شكلت القارة الأفريقية على الدوام محط صراع بين القوى العظمى -لا سيما فرنسا- ومسرحا لتنافس كثير من القوى الصاعدة إقليميا ودوليا، فمنذ قرون تتعرض أفريقيا لاستنزاف ونهب لثرواتها ومواردها من القوى التقليدية، ولم تسلم هذه القارة من هذا الاستنزاف والنهب بعد دخول قوى دولية صاعدة كالصين والولايات المتحدة والهند وإسرائيل وإيران فضلا عن القوى الكبرى التقليدية لتصبح ساحة للصراع على النفوذ والنفط والثروات تسعى هذه الدول إلى الاستحواذ عليه. وقد كان لبعض الدول خاصة الدول الكبرى التقليدية وجودا عسكريا في كثير من دول القارة الأفريقية خاصة بعد نيلها الاستقلال في مطلع الستينيات، تمثل في وجود بعض القواعد العسكرية في مناطق مختلفة من القارة لحماية مصالحها الاقتصادية وتأمينها.
تعتبر فرنسا أحدى الدول الأوروبية التي استطاعت في النصف الأول من التسعينات أن تحافظ على علاقات وطيدة بمستعمراتها الإفريقية السابقة، بل ربما كانت الدولة الأولي في هذا المجال، إذا ما قورنت بالدولة الاستعمارية الأخرى، مثل بريطانيا وإيطاليا والبرتغال تمكنت فرنسا من بلوغ هذه المرتبة المتميزة في علاقاتها الإفريقية، نتيجة لسياسة تعاونية محكمة ودقيقة طبقتها في بعض الدول الإفريقية في المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية وكانت لهذه السياسة مرتكزات هامة، تهدف إلى للحفاظ على مصالحها في القارة الأفريقية متخذة في ذلك عدد من الذرائع لشرعنة تدخلها في الدول الأفريقية كالحرب على الإرهاب والتدخل الإنساني لتعيد من جديد إلى الأذهان الاستعمار القديم، وبالتالي الإبقاء علي دورها المؤثر في السياسة العالمية، لاسيما في ظل الحرب الباردة بين العملاقين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق، غير أن المتتبع للسياسة الفرنسية الإفريقية، يلاحظ أن ثمة تطورات جدت في التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة تهدد صلابة النفوذ الفرنسي في القارة، ولهذه التطورات أسباب عديدة بعضها جاء نتيجة للمتغيرات الدولية، وبخاصة انتهاء حقبة الحرب الباردة وسيادة النظام العالمي الجديد حيث سيطرة القطب الواحد، وبعضها ترتب علي تغيرات في الظروف المحلية الإفريقية، والبعض الآخر جاء مواكبا لتعديلات جرت علي السياسة الداخلية الفرنسية ذاتها وفي إطار المتغيرات الدولية، يلاحظ أن أهم الظواهر التي تعرقل استمرارية التأثير الفرنسي القوي في القارة، هي الثقل الدولي وخاصة الأمريكي والصيني المتصاعد في كثير من الدول الإفريقية، ومنها دول فرانكفونية، ثم انتشار الإسلام السياسي في أنحاء مختلفة من القارة
أسباب التدخل الفرنسي في إفريقيا:
وجدت فرنسا في "الحرب على الإرهاب" حجّة قويّة لتبرير تدخّلها سياسيا وعسكريا في دول أفريقية تمرّ بأزمات، وليس خافيا أن المصالح الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية هي السبب الحقيقي وراء اندفاع فرنسا وإصرارها على أن تكون حاضرة بقوة في قلب الحدث الأفريقي رغم خطورة الوضع ورغم ضعف الدعم الخارجي لها، لكن، ذلك يعتبر، وفق الخبراء والمسئولين "أهون الشرّين"، إذا كان سيساعد على تحجيم دور الجماعات الإرهابية في المنطقة، ومن أسباب العودة والتدخل الفرنسي بهذه القوة إلى القارة السمراء هي:
1- سياسيا: تسعى فرنسا لتحويل الفرانكفونية من مجرد تجمع ثقافي إلى حركة سياسية حيث تهدف إلى إنشاء تجمع سياسي فرانكفوني في أفريقيا له صوت سياسي يؤخذ به في الساحة الدولية، والحفاظ على استقرار الأنظمة السياسية الأفريقية الموالية لها، ويمثل الحفاظ علي استقرار الأنظمة الإفريقية هدفا أساسيا للسياسة الفرنسية في القارة فهذا الاستقرار يقلل من احتمال اندلاع الحروب الأهلية بين العرقيات والقبائل المختلفة، لذلك فهي تفضل مساندة النظم القائمة القوية رغم سلبياتها، عن تشجيع نظم جديدة لا تعرف بعد مدي قدراتها علي السيطرة علي شعوبها، ويؤدي هذا الاستقرار إلي ازدهار الاستثمارات الفرنسية في القارة، وتعدد العلاقات الدبلوماسية مع أكبر عدد من الدول الأفريقية، وقد ظلت أفريقيا إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الفرنسية وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا ميتران" عام 1994 أنه "بدون أفريقيا لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين"، واهتمام فرنسا بأفريقيا يتضح في أكثر من مؤشر فالجالية الفرنسية في أفريقيا تعد أكبر جالية أجنبية ووفقا للإحصائيات في عام 1996 بلغ عددها حوالي 114 ألف فرنسي كما تحصل أفريقيا على 49% من إجمالي مساعدات فرنسا الخارجية ( ما يوازي 3-5 مليارات دولار).
2- اقتصاديا: المصالح الاقتصادية متمثلة في البحث عن أسواق لتصريف السلع الفرنسية المصنعة وموارد أولية لتنمية الصناعات الفرنسية المدنية، والوصول للموارد الطبيعية الإستراتيجية التي تملكها القارة.
هناك مصالح واقتصادية هائلة لفرنسا في إفريقيا، فقد صرح وزير الخارجية الفرنسي " لوران فابيوس" في 14 كانون الثاني 2013 لتبرير الهجوم الفرنسي على شمال مالي "لقد كانت المصالح الأساسية بالنسبة لنا ولأوروبا ولأفريقيا على المحك، لذلك كان علينا التحرك بسرعة"، وغّلف الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" حقيقة الأهداف الخفية بغطاء الحرب على الإرهاب وتطوير العلاقات الاقتصادية. وقد قال في قمة “فرنسا- أفريقيا للسلام والأمن” بباريس (2013): “لقد دقت ساعة أفريقيا، ينبغي على الشركات الفرنسية ألا تتردد في الاستثمار في هذه القارة، بل عليها القيام بذلك لأنها قارة تشهد ديناميكية اقتصادية قوية وهي تعتبر قارة المستقبل”، ولعل على رأس تلك المصالح الفرنسية مسألة الوصول إلى اليورانيوم في الصحراء الأفريقية، إضافة إلى ثروات القارة الأخرى النفط والغاز والماس والذهب والمعادن الأخرى، إذ تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية، كما أن شركة أريفا الفرنسية (Areva) ظلت على مدى قرون أربعة ماضية تهيمن على حقوق استغلال اليورانيوم في النيجر، وكان نائب في البرلمان البلجيكي قال إن “الهدف من الحرب الفرنسية على مالي هو السيطرة على اليورانيوم ونحن لسنا مغفلين”، وأكد "أن فرنسا تقوم بهذه الحرب لإنقاذ شركتها العملاقة أريفا (AREVA) ومجابهة القوة الصينية وللثأر من التدخل الأميركي في المنطقة التي تعتبرها فرنسا ملكا لها"، وتأسيسا علي هذه السياسة، اتسعت المصالح الاقتصادية الفرنسية عبر القارة، حتى بلغ عدد الشركات الفرنسية التي تعمل في إفريقيا حوالي ألف وخمسمائة شركة، وبهذا فان أي محاولات لتهديد استقرار الأوضاع ونشر الفوضى في النيجر ومالي والمنطقة المحيطة يعتبر تهديدا لأمن فرنسا، وخطا أحمر تجاوزه يعني التدخّل الفوري والحاسم.
3- تسعى فرنسا أيضا من خلال تعزيز تواجدها العسكري والاقتصادي في قارة أفريقيا بالإضافة إلى حماية المصالح وتحقيق المكاسب وزيادة السيطرة والنفوذ إلى تحجيم دور بعض القوى الإقليمية والدولية الصاعدة في أفريقيا كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الرغم من أن شركة أريفا الفرنسية (Areva) ظلت على مدى قرون أربعة ماضية تهيمن على حقوق استغلال اليورانيوم في النيجر، إلى أن قيام حكومة النيجر مؤخرا بمنح تراخيص للتنقيب لشركات هندية وصينية وأميركية وكندية وأسترالية، هو الذي ولد الخوف الفرنسي من النفوذ الصيني وغيره في المنطقة.
4- الإستراتيجية والأمنية: أما من الناحية الإستراتيجية والأمنية فبعد انتهاء الحرب الباردة تحولت السياسة العسكرية من منع انتشار النفوذ السوفييتي في القارة والحد من انتشاره إلى التصدي للخطر الذي يهدد مصالحها في القارة متمثلا في القوى الدولية والإقليمية الصاعدة كالولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان والإسلام السياسي والعنف القومي والديني الذي تزايد منذ التسعينيات من القرن الماضي، خاصة أن نسبة المسلمين في بعض الدول الفرانكفونية مرتفعة، كما أن فرنسا تسعى إلى السيطرة على المواقع الإستراتيجية في بعض أنحاء القارة كقاعدة جيبوتي لمراقبة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الجنوبي، وهو الممر المائي بالغ الأهمية علي المستوي الاستراتيجي والتجاري وذلك لمشاطأته للملكة العربية السعودية، وقربه من بقية دول الخليج، بالإضافة إلي ربطه لخطوط التجارة العالمية بين جنوب وشرق آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، فالأزمة في إفريقيا الوسطى، والحرب في مالي والصعود بالقوّة لمجموعة بوكو حرام في غرب إفريقيا، كلّها عوامل تدفع نحو تغيير قواعد اللعبة فيما يخص الاستراتيجية الأمنية والعسكري الفرنسية في المنطقة، ففي البداية، كان التواجد العسكري الفرنسي آنيا، أما اليوم، فهناك جنوح نحو انتشار دائم وأكثر استراتيجية للقوات الفرنسية لتغطية أكبر مساحة ممكنة من دول المنطقة.
أمثلة التواجد والتدخل العسكري الفرنسي في إفريقيا:
عززت فرنسا من تواجدها العسكري ونفوذها في كثير من دول القارة الأفريقية مثل ساحل العاج وجيبوتي والسنغال والكونغو والصومال والجابون، فضلا عن عديد من البلدان الأخرى الصغيرة من القرن الأفريقي إلى وسط القارة التي كانت قديما جزءا من مستعمرات فرنسا في أفريقيا.
فقد قامت فرنسا بتوقيع عدد من المعاهدات الدفاعية والتحالفات لخدمة مصالحها وتكبيل القارة الأفريقية، فضلا عن التواجد العسكري المباشر، فتشارك في 121 اتفاقية تعاون ودفاع عسكري على امتداد القارة، وتمتلك فرنسا 6 قواعد عسكرية ثابتة في القارة الأفريقية أبرزهم 3 قواعد في غرب أفريقيا في داكار "السنغال" وأخرى في الجابون والثالثة في أبيدجان عاصمة ساحل العاج، فضلا عن القاعدة العسكرية الموجودة في جيبوتي، وفي بانجي في أفريقيا الوسطى، ونجامينا عاصمة تشاد، بينما تتواجد بأحجام مختلفة في دول أفريقية أخرى مثل النيجر ومالي وموريتانيا.
وفي مطلع عام 2014، بعد إن توسعت العمليات الإرهابية في إفريقيا خاصة بعد الأحداث الدينية في إفريقيا الوسطى، وسيطرة القاعدة والطوارق على شمال مالي، قررت فرنسا إعادة توزيع قواتها في دول الساحل الأفريقي لتوفير مزيد من الفاعلية والتعاون والجاهزية وضمان فاعلية أكثر في صراعها القائم مع المجموعات الجهادية المنتشرة في منطقة الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء، على حد قول وزير الدفاع الفرنسي "جان إيف لورديان"، فهناك قواعد أساسية تضم جنود فرنسيين في مدينة جاو في مالي ونيامي ومداما في النيجر ونجامينا في تشاد، أما القاعدة اللوجيستية تتمركز في ميناء أبيدجان في ساحل العاج، وهناك قوة خاصة تتمركز في واكادوكو في بوركينا فاسو، إضافة إلى القواعد العسكرية الست الموجودة والمتمركزة في أنحاء القارة. وتقوم فرنسا لتحقيق أهدافها في القارة بالاعتماد على عدة آليات أهمها القواعد العسكرية الست وقوة التدخل السريع التي أنشأتها فرنسا في الداخل الفرنسي لتكون مستعدة أن تتدخل في وقت قصير لأية مهمة في أنحاء القارة الأفريقية، فضلا عن اتفاقيات الدفاع العسكري المشترك مع عدة دول أفريقية مثل الكاميرون وأفريقيا الوسطى وجيبوتي وساحل العاج، وكذلك إتفاقيات التعاون والمعونة الفنية مع الدول الأفريقية منها بنين وبوركينا فاسو وبوروندي والكونغو وغينيا والسنغال.
لقد تدخلت القوات الفرنسية في العديد من دول القارة الإفريقية، وتم ذلك بحجج حماية رعايا فرنسا في هذه المناطق أو محاربة الجماعات الانفصالية والمتمردين ضد الحكومات المركزية في هذه البلدان، وهماك أمثلة عديدة على هذه تدخلات فرنسا في القارة، منها تدخلها في ليبيا تحت مظلة الديمقراطية وإنقاذ الشعب الليبي من قوات القذافي عام 2011، وفي دولة مالي للقضاء على المتمردين من القاعدة والطوارق الذين استولوا على شمال مالي، بحجة تهديد الأمن الوطني لمالي، ونفس الأمر بالنسبة لأفريقيا الوسطى التي قامت فرنسا بالتدخل العسكري في بانجي بحجة التصدي للجماعات العنيفة ومنع حدوث حرب أهلية وإبادة عرقية، وكانت فرنسا تتدخل عسكريا بشكل متكرر في بعض الدول الأفريقية مثل السنغال 1964 وأفريقيا الوسطى 1967، 1970، 1990، 1997، 2014، وتوجو 1986، وجزر القمر 1989، وأخيرا مالي 2013.
معوقات النفوذ الفرنسي في إفريقيا:
1- إن الجماعات المتطرفة المسلحة في دول جنوب الصحراء لديها سياسة معروفة وهي سياسة استدراج الخصم إلى الأرض التي يحددونها هم وبالتالي لمحاولة محاربتهم مباشرة بدلاً من محاربة ما يسمونهم عملاءه في المنطقة، إذن بكل تأكيد الجماعات المسلحة في المنطقة كانت تترصد هذه القاعدة وكانت تتوقعها وتُحضر لها، أعتقد أن وجوداً فرنسياً عسكرياً مباشراً إنما هو تحريضٌ وتوفير رافدٍ أيضاً لهذه الجماعات لأن يعني بصيغة من الصيغ عودة الاستعمار الفرنسي من جديد إلى المنطقة، ومحاولة توسع هذا الاستعمار وبالتالي مخاطبة الوجدان الشعبي والوجدان التحرري والوجدان الديني لدي المجتمعات المقيمة في المنطقة ضد الوجود الفرنسي وبالتالي تأهيل هذه المجتمعات إلى أن تكون حاضنة أكثر مما هي عليه لهذه الجماعات وأن تكون داعماً وسنداً لها، هذه الجماعات أيضا جاء الفرنسيون بحجة طردها من شمال مالي مثلا والقضاء عليها لكنهم في النهاية اكتفوا بالسيطرة على كبريات المدن بينما بقيت هي تحاول أو تتمركز في الصحراء وفي الجبال وفي غيرها، اليوم تحاول قطع طرق الإمداد أو التواصل مع الجنوب والشرق الليبي وهو أمر في غاية الصعوبة لم يكن مستحيلاً لأن من المعروف أن طرق التهريب التي خبرها المهربون على مدى العقود الماضية كثيرة ومشتتة وممتدة على آلاف الكيلومترات سواء في المثلث الحدودي بين ليبيا والجزائر والنيجر ومنطقة أزواد في شمال مالي يمر الأمر عبر ولايات تمراست وجانت تواوير وزواتين إلى غيره ثم إلى الصحراء في النيجر وإلى جبال الأضربيز وصولاً إلى جبال لوفغاز.
إذن هي منطقة شاسعة كبيرة جدا خبرتها هذه الجماعات واتخذت منها مراكز لها ومعسكرات ووجدت مدداً لها في جنوب وشرق ليبيا وبالتالي إنما ستشكل هذه القاعدة عملية تشويشٍ فعلاً أو محاولة قطع الطريق لكنها أيضا ستشكل مطلباً لهذه الجماعات يعني لأنها استدراج للعدو إلى أرضهم أيضا ستشكل كما أسلفت حافزاً لهم لتجنيد الشباب ولتجنيد القواعد الشعبية الداعمة لهم، أيضاً هي دليل على أن الأطماع الفرنسية إنما هي في خيرات الأرض وليست لحماية السكان وللبلدان، لأنها إنما هي تحركت عسكريا لتحمي مناجم اليورانيوم وتحمي منجم الذهب الحديث الاكتشاف في المنطقة قرب قاعدة مداما العسكرية الجديدة في شمال النيجر، وتحمي أيضاً مصالح تشاد القريبة وغيرها، ستواجه أيضاً فرنسا بكل تأكيد الرفض الجزائري للتدخل الأجنبي في المنطقة وحساسية الجزائر تجاه الوجود الفرنسي في المنطقة واضحة للعيان، خاصة وان الجزائر الدولة التي لا يمكن تجاوزها في عمل كهذا.
2- رفض بعض الحكومات لهذا التواجد الفرنسي وخاصة الجزائرية، ناتج عن خبرة الجزائر في موضوع الجماعات الإسلامية المُسلحة في المنطقة وهي ترفض الأطماع الاستعمارية وتعتبر مزاعم فرنسا في مكافحة الإرهاب هي تغطية لأطماع استعمارية في المنطقة، فالجزائر حذرت الرئيس الفرنسي " ساركوزي" من الإطاحة بنظام "معمر القذافي" وأكدت أن التداعيات لا يمكن حسابها وستكون وخيمة بالنسبة للمنطقة ككل وللأوروبيين والفرنسيين، وبينوا الجزائريون هذه المخاوف للرئيس التشادي خلال زيارته الجزائر، وطبيعة وحقيقة الأطماع الفرنسية في القارة، فأصدر بيانا بأن بلاده مع الحل السلمي والسياسي في ليبيا، واستبعد موضوع التدخل الخارجي بعكس ما حاولت فرنسا أن تُقحم الدول الخمس في هذا الموضوع، فرنسا تتحدث على وجود إرهاب في دول الجنوب فقط، بينما دول المنطقة والعالم كله يعرف من وجود إرهاب في المنطقة الشرقية من ليبيا أيضا، إذ إن الإعلام الفرنسي والصحف الفرنسية لا تتكلم لا تعتبر ليبيا شيئا سوى ما هو يحدث في جنوب الصحراء متوهمةً ومحاولةً أن تصنع صورة معينة لتبرر التواجد الفرنسي في الجنوب الليبي.
ان الجزائريين هم أكثر الناس إدراكاً عندما يتم مواجهة الفرنسيين والأطماع الفرنسية، كذلك أن اغلب شعوب المنطقة رافضة للتواجد العسكري الفرنسي هناك لوجود مخاوف لديها من أيام الاستعمار الفرنسي للمنطقة، أما وجود جماعات إسلامية تريد أن تهدد امن فرنسا فهذا ما تحاول فرنسا أن تسوقه للرأي العام بحيث أنها تُبرر إيجاد قواعد، إيجاد قواعد ليس لمقاومة الإرهاب، لأنها سحبت كل قواتها من أفغانستان على الرغم من وجود إرهاب طالبان الذي يهدد العالم كله، أن فرنسا تكرر نفس الأخطاء التي ارتكبتها في الجزائر، وقد تخرج بهزيمة أخرى مثل التي خرجت في الستينيات من القرن الماضي، الشعوب أصبحت مدركة وواعية لهذه التهديدات وهذه المخاطر.
3- هناك بعض المواقف تدلل عن وجود نوع من التعاون بين القاعدة في شمال إفريقيا وفرنسا، فإذا عدنا إلى الإحداث في شمال دولة مالي عام 2013، عندما تمكنت حركة تحرير ازواد المكون من أغلبية من العرب والطوارق من الاستيلاء على شمال مالي بالكامل، وأعلنت تأسيس دولة ازواد، تحركت المجموعات المسلحة "أنصار الدين" التابعة للقاعدة من قواعدها في الصحراء نحو شمال مالي بحجة مساعدة الطوارق والعرب في ازواد، وأعلنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد مع شريكتها في الحرب السابقة يوم 26 أيار 2012 اتفاقا بالاندماج لتكوين دولة إسلامية، إلا أن تنظيم "أنصار الدين" بعد أن استتب الأمر لهم أعلنوا رفضهم فكرة الاستغلال وتكوين دولة، مما دفع بحركة تحرير ازواد للانسحاب من المعاهدة ونأت بنفسها عن أنصار الدين، بعدها اشتدت المواجهة بين الفرقاء فاحتدم القتال بينهم، وبلغت ذروتها في معركة غاو يوم 27 تموز 2012، حيث تمكنت كلا من حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا وأنصار الدين من السيطرة على المدينة وقتلت العشرات منهم، وجرح رئيس دولة ازواد "محمد اغ علي"، وطرد الحركة الوطنية لتحرير أزواد منها، ولكن عندما جاءت القوات الفرنسية لشمال مالي انسحب تنظيم "أنصار الدين" التابع للقاعدة منها بدون أي مقاومة مع الجيش الفرنسي واكتفت بالتصريحات والتهديد ضد فرنسا، وهذا الموقف يدل على أنه قد يكون هناك نوع تعاون خفي بين الطرفين في المنطقة.
4- كافة الدول تود بشكل شرعي او لا أن تحمي مصالحها وتحافظ عليها، وهنا هناك هشاشة بالوضع الاقتصادي الفرنسي، فـ75% من طاقتها المُستهلكة في البلاد هذه الطاقة نووية ولهذا السبب فإن اليورانيوم الموجود في شمال النيجر يُمثل قضيةً حيويةً بالنسبة للاقتصاد الفرنسي لا يمكننا أن نتصور أن تكون فرنسا غير قادرة اقتصاديا ولهذا السبب نرى تدخل فرنسا، لذلك فهل فرنسا قادرة على المدى البعيد ان تستمر في تحمل تكاليف حماية مصالحها في إفريقيا؟ مثل تحمل التكاليف العالية لمواجهة التنظيمات المسلحة التي باتت تشكل خطرا يشمل معظم دول القارة، وعدم وجود تعاون دولي جدي يساعد فرنسا في هذه الحرب، فضلا عن حماية الأنظمة الموالية لها في المنطقة، كذلك قدرة فرنسا على مواجهة التنافس الدولي على إفريقيا من قبل دول العالم الأخرى وعلى رأسها امريكا والصين، وقد بدأت شركات البترول الأمريكية بالفعل تدخل مجال البترول في القارة الإفريقية حتى في الدول الفرنكوفونية، فقد وقعت شركة أوكس الأمريكية التي تعمل في مجال التنقيب عن البترول عقدا في عام 1993 مع حكومة الكونغو برازافيل قيمته 150 مليون دولار، وذلك رغم وجود شركات فرنسية منافسة في الكونجو، كما أعطت جيبوتي حقوق التنقيب عن البترول والذهب لشركة أمريكية، مما دعا مسئول فرنسيا كبيرا لزيارة جيبوتي والتفاوض مع الرئيس السابق "حسن جوليد" علي تنشيط التعاون من قضية العفر والذي فسرته الحكومة الجيبوتية علي أنه مضاد لها.
مثال ثالث لمزاحمة الولايات المتحدة للمصالح البترولية الفرنسية في مناطق نفوذها، هي الاتفاقيات الأمريكية الإفريقية للتنقيب عن البترول في خليج غينيا الواعد في غرب إفريقيا، كما إن اندفاع الصين في إفريقيا جاء بشكل سريع وواسع وشمل معظم دول إفريقيا، خاصة من خلال المميزات التي تمنحها الشركات الصينية لهذه الدول، فالصين ليس لها تاريخ استعماري في القارة من جهة، كذلك إن نفوذها في القارة هو لأسباب اقتصادية فقط وليس لأغراض نشر قوات أو تواجد عسكري، أو فرض شروط على هذه الدول.
5- تدهور اقتصاد كثير من الدول الإفريقية، وذلك للأسباب التالية: نقص المواد الغذائية، القصور في إمكانيات استغلال ثروات القارة، الفساد المتفشي في بعض القيادات الإفريقية والذي يؤدي إلي نزوح الثروات الإفريقية إلي خارج القارة، غياب البنية التحتية، أزمة التنمية الاقتصادية، عدم تهيؤ الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في بعض الدول لتطبيق الانفتاح الاقتصادي علي السوق العالمية كما تفرضه قوانين النظام العالمي الجديد ويلاحظ أن الدول التي أصابها هذا التدهور في غالبيتها فرنكوفونية مما يشكل عبئا علي ميزانية التعاون الفرنسي، مما جعل فرنسا تتنصل من مسئوليتها الاقتصادية تجاه الدول الإفريقية، فقد أدت المشاكل الاقتصادية التي تواجهها فرنسا إلى تحويل جزء من التزاماتها المالية نحو القارة إلي المؤسسات المالية العالمية مثل الصندوق الأوروبي للتنمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والنتيجة المباشرة لهذه السياسة الفرنسية الجديدة، هو تخفيف التبعية الاقتصادية الإفريقية لفرنسا التي أصبحت تشاركها فيها المؤسسات الدولية الاقتصادية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
6- موقف فرنسا المتناقض من عملية التحول الديمقراطي في إفريقيا ففي سنة 1990، أعلن ميتران أن المساعدات الفرنسية للدول الإفريقية ستكون مشروطة بالتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، غير أن هذه التصريحات ظلت نظرية بحتة، حيث استمرت فرنسا في دعم النظم الإفريقية الدكتاتورية والفاسدة، بحجة المحافظة علي استمرارية النظام، وتجنيب البلاد النزاعات القبلية والحروب الأهلية وقد أدت هذه السياسة الفرنسية إلي إحباط شديد للأجيال الإفريقية الشابة التي تتطلع إلي الديمقراطية الحقيقية، ومن ثم بدأت فرنسا تفقد تعاطف الطبقة المثقفة الإفريقية الجديدة والأجيال الشابة المتعلمة، التي يتوقع أن تتولي مسئوليات شعوبهم في المرحلة القادمة.
7- الوضع الداخلي الفرنسي كان وما زال متذبذبا ومتشابكا تجاه التدخل في إفريقيا، فتعدد مراكز اتخاذ القرار في مجال السياسة الإفريقية لفرنسا، وتشتتها بين عدة وزارات ومؤسسات، بدعوي دمقرطة اتخاذ القرار وتقنينه وتشديد الرقابة عليه، ففي عهد ميتران وحتى قبله، كانت السياسة الإفريقية لفرنسا شأنا من شئون رئيس الجمهورية وكانت تعاون في ذلك لجنة من الخبراء تابعة لرئاسة الجمهورية، أما اليوم تعددت مراكز اتخاذ القرار في هذا المجال فأصبحت تتقاسمه مع رئاسة الجمهورية المؤسسات التالية: رئاسة الوزراء وزارة الخارجية السكرتارية الدائمة للتعاون، وزير الدولة لشئون الفرنكوفونية وزارة المالية، الصندوق الفرنسة للتنمية، وزارة الداخلية وزارة الدفاع، المخابرات العامة ويتم التشاور بين هذه المؤسسات عن طريق اللجان الوزارية، ويبدو أن تعايش النهجين اليميني والاشتراكي في الحكومة الفرنسية كان السبب الرئيسي في تشتيت المسئولية بهذا الشكل، مما أدي إلي بطء القرار ولونته وجدير بالملاحظة أن الإدارة الأمريكية قد تصرفت بالعكس تماما في هذا المجال: فلكي تدعم سياساتها الإفريقية، ركزت مسئولية إدارة هذه السياسة في وزارتي الخارجية والتجارة.
ختاما، أصبحت أفريقيا تمثل تحديا لفرنسا وفرصة في نفس الوقت، فهي تحديا كون فرنسا لم تعد اللاعب الوحيد في القارة الأفريقية، وفرصة كونها تريد استعادة دورها ونفوذها كقوة كبرى لا يستهان بها واسعة النفوذ في القارة الأفريقية، وأن سعى فرنسا للتصدي لخطر الجماعات الإسلامية المسلحة في المنطقة الأفريقية هي حماية المصالح الفرنسية.
أن الخطوة الفرنسية في إفريقيا أتت في وقت لم تذوب فيه تماما الصراعات في القارة الإفريقية التي تعاني من إمراض لا تختلف كثيرة في بنيتها السياسية، وعلى النقيض التام من الاندماج بين مكوناتها، والسبب الحقيقي للأزمة، إذ تشترك معها في نفس استراتيجية التقسيم والإقصاء الممنهج للجزء كبير من شعوبها المتعدد الأعراق، ان دولة مالي أو غيرها التي تدخل فيها الجيش الفرنسي بشكل أثر بلا شك على سمعة فرنسا التي تدهورت بفعل السير المشينة التي رسمها عهد الرئيس السابق "نيكولا ساركوزي" وزادها السلوك الرئيس الحالي ذي الميول الاشتراكية، إذا ما عرفنا أن اقتصاد بلدان إفريقيا ممسوك بشكل شبه كامل من قبل كبريات الشركات الفرنسية. فشعب إفريقيا، الذي يتألم تتحكم فيه شركات فرنسية مثل "بولوريه" و"سفا فرانس تيليكوم"، هذا من دواعي التشكيك في المزاعم الرسمية الفرنسية وتدفع للقول إن الخطوة العسكرية هي للأحكام السيطرة على منفذ اقتصادي مهم في القارة لم تطأه أقدام المنافسين الشرسين، حيث تنشط شركات فرنسية كبيرة تستغل موارد البلدان المنكوب بفعل الأنظمة الفاسدة، التي كانت سياستها سبب حقيقي لما يشهده اليوم من اضطرابات كانت بوادرها الحرب الأهلية الطاحنة، التي أخذت مؤخرا بعدا طائفيا في بعض البلدان الإفريقية، كما لا يمكن تجاهل حقيقة أخرى وهي إن بعض أنظمة الدول الإفريقية الشريكة لفرنسا مرتبطة ارتباطا وثيقا بفرنسا، لحمايتها من التهديدات الداخلية والخارجية لضعف جيوشها النظامية.
اضف تعليق