يراهن الكثير من الكتاب والباحثين اليوم على موت الجغرافية والجيوبولتيك في ظل تصاعد وتيرة التطور المعلوماتي، وتأثيره في السياسات والاستراتيجيات وارتباطه بتحقيق أهداف ومصالح الدول، فظهرت لنا العديد من الدراسات والأبحاث التي تشير إلى تراجع تأثير الجغرافية في التفاعلات الإستراتيجية العالمية وفي مقدمتها عملية توازن المصالح التي تؤثر في مكانة الدول والقوى العالمية والإقليمية.
إلا أن المتابع لحركة تطور الأحداث والقضايا الإقليمية الحيوية التي تؤثر في التفاعلات العالمية وتمس بشكل مباشر مكانة هذه القوى في الهرمية العالمية، يجد أن المتحكم والضابط للفعل الاستراتيجي العالمي هو الجغرافية.
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية ضبط إيقاع التطورات في منطقة الشرق الأوسط، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت قد أحكمت قبضتها على المنطقة بفضل العديد من السياسات والاستراتيجيات منذ سبعينيات القرن الماضي وعدتها منطقة نفوذ أمريكي، بالمقابل كان تراجع (سوفيتي) في خطأ استراتيجي اعترفت به روسيا الاتحادية فيما بعد بالتوجه شمالاً وشرقاً والابتعاد عن منطقة تصادم المصالح مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فالهدف الاستراتيجي الروسي من التقرب إلى منطقة الشرق الأوسط لا يقتصر فقط على مواجهة الهيمنة الأمريكية، إذ من خلال فهم ديناميكية الإستراتيجية الروسية في عهد بوتين ومواجهة الجماعات المتطرفة في الشيشان، أكدت على التحول الكبير في إدارة العمليات ضمن الإستراتيجية الروسية لمكافحة الإرهاب التي تسعى على مواجهة تلك الجماعات والقضاء عليها في سوريا والعراق باعتبارها امتداد طبيعي لتلك الجماعات التي تقاتلها من منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لذا فهي تسعى إلى القضاء على تلك الجماعات عبر بوابة سوريا. والانتقام للإرث الحضاري الذي أثر في مكانة الاتحاد السوفيتي العالمية في أفغانستان 1979، لاسيما وان الجماعات المحاربة اليوم ماهي إلا وليدة لتنظيم القاعدة الإرهابي.
لذا فان الإستراتيجية الروسية اليوم تعمل وفق رؤية تمازج بين رد الاعتبار الجيوبولتيكي الذي خسرته في أفغانستان، وطموحاتها الجيوستراتيجية في منافسة الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر مناطق العالم أهمية لتحقيق مصالحها.
تطور الأحداث وتسارعها في سوريا كان بمثابة الفرصة التأريخية أمام روسيا الاتحادية لتصحيح أخطاء الماضي ومشاغلة ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة نفوذها، والعمل على كسب اكبر قدر ممكن من المصالح عبر إجبارها في الموافقة على انضمامها في التحالف الدولي لمحاربة عصابات داعش الإرهابية في العراق وسوريا، والعمل معاً في تنسيق الجهود الدولية والمشاركة في إدارتها عبر عقد العديد من التفاهمات والاتفاقيات بشأن الأزمة السورية، رغم التناقضات والاختلافات في وجهات النظر في إدارة الأزمة السورية، إلا أنها نجحت في الحصول على اعتراف أمريكي بدورها في الأزمة السورية وهذا من شأنها دفع فيما بعد لتطلعات وطموحات روسية اكبر في المنطقة تجسدت في التدخل العسكري المباشر والمساهمة في تحويل سير المعارك لصالح الحكومة السورية والأهداف الروسية، مقابل الدعم الأمريكي للمعارضة السورية.
إن تلك التفاهمات رغم استمرارها لعدة سنوات لم تستطع الصمود أمام مصالح كلا الدولتين. وهذا ما تجسد في الأحداث الأخيرة في مدينة حلب وإدارة المعارك فيها من قبل روسيا الاتحادية والحكومة السورية على حساب تراجع الموقف الأمريكي واستشعاره بخسارة منطقة نفوذ مرشحة مثل سوريا، إذ شكلت حلب نقطة ارتطام جيو-ستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية ونقطة تصادم جيو-سياسي بين إيران وتركيا، ونقطة حسم استراتيجي بين الحكومة والمعارضة.
أهمية مدينة حلب لا تقتصر على أهميتها الجيوبولتيكية وتأثيرها في سير العمليات العسكرية فحسب، وإنما امتد تأثيرها في تحديد مداخل الحراك الجيوسياسي الإقليمي التركي–الإيراني، الذي بدوره انعكس بدوره على السلوك التركي غير المنضبط تجاه العراق من جهة، وعلى مدخلات التفاعل الجيوستراتيجي الذي نتج عنه معطيات جديدة دفعت الخاسر الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا في إعادة التفكير في توجيه البوصلة تجاه مدينة الموصل العراقية والإمساك بزمام المبادرة إزاء التفوق الروسي–الإيراني في مدينة حلب.
هذا الاختلاف والتقاطع في الرؤى والمصالح وتأثيره في أمن واستقرار المجال الحيوي لكلا القوتين، دفع كلاهما في توظيف الأزمة السورية نحو إبعاد كليهما عن الجوار الجغرافي ومنطقة المصالح، فروسيا تسعى إلى إبعاد الولايات المتحدة الأمريكية عن مجالها الحيوي في أوكرانيا وجورجيا، مستغلة التفوق المتحقق في معركة حلب والتهديد المباشر للمصالح الأمريكية في المنطقة.
بالمقابل تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على استنزاف روسيا في الأزمة السورية وإغراقها في التزامات سياسية وعسكرية واقتصادية لايمكن الإيفاء بها وفق (وجهة النظر الأمريكية)، بما يتيح لها هامش من المناورة وحرية العمل والتحرك في مناطق النفوذ الروسي وتطويقها من جهة البلطيق والقوقاز والبلقان، والتلويح بالمقاتلين القوقاز والشيشان في حال عودتهم من سوريا وما يشكلونه من خطر على الاستقرار الروسي الداخلي.
لذا فان روسيا تدرك تماما التكاليف المترتبة إزاء موقفها المتشدد في دعم ومساندة الحكومة السورية وتحاول أن تثبت قدرتها في مواجهة الإستراتيجية الأمريكية وقلب الموازين لصالحها، وهذا بالفعل ما تحقق في معركة حلب.
مما يؤكد إن أهداف القوى الكبرى الطامحة لدور عالمي لا يمكن أن تتحقق دون مناطق نفوذ تحاكي مناطق نفوذ القوى المنافسة الأخرى، لذا روسيا الاتحادية وجدت تلك الفرصة عبر مدينة حلب للإفصاح عن ذلك التوجه الاستراتيجي العالمي، في إيجاد مواطئ قدم تمكنها من دعم ذلك التوجه، من جهة، وتعد بمثابة رسالة لدول المنطقة بأن روسيا الاتحادية اليوم غير الاتحاد السوفيتي في الإيفاء بالتزاماتها تجاه حلفائها وبنفس الوقت قادرة على مواجهة النفوذ الأمريكي من جهة أخرى.
اضف تعليق