لابد أن تُخاض المعركة الإيديولوجية الأكبر من أجل نظام دولي قائم على القواعد باستخدام جرعة قوية من التربية المدنية العالمية كترياق مضاد للقومية الجديدة. ومن الممكن عكس الهزائم التكتيكية الحالية في حال الفوز في المعركة الإيديولوجية. ونظرا للحاجة إلى التعاون الشامل، فإن تكييف وتعزيز نظام...
واشنطن، العاصمة ــ كثيرا ما يُقال إن النظام العالمي الأحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والذي نشأ في نهاية الحرب الباردة، تحول مؤخرا إلى ترتيب "متعدد الأقطاب"، بسبب "الوزن" الجيوسياسي المتنامي الذي اكتسبته دول مثل الصين، فضلا عن العديد من الاقتصادات الناشئة. لكن المقاييس الفعلية التي نزن بها القوى العالمية لا تُناقَش عادة إلا بعبارات غامضة، هذا إن طُرِحَت للمناقشة على الإطلاق.
ولا يوجد مقياس متفق عليه يمكن استخدامه لقياس الوزن الدولي لأي بلد نسبة إلى دول أخرى. على سبيل المثال، يستخدم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقاييس اقتصادية، مثل الناتج المحلي الإجمالي وحجم التجارة، ومثل هذه المقياس غير موحدة عبر المؤسسات الأخرى. حتى أن الأمم المتحدة لا تستخدم نفس المقاييس في جميع هيئاتها: ففي الجمعية العامة، يُقاس وزن كل بلد وفقا لمقاييس متساوية، ولا وجود لحق النقض؛ وفي مجلس الأمن، تتمتع الدول الخمس الدائمة العضوية (الصين، وفرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، بحق النقض.
وفي وقت حيث تخضع التعددية لضغوط متزايدة، من المفيد أن نفهم التحول الأساسي في الأوزان الرئيسية وأن نحكم على القدر من الخبرات الذي يعكس التحولات البنيوية في هذه الأوزان وكم منها يرجع ببساطة إلى تغيرات سياسية مستقلة.
هنا، تبرز ثلاثة مقاييس للوزن الدولي لأي بلد: حجم السكان، وحجم الاقتصاد قياسا على الناتج المحلي الإجمالي بأسعار السوق (الناتج المحلي الإجمالي من حيث تعادل القوة الشرائية أكثر فائدة في قياس الرفاهة)؛ والقوة العسكرية، التي تقاس على نحو منقوص من خلال الإنفاق على الدفاع. وإذا اعتبرنا المقاييس الثلاثة مهمة بنفس القدر أو على نحو متشابه، فسوف يبدو الأمر وكأن القوى الأكثر "أهمية" هي الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، واليابان، والهند، وروسيا، والبرازيل.
بطبيعة الحال، هناك العديد من التساؤلات، بدءا بما إذا كان الاتحاد الأوروبي ــ الذي يتفاوض على الترتيبات التجارية ككيان واحد، ولكنه يضم أعضاء يتمتعون بالسيادة في العديد من المجالات ــ ينبغي اعتباره قوة فاعلة موحدة في الشؤون العالمية. وعلاوة على ذلك، ليس من الواضح بكل تأكيد ما إذا كان من الواجب أن نعتبر المقاييس الثلاثة على نفس القدر من الأهمية في واقع الأمر.
في كل الأحوال، تمثل هذه المقاييس الثلاثة نقط بداية مفيدة لمقارنة الأوضاع النسبية للأوزان العالمية في عام 1990، عندما بدأ ما يسمى النظام الأحادي القطب في الظهور، والأوضاع النسبية في عام 2017، عندما كان من الواجب أن تكون خطوط الشكل الخارجي للنظام المتعدد الأقطاب مرئية.
المصادر: تقرير صندوق النقد الدولي للتوقعات الاقتصادية العالمية الصادر في إبريل/نيسان 2018، وقاعدة بيانات الإنفاق العسكري الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
الواقع أن هذه الأرقام تسلط الضوء، أولا وقبل كل شيء، على صعود الصين، التي تزايدت حصتها في كل من الناتج المحلي الإجمالي والإنفاق العسكري بشكل كبير (من 1.7% إلى 15%، ومن 1.6% إلى 13.8% على التوالي). كما زادت حصة الهند في كل من المجالين، ولكن انطلاقا من قاعدة أصغر كثيرا (من 1.4% إلى 3.3%، ومن 1.4% إلى 3.6% على التوالي).لم تتمكن أي قوة أخرى من تحقيق زيادة مماثلة في "الحجم". وقد خسرت الولايات المتحدة قليلا من حيث الناتج المحلي الإجمالي والسكان لكنها لا تزال تُعَد القوة الأكبر على الإطلاق عندما نضع القوة العسكرية في الاعتبار. وفي ظل انخفاض السكان وناتج محلي إجمالي لا يتجاوز 2% من الإجمالي العالمي، تُعَد روسيا "صغيرة" للغاية برغم أن امتلاكها لأسلحة نووية من العوامل التي لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار.
إذا حكمنا من خلال المقاييس، فإن العالَم يدخل العقد القادم في حالة ثنائية القطبية نوعا ما، حالة تهيمن عليها الولايات المتحدة والصين بقوة. وإذا عومل الاتحاد الأوروبي بوصفه قوة موحدة ــ بما في ذلك من قِبَل الدول الأعضاء (ولنقل من خلال اتباع سياسات مشتركة) ــ فقد يمثل قطبا ثالثا. والهند، التي ينمو ناتجها المحلي الإجمالي الآن بما يقرب من 8% سنويا، قد تشكل في النهاية قطبا رابعا، لكن الطريق أمامها لا يزال طويلا.
إن النظام الدولي الذي يرتكز على ثلاث سيقان ونصف الساق لا يرقى إلى كم الضجيج المثار حول التعددية القطبية. وينطوي هذا على معان ضمنية مهمة في ما يتصل بالجهود الرامية إلى إحياء التعددية. وبشكل خاص، لأن العالَم ليس متعدد الأقطاب حقا، فإنه من الناحية البنيوية لن يقود إلى تعددية متعددة الأقطاب كما افترض كثيرون. ولكي تتمكن من البقاء، تحتاج التعددية إلى الدعم من القوى الكبرى.
كان كثيرون يأملون أن تضع الصين ثِقَلَها خلف نظام عالمي متعدد الأطراف، لكن يبدو أن قادة الصين مستعدون لاستخدام الهياكل التعددية عندما تناسبهم فقط. ومن جانبه، يبدو من الواضح أن الاتحاد الأوروبي يتمتع بنزعة تعددية قوية، لكنه ضعيف بفِعل الانقسامات الداخلية. وإذا نجح في التغلب على هذه الانقسامات، فربما يصبح بطل التعددية الذي نحتاج إليه؛ لكنه في الوقت الحالي شديد الانقسام. وقد تصبح الهند مدافعا مهما عن التعددية، لكنها في الوقت الحالي تلاحق سياسات أحادية ولا تزال تفتقر إلى النفوذ الدولي اللازم.
وهذا يترك لنا الولايات المتحدة، باعتبارها العمود الفقري للتعاون العالمي. فربما يمكن بناء التحالفات لمعالجة قضايا بعينها أو على أساس إقليمي؛ لكن الحفاظ على النظام الحالي من الحكم العالمي، ناهيك عن تعميقه وترسيخه، أمر مستحيل في غياب دعم الولايات المتحدة.
في وقت حيث تقاوم الولايات المتحدة على نحو متزايد التعاون الدولي بل وتسعى إلى تقويضه، فإن هذا يشكل مصدر قلق بالغ. فكما أشار مؤخرا روبرت كاجان، في عالم اليوم الشديد الترابط نحتاج إلى قواعد ومؤسسات لحكم السوق والنشاط الاقتصادي أكثر من أي وقت مضى. وسوف يتزايد وضوح هذا الأمر بفِعل القضايا السياسية والأخلاقية التي تفرضها التكنولوجيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية، والتي يجب معالجتها على مستوى دولي.
بالطبع، لا تزال الولايات المتحدة بعيدة عن كونها متحدة في ما يتصل بمعارضة التعددية، ومن الممكن أن تكسب الكثير من وراء الانفتاح والتعاون حتى أنها قد تعود إلى احتضان دورها السابق مرة أخرى في غضون بضع سنوات. ولكن في الوقت نفسه، من الضروري أن تواصل القوى الفاعلة الأخرى استخدام وتشجيع التعددية في كل فرصة. ومن الممكن تحقيق قدر محدود من التعاون القطاعي أو الجغرافي، ولابد من تعزيزه كلما أمكن ذلك.
على نطاق أوسع، لابد أن تُخاض المعركة الإيديولوجية الأكبر من أجل نظام دولي قائم على القواعد باستخدام جرعة قوية من التربية المدنية العالمية كترياق مضاد للقومية الجديدة. ومن الممكن عكس الهزائم التكتيكية الحالية في حال الفوز في المعركة الإيديولوجية. ونظرا للحاجة إلى التعاون الشامل، فإن تكييف وتعزيز نظام حكم عالمي أخلاقي قائم على القواعد يشكل أمرا بالغ الأهمية لتأمين السلام والتقدم في الأمد البعيد. ونظرا لحجم أميركا المستمر فمن الأهمية بمكان بالنسبة للعالَم ككل أن تشارك الولايات المتحدة بشكل كامل وتصبح مرة أخرى زعيمة للحوكمة العالمية في العصر الرقمي.
اضف تعليق