مع تصاعد أعداد الضحايا والخسائر المادية لحروب امريكا في الشرق الاوسط، بدأت تتراجع رغبة الولايات المتحدة في الشروع بتدخلات جديدة او المحافظة على التدخلات الحالية. الرأي الشائع الآن هو ان المرحلة المقبلة من حياة الولايات المتحدة يجب ان تتسم بالتقليص العسكري بما يسمح لواشنطن التركيز...

مع تصاعد أعداد الضحايا والخسائر المادية لحروب امريكا في الشرق الاوسط، بدأت تتراجع رغبة الولايات المتحدة في الشروع بتدخلات جديدة او المحافظة على التدخلات الحالية. الرأي الشائع الآن هو ان المرحلة المقبلة من حياة الولايات المتحدة يجب ان تتسم بالتقليص العسكري بما يسمح لواشنطن التركيز على القضايا الاخرى الأكثر الحاحا.

هذا الموقف يبدو موحدا لدى كل من واقعيي السياسة الخارجية والتقدميون وجميع مرشحي الرئاسة لعام 2020 من الديمقراطيين وكذلك الرئيس ترامب. ليس من الصعب رؤية لماذا لايرغب الامريكيون في تكرار التورط العسكري الامريكي في افغانستان والعراق وليبيا. كلفة هذه الحروب كانت استثنائية، حيث أعلن ترامب في تجمّع بمدينة اوهايو الامريكية في شهر ابريل عام 2018، ان تلك التكاليف بلغت 7 ترليون دولار خلال لـ 17 سنة الماضية واستنتج ان البلد لم ير شيء من تلك الجهود عدا الموت والدمار.

وبالرغم من ان التكاليف المالية الدقيقة تعتمد على طريقة الحساب، لكن ما هو مؤكد ان اكثر من 4500 عسكري امريكي قُتلوا في العراق وتقريبا 2500 آخرين قتلوا في افغانستان، بالإضافة الى عشرات الالاف من الجرحى في كلا الحربين، هذا اذا استثنينا الضحايا من دول التحالف والمتعاقدين العسكريين والمواطنين المحليين. النقاد لهذه العمليات الكثيفة الموارد يلومونها لأنها أنهكت الولايات المتحدة في منطقة ذات اهمية من الدرجة الثانية، وأبعدت واشنطن عن التهديد الاكبر المتمثل بالصين وروسيا، وأشغلتها عن القضايا المحلية الملحة.

وفي ضوء هذه التكاليف الثقيلة وقلة الفوائد فان الضرورة الملحة للقادة السياسيين في كلا الحزبين هي الخروج من الصراعات الحالية في افغانستان والعراق وسوريا وتجنّب البدء بصراع جديد. في بيانه عن الاتحاد هذه السنة، أعلن ترامب "ان الامم العظيمة لاتقاتل في حروب لانهاية لها". عدد من النواب الديمقراطيين وقّعوا تعهدا "بانهاء الحروب الابدية"، مشيرين الى الحرب ضد الارهاب والتدخل العسكري الامريكي في افغانستان والعراق والاردن والنيجر والصومال وسوريا وتايلند واليمن. اما (جوي بايدن)، نائب الرئيس السابق والمرشح الحالي للرئاسة ايضا وعد "بإنهاء الحرب الابدية". هو وصف سحب ادارة اوباما للقوات العسكرية من العراق بانها "من اكثر اللحظات مدعاة للفخر" ودعا الى سحب القوات الامريكية من افغانستان. العديد من الخبراء لهم نفس التفكير. نقاشات التوازن الاستراتيجي الذي بموجبه تقلّص الولايات المتحدة حضورها العسكري العالمي وتقلّل تدخلاتها، كانت مقتصرة في قاعات الدراسة، اما اليوم فقد نالت اهتماما كبيرا.

امام هذا الاجماع السياسي الكاسح، لابد للمرء الاستنتاج ان واشنطن يجب عليها القبول به واحتضان سياسة الكبح. المشكلة هي ان مثل هذه الاستراتيجية تتجاهل المصالح والقيم التي كانت الحافز للتدخل الامريكي في المقام الاول. الاجماع ايضا يتجاهل حقيقة انه، بالرغم من الفشل الواضح للتدخلات الحالية الواسعة النطاق، هناك ايضا سجل أكثر نجاحا يتضمن الجهود الجارية حاليا في سوريا.

الافتراض بان عدم التدخل سيصبح عقيدة مركزية لمستقبل السياسة الخارجية الامريكية، ذلك سوف يغري الامريكيين للتفكير باقل جدية حول العمليات العسكرية للولايات المتحدة في الخارج وهذا سوف يولّد ليس فقط تدخلا اقل نجاحا وانما ربما الكثير منه. بدلا من الدخول في التمنيات، يجب على صانعي السياسة ان يقبلوا بان استخدام القوة العسكرية سيبقى اداة ضرورية للاستراتيجية الامريكية. هذا، بدوره يتطلب تطبيق الدروس الصحيحة من العقود الاخيرة.

اول اشارة بان الاجماع الساحق حول "نهاية الحروب اللانهائية" هو اكثر اشكالية مما يبدو عليه اول وهلة تأتي من التحذيرات التي تبرز حتى بين المتحمسين. لننظر في الاعتبارات التي يأخذ بها المرشحون الديمقراطيون للرئاسة للانسحاب من افغانستان. ذكر (بايدن) انه سوف يعيد القوات الامريكية الى البلاد خلال دورته الرئاسية الاولى لكنه سيبقى منفتحا "لحضور متبقي" لمواجهة الارهاب، والاتجاه نفسه سلكه ساناتور ترامب (كوري بوكر) من نيوجرسي حين وعد انه كرئيس سيسحب فورا القوات من افغانستان مع ضمان ان لا يصبح البلد ملاذا للارهابيين. (Pete Buttigieg) عمدة ساوث بيند في انديانا، الذي عمل كضابط بحرية في افغانستان، يتفق بانه "حان الوقت لإنهاء هذه الحروب الأبدية"، مع انه ينظر باتفاقية سلام تُبقي القوات الخاصة الامريكية وعمليات الاستخبارات هناك. مثل هذا الاجماع، هو سياسة مسؤولة مع انه لايُنهي الحروب الطويلة للولايات المتحدة.

حتى الناس الاكثر تحمسا في معارضة التدخل استمروا في ايجاد استثناءات. بيان السياسة الخارجية للسناتور (بيرن ساندر)، نُشر في (الشؤون الخارجية) في جون، بعنوان "انهاء حروب امريكا اللانهائية"، ومع ذلك هو اعترف بان "القوة العسكرية هي احيانا ضرورية، ولكن دائما كملاذ اخير". مستشاره للسياسة الخارجية اكّد التزام ساندر بالدفاع الجماعي ضمن حلف الناتو وقال ان التطهير العرقي والاعمال الوحشية سوف يكون لها الثقل الكبير على ساندر عندما يفكر بفعل عسكري. الداعون الى ستراتيجية التوازن offshore balancing(1)، مثل الباحث (جون مرشمير)، يفضل استخدام القوة عندما ينهار توازن القوى الاقليمي، وهو كتب بان اتجاهه سوف لا يمنع العمليات لوقف التطهير العرقي، كالذي حدث في راوندا عام 1994.

اما على المستوى البلاغي والثقافي، فان نهاية التدخل لم تكن واضحة جدا مثلما يقترح السياسيون. حقيقة كونك قائدا أعلى يجعل الاشياء اكثر تعقيدا. في حملاتهم الانتخابية، بيل كلنتون وجورج بوش واوباما وترامب تعهدوا جميعهم بتقليل مغامراتهم العسكرية وإعادة توجيه الموارد نحو الحاجات في الداخل. اما في السلطة، يقومون وبتحفظ بالاستمرار في الحروب الحالية وشن حروب اخرى جديدة.

النتيجة هي انه، طبقا لخدمة بحوث الكونغرس، فان الولايات المتحدة استخدمت القوة العسكرية اكثر من 200 مرة منذ نهاية الحرب الباردة. العديد من هذه العمليات حدثت في الشرق الاوسط او حوله، بما فيها افغانستان والعراق وليبيا والصومال وسوريا واليمن. وهناك تدخلات اخرى حدثت في البوسنة وكولومبيا وهايتي وكوسوفو وليبريا والفلبين. النزعة للتدخل ببساطة ليست نتاج لبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب الباردة، الولايات المتحدة ارسلت قواتها العسكرية للقتال في الخارج اكثر من 50 مرة. العمل العسكري الامريكي ليس كما يعتقد البعض خاصية لما وراء الحرب الباردة، انها كانت عنصرا اساسيا لاتجاه امريكا للعالم منذ عقود.

الموقف المضاد للتدخل

فقط لأن امريكا تدخلت كثيرا لا يعني انها ستستمر بهذا او يجب عليها ان تستمر. الموقف ضد التدخل عموما يأخذ خمسة اشكال. وعلى الرغم من ان هناك عناصر للوصول للحقيقة، لكن تلك العناصر ايضا تهدد بإخفاء عناصر اخرى واقعية اكثر تعقيدا.

الحجة الاولى:

وترى ان الولايات المتحدة لاتحتاج الى استخدام الوسائل العسكرية استجابة للإرهاب، او الحرب الاهلية او الاعمال الوحشية الواسعة، او المشاكل الاخرى التي ليست من مهامها. واشنطن استخدمت القوة ضد الارهابيين في دول تمتد من النيجر الى باكستان بخسائر انسانية ومالية هائلة. ومع ذلك اذا كان عدد الامريكيين الذين يموتون في احواض الحمام كل سنة اكثر من اولئك الذين يموتون في الهجمات الارهابية، فلماذا لا تُشن الحرب ضد السيراميك؟ معسكر ما بعد 11 سبتمبر 2009 استمر في الكفاح 18 سنة اخرى وامتد الى ما وراء تحطيم القاعدة وقواعدها في افغانستان. وفق هذه الرؤية، تضاؤل التهديد يجب ان يرافقه تضاؤل الاهتمام الامريكي. الحروب الاهلية في ليبيا وسوريا واليمن ربما كانت كارثية، لكنها لا تتطلب استجابة عسكرية امريكية اكثر مما فعلت امريكا في راوندا والكونغو الشرقية ودارفور.

ان تبنّي مثل هذه النظرة المحدودة للمصالح الامريكية، ايضا تحمل تكاليفها الخاصة. الارهاب يبقى تهديدا وان تأثير الهجمات الناجحة على امريكا يذهب الى ما وراء ضحاياها الفورية لتتضمن الضغط المتزايد لتقييد الحريات المدنية داخل الوطن وتمويل عمليات غير مخططة في الخارج – عمليات مكلفة واقل فعالية من العمليات البعيدة المدى المخططة جيدا. بعد تمدد تنظيم داعش في العراق وسوريا وافلام الارهابيين في ذبح المحتجزين الامريكيين اصيب الناس بالرعب وهو ما دفع اوباما لاتخاذ عمليات اكبر من الضروري. التطهير العرقي والحرب الاهلية يمكن ان تشكل تهديدا خطيرا للمصالح الامريكية والقيم الامريكية بما يجيز التدخل. الرؤساء اللاحقون استخدموا القوة العسكرية لمنع او وقف او معاقبة الفظائع الواسعة، استخدمها كلنتون لإنهاء التطهير العرقي ضد المسلمين البوسنين في البلقان، اوباما لحماية الاقلية الايزدية في العراق وترامب بعد الهجمات الكيميائية في سوريا. هناك اسباب جيدة للاعتقاد ان نفس الحالات ستبرز في المستقبل.

الحجة الثانية:

وهذه الحجة تركز على السجل الفقير للتدخل. مع كل النوايا الحسنة للولايات المتحدة، وقف الارهابيين، انهاء التطهير العرقي، استقرار الدول، نشر الديمقراطية، لم تنجح واشنطن كثيرا في محاولاتها. العراق وليبيا بديا اكثر سوءا مما كانا عندما بدأت الحرب ضد صدام حسين ومعمر القذافي، وطالبان حاليا تسيطر على افغانستان اكثر من اي وقت مضى منذ 2001. ومنذ وقت طويل كانت لدى امريكا طموحات في تحويل هذه الدول نحو الديمقراطية. مع ذلك، هذه الحجة تتجاهل الاوقات الاخرى العديدة التي نجح بها استخدام القوة الامريكية. انها اخرجت صدام من الكويت، انهت الحرب في البوسنة، اوقفت التطهير العرقي في كوسوفو، مهدت الطريق للتحول الديمقراطي في ليبريا وساعدت في هزيمة الحركات الارهابية وجلب السلام المؤقت الى كولومبيا. حتى في افغانستان، يجب ان لا ننسى ان واشنطن رفضت الابقاء على ملاذ آمن للقاعدة، وفي العراق وسوريا قضت امريكا على داعش وقلصت تدفق المقاتلين الاجانب وحررت المدن من الفساد. وهناك حالات اخرى للتدخل الامريكي يصعب قياس تأثيرها مثل، فرض مبادئ مضادة للتطهير الاثني وإبعاد الدول من تقديم معابد للإرهابيين او التورط في حروب قمعية. للحصول على صورة دقيقة عن سجل التدخل الممتزج، لا يمكن للمرء انتقاء الحالات الكارثية او تلك الناجحة.

الحجة الثالثة:

وهذه تشير الى المنزلق الخطير للاشتراك في تلك التدخلات. عند البدء بحملة عسكرية فان الولايات المتحدة سوف لن تخرج ابدا. بعد اتفاق دايتون للسلام عام 1995 الذي أنهى رسميا الصراع الاثني في البوسنة، بقيت القوات الامريكية في المنطقة لعشر سنوات، والناتو ابقى وجودا في كوسوفو الى هذه السنة. الولايات المتحدة تبدو عالقة في افغانستان ايضا لأنه بدون اتفاق سلام مع طالبان، فان الحكومة المدعومة امريكيا قد تسقط. وفي العراق، أزال اوباما كل القوات الامريكية، فقط ليرسلها مجددا عندما أوجد داعش وجودا واسعا له هناك. حالما تُستخدم القوات الامريكية، فهي عادة تبقى لوقت طويل. لكن البقاء يختلف عن القتال، ومن الخطأ المساواة بين التواجد العسكري للأغراض الاستشارية وبين وجود تلك القوات المنخرطة في القتال. هناك اختلاف حاد بين وجود القوات الامريكية في العراق اثناء ذروة الحرب وتلك القوات التي تقوم الان بمهام التدريب للقوات العراقية. بعض المصالح الامريكية تستحق ثمن استمرار التواجد العسكري، والهدف يجب ان يكون تخفيض تلك التكاليف البشرية والمادية عندما تستقر الظروف. وحتى عندما يتم هذا، تبقى هناك حاجة لدور مستمر خاصة عندما يكون وجود القوات الامريكية فقط للمحافظة على التوازن السياسي المحلي، كما حصل في العراق قبل الانسحاب عام 2011 وكما يحصل الان في افغانستان.

الحجة الرابعة:

وترتكز على جواب لسؤال "لماذا نحن"، لماذا يجب دائما على الولايات المتحدة اللجوء الى السلاح خاصة عندما تكون الدول الاخرى قادرة على تحمّل هذا العبء وتواجهها مخاطر كبيرة؟ اوربا جغرافيا اقرب الى ليبيا وسوريا، وتواجه مخاطر كبيرة من الارهاب وتدفّق اللاجئين وتمتلك قوات عسكرية قادرة. دول تحالف الشرق الاوسط ايضا لديهم مواردهم الخاصة. وفي النهاية لا يمكن اعتبار الدور الامريكي لا غنى عنه.

لو نظرنا الى مساهمات جميع شركاء امريكا، نجد فقط الولايات المتحدة لديها الرغبة والقدرة لقيادة عمليات عسكرية ناجحة. فرنسا قادت عملية ناجحة في مالي عام 2013، والمملكة المتحدة قادت عملية في سيرليون عام 2000، لكن تلك العمليات كانت استثناءً. ما كان يمكن للعراق ان يغادر الكويت عام 1991 لو لم تقد الولايات المتحدة تلك الجهود، وكذلك ما كان بالإمكان انهاء المجازر الواسعة في البلقان اثناء التسعينات دون هيمنة الدور الامريكي حتى وان حدث في ارض اوربية.

في افغانستان وسوريا، كان التحالف الامريكي صريحا بانه سيبقى طالما تستمر الولايات المتحدة بالعمل ولكنه في خلاف ذلك سيتجه للخروج. اصدقاء امريكا في اوربا اثبتوا عدم اهتمامهم في التعامل المباشر مع القضايا، وعندما رفضت واشنطن التدخل، وقفوا ساكنين. في ليبيا بعد سقوط القذافي، فشل الاوربيون في فرض الأمن حتى مع تزايد اعداد اللاجئين والمهاجرين في البحر المتوسط. في سوريا قبل بدء القصف الامريكي، هم لم يشنوا حملة عسكرية ضد داعش حتى مع وصول اللاجئين السوريين الى اوربا وتهديد استقرارها السياسي. وعندما بدأ التحالف الامريكي في اخذ الامور جديا، هم ربما جعلوا الموقف اكثر سوءا. السعودية والامارات قررتا التدخل في الحرب الاهلية اليمنية، لكن حملتهما القاسية والعشوائية قادت الى كوارث انسانية وزادت من قوة الدور الايراني التي سعت في الاصل الى تحجيمه.

السبب الاخير الذي كثيرا ما طُرح في تأييد الخروج من المنطقة يتصل بالتكاليف البشرية المباشرة والمادية المتمثلة بالدولار المُقترض والمُنفق وتكاليف الفرصة. من الواضح جدا ان الصين وروسيا مثّلتا التحدي الاول للولايات المتحدة منذ وقت طويل وان المنافسة معهما اصبحت اكثر سخونة. اذا كان ذلك صحيحا فلماذا ننفق الموارد بتدخلات عسكرية اقل اهمية؟

هنا ايضا، عدد من الاعتبارات والتفاصيل الصغيرة. مستقبل منافسة القوة العظمى يجب ان يؤسس الاتجاه القادم للولايات المتحدة على الأمن القومي، لكن التركيز على مناوئة الارهاب هو مطلوب ايضا. ادارة جورج بوش استلمت السلطة بأمل التركيز على الصين، فقط لترى ان خططها انقلبت رأسا على عقب بعد هجوم سبتمبر. الانسحاب قبل الوقت الملائم من ملاذات الارهاب مثل افغانستان والعراق وسوريا سيهدد تركيز القوة العظمى الضرورية في المرحلة القادمة لحياة الولايات المتحدة. هجوم ارهابي كبير على الاراضي الامريكية مثلا ربما يجعل واشنطن مرة اخرى تحتضن مقاومة الارهاب كأفضلية رئيسية للامن القومي، تاركة نفسها أكثر حساسية للتهديدات من الصين وروسيا.

الاستراتيجية الذكية A subtler strategy

جميع التدخلات التي حدثت بالماضي والتي تحدث في المستقبل، تثير السؤال الصعب (ماذا لو). ماذا لو حصل مرة اخرى موقف مثلما حدث في رواندا عام 1994 حيث فقدان 800 الف ضحية، وكانت هناك امكانية في ان تؤدي جهود عسكرية اجنبية متواضعة الى إحداث فرق كبير فهل سوف تتجنب الولايات المتحدة الفعل مرة اخرى؟ هل كان يجب ان تبقى خارج حمام الدم في البلقان او تتدخل مبكرا لمنع المجازر الوحشية؟ هل كان يجب ترك القذافي يهاجم بنغازي؟ هل لو ان ملاحقة القاعدة بعد هجوم عام 1998 على سفارة الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ربما كان يمنع الحاجة للإطاحة بطالبان بعد ثلاث سنوات؟.

الحرب في العراق كانت ساخنة جدا ومكلفة بشكل كارثي ذلك طبقا لوزير الدفاع السابق روبرت غيت، "اي شخص يفكر بتورط مشابه يجب ان يفحص رأسه". كل ما يمكن ان يسير بشكل خاطئ في العراق قد حصل بالفعل. ما بدأ من حرب كان لإزالة اسلحة الدمار الشامل التي لم يُعثر عليها، الحافز لتحرير الشعب العراقي من الاستبداد دفعه للحرب الاهلية، والرغبة بفتح جبهة اخرى في الحرب ضد الارهاب خلقت المزيد من الارهابيين بدلا من ازالتهم. ان الحرب التي وعد المسؤولون الامريكيون بسهولة تحقيقها خلقت تكاليف لا تُحتمل للقوات الامريكية ولعوائلهم وللشعب العراقي ذاته.

ومن المفارقة، ان العديد من افراد النخبة السياسية في واشنطن خاصة في جانب الجمهوريين كانوا لسنوات غير قادرين على الاعتراف علنا بان الغزو كان خطأ فادحا. بعد غزو عام 2003، ادت السياسة الرافضة للاقتراح بان التضحيات الامريكية كانت بلا فائدة الى إبقاء تلك الاقتراحات شخصية. فشل القادة السياسيين الجمهوريين بالاعتراف ان تكاليف الحرب تجاوزت فوائدها أضعف مصداقيتهم التي كانت سلفا تفقد بريقها بمساندتهم للحرب بالمقام الاول. ذلك بدوره ربما ساعد في خلق النزعة القوية المضادة للتدخل السائدة اليوم. واشنطن تحتاج الى خيار دقيق لها.

ان التدخل العسكري الامريكي يتخذ اشكالا متنوعة – كأن يكون هجوم احادي بطائرة مسيرة في مناطق بعيدة في باكستان وهو يختلف عن حرب المستقبل النظرية ضد الصين. وبالنتيجة، لا توجد هناك قواعد دقيقة حول متى يجب او لا يجب على القادة استعمال القوة. السياق مهم، وحكم الانسان دائما مهم في اللعبة. مع ذلك، من الممكن وضع ايجاز لعدة مبادئ تأكدت من تجارب العقود الاخيرة التي يجب ان ترشد السلوك العام لصانع القرار الامريكي.

1- المبدأ الاول

هو تجنب تكرار ممارسة دروس التدخلات الماضية. عادة قيل ان الجنرالات دائما يخوضون الحرب الاخيرة ونفس الشيء يقال عن صانع السياسة. احيانا هم يطرحون الدروس الملائمة ولكن في احيان اخرى هم لا يقومون بذلك. الرئيس هاري ترومان أرسل القوات الى خط العرض 38 في كوريا، مما سحب الصين الى الحرب الكورية، وكذلك في فيتنام بقيت القوات الارضية الامريكية في جانبها من المنطقة المنزوعة السلاح حيث وضعت تركيزا هائلا على القصف المكثف ضد الشمال. وبأمل تجنب الاسلوب الفيتنامي الصعب، عندما قاتل جورج بوش حرب الخليج، سعى لتحديد اهدافه بغرض محدد في إعادة الكويت وضمان استقلالها. ولكن بسبب بقاء صدام في الحكم، اصبحت مشكلة العراق اكثر سوءا. كان يُفترض بحرب العراق الثانية ان تنهي المهمة – لكنها بيّنت كيف ان الصراع القصير قد يقود لإحتلال غير محدد. لكي يمنع ذلك من الحدوث في ليبيا، قرر اوباما استعمال القوة الجوية لإزاحة القذافي لكنه أبقى القوات الامريكية بعيدة عن الارض، هو لهذا كان غير قادر على احتواء الفوضى التي اندلعت لاحقا. ومثل هذا حدث في سوريا، اوباما وترامب يقاتلان الارهابيين دون محاولة ازاحة النظام. الالتصاق في خطوط صارمة بالارتكاز على الاخطاء الماضية يمكنه بسهولة ان يقود الى مآزق جديدة مختلفة.

2- المبدأ الثاني

هو اختيار التدخلات التي تلبّي شروط واضحة ثم تبنّي تلك التدخلات المختارة. الولايات المتحدة يجب ان تباشر تدخلات فقط عندما يعتقد القادة السياسيون - الرئيس وغالبية الكونغرس- ان القوة ضرورية لتحقيق هدف محدد بشكل واضح. هم يجب ان تكون لديهم توقعات معقولة بان دول التحالف خاصة اولئك الذين في المنطقة سوف يلتحقون بالجهود. هم يجب ان يستنتجوا بان فوائد التدخل العسكري بالمدى البعيد يتوقع ان تتجاوز التكاليف. كما يجب ان يباشروا تدخلات تكون فيها القوات الامريكية مستعدة للبقاء لوقت طويل وغير محدد اذا كان ضروريا.

مبادئ مثل هذه لايمكن ان توفر كل الاجوبة لصانعي السياسة التي يحتاجونها، لكنها يمكن ان تشير الى الاسئلة الصحيحة. صانعو القرار يحتاجون تحديد واضح لأهداف التدخل الممكن، مثلا، سوف تجبرهم على التمييز بين ادارة المشكلة (مثل منع افغانستان من ان تصبح ملاذا للارهابيين ) وحلها (مثل جعل بلد طالبان ديمقراطي حديث متحرر). اشتراك الحلفاء في الجهد يجب ان يستلزم تقييم صادق لقوتهم وضعفهم، ما اذا كان اولئك الحلفاء شخص ما مثل رئيس افغانستان حميد كرزاي او منفيين في العراق او قوات اوربية في ليبيا او قوات سوريا الديمقراطية. والحكم حول فوائد وتكاليف العمليات المحتملة يجب ان يتضمن تحليل لنجاح او فشل مختلف الاتجاهات في الماضي، مثل عمليات مكافحة الارهاب او حملة متطورة ضد المتمردين.

احدى طرق التفكير التقليدية حول التدخل جسدتها عقيدة باول، حيث طوّرها الجنرال كولن باول اثناء حرب الخليج والتي تؤكد على اهمية استخدام القوة الحاسمة، وامتلاك استراتيجية خروج واضحة، وتعبئة الرأي العام الامريكي. لكن نقيض ذلك ثبت ايضا صحيحا بنفس المقدار في الحروب الاخيرة. هناك حالات يكون فيها توظيف قوة متواضعة ضمن جدول زمني مفتوح ربما أفضل ستراتيجية. عدم الرغبة العامة لدى صانع القرار للتفكير في تواجد امريكي طويل الاجل بالبلد الاجنبي، الى جانب نزعتهم لرؤية الصراعات كمشاكل مؤقتة يمكن حلها بفترة محدودة، عادة يجعلهم يندفعون للخروج عندما يصبح الموقف اكثر صعوبة. كون امريكا لم تكن متعجلة بخروج مضطرب في كلا البلدين العراق وافغانستان، مثلا، قد يجعل مستقبل النجاح في كلا النزاعين باهرا. وحتى بعد عدة سنوات من بداية تلك الصراعات، كان التورط الامريكي الدائم والقليل الكلفة مفضلا على الانسحاب غير المشروط.

مجموعة جديدة من الارشادات ايضا تأخذ اتجاها باختلافات بسيطة في تقرير ما اذا كان التدخل ممكن ادامته سياسيا. النموذج المألوف يؤمن بان الرؤساء يجب ان يرسموا صورة لتهديد الامريكيين ومن ثم يحصلون على دعم الامريكيين للحرب، على أمل تخفيض العمليات قبل ان يشعر الجمهور بالانهاك من الصراع. مع ذلك فان الدعم السياسي يعتمد قليلا على فترة الحرب قياسا بالتكاليف المالية، وخسائر الضحايا والتقدم المتصور. تقليل الخسائر واتخاذ خطوات ملموسة نحو اهداف الصراع هي حاسمة لادامة الدعم السياسي في المدى الطويل. بدلا من افتراض ان النجاح النهائي هو في متناول اليد، يجب على صانع السياسة ان يتبنّى موقفا لتورط طويل ومن ثم يعمل لخفض التكاليف البشرية والمالية المرتبطة به.

من النظرية الى التطبيق

تطبيق هذه الارشادات سوف يأخذ بالاعتبار بعض التدخلات التي حدثت في الماضي ويستبعد اخرى. التدخل في البلقان ورواندا اجتاز الاختبار خاصة في ضوء الاهداف المحددة (في البلقان انهاء الاعمال الوحشية دون اسقاط الحكومة) والوسائل العسكرية المطلوبة (في رواندا تعزيز بعثة الامم المتحدة لحفظ السلام التي هي سلفا على الارض). قرار الهجوم على القاعدة عام 2001 وعلى طالبان في افغانستان ايضا حقق النجاح، وكذلك الحملة المناهضة لداعش في العراق وسوريا باعتبار ان الاتجاهات غير العسكرية كانت غير قادرة على إغلاق الملاذات الامنة.

حرب العراق عام 2003 ما كان لها اجتياز الاختبار في ضوء الحسابات الواقعية للتكاليف والفوائد والتغيير المستمر في الاهداف. في ليبيا، هذه المبادئ قادت واشنطن اما الى تجاوز سقف العمليات المحددة لوقف المجازر في بنغازي وترك القذافي في السلطة او البقاء خارج الصراع. بدلا من ذلك، اختارت ادارة اوباما الاطاحة بالنظام. بالنسبة للتدخلات القائمة في افغانستان والعراق وسوريا، ستجري الارشادات بتفضيل وجود قوات متبقية دائمة لمنع هذه الدول من العودة الى الارهاب. كذلك، كلفة التحرك الى هذه البلدان بعد الانحدار الى الفوضى والارهاب كما حدث في العراق بعد 2011 ستكون حتما أعلى من كلفة البقاء.

تجاهل ظهور حواضن للإرهابيين قد يكون اكثر كارثية. عدة تغيرات عملية تساعد صانع القرار في تقييم تدخل عسكري محتمل. ولكي يتم ضمان دقة تحليلات الكلفة والفوائد دقيقة فهي يجب ان ترتكز على نطاق كامل من التكاليف – ليس فقط الخسائر المتوقعة والنفقات المباشرة المرتبطة بالعمليات وانما ايضا اولئك المتعاقدين ورجال الاستخبارات بالإضافة الى التكاليف الطويلة المدى مثل تكاليف الرعاية. هي يجب ايضا ان تتضمن التأثيرات المحتملة للفعل العسكري على حياة المدنيين في البلد المعني والتأثيرات المحتملة لعدم الفعل العسكري على السكان الامريكيين.

مخاطر التنبؤ

في النهاية، ان عدم التنبؤ بأحداث العالم يضع الافضلية للحكم الانساني ويتجاهل الصيغ الصارمة. ذلك بالضبط يوضح لماذا من غير الحكمة لمرشح الرئاسة عام 2020 ان يتخذ التزامات مؤكدة لإنهاء التورط الامريكي في افغانستان والعراق وسوريا ولماذا من غير الحكمة لترامب التركيز على الخروج من تلك النزاعات بدلا من التركيز على الشروط الصحيحة التي تمكّن من ذلك الخروج بأمان.

وسط كل هذا الاحباط المبرر باتجاه امريكا لما بعد الحرب الباردة والتعهد بتقليل التدخل وانهاء الحروب الدائمة فان الحاجة لإستراتيجية دقيقة تكون اكبر عند النظر لدراسة (اذا، متى، كيف ) يجب ان تستعمل الولايات المتحدة القوة في الخارج. لا وجود لإستراتيجية كبرى يمكن بنائها على افتراض ان التدخل العسكري كان عملا خاطئا في الماضي بدلا من ان يكون ميزة مستمرة للسياسة الخارجية الامريكية.

حاليا، ومع دخول العالم ما بعد بعد الحرب الباردة، يحتاج الامريكيون للقيام بتفكير شاق. بلدهم يبقى قوة عالمية ذو مصالح قوية وقيم تتطلب الدفاع عنها. الولايات المتحدة لاتحتاج البحث في الخارج عن وحوش لتحطيمهم. لكن يجب ان لا تطمئن لفكرة ان مثل هؤلاء الوحوش سيختفون.

* مجلة الشؤون الخارجية Foreign Affairs، عدد نوفمبر/ديسمبر 2019.

................................
الهوامش
(1) هذه الاستراتيجية تقوم على أربعة عناصر:
1- سحب القوات الامريكية او خفضها في اوربا والشرق الاوسط والتركيز على شرق آسيا
2- التركيز على البحر والجو بدلا من إرسال قوات ارضية.
3- السعي الى نقل العبء وليس الاشتراك فيه، بمعنى التركيز على جعل الدول الاخرى تعمل الكثير لأجل أمنها وبالتالي تعمل امريكا القليل لضمان ذلك.
4- خفض التواجد العسكري في مناطق الصراع يقلل من ارهاب الحركات الاصولية.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق