الكيمياء، تعريفًا، علم بناء. سؤالها سؤال التكوين. كيف تنتظم المواد وتتشابك وترتبط لتشكّل كل شيء حولنا. ويحدث أحيانًا أن تصل الكيمياء في لحظة ما إلى طريقة جديدة لتشكيل جزيئات المادة، تختلف عمّا نعرفه في العالم طبيعيًا. يخلق ذلك عادة مواد جديدة، وفرعًا جديدًا من هذا العلم. طريقة جديدة للتنظيم والترابط، واحتمالات جديدة للتشكيل...
الكيمياء، تعريفًا، علم بناء. سؤالها سؤال التكوين. كيف تنتظم المواد وتتشابك وترتبط لتشكّل كل شيء حولنا. ويحدث أحيانًا أن تصل الكيمياء في لحظة ما إلى طريقة جديدة لتشكيل جزيئات المادة، تختلف عمّا نعرفه في العالم طبيعيًا. يخلق ذلك عادة مواد جديدة، وفرعًا جديدًا من هذا العلم. طريقة جديدة للتنظيم والترابط، واحتمالات جديدة للتشكيل.
جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025 لم تبتعد كثيرًا عن المساحات المعتادة لها. ذهبت هذه المرة إلى ثلاثة علماء ساهموا في اكتشاف نوع جديد من التركيبات الجزيئية، تتألّف من فلزات ومواد عضوية. في هذا التركيب، تكون الفلزات عُقدًا ترتبط مع بعضها بعضًا من خلال جزيئات عضوية تضم الكربون.
النتيجة شكل فراغي، أي يشغل حيزًا عينيًا. تنشأ داخل هذا الشكل مساحات فارغة، تسمح بمرور الغازات وغيرها من المواد. مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، بدأ ريتشارد روبنسون أبحاثه في مجال تصميم الهياكل الجزيئية، ونعني بذلك استخدام نماذج من الذرات والروابط بطرق جديدة، لكن تجاربه الحقيقية على هذه البُنى الهيكيلية تحديدًا لم تبدأ إلا مع عام عام 1989. كانت وحدات البناء التي استخدمها في تصميمه هي أيونات نحاس (فلز) لها أربع أذرع من الجزيئات العضوية. والنتيجة شكلًا خاصًا من البلورات، تملك تجاويف كبيرة، تسمح بمرور جزيئات أخرى عبر هذه البُنى دخولًا وخروجًا.
لكن مشكلة هذه الهياكل الأساسية كانت أنها غير مستقرة وأنها تفقد تماسكها الداخلي بسهولة، وسرعان ما تنهار على نفسها. وهنا يأتي دور كلا من كيتاجاوا ياغي، اللذين بدأت أبحاثهما في عام 1992، واستمرت حتى عام 2003، وتمحورت بالكامل حول خلق هياكل أكثر استقرارًا، تمتص الغازات، وتحتجزها، وتقدر في الوقت نفسه على الاستمرار دون أن تفقد تماسكها.
من المفيد هنا أن نتصوّر هذه الهياكل باستخدام تشبيه آخر، وهو أنها مواد مسامّية، تعمل كإسفنجة. ورغم ذلك، فهي قادرة على الاحتفاظ بحالتها الصلبة، ولا يمنعها ذلك من امتصاص مواد أخرى.
كان لعمر ياغي تحديدًا الفضل في صك مصطلح الهياكل العضوية الفلزية، وتطوير "قائمة الأدوات" التي يمكن استخدامها في تعديل التصميمات لتتوافق مع المطلوب منها. يشمل ذلك توسيع الفجوات والتجاويف أو تصغيرها، والوظائف المختلفة، ولأي مدى تملك هذه الفجوات قدرة على احتجاز مواد أخرى.
إذا كانت الكيمياء علم بناء، فإن الجزيئات دائمًا ما تنتظم بصورة يصعب للغاية توقعها. ويمكن إنجاز العلماء الثلاثة، في قدرتهم على الاستفادة من خواص الفلزات والجزيئات العضوية، وتسخيرها كوحدات بناء، مع تفصيلة شديدة الأهمية، وهي قدرتنا على التحكّم في حجم تلك التجاويف سالفة الذكر مع الحفاظ على الهياكل متماسكة. هذه المسألة مثلت التحدي الأكبر في هذه المساحة لفترة طويلة من الوقت. كان الاعتقاد السائد أن الكيمياء لا تعمل بهذه الطريقة، لكن يبدو أن بإمكاننا فعل ذلك باستخدام المواد، أو وحدات البناء المناسبة.
ما الهدف من كل هذا؟
تطبيقات ذلك على أرض الواقع لا حصر لها. فالحقيقة أننا منذ اللحظة التي استطعنا فيها تطوير هذه المواد، وإبقائها في حالة استقرار، أصبح بإمكاننا استغلالها في مساحات الحياة اليومية بسهولة، علينا فقط أن نعرف كيف نستخدمها. إذا كانت الكيمياء في كل مكان، فمساحات الاستخدام لا تنتهي.
مثال بسيط هو الفاكهة. تطلق بعض أنواع الفاكهة مثل الموز والتفاح والطماطم غازًا يُعرف بالإيثيلين. يتحكم هذا الغاز في عمليات حيوية ترتبط بنضج الفاكهة. الفكرة هنا بسيطة، إذا كان بإمكاننا تصميم بعض هذه البنى الهيكيلية، وتعديل المسام والفجوات، بناء على ما نعرفه عن حجم هذا الغاز، فإن بإمكاننا احتجازه بعيدًا عن الهواء المُحيط بالفاكهة. ما يُبطيء من مراحل نضجها. قد تبدو هذه فكرة لطيفة في حد ذاتها، لكن تطبيقاتها لا تنتهي. خاصة في أماكن تعاني من الفقر الغذائي، أو تفتقر إلى منشآت حفظ طعام.
في عام 1999، قدم ياغي إلى العالم واحدًا من أهم البنى الهيكيلية على الأطلاق. أسماها إم أو إف - 5 (MOF-5). وأصبحت سريعًا نموذجًا كلاسيكيًا على ما يستطيع هذا المجال أن يقدمه إلى العالم.
تملك هذه المادة خاصيتين أساسيتين: أنها شديدة الاتساع والتماسك في الوقت نفسه. عند تسخينها مثلًا إلى درجات حرارة تصل إلى 300 درجة سيلزية، تظل هذه المادة قادرة على الاحتفاظ بتماسكها الداخلي دون أن تنهار، ويحدث ذلك حتى وهي خالية تمامًا من أي محتويات داخلية.
وحين نقول أن هذه المواد شديدة الاتساع فإننا نعني ذلك أن عدة جرامات من هذه المواد قادرة على استيعاب ما يقارب مساحة ملعب كرة قدم كامل. ما يعني قدرتها الهائلة على استيعاب الغازات وامتصاصها. ربما يبدو ذلك صعب التصديق. لكن الحقيقة أنها فكرة بسيطة مُثبتة لا متخيلة. لو أمسكت مثلًا بإسفنجة مطبخ صغيرة حجمها حجم مكعب سكر، ونظرت إليها، فإنك ستلاحظ بطبيعة الحال أنها تملك مسامًا. وإذا استطعنا، بطريقة ما، أن نفكّ هذه المساحات الداخلية للمسام، فإنها ستمتد لتغطي طاولة صغيرة.
في حالة مادة "إم أو إف 5"، تنطبق الفكرة نفسها. لكن المسام الموجودة فيها أصغر بملايين المرات من تلك الموجودة في إسفنجة المطبخ. وعلى المستوى الميكروسكوبي، فإن هذه المادة تملك أيونات فلزية تربطها جزيئات عضوية، مكوّنة شبكة ثلاثية الأبعاد وشديدة الانتظام.
ولأن المساحة الداخلية متناهية الصغر كما ذكرنا، وتملك عددًا هائلًا من الجدران، فإننا لو قمنا بنفس ما فعلناه مع الإسفنجة، وفككنا المساحة الداخلية لهذه المسام، فإنها ستغطي ملعب كرة قدم، بل وربما ما هو أكثر.
احتجاز
ندور حول تلك الكلمة. مادة تقدر على احتجاز المواد، تمتد تطبيقاتها إلى مساحات الطب والطاقة والبيئة. مادة قادرة على احتجاز غازات مثل الميثان والهيدروجين في مسامّها الضيقة، إنتاج طاقة أكثر كفاءة مع الهيدروجين، وتقليل فائض الميثان الذي يخرج إلى البيئة. مادة قادرة على احتجاز الكربون، بل وفصل غاز ثاني أكسيد الكربون عن غازات أخرى مثل النيتروجين، مثللة العبء البيئي الذي يمثله هذا الغاز على انبعاثات الكربون.
يمتد ذلك إلى تنقية المياة حتى، وتخليصها من الشوائب التي يصعب التخلص منها عادة، أو حتى تحميل مواد ذات آثار علاجية ثم إطلاقها داخل الجسم.
بدأت الكيمياء بأسئلة عن المادة والاتحاد والانفصال. ومع كل اكتشاف من هذا النوع، يعيد هذا العلم ترتيب العالم من جديد. ليست الهياكل العضوية الفلزية مجرد مادة جديدة، بل طريقة جديدة في التفكير. ماذا يعني أن نبني فراغًا يستوعب شيئًا آخر؟ أن نحول الفراغ نفسه إلى أداة. وفي ذلك، ربما، جوهر الكيمياء منذ بدايتها، إعادة تخيّل ما يمكن أن تفعله المادة حين نمنحها شكلًا جديدًا.
ليست الكيمياء، في جوهرها، إلا محاولة لإعادة ترتيب الحروف الأولى للطبيعة. يتحوّل العنصر البسيط إلى شكلٍ جديد، يحمل وعدًا آخر. عيوننا تنتقل من الذرة إلى الشبكة، ومن كل ذلك إلى الفراغ الذي يتيح للمادة أن تتنفس فتخلق عالمًا جديدًا.
اضف تعليق