q

جيمس جيفري

 

أرسلت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الكونغرس في الأسبوع الأول من شباط/فبراير تقريرها الثاني حول استراتيجية الأمن القومي. وهذه التحديثات هي بشكل رئيسي عبارة عن لائحة تعدد التطلعات الأمريكية، وما يحدث في العالم وما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة رداً على ذلك، بدلاً من أن تكون عبارة عن استراتيجية حقيقية. ولم يختلف الحال في هذا التقرير، إلا أنه في أجزاء صغيرة منه كشف الكثير عن الطريقة التي ينظر من خلالها الرئيس أوباما إلى العالم. وإذا أضفنا هذا التقرير إلى المقابلة الأخيرة التي أجراها معه فريد زكريا على شبكة "سي إن إن"، وخطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقاه الشهر الماضي، وخطابه في أيار/مايو الماضي في أكاديمية "وست بوينت" العسكرية، يمكننا استشفاف ملخص جيد حول مبادئ الرئيس الأساسية للسياسة الأمنية. ولكن لسوء الحظ، فإن هذا الملخص مقلق.

فعلى الرغم من أن أهداف أوباما متناسقة مع الاتجاه السائد للسياسة الخارجية الأمريكية منذ بداية "الحرب الباردة"، إلا أن مقاربته الرافضة للقوة العسكرية تمثل خروجاً واضحاً عن هذا التوافق. ولكن الأمر ليس بالجديد، بل إن ما هو جديد هو أن أوباما يؤكد مجدداً وبشدة على مقاربته هذه على الرغم من الفترة التي دامت 12 شهراً، وهيمنت عليها التهديدات العسكرية لنظام الأمن العالمي، من روسيا، وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» وإيران والصين. ومع ذلك، فإن الملخص المؤلف من صفحتين حول التطورات العالمية الكبرى في مقدمة استراتيجية الأمن القومي لا تشمل سوى إشارة مقتصرة لتهديد روسيا ولا تتطرق إلى أي تهديد من التهديدات الأخرى. فبدلاً من تسليط الضوء على هذه التهديدات الجديدة، أخذ الرئيس يكرر باستمرار أربعة محاور أمنية متداخلة:

أولاً، أولئك الذين يستخدمون القوة العسكرية سيذهبون في النهاية إلى مزبلة التاريخ لأن القوة هي أصلاً ذات تأثير عكسي. وفي مقابلته مع زكريا، استمر الرئيس الأمريكي في العودة إلى هذا الموضوع، وحول تنظيم «داعش» قال ("في نهاية المطاف ستُهزم هذه المنظمات الإرهابية لأنها لا تتمتع برؤية تجذب الأشخاص العاديين") وحول روسيا ("ولت الأيام التي يُعتبر فيها غزو الأراضي بطريقة أو بأخرى الصيغة التي تؤدي إلى قيام دولة عظمى").

ثانياً، إذا اتخذت الولايات المتحدة خطوات عسكرية، فإنها حينئذ ستخاطر بشكل حتمي بالدخول في التزامات تتخطى قدراتها وبوقوع كارثة. ففي استراتيجية الأمن القومي، ذكر: "إن العديد من المشاكل الأمنية التي نواجهها غير قابلة للحل عبر الحلول السريعة والسهلة". وفي المقابلة مع زكريا، قال: "نحن لا نقارب هذا الموضوع من خلال استراتيجية تقوم على إرسال جيوش احتلال وعلى التسلية في المسارعة إلى ضرب الجماعات الإرهابية حيث تظهر". وفي خطاب حالة الاتحاد، أشار إلى أنه: "عندما تكون الاستجابة الأولى لتحدٍ ما إرسال قواتنا العسكرية، فإننا نخاطر بأن يتم استدراجنا إلى نزاعات غير ضرورية". أما في خطاب "ويست بوينت" فقد قال: "منذ الحرب العالمية الثانية، لم تنتج بعض أخطائنا الأكثر تكلفة عن ضبط نفسنا ولكن عن رغبتنا في التسرع نحو المغامرات العسكرية من دون التفكير في العواقب".

ثالثاً، "الحل غير العسكري" لأي شيء. هذا هو أكثر بيان تكرره الإدارة الأمريكية الحالية كلما ظهرت أزمة، وتظهره على أنه قانون غير قابل للتغيير لا ينطبق على الولايات المتحدة فحسب، بل على الطغاة والارهابيين أيضاً. وعلى الرغم من أن هذه العبارة لا تظهر في استراتيجية الأمن القومي، إلا أن روحها موجودة: ففي القسم الذي يمتد على 12 سطراً حول تنظيم «الدولة الإسلامية»، لا ذكر للجيش سوى بشكل عابر. وفي حين أن الإدارة قامت بما هو جدير بالثناء بنشر قوات برية على الحدود الشرقية لـ "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") في استجابة لأزمة أوكرانيا، إلا أن هذه الخطوة لم يرد ذكرها بشكل واضح في التقرير.

رابعاً، عند اقتضاء الحاجة، وفي غياب الاحتياجات الأمنية الأكثر إلحاحاً، يجب استخدام العمل العسكري من خلال تحالفات وبعد اللجوء إلى أدوات دبلوماسية واقتصادية وغيرها، مع وضع القانونية والشرعية كمبادئ توجيهية. ووفقاً لاستراتيجية الأمن القومي، فإن هذا يعني "تقدير الخطر الذي تتعرض له مهمتنا، ومسؤولياتنا العالمية، وتكاليف تلك الفرصة في الداخل والخارج". وهذه ليست اعتبارات غير معقولة، طالما أن الأولوية تُعطى للمبادئ التقليدية للقوة العسكرية، أي الإجراءات الحاسمة والأهداف الواضحة ووحدة القيادة، وقبل كل شيء، الالتزام بالنصر. إلا أن فكرة جعل الجيش يحقق أي إنجاز فعلي يتخطى التمسك بـ"الإجراءات"، غير موجودة.

هذه المواضيع متناسقة داخلياً. فإذا كان العمل العسكري هو عبارة عن هزيمة ذاتية حتى لخصوم الولايات المتحدة، فليست هناك حاجة إلى رد عسكري تعويضي، وربما كارثي، على العدوان، لأن التاريخ في نهاية المطاف سيلقي جانباً هؤلاء المعتدين الذين لا يمكنهم تأمين الحكم الأساسي. وبالتالي، "الحل غير العسكري".

ولكن هل وجهات النظر هذه صحيحة؟ إنه لسؤال هام، لأن الولايات المتحدة تراهن بالسلم الدولي وبأمنها الخاص على وجهات النظر هذه.

وينتهك الموضوع الأول المبدأ الذي على جميع الدبلوماسيين تعلمه ألا وهو: لا تعكسوا نظرتكم الخاصة للعالم على الآخرين. فقد ثبت بصورة مأساوية مراراً وتكراراً في جميع أنحاء العالم أن الافتراضات بأن القوة العسكرية تؤدي إلى إلحاق الهزيمة الذاتية هي رؤية خاطئة.

ومما يدعو للتساؤل بشكل متساوٍ، المواضيع المرتبطة بـ "الحل غير العسكري" و"التصعيد إلى حد الفوضى". فلطالما استخدمت الولايات المتحدة القوة العسكرية، أو هددت باستخدامها، منذ أربعينيات القرن الماضي. وقد منيت بالفشل مع تكاليف باهظة ثلاث مرات فقط: في كوريا الشمالية وفيتنام والعراق. وقد أظهرت تلك الصراعات حماقة تغيير النظام والهندسة الاجتماعية تحت وطأة النيران ولكنها لم تظهر حماقة العمل العسكري في حد ذاته. إذ إن معظم العمليات العسكرية الأمريكية في ذلك الوقت كانت ناجحة، وأُنجزت بتكلفة منخفضة، من برلين إلى الحظر الكوبي، و"حرب الخليج الأولى" وكوسوفو والبوسنة. وعلى الرغم من تحذيرات أوباما المتواصلة، فإن الولايات المتحدة كانت بشكل عام قادرة على تحقيق أهدافها العسكرية من دون التورط في صراعات مكلفة.

وأخيراً، فإن عبارة "الحل غير العسكري" ليست سوى خطاباً فارغاً. فصحيح أن أي عمل عسكري يجب أن يلتزم في نهاية المطاف بالمنطق السياسي، إلا أن العمل العسكري يمكن أن يعزز من الأهداف السياسية بطرق متعددة. فمجرد التهديد الذي يشكله له آثار سياسية على الأصدقاء والأعداء، كما أن تأثير العمليات القتالية، أي إلحاق الألم والاستيلاء على الأراضي والتهديد بنزع سلاح الخصم، يولد أيضاً نتائج سياسية. وقد تم إيضاح ذلك في الآونة الأخيرة مع إيران بشأن الانتشار النووي ومع تنظيم «داعش» في العراق، إلا أن الرئيس يغطي الاستخدام الفعال للقوة العسكرية الأمريكية حتى في ظل قيادته. في عالمنا هذا، يحل الجيش فعلاً المشاكل.

ولا تشكل سلسلة استراتيجية الأمن القومي حول الأهداف الأمنية للولايات المتحدة الخبر الرئيسي في الوقت الحالي، بل كيف أن استخدام القوة أو التهديد بها من قبل بعض الجهات الفاعلة القوية جداً يحجّم من نظام الأمن العالمي الذي يعود إلى 70 عاماً. وقد يرد الرئيس، كما قال في "وست بوينت"، بأن ليست كل مشكلة عبارة عن مسمار عرضة للحل بمطرقة عسكرية، وأن الاقتصاد القوي والدبلوماسية عاملان مهمان بالنسبة إلى الأمن.

إنه محق بذلك، ولكن بعض المشاكل هي في الواقع عبارة عن مسامير. ومن شبه المؤكد أن الإدارة الأمريكية المقبلة، أياً كان قائدها، ستدرك أهمية هذا الموضوع. ولكن لا بد من الانتظار طويلاً حتى عام 2017.

* جيمس جيفري هو زميل زائر متميز في زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن، وسفير الولايات المتحدة السابق في العراق وتركيا.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق