في العام 1978 كان العالم مسرحا لازمة جديدة: الخمير الحمر في كمبوديا يواجهون جيش فيتنام في دلتا نهر فيكونغ. اثارت الازمة انتباه الراي العام، حيث يتواجه بلدان شيوعيان لا على مسائل أيديولوجية بل على السيطرة على الأرض. بمناسبة هذه الازمة عادت كلمة (جغراسية) لتصبح قيد التداول من قبل المحللين. بعد نهاية الحرب الباردة أصبح هذا الاستعمال شائعا من دون لبس، اذ صارت الكلمة تستخدم في الإشارة الى واقع لا الى تخصص، ولا تعتبر أيضا مرادفا لكلمة جيواستراتيجيا.
تاريخيا ظهرت الكلمة مع نهاية القرن العشرين (عام 1889 بحسب البعض، وعام 1904 بحسب البعض الاخر، ومنذ عام 1889 بحسب قاموس روبير) وذلك من قبل السويدي رودولف كالجيان (1864 – 1922) في إشارة منه الى سياسة الدول بتأثير من المعطيات الجغرافية، قبل ان تصبح كلمة شعبية تداولها كتاب اخرون: مثل الإنكليزي هلفورد ماكيندر، والألماني كارل هاوسهوفر عشية الحرب العالمية الأولى.
هناك عدة تعريفات للجغرافيا السياسية منها:
دراسة الأقاليم السياسية التي تنقسم إليها الأرض كظاهرة من مظاهر سطحها سواء كانت الأقاليم صغيرة أو كبيرة.
وعرفها هارتس هورن عام 1935 على أنها علم دراسة الدولة كمساحة متغيرة بالنسبة لغيرها من المساحات المتميزة الأخرى، ثم يعود بعد ذلك هارتس هورن ليعرف الجغرافيا السياسية عام 1954 بأنها العالم الذي يهتم بدراسة التماثل أو التباينات في الشخصية السياسية للمساحات المختلفة، ويجب أن ينظر إليها على أنها أجزاء مترابطة في كل مركب، أقرب ما يكون إلى تماثلات وتباينات عامة.
اما دوجلاس جاكسون فيعرف الجغرافيا السياسية بانها العلم الذي يهتم بدراسة الظاهرات السياسية في أبعادها المساحية.
ما قدمته الأكاديمية للعلوم في واشنطن عام 1965 من أن الجغرافيا السياسية هي العلم الذي يهتم بدراسة التفاعل الذي يوجد بين المساحات الجغرافية والعمليات السياسية.
في ما تستخدم الجغراسية؟
استخدمت الكلمة كما الاختصاص تبعا للاداتية التي استخدمها النازيون لتبرير التوسع الألماني، وإذا كانت الكلمة قد تحولت محرما بعد الحرب الثانية، ان من جانب الدبلوماسيين او الباحثين، فان العلاقات بين الجغرافية السياسية والنازية كانت اقل وضوحا مما يقال.
ففي المانيا كان اول مروج للجغرافية السياسية كارل هاوسهوفر وليس فردريش راتزل كما يعتقد خطأ. عام 1918 تولى هاوسهوفر قيادة حركة لصالح مقاربة جديدة للجغرافية السياسية، تعهدها أساتذة من مدارس المانية بهدف التشكيك بالحدود الجديدة التي فرضها الحلفاء. عدا ذلك كان لابد من انهاء الاحتكار الذي مارسه الدبلوماسيون ووزراء الخارجية.
الجغراسية النازية كانت تغرف من كتابات الإنكليزي ماكيندر الذي يقول بمدار جغرافي للتاريخ، والمدار هذا مركزه اوراسيا، والذي يسيطر عليه يسيطر على العالم، مع ذلك لابد من انتظار السبعينات لنرى المصلحة من الجغراسية.
تعتبر اعمال ايف لاكوست تجديدا لهذا الحقل. وفي الولايات المتحدة يحيل اهل الاختصاص في العلاقات الدولية بوفرة الى الجيواسية. الا انهم مازالوا عند وجهة نظر كلاسيكية في مقارباتهم: التحليل الجغرافي للازمات الدولية. اما التجديد الذي سعى اليه ايف لاكوست فيراعي وجهة نظر التمثلات: اللاعبون الحاضرون، الراي العام والأفكار التي تأخذ بها الشخصيات. وهو يرى ان الجغراسية لايمكن ان تقتصر على الخصومات حول مصادر وثروات أرضية. فالسكان لايحاربون دائما من اجل امتلاك مورد طبيعي، بل ان التمثلات التي تحيط بذلك تعتبر حاسمة (دور الأفكار - حتى الخاطئة – يعتبر حاسما في الجغراسية، فهي التي تشرح المشاريع وهي التي تحدد خيارات الاستراتيجيا اكثر من المعطيات الطبيعية).
ويعني ذلك تأمين دور وسائل الاعلام ووجود هامش حرية التعبير، فبدونها لا يمكن تصور نقاش بين المواطنين، وهذا يعني ان النقاش الجيواسي مازال حديث العهد. واذا تابعنا الجدل الذي اثاره لاكوست، يمكننا اعتبار حرب فيتنام اول حرب جغراسية من حيث تحريك الراي العام وما اثارته من تضافر وسائل الاعلام.
من هذه الزاوية لايمكن الاقتصار على الازمات داخل الدول. بل يمكن توسيعها خارج الدول، حيث قد يمكن استحضار أزمات ترتبط بأرض تاريخية او رمزية، مثل الازمات التي ترتبط بحركات انفصالية او استقلالية مثل الباسك في اسبانيا او كورسيكا في فرنسا.
في النهاية نحن ابعد ما نكون عن التحديد الذي أعطاه لاكوست، وفيه: الجغراسية (هي العلم الذي يدرس العلاقة بين الدول وسياساتها). أضف الى ذلك ان العولمة التي ظهرت بعد الحرب الباردة قد خففت على ما يظهر من فكرة الجغراسية في العالم. فبمقابل حلول الحروب الاقتصادية بدل الازمات العسكرية، اقترح باسكال لورو مقاربة تستبدل الجغراسيا بالجغرافية الاقتصادية. معتبرا ان هذا الاختصاص يراعي الوسائل التي تستخدمها الدولة للدفاع عن مصالحها واستثماراتها.
كيف يمكن فهم مايجري في منطقتنا على ضوء الجغراسية؟
لو اخذنا ايران مثلا، وسياستها في الشرق الأوسط والتي هي جزء مهم منه، وعلى ضوء تقسيمات الدول من حيث امكانيتها من القوة حيث تقع ضمن (فئة الدولة القوية وغير القانعة):
وهي التي تشعر بفقدان التناسب بين إمكاناتها الذاتية من القوة القومية وبين حجم التأثير السياسي الفعلي الذي تمارسه في علاقاتها مع غيرها من الدول، وهنا توجد الفجوة التي تمثل الدافع إلى تغيير الواقع الدولي في الاتجاه الذي يحقق هذا التناسب على الصورة التي تتخيلها الدولة المعنية، ومن أمثلها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وألمانيا الغربية وفي إطار مجموعة المقاييس النسبية التي تستخدمها في عمليات التقويم والمقارنة، يعود هذا التفاوت في طبيعة المعايير المستخدمة في عمليات القياس والمقارنة وهو يرتبط بعدة أمور منها:
1- إدراك الدولة أن هناك دولا أقل من حيث حجم إمكانات القوة ومع ذلك فإن حجم مصالحها وتأثيرها السياسي أكبر مما تسمح به هذه الإمكانات.
2- تطور إمكانات القوة لدى الدولة من حجم محدود نسبيا إلى حجم أكبر، ولم يصاحب ذلك تغيير في حجم تأثيرها السياسي الدولي.
3- حدوث تطور في أهداف هذه الدولة القوية وشعورها بأن لديها من إمكانات القوة ما يساعدها على تنفيذ هذا التغيير في وجه أي شكل من أشكال المقاومة الدولية.
4- الرغبة في إحداث التغيير استجابة لبعض النزعات القومية الضاغطة في اتجاه يتصادم مع مضمون الأمر القائم). مفهوم الجغرافية السياسية/تغريد رامز هاشم محسن العذاري
ربما سؤال يطرح نفسه في ظل أوضاع بلداننا الشرق أوسطية هو:
اذا ظلت الجغراسية ثابتة في زمن العولمة، فهل تصمد الان في زمن الانترنت حيث يصار الى التلاعب بالحدود؟
اضف تعليق