q

مع اعلان نتائج الانتخابات الامريكية بفوز الجمهوري اليميني المحافظ دونالد ترامب، دخل العالم حالة من الترقب والحذر وصلت لحد الارتباك في الاسواق الاقتصادية والتعاملات التجارية مما ادى الى انخفاض اسعار وارتفاع اسعار منتجات اخرى، تذبذب بأسعار العملات وانخفاض بعضها لصالح البعض الاخر. رافقتها تصريحات سياسية بعضها جريئة بطرح التساؤلات والبعض الاخر خجولة، العالم لم ينم كامل ليلته والكل في ترقب وتساؤل والبعض الاخر لم يفق من صدمته بعد. العالم كله اليوم يحبس انفاسه ويسخر العقل وطرق التفكير ونظريات السياسة الدولية، وإدراك التفاعلات الاستراتيجية العالمية في ضوء هذا التغيير وكأنه المرة الاولى التي يغادر فيها رئيس امريكي البيت الابيض.

قد يخطئ من يقول ان لا تحول ولا تغير في السياسة الامريكية في عهد دونالد ترامب معتمدا بذلك على انها دولة مؤسسات، واهداف ومبادئ الاستراتيجية الامريكية تمتلك ميزة الثبات مما يؤهلها بأن تقف امام شخصية أي رئيس قادم جديد للبيت الابيض. كما هو معلوم للوصول الى الاهداف العليا والمتمثلة في (الحلم الامريكي) -كما وصفه ترامب في كلمة الفوز– وان تكون الولايات المتحدة الامريكية في المقدمة والافضل بين دول العالم– في اشارة ضمنية الى استمرار الهيمنة الامريكية، الى وجود اهداف مرحلية تعزز تلك الاهداف العليا وادارة مهمتها تحقيق تلك الاهداف والمصالح وهنا تكون منطقة التحرك للرئيس الجديد بتوظيف الاليات والوسائل التي تؤمن بها الادارة الجديدة وهذا ما يمكن ادراكه من خلال مكونات وتوجهات الفريق الاستشاري للحملة الانتخابية والداعم لها، والتي ضمت جنرالات وخبراء عسكريين فضلا عن خبراء اقتصاديين ومالكي شركات اقتصادية كبرى بالدرجة الاساس.

وبهذا يتم الانتقال من الليبرالية والمؤسساتية وقيمها العليا والقانونية الى الواقعية بكل مدخلاتها الفكرية والنظرية الى مخرجاتها في توظيف القوة الامريكية في تحقيق الاهداف المرحلية التي دعى اليها دونالد ترامب.

عند مراجعة الحملة الانتخابية لدونالد ترامب نجد ان الامن القومي الامريكي وضرورات الحفاظ عليه حاضرة وبقوة في خطبه وكلماته حتى في ليلة الانتخابات، مذكرا الناخب الامريكي بفشل الحكومة السابقة في منع التهديدات والخروقات الامنية وعدم قدرتها في مواجهة تلك التهديدات ولاسيما تلك المتمثلة بالجماعات الارهابية المتطرفة بكل انواعها واشكالها. فضلا عن التلويح بالفشل الامريكي في مواجهة تنظيم داعش الارهابي وتطوره مما أصبح يشكل تحديا خطيرا للأمن القومي الامريكي والامن العالمي على حد سواء. على الرغم من الادارة الديمقراطية السابقة حاولت توظيف الانتصارات في معركة الموصل وتأخيرها الى قبيل الانتخابات باعتبارها ورقة انتخابية ممكن ان تؤثر في الناخب الامريكي الذي بات يصفها بـ(الحكومة الضعيفة والغبية). وهذا مؤشر مهم على القراءات الخاطئة للفريق الاستشاري الديمقراطي للناخب الامريكي.

كما كان للشأن الاقتصادي ودوره في ترجيح كفة دونالد ترامب على منافسته دوراً مهما في التأثير على الناخب الامريكي، وقد نجح ترامب في طروحاته الاقتصادية ومعالجاته التي طرحها لتحسين المستوى المعيشي للمواطن الامريكي من خلال طرحه برامج عملية واقعية، تمثلت في اعادة تأهيل القطاع الاقتصادي الخاص الصغير والمتوسط الذي دخل مرحلة التراجع على حساب المستورد القادم من الصين وغيرها من الدول. كما دعى الى عودة رأس المال الامريكي الى الداخل بتبني سياسات اقتصادية تهدف الى تقليل تكلفة الانتاج، فضلا عن دعوته الى تحسين البنى التحتية المتهالكة الى بعض المدن بإعادة تأهيل وبناء الطرق والجسور والمدارس وشبكات الصرف الصحي مع توفير الخدمات الاخرى التي يجب ان تليق بالمواطن الامريكي. بمعنى توظيف الواقع الاقتصادي المتردي في حملته الانتخابية.

لم يكتفي في توظيف العامل الامني والاقتصادي بل عمل على استنهاض العامل القومي لدى المواطن الامريكي، واستحضار الهوية الامريكية بأنماطها القيمية والسلوكية، وتوظيف غريزة العنصرية (الافضلية) الامريكية بضرورة الحفاظ على هذه الهوية، باعتبارها الركيزة الاساسية في نهضة الامة الامريكية. وعدم السماح للقادمين عبر الحدود في زعزعة هذه الهوية باعتبارها الركيزة الاساسية واللبنة الاساسية في بناء الامة الامريكية. مذكرا بالقيم والعادات والتقاليد التي جاء بها المكسيكيين والعرب المسلمين على سبيل المثال والتذكير بالمشاكل التي يخلقونها بين فترة واخرى، مما تشكل تهديدا كبيرا على النظام القيمي الامريكي والامة الامريكية بذاتها المميزة.

وخاطب دونالد ترامب الناخب الامريكي بواقعية امنية – اقتصادية، لامس بها متطلبات الحياة الامريكية التي اصبحت مهددة بفعل تراجع هذين العاملين، هاجس التهديد المستمر من الارهاب والبطالة والواقع الاقتصادي المتردي، وجاء بطروحات وحلول اشعرت المواطن الامريكي بثقة تنفيذها، على العكس من منافسته التي ابتعدت كثيرا عن واقعية المجتمع الامريكي بطروحات بعيدة كل البعد عن الواقع الامريكي.

الكثير راهن على عدم جاهزية دونالد ترامب لقيادة الولايات المتحدة الامريكية وعدم قدرته على استقطاب الناخب الامريكي، نتيجة المشاكل الداخلية التي تعاني منها الولايات المتحدة الاميركية، غير ان العكس ما حدث وان شخصية دونالد ترامب هي من يبحث عنها الناخب الامريكي الذي سأم الرتابة الديمقراطية والضعف في ادارة السياسة الداخلية والخارجية، بل ذهب الكثير من المحللين الى ان سيكولوجية ترامب هي من جذبت الناخب الامريكي اليه وان كل التصرفات التي قام بها في حملته الانتخابية ما هي الا تكتيك انتخابي اعتمد عليه دونالد ترامب.

اغلب التحليلات اليوم تشير الى ان دونالد ترامب سيذهب باتجاه العزلة الامريكية وانتهاج سياسة اقتصادية داخلية تسعى الى رفع المستوى المعيشي الامريكي والارتقاء بالصناعة الامريكية والعمل على ايجاد السبل في معالجة مشكلة الدين الامريكي. غير ان طبيعة تكوين الفريق الاستشاري الانتخابي -وكما اشرنا اعلاه- ومن كلمة الفوز التي القاها في عشية اعلان النتائج تشير عكس تلك التحليلات، حيث اكد على الامة الامريكية والحلم الامريكي ودور الولايات المتحدة الامريكية في احلال الامن والسلم العلمي، وهذه المفردات لطالما رافقت فكرة الهيمنة الامريكية، والمتتبع لفكر الحزب الجمهوري وطروحات اليمين الامريكي يجد انها دائما ما تبحث عن تعزيز المكانة الامريكية خارج حدود الولايات المتحدة الامريكية وفي انتقاء اكثر مناطق العالم توتراً.

لذا فإن العالم مقبل على بيئة استراتيجية تتميز بأنماط مختلفة من التفاعلات الدولية والاقليمية، والتي قد تتسم في احيانا كثير بعقلانية السيطرة لتحقيق المصالح الامريكي، والتي لا يمكن توقعها نتيجة تلاقي طروحات اليمين المحافظ ورغبته في السيطرة العالمية وشخصية دونالد ترامب الطامحة لان تكون في الصدارة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق