ونفسيه ومرتكزات فكرية، بينما أي عملية أخرى تنقل مناهجها بصورة مصطنعة أو مهذبة من وراء البحار لكي تطبق على العالم الإسلامي سوف تضطر إلى الإبتداء من الصفر والإمتداد بدون جذور "(6).

" ولقد تأكد لنا أن المجتمع الإسلامي لم تفلح في تحريكه من عثاره وإيقاظه من نومه، أي من الأيديولوجيات الدخيلة التي زادته وهناً على وهن، وأفسدت فطرته وزرعت العوائق والأشواك في طريق عمليات التغيير الموضوعية، التي تسعى لإحداثها الحركات التغييرية صاحبة الشرعية في ذلك. ولقد ثبت لكل من له عقل راجح أن الحركات التغييرية صاحبة الشرعية، والمخولة لإحداث البعث الحضاري هي التي تتخذ الإسلام منهجاً عن إقتناع جازم ويقين راسخ، بأنه هو وحده الحل والخلاص ولا حل ولا خلاص من دونه "(7).

وحضور الإسلام يتوزع في الآتي:

1- إزالة حالة الإزدواجية التي يعيشها الإنسان المسلم، وإرجاع حالة التجانس إلى سلوك الإنسان المسلم، وبهذا نزيل ونرفع بعض العوائق التي تعيق تأثير الإسلام في واقع الإنسان..

لأننا بفعل حالة مركب النقص الذي نعيشه فيما يرتبط وعلاقتنا بالحضارة الحديثة، أصبحنا نعيش الإزدواجية والتأرجح في كل الأمور والأشياء. " فلا نحن أبقينا صلاتنا المختلفة المنسجمة مع الماضي تحت مظلة السنن الكونية للتطوير، في ميزان المنطق والعلم، ولا نحن حققنا شيئاً من أمنيات اللحاق بنهضة تشبه نهضة الآخرين، بل بقينا نتهارج ونتخاصم في سجن هذا المنعطف الثقيل "(8)

2- تصحيح المفاهيم: إذ أن الكثير من القيم والمفاهيم أصبحت تفهم بشكل مقلوب ومعكوس. بحيث تحول الصبر إلى حالة من الخنوع والخضوع لا قدرة على تحمل الصعاب، وبناء الحياة وفق هدى الشريعة. وقد قال تعالى (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (9).

وإن تحقيق هذه الأمور يؤدي إلى تحقيق "تغييراً يمتد إلى المساحات كافة وسائر المكونات النفسية الأساسية العقلية والروحية والجسدية وكل العلاقات والبنى الداخلية مع الذات ومع الآخرين، والتي تمكن الإنسان المسلم والجماعة المسلمة من مواجهة حركة التاريخ"(10).

وبهذا ينبغي أن نسعى بجد وحكمة إلى طرد جميع العناصر المضادة إلى الإسلام روحاً ونصاً من واقعنا المعاش. حتى يكون حضور الإسلام فينا (أفراداً وجماعات) حضوراً فاعلاً ومؤثراً على مستوى العقل والنظر ومستوى الفعل والتطبيق..

فحضور الإسلام في مختلف جوانب حياتنا يقتضي منا التفاعل مع الحضارة الحديثة حتى نتمكن من تحقيق قيمة الشهود الحضاري في العالم..

ثالثاً: المشاركة الحضارية

حين نقرأ تاريخ التطور التاريخي للحضارة المعاصرة، نكتشف أن هذه الحضارة بمكوناتها المتعددة، هي من صنع البشرية جمعاء. بحيث أن عملية التراكم على مستوى الحضارات، هو الذي أوصل البشرية إلى هذا المستوى العلمي والحضاري المعاصر..

فالحضارة الحديثة ليست من صنع الغرب وحده، بل هي من صنع جميع الأمم والحضارات. أوليست الحضارة تواصلاً إنسانياً من جيل لآخر.

لذلك فليس من المعقول والحكمة أن تقاطع أمة من الأمم هذه الحضارة، وتمتنع من الإستفادة من إنجازاتها ومكاسبها..

لهذا فإن الموقف المنطقي، الذي ينبغي أن نتخذه إتجاه الحضارة الحديثة، هو موقف التفاعل بحيث نستفيد من مكاسب الحضارة دون أن نتأثر بمساوئها، عن طريق التعامل مع الحضارة من موقع التفاعل لا الإنبهار والقبول المطلق بها..

وعلى هذا فإن " الحضارة الراهنة ليست هي الآخر من حيث أنها حضارة، إن الآخر فيها بالنسبة إلينا هو الإستعمار والامبريالية الصهيونية والرأسمالية الإحتكارية والعنصرية والفاشية والنازية والإستغلال والعدوان، ومحاولات الإحتواء والسيطرة. أما من حيث هي حضارة، أي علم وعقلانية وإبداع تكنولوجي ومناهج بحث وفلسفة وأدب وفن وثقافة وهموم مشتركة، تطلع إلى الأمن والعدل والتقدم والسلام، فليست هي الآخر بل هي بعد من أبعاد الأنا، بل هي الأنا الواقع والأنا الممكن، بل الأنا الضروري.

إن الأنا موجود في هذا الآخر الحضاري واقعاً تاريخياً وإمكاناً وضرورة مستقبلية. والآخر موجود في الأنا بما يضيفه إلى عصرنا من علم وفكر وفلسفة وتكنولوجيا وثقافة بشكل عام. ولهذا فلا تعارض بين الأنا والآخر من حيث جوهر الحضارة المعاصرة. إن يكن هناك اختلاف وتنوع من حيث الطابع القومي الخاص داخل هذه الحضارة، ومن حيث حدود المشاركة فيها"(11)..

فالشراكة الحضارية تقتضي إتخاذ موقف التفاعل لا القطيعة أو الذوبان في الآخر. لهذا نجد أن سيرة المسلمين ومواقفهم إتجاه الحضارات المعاصرة لهم، كان موقف التفاعل والإضافة والتقويم لا موقف الدونية والتبعية والإنبهار. ويشير إلى هذه المسألة الكاتب توفيق الطويل بقوله:

" إن المسلمين لم يكونوا مجرد نقلة بل كانوا في شروحهم للنصوص التي ينقلونها يضيفون إليها من نتائج خبراتهم وخاصة تأملاتهم، ويبدون من أصالة الفكر ما شهد به المنصفون من المستشرقين. أفادوا مما أخذوا، ولكنهم أضافوا وزادوا حتى في المنطق اليوناني، مع أن المنطق بالذات كان له اثره في العلوم العربية وهو ما بدا واضحاً في أساليب المتكلمين وتعبيرات الفقهاء، ولكنهم تناولوا المنطق اليوناني بالنقد والتحليل.

ومن ثم فإن كان المسلمون قد نقلوا عن اليونان فإنهم أضافوا وزادوا وابتكروا، لأنهم كانوا ينظرون بعين إلى الثقافة – اليونانية وبالعين الأخرى إلى التعاليم الإسلامية.

وظهرت ابتكاراتهم من خلال توفيقهم بين الشريعة والحكمة، ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى ما تحقق من تقدم وإبداع في مجال الطب العربي في وقت نفرت فيه السلطات الكنسية في أوروبا من علاج الأمراض التي أنزلها الله بعباده، ومن استخدام الجراحة في تغيير خلق الله " (12)

أما ما يوفره لنا منظور التفاعل على الصعيد الحضاري العام، فيمكن تحديده في النقاط التالية:

1- إبراز التناقض الحقيقي والواقعي مع الآخر الحضاري:

إن موقف الإنغلاق أو الذوبان في الحضارة الحديثة، يجعلنا نتوه في تحديد البوصلة السليمة في تحديد ما نتفق ونشترك فيه مع الحضارة، وما نختلف فيه معها. مما يجعل بناءنا النظري هشاً في هذا الإطار. بينما عملية التفاعل توفر لنا الأرضية المناسبة، والإطار المعرفي السليم في تحديد جوهر الخلاف والتناقض مع الحضارة الحديثة..

وإستطراداً نقول: أن خلافنا مع الغرب، وتناقضنا معه أساسه معرفي – فلسفي – ثقافي، وهذا التناقض المذكور لا يمنع التفاعل ضمن الشروط المحددة لذلك. لأن التفاعل هو سعي دائم وحثيث نحو التقدم والإبداع والتجدد، ورفض قاطع وصارم للوصول إلى الجمود والتقليد والإنغلاق.

2- توفر الإطار المرجعي والمنهجي في التعاطي مع الحضارة الحديثة:

لأن التفاعل هو وليد المخزون العقدي والثقافي، الذي يمتلكه الإنسان المسلم. لذلك فإن عملية التفاعل ليست عشوائية، وإنما تأتي إستجابة لمنظومة قيمية، توجه فعل الإنسان المسلم وترشده نحو الخير، وتحقيق قيم الفضيلة في الأرض..

وبهذا فإن العمل الحقيقي والأساس الذي يفعله منظور التفاعل، إنه ينطلق من ركائز معرفية اسلامية في التعاطي مع الغرب. وبهذا فهو يمتلك منظاراً واضحاً من خلاله يمارس عملية التقويم والإختيار.

إن التفاعل هو الكفيل الذي يجعلنا نستفيد من مكاسب الحضارة دون أن نفقد هويتنا وأصالتنا..

3- يساعد على تصحيح الرؤية لدى الغرب عن الإسلام، مما يولد الحاجة مستقبلاً لمعرفة حقائق الإسلام وثقافته بشكل موضوعي..

4- إن عمليات الإبداع والتطور في كل المجتمعات الإنسانية، كانت وليدة ظروف التفاعل وتداعياته. ولم يسجل لنا التاريخ تطوراً أ, إبداعاً في غير هذه الظروف، فلا إبداع معرفي وإجتماعي وثقافي في إطار التقليد والجمود، كما أنه لا تقدم وإمتلاك ناصية العلم والتقنية في إطار الإنسلاخ والإستلاب والقطيعة التامة والشاملة مع الذاكرة الحضارية للأمة.

وبهذا فإن التفاعل هو عبارة عن عملية التجديد الذاتي، الذي تحدثه الأمة بإستمرار اعتماداً على إسلامها وعقيدتها، وإدراكها السليم والدقيق للظروف المحيطة بها. إنه التجديد الذي ينطلق من أرض الإسلام، لا من أرض الغير، وهو تجديد وتفاعل ينسجم ومنطق العقيدة والتاريخ.

فلا سبيل إلى حماية خصوصياتنا الحضارية، إلا بالتسلح بالتفاعل الفعال، وهو تعبير عن إنجاز إنساني عظيم يجب حمايته وتطويره وتطويعه بما يخدم البشرية جمعاء.

فالتفاعل هو مشروع مفتوح على المستقبل، يطوره وينميه بالمعارف والممارسات والخبرات المتراكمة عبر الأجيال. وبهذا يصبح التفاعل نقطة استلهام للحقائق الحضارية، لا للقشور والمظاهر الإستهلاكية البراقة..

أما كيف نحقق التفاعل في وسط المجتمعات الإسلامية بالعصر ومكاسبه ومنجزاته.. فهو بإختصار يكون عن طريق ثورة ثقافية تحرر العقل المسلم من التقليد المذموم وجموده وللوافد وتبعيته. ثورة ثقافية تمكن العقل المسلم من الالمام بالمعارف الحديثة، إدراك العناصر الرئيسة والجوهرية في هذه المعارف بغية الإنتفاع بها..

إن تحرير العقل المسلم م الجمود والتقليد المذموم، والتبعية للوافد هي الخطوة الأولى نحو تحقيق عملية التفاعل المطلوبة في واقع مجتمعاتنا..

وإننا ندعو إلى خطاب يأسس منهجاً للمثاقفة والتفاعل بين الأطراف الحضارية في المجتمع البشري كله، من دون إحساس أحد الأطراف بالوهن والتبعية والذيلية.

وإنما يكون حواراً علمياً – ثقافياً – حضارياً بعيداً عن ضغوطات السياسة ومصالح السياسيين.

فلتكن هناك مؤتمرات شعبية ونخبوية من جميع الأطراف الحضارية بشرط قبولها بالحوار كطريق أمثل لتجاوز أزمات العالم ومشاكله. وتناقش في أروقة هذه المؤتمرات جميع القضايا الأساسية المرتبطة بمستقبل البشرية، للتوصل إلى خطاب حضاري يتجاوز الوصف وهول الأزمة، ويدخل في أعماق المشكلة. ولتكن أهداف هذه المؤتمرات والملتقيات:

1- المعرفة المتبادلة.

2- صياغة نموذج عملي يقبل التعايش الحضاري، على أساس الإحترام المتبادل. بدءاً من الفلسفة والعقائد، وانتهاءاً بالثقافة ومنهج ونظام الحياة. ونفي كل عوامل رفض الآخر أو الإستعلاء عليه..

3- بلورة المشاريع المشتركة:

إن من القضايا الأساسية التي لا بد لنا من إدراكها، إن أحد عوامل ايقاف عملية الإنهيار الحضاري الذي تعيشه البشرية، هو تشجيع ودعم عقلاء وحكماء الغرب، الذين أدركوا خطورة المنهج المادي الذي تسير على هداه الحضارة الحديثة..

إن هؤلاء وأمثالهم ينبغي تشجيعهم والتحاور والتفاعل معهم، بغية توضيح النموذج الحضاري الإسلامي لهم، أو الإختيارات الكبرى التي ينشدها الإسلام في هذه الحياة..

وإننا أمام الأزمات الحضارية التي تعانيها البشرية اليوم بحاجة إلى أمرين اساسيين: الحوار مع الذات لإستكناه مكامن القوة وإبرازها، ولغربلة ذواتنا من الكثير من آثار عصور التخلف والإنحطاط. إذ ثمة قضايا في ذواتنا تشكل كوابح مانعة من الإنعتاق والتحرر، والسعي في رحاب الآفاق الواسعة.

إن الحوار مع الذات ومصارحتها، ينقيها من هذه الشوائب والجراثيم التي تعيق الحركة والعمل. وإن هذه الطريقة من التعامل مع الذات سيفتح العديد من الطرائق والآفاق في مسيرة الإنسان وعن طريقها نستطيع أن نأصل لنموذج إنساني فريد، يقومن بواجباته ويلتزم بمسؤولياته..

والحوار مع الآخر والدخول معه في عملية تفاعل إيجابية، ليست خاضعة لمصالح سياسية أو ضغوطات إقتصادية، وإنما حوار من أجل المعرفة المتبادلة والفهم المشترك..

ونحن حينما نتحدث عن مقولة التفاعل وضرورته، لا نقصد بذلك التفاعل السياسي أو التعاطي الدبلوماسي مع قوى الحضارة الحديثة. وإنما نتحدث عن مقولة التفاعل مع الحضارة الحديثة بمؤسساتها المختلفة وبما تشكل من واقع حضاري عام..

وأخيراً: إن المسلم حقاً هو ذلك الذي يكون ربيب تعاليم الوحي، ومنطق العقل والعلم، ومثالية الفضائل الإنسانية الخالدة.

........................................
الهوامش
(1) نحو نظرية حوارية اسلامية، ص 102 جـ3.
(2) مجلة الناقد 24 حزيران، 1990 م.
(*) الكوجيتو، كلمة لاتينية معناها انا أفكر، وقد درج استعمالها في لغة الفلسفة رمزاً لعبارة شهرية اتخدها ديكارت أساساً لفلسفته وهي أنا أفكر إذن أنا موجود.
(3) العالمية الإسلامية الثانية – ص 210 محمد أبو القاسم حاج محمد.
(4) حركات التغيير و أزمة الايديولوجيات، مجلة منار الاسلام عدد (10).
(5) مجلة المنعطف – المغرب – عدد (3 – 4).
(6) منابع القدرة في الدولة الاسلامية ص 35.
(7) مجلة المنعطف، عدد (3 – 4) ص 50.
(8) من المسؤول عن تخلف المسلمين – الدكتور البوطي دار الفكر – ص 48 – 49.
(9) آل عمران آية (142).
(10) حول اعادة تشكيل العقل المسلم عماد الدين خليل ص 140.
(11) مفاهيم وقضايا إشكالية – محمود أمين العالم ص 140.
(12) في تراثنا العربي الاسلامي – الكويت – عالم المعرفة – العدد (87) 1985م، ص 75.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق