مع ولادة كل عام جديد تحصي المنظمات الدولية عشرات الاف القتلى من مواطني الشرق الاوسط مقدمين كلحم شواء على طاولة الصراع الكبرى، فالحروب المتجددة لدول اقليمية وعالمية متواصلة في سباق مع الزمن من اجل تسلق سلم العظمة تارة وكسر ارادة خصومها تارة اخرى، وادوات الصراع المختلفة جاءت بنتيجة واحدة، ومن اتخذ مهمة الجزار لم يتريث مرة واحدة في سحق كل ما يقع امام طموحات العظمة.
ورغم حديثها عن السيادة واحترام قرارات الشعوب الاخرى تبقى بعض الدول مثيرة للجدل في سلوكها السياسي على الارض، اذ تربط الكثير من ملفات الشعوب الحليفة وغير الحليفة بسياستها القومية حتى جردتها من كل ادوات الفعل السياسي، وبهذه الطريقة تشابكت ملفات الشرق الاوسط وانعدمت الخطوط الفاصلة بين مختلف القضايا حتى مع وجود الكثير من الخطوط الحمر، في دوامة معقدة من القضايا الخلافية.
في كل تدخلاتها السابقة والتي يتوقع ان تستمر للمستقبل، ترفع الدول المتحكمة بالفعل السياسي الشرق اوسطي شعارات متعددة، بعضا يتعكز على التاريخ ويغترف منه ما يزوده بوقود يومه من اجل تحقيق التوازن بين الطوائف الاسلامية، واستخدم بعضها الاخر من شعارات محاربة العدوان الخارجي الغربي جسرا لربط الكثير من المناطق مع بعضها، وباتت الكثير من الحدود لا تتعدى كونها اسيجة ليس لها أي قيمة سيادية بين الدول، فالمتحكم واحد والتسميات متعددة.
ما ان يفتح مسلح ايراني او امير سعودي باب بيته، حتى يسمع صداه في بيروت وبغداد ودمشق وحتى صنعاء، لكنه قد لا يسمع له أي صوت في طهران او الرياض مثلما قد يحدث في عواصم الظل وساحات الصراع المجانية، وقيل سابقا "ان اول الحرب سجال"، والسجال السعودي الايراني الذي استمر لحوالي ربع قرن فجرته الولايات المتحدة الامريكية عندما احتلت العراق معلنة صافرة البداية للمبارزة الايرانية السعودية، والى هذا اليوم يتجرع الشعب العراقي مرارة تلك السياسات "الصراعية".
رفضت السعودية دخول الساحة العراقية في البداية ظنا منها بان سوط المقاطعة سيقطع عنق العملية السياسية في العراق لا سيما اذا كان هناك ما يدعمه من عمليات تفجيرية تقوم بها الجماعات الارهابية حاصدة عشرات الالاف من الارواح، وبطريقة واخرى استطاع العراق عبور كل حقول الالغام بعد ان اعطى من البشر ما يوجع القلوب لعشرات السنين، وفي اللحظة عادت الرياض لتمد يد السلام طالبة الصفح عن الماضي، اذ استقبلت رئيس الوزراء العراقي حدير العبادي في الرياض ووزير داخليته "الحليف" لايران، فضلا عن مسؤولين كبار، في تحرك يصفه انصار ايران بانه محاولة لاعادة تسيير عجلة الصراع التي توقفت بموت الوجود السعودي في البلد.
وفي الجارة السورية كانت الصدمة جماعية نتيجة صمود حكومة الرئيس السوري بشار الاسد وحلفائه الايرانيين، بوجه الهجمة السعودية الخليجية، اذ توقعت الرياض حسم الامور لصالحها هناك في غضون اسابيع وفي اسوء الاحوال اشهر قلائل، الا ان الكلمة الاخيرة كانت لمن يحضر في الميدان ومليارات الدولارات احترقت بطلقات المرابطين في الجبهات، وفي ظل الخيبة السعودية والاحتفال الايراني بتحقيق الانجاز، تحولت البلاد الى ركام من الحجارة وتناثر على اثرها المواطن السوري على شكل اشلاء في البلدان المجاورة والدول الاوربية، فبعضهم قضى حياته لاجئا والكثير منهم ابتلعته موجات البحر الغاضبة.
ام في اليمن فقد بدت الامور اسهل للرياض بحكم الجغرافيا والتفوق العسكري الذي لا يمكن مقارنته بخصومهم الحوثيين، فشنت حربها انتقاما من سيطرتهم على العاصمة صنعاء، وارادت لها ان تكون "عاصفة" و"حازمة"، فكشفت الايام انها لم تكن كما رسم لها ايضا ولم تختلف عما حصل في العراق وسوريا. مزيد من دماء الابرياء تذهب يوميا مع كل توتر سعودي ايراني، وقليل من التقدم العسكري والسياسي للطرفين.
كل من ايران والسعودية يعاني من عقدة الفقر، ايران تعاني من الفقر المادي وهذا واضح وجلي اذا ما تصفحنا نشرات الاخبار واستعرضنا قيمة العملة الايرانية واسهم شركاتها التجارية_ان وجدت، اما السعودية فتعاني من "الفقر في التخطيط الاستراتيجي" وهو اخطر انواع الفقر في العالم، وهو ما يكلفها المال والارض وبالتالي سطوتها على بعض دول المنطقة.
وبعيدا عن الحدود السعودية بنت طهران اكبر قاعدة شعبية وعسكرية لها في احدى اصغر الدول العربية، واسهمت في تاسيس حزب الله اللبناني في الوقت الذي كان الامراء السعوديون يحتفلون بنهاية الصراع مع اسرائيل الذي يسبب لهم ازعاجا شعبيا بين الحين والاخر، وبصبرها الاستراتيجي استطاعت ايران خلال ما يقرب من 40 عاما ان تصنع تحالفا عسكريا وسياسيا يصعب تفكيكه بكسبة زر ولا حتى قرارات ثورية كما تريد الرياض اليوم، وهذا ما تعترف به اسرائيل التي تمثل اكبر خصوم المحور الايراني في الشرق الاوسط.
من المهم النظر الى السياستين السعودية والايرانية ومبادئهما التي يمكن ان تؤدي الى فهم تحركاتهما في هذه الايام والمستقبل، وتتوافق هذه السياسيات في جوانب وتختلف في جوانب كثيرة، فبالنسبة الى ايران ترى ان كسب شعوب المنطقة العربية يمثل اكبر رصيد استراتيجي لها، وتاسيس حركات مسلحة يسهل كثيرا من هذه المهمة، وهو ما قامت به بالفعل وهي مستمرة في تاسيس حركات جديدة، وتنطلق طهران في استراتيجيتها هذه من نهجها الثوري الذي ساعد في صعود رجال الجمهورية الاسلامية منذ العام 1979 وحتى الان.
اما السعودية فترى ان التغلغل في مراكز القرار الخارجي والحصول على ضمانات امنية وسياسية تجعل من الرياض الدولة الاولى في العالم العربي والاسلامي، وشرطي الخليج الاول، وهي تؤمن بهذه الفكرة منذ تاسيس دولتها الثالثة في ثلاثينيات القرن الماضي والذي ارسى شكل الحكم الجديد وتحت اسم العائلة الحاكمة (السعودية) بدعم واسناد بريطاني ومن ثم امريكي استمر حتى هذه اللحظة.
تقاطع السياسات الايرانية السعودية ادى الى شحن الاجواء في المنطقة، والهب فتيل الحرب بينهما، وبينما ترى كل منهما صعوبة القضاء على الخصم، كان البحث عن البديل ضرورة حتمية فاطلقا حروب الوكالة واشعلا لهيب الشرق الاوسط، بعيدا عن مراكز القرار في البلدين. وتحرك قطار صراعهما الوجودي في دائرة لا نهائية دون كلل او ملل وقد ازهق في مسيرته مئات الالاف من البشر دون ان تبدو عليه أي اشارات للتوقف، واذا ما تهالكت عجلاته ونفذ وقوده استدعى ذلك مزيدا من الشتائم والاتهامات املا في التزود بمزيد من الحروب لعلها تستطيع الوصول الى نقطة النهاية التي لم يحدد مكانها بعد.
اضف تعليق