تشير دراسات عديدة إلى تعاظُم مستوى انتشار الإصابة بالتوحد، وليس فقط في الولايات المتحدة. وقد لوحظ هذا الاتجاه في دول أخرى مرتفعة الدخل، من بينها المملكة المتحدة، والدنمارك، وكوريا الجنوبية، واليابان. اذ يشهد عدد الإصابات تزايدًا في كل بقعة تجري فيها أبحاث ودراسة للإحصاءات، أما في الدول الأقل دخلًا...
في السادس عشر من إبريل الماضي، عقد روبرت إف. كينيدي جونيور وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكي مؤتمرًا صحفيًا حول تزايُد عدد الحالات التي تُشخَّص بالإصابة بالتوحُد. وخلال المؤتمر، لفت إلى بيانات جديدة تبرهن على أن مستوى انتشار هذا الداء في الولايات المتحدة قد ارتفع بصورة حادة من حالة إصابة واحدة بين كل 150 طفلًا في عمر ثمان سنوات عام 2000 إلى حالة إصابة واحدة بين كل 31 طفلًا بالعمر نفسه في عام 2022. ووَصف هذه الظاهرة بأنها "وباء" ناجم عن "سُم بيئي"، وصرح بأنه سيُعلن عن قريب عن دراسة للوقوف على مسببها.
وفي الشهر التالي على المؤتمر، أعلنت هيئة معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، وهي جزء من الوزارة التي يرأسها كينيدي، عن تدشين «مبادرة علم بيانات التوحد» Autism Data Science Initiative. وعرضت المبادرة تقديم منح تصل قيمتها الإجمالية إلى 50 مليون دولار أمريكي لتمويل الدراسات الرامية إلى الوقوف على أسباب التوحُد. ويُتوقع الإعلان في سبتمبر الجاري عن الدراسات التي نجح طلبها بالحصول على هذه المنح.
لكن رغم أن العلماء يرحبون عادة بالاستثمارات البحثية الضخمة، اختلف الوضع هذه المرة. فهذه التطورات أحبطت عديدًا من العلماء لأنها تجاهلت على ما يبدو عقودًا من الأبحاث حول ارتفاع عدد ما يُوثق من الحالات التي تُشخص بالإصابة باضطراب طيف التوحد وأسباب هذه الاضطرابات النمائية. ورغم أن كينيدي صرح بأن عوامل بيئية هي السبب الرئيس وراء الإصابة بهذا الداء، أظهرت الأبحاث أن العوامل الوراثية تلعب دورًا أكبر في نشأته. ومع أن دراساتً سكانية1 قد وجدت أن ارتفاع احتمالية الإصابة بالداء يرتبط بعوامل بيئية محددة، يكون التعرُض لها غالبًا خلال فترة الحمل بالمصاب، ظل الدور المحدد الذي تلعبه هذه العوامل مبهمًا. وفوق كل شيء، أظهرت الأبحاث أن العوامل المحركة للإصابة بالتوحُد تشكل لغزًا، يصعب فك خيوطه. في هذا الإطار، تقول هيلين تاجر-فلاسبيرج، عالمة النفس المتخصصة في دراسة الاضطرابات العصبية النمائية من جامعة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية: "لن يكون هناك أبدًا تفسير مختصر للسبب وراء الإصابة بالتوحُد".
وارتفاع مستوى انتشار الداء، كما يلفت كثير من الباحثين، يُعزى في المقام الأول إلى تزايُد تشخيصه، لا إلى ارتفاع حقيقي في الأعراض والسمات المرتبطة به. وهو ما يوضحه سفين بولته، اختصاصي علم نفس الأطفال والمراهقين في معهد كارولينسكا بستوكهولم قائلًا: "ما نلحظه ليس انتشارًا وبائيًا للتوحُد، بل "انفجارًا" في أعداد التشخيصات به". ويتخوف باحثون من استغلال كينيدي (وهو مناصر لحملات معارضة التطعيمات)، لـ«مبادرة علم بيانات التوحد» بهدف الترويج للفكرة القائلة بأن بعض التطعيمات تقف وراء الإصابة بهذا الداء، وهي فكرة ثبت بطلانها.
وبحسب ما تفيد أليشيا هالَداي، المسؤولة العلمية الرئيسة بـ«مؤسسة أبحاث التوحد» Autism Science Foundation، وهي هيئة بحثية غير ربحية داعمة للمصابين بالتوحد في مدينة نيويورك الأمريكية، أثارت تعليقات كينيدي مشاعر قوية بين كل من المصابين بالتوحد والجماعات الداعمة لهم على حد سواء. إذ تتفاوت سمات وأعراض التوحد تفاوتًا كبيرًا بين المصابين به، ما يعني أن كثيرين منهم يعيشون ويعملون دون الاعتماد على آخرين، في حين أن البعض الآخر منهم يحتاج إلى دعم مكثف. ووفقًا لهالَداي، يطالب بعضهم بإجراء أبحاث حول السبب، في حين لا يطالب البعض الآخر بذلك.
غير أن عديدًا من أفراد مجتمع المصابين بالتوحد قد لمسوا ازدراء وإساءة في تصريحات كينيدي عندما قال في مؤتمر صحفي: "هؤلاء الشباب لن يدفعوا أبدًا الضرائب أو يستمروا في الوظائف". وهو ما تعقب عليه هالَداي قائلة: "هذه العوامل لا تحسم قيمة المرء، كما أن عديدًا من المصابين بالتوحُد يشغلون وظائف ويدفعون الضرائب".
ويساور القلق العلماء والمصابون بالتوحد على حد سواء إزاء خفض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حجم التمويلات الإجمالية الموجهة لدعم كل من الأبحاث حول التوحد، والمصابين به، على سبيل المثال، بإلغاء منح بحثية أو تأخيرها. فتقول هالَداي: "عم استياء شديد بين الجميع لأن هذه الأبحاث المهمة يُسلب من تمويلها".
ما سبب الزيادة؟
تشير دراسات عديدة إلى تعاظُم مستوى انتشار الإصابة بالتوحد، وليس فقط في الولايات المتحدة. وقد لوحظ هذا الاتجاه في دول أخرى مرتفعة الدخل، من بينها المملكة المتحدة، والدنمارك، وكوريا الجنوبية، واليابان. في هذا السياق، يقول بولته: "يشهد عدد الإصابات تزايدًا في كل بقعة تجري فيها أبحاث ودراسة للإحصاءات" (انظر "تعداد التشخيص بالتوحُد). أما في الدول الأقل دخلًا، فيضفي ضعف خدمات الرعاية الصحية ونقص البيانات صعوبة على تقييم مستوى انتشار المرض.
وثمة أسباب عديدة تدعو إلى الاعتقاد بأن تزايُد تشخيص الإصابة بالمرض يفسر جانبًا كبيرًا من تزايد عدد الإصابات به. أحدها يتمثل في أن معايير تشخيص الإصابة بالمرض قد اختلفت بمرور الوقت في دليلين جرى تحديثهما ويعتمد عليها اختصاصيو الرعاية الصحية في تشخيص التوحُد، هما: «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات الذهنية» (DSM)، ويُستخدم بصفة أساسية في الولايات المتحدة، والتصنيف الدولي للأمراض (ICD).
وكلا الدليلين يصف بوجه عام المصابين بالتوحد على أنهم يظهرون اختلافات في التفاعل الاجتماعي والتواصل، وعلى أنهم يُبدون "سلوكيات واهتمامات محددة ومكررة". لكن حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، كان تعريف الدليلين للمرض قاصرًا، بتعبير ديانا شيندل، عالمة الوبائيات المتخصصة في دراسة التوحد بجامعة دريكسل في مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الأمريكية. على سبيل المثال، أقرت الطبعة الثالثة من «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات الذهنية» صحة تشخيص الإصابة بالمرض في حال الأطفال فقط ممن يستوفون عددًا أدنى من المعايير.
أما النسخ المحدثة من كلا الدليلين — الطبعة العاشرة من «التصنيف الدولي للأمراض» في عام 1990، والطبعة الرابعة من «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات الذهنية» في عام 1994— فقد وسعت نطاق معايير تشخيص المرض، بحيث يمكن أن يشمل هذا النطاق أشخاصًا يظهرون عددًا أقل من الأعراض، وينتمون إلى فئات عمرية مختلفة. وبتعبير شيندِل: "غير هذا بشكل جذري احتمالات تصنيف الأشخاص ضمن طيف التوحُد". وفي عام 2013، ألغت الطبعة الخامسة من «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات الذهنية» بعض التشخيصات المنفصلة مثل متلازمة آسبرجر وأدرجتها تحت طائلة ما يُسمى باضطراب طيف التوحُد. واليوم، كثيرًا ما يقترن تشخيص التوحد مع التشخيص بحالات مرضية مصاحبة مثل الإعاقة الذهنية أو اضطراب قصور الانتباه وفرط النشاط.
وقد حاولت دراسة، شاركت شيندِل في تأليفها وصدرت عام 2015، حصر أسباب تزايُد انتشار التوحد بين من شُخصوا بالإصابة به بين عامي 1980 و2011 من أفراد الشعب الدنماركي الذين وُلدوا بين ثمانينيات القرن الماضي وعام 1991. آنذاك، قدر مؤلفو الدراسة بأن 60% من الزيادة التي شهدتها أعداد المصابين بهذا المرض تُعزى إلى تغيُر معايير التشخيص به في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وإلى اختلاف طرق الإبلاغ عن عدد حالات الإصابة به في سجلات الصحة الوطنية2.
كذلك تزايد التشخيص بالمرض مع تعديل اختصاصيي الرعاية الصحية لكيفية تفسيرهم وتطبيقهم لمعايير التشخيص به وتبنيهم لأدوات قياسية محسنة في اكتشافه، مثل مقابلات الفحص المنظمة والملاحظة الممنهجة. من هنا، تفيد إيفا لوث، اختصاصية علم الأعصاب الإدراكي من كلية كينجز كوليدج لندن أنها اليوم في المشروعات البحثية تشخص أفرادًا بالإصابة بالمرض، كانت لتستبعد إصابتهم به قبل عشرة أعوام. فتقول: "لقد تغير مفهومنا عن ماهية مرض التوحد".
أما العامل الآخر الذي أعطى زخمًا للتشخيص بالمرض، فهو، بحسب ما يرى باحثون، تزايد الوعي بالتوحُد وانحسار حدة الوصم المرتبط به بين المُعلمين واختصاصيي الرعاية الصحية، والمجتمع بوجه أعم، فضلًا عن توفُر خدمات التشخيص والدعم بشكل أكبر. أيضًا تزايدت احتمالية ملاحظة الآباء للعلامات الدالة على التوحُد لدى أطفالهم، ويكون لديهم عادة الحافز لطلب تشخيص أبنائهم إذا كان من شأن هذا مساعدة طفلهم على الحصول على دعم، في التعليم على سبيل المثال. وهنا، يقول نيك بوتس، المُصاب بالتوحُد والمتخصص في دراسة النمو العصبي بجامعة كينجز كوليدج لندن: "فيما مضى، أمكن أن يُصنف الطفل في الفصل الدراسي على أنه صعب المراس، ونزاع إلى خلق المشكلات. أما اليوم، فقد يُبادر المسؤولون عنه بطلب تشخيص لحالته".
كذلك بات الأطفال المصابون بالمرض يُشخصون به في عمر أصغر. وتزايد عدد الساعين إلى الحصول على تشخيص، من البالغين ومن الفتيات والنساء اللاتي طالما أُهملت إصابتهن بالتوحُد في الماضي. وحسبما يرى بولته، فإن بعض متطلبات المدارس الحديثة، كالعمل الجماعي بشكل مكثف وكثرة التعامُل مع المعلومات الرقمية، ربما أسهمت بتناميها في تزايُد عدد من يُشخصون بالمرض. فيقول: "البيئة التعليمية اليوم شديدة التعقيد. وعدد الأطفال الذين يواجهون ضغوطًا هائلة، ربما ممن يظهرون سماتً أو أعراضًا أقل للمرض، في ازدياد". وبالمثل، فإن البالغين الذين باتوا يخوضون غمار عالم شديد التعقيد، ربما يقبلون أكثر على طلب المساعدة والمشورة، ما يسفر عن تزايد عدد حالات التشخيص بالمرض.
هنا نتساءل: إلى أي مدى يمكن أن يُعزى الارتفاع في عدد حالات التوحد إلى تزايد تشخيصه وتحسُن الوعي به؟ يأتينا الجواب على لسان شيندِل، فتقول: "لا شك أن الغالبية العظمى تُعزى إلى هذا التأثير"، وإن كان من الصعب الوقوف بدقة على نسبة هذه الغالبية.
ما مدى انتشار التوحُد في الوقت الحالي؟
الإحصاءات التي أوردها كينيدي — والتي تشير إلى وجود حالة إصابة بالمرض بين كل 31 طفلًا في عمر ثمان سنوات — تأتي من تقرير أصدرته في إبريل الماضي «شبكة مراقبة التوحُد والاضطرابات النمائية» Autism and Developmental Disabilities Monitoring Network3، وهي برنامج رصدي يُحصي عدد حالات الإصابة بالتوحُد بين الأطفال من خلال تقارير الهيئات التعليمية والصحية (انظر الشكل "مستوى انتشار التوحُد عبر الولايات المتحدة الأمريكية). وتدلنا هذه التقارير على من تلقوا تشخيصًا بالمرض، وعلى المؤهلين للحصول على التعليم الخاص بالمصابين بالتوحُد. وأحيانًا ما يُشار إلى نتائج هذا النوع من الدراسات بمصطلح "نسب الانتشار السجلاتية" أو نسب الانتشار "الإدارية"، لأنها قائمة على قواعد بيانات إدارية.
لكن بعض الباحثين ينظر بعين الحذر إلى نتائج هذه الدراسات، كما يقول داميان سانتوماورو، اختصاصي دراسة الوبائيات في مجال الصحة النفسية من جامعة كوينزلاند في مدينة بريسبن الأسترالية. فاكتشاف الإصابة بالتوحُد قد يأتي من مصادر عديدة، مثل علماء وأطباء النفس والبيئة التعليمية. وحسبما يوضح سانتاماورو، قد يُدرج بعض الأطفال ممن لديهم احتياجات تعليمية أو سلوكية إضافية في قواعد البيانات الإدارية الخاصة بالمصابين بالمرض، رغم أنهم قد لا يستوفون معايير التشخيص الصارمة به في التقييمات الإكلينيكية. وفي المقابل، بعض ممن لم تُشخص إصابتهم بالمرض قد لا يُدرجون في سجلات المصابين به.
وتُعد الدراسة المسحية السكانية نهجًا أكثر دقة في تقدير مستوى انتشار المرض، وفيها يفحص الباحثون جميع الأفراد في عينة سكانية من الأطفال أو البالغين للكشف عن الإصابة بالتوحُد. قاد سانتوماورو جهود وضع أحدث تقرير لـ«دراسة العبء العالمي من الأمراض» حول التوحُد (أضخم مشروع علمي حول تأثيرات الاضطرابات الصحية)، وهي دراسة لا تستند إلا إلى البيانات المسحية. وقدَّر التقرير أن معدل انتشار اضطراب طيف التوحُّد على مستوى العالم في عام 2021 بلغ حالة واحدة بين كل 127 شخصًا (أي أقل من 1%). وهذا يعني إجمالًا 62 مليون مصاب بالمرض4.
وقد قارنت دراسة طويلة المدى نُشرت هذا العام حول أطفال السويد نسب انتشار المرض وفق السجلات بنسب انتشاره وفق الدراسات المسحية، في أوساط الأطفال الذين وُلدوا بين عامي 1993 و2001. ووجدت الدراسة أن معدل انتشار أعراض التوحُد التي أفاد بها الآباء عندما بلغ أطفالهم الثامنة عشر من العمر ظل ثابتًا، حتى مع تزايد معدلات التشخيص الموثقة بالمرض5. والجانب الأكبر من الزيادة في معدلات تشخيص المرض المرصودة في الدراسات يُعزى إلى حالات التشخيص به في أوساط من لا يعانون قصورًا لغويًا أو إعاقة ذهنية مصاحبة، حسبما تفيد تاجر-فلاسبيرج، في حين أن أعداد المشخصين بالمرض ممن لديهم هذه الإعاقات تغيرت بالكاد. وكل هذه المعطيات تعطي وزنًا للرأي القائل بأن ارتفاع أعداد المصابين بالتوحُد مرده في الدرجة الأولى إلى تحسُن سبل اكتشافه وتشخيصه.
إلا أن سانتاماورو يشير إلى أن بعض الدراسات المسحية الأخرى عالية الجودة دعته إلى التفكُر مليًا في هذا الرأي. على سبيل المثال، أفادت دراسة نُشرت عام 2020 واستخدمت أساليب استقصائية محكمة بأن نسبة انتشار المرض في اليابان تربو على 3% بين الأطفال في سن الخامسة، وهي نسبة أعلى من تلك التي أوردتها تقديرات سابقة وُضعت في دول آسيوية أخرى لحجم انتشار التوحُد 6. لذا، رغم أن سانتوماورو يؤيد الرأي القائل بأن ارتفاع نسب الإصابة بالتوحُد يُعزى في الجانب الأكبر منه إلى تزايد تشخيصه واكتشافه، فهو يرى أنه قد يظل من المحتمل أن عاملًا ما يرفع "معدل الانتشار الحقيقي" للمرض. لكن ما هو هذا العامل؟
مسببات التوحُد
على مدى عقود، سعى باحثون إلى اكتشاف أسباب الإصابة بالتوحُد، إلا أن العقبات واجهتهم في كل خطوة على الطريق. تعقيبًا على ذلك، يقول جيمس كيوزاك، وهو مصاب بالتوحُد يعمل في مجال أبحاث هذا المرض ويشغل منصب المدير التنفيذي لمؤسسة «أوتيستيكا» Autisticia البريطانية الخيرية لأبحاث التوحُد وحملات دعم المصابين به، ومقرها لندن: "المسألة ببساطة هي أننا لا نفهم حقيقة الكثير عن آلية عمل أي دماغ بشري. لهذا، أرى أن التوقعات لمدى صعوبة فهم الآليات المسببة للتوحُد أبخست كثيرًا تقدير حجم هذه الصعوبة قبل 20 عامًا".
لكن يمكن بشكل عام أن نخلص من البيانات المتاحة إلى أن العوامل الوراثية تلعب دورًا كبيرًا في الإصابة بالمرض. فتقول شيندِل: "التاريخ الوراثي هو على الأرجح أكبر عامل يهدد بالإصابة بالمرض".
يرصد الباحثون تأثير العوامل الوراثية باستخدام مقاييس لدور الوراثة، أي بتقدير مدى إمكان عزو الفروقات في سمات التوحُد بين الأفراد إلى الجينات الموروثة بدلًا من العوامل البيئية. على سبيل المثال، قدرت دراسة واسعة النطاق شملت خمس دول7 ونُشرت عام 2019 أن احتمالية توريث التوحُد تبلغ حوالي 80%، وهي نسبة مكافئة لاحتمالية توريث الطول. بالمقارنة، تُقدر احتمالية توريث الاكتئاب بأنها تتراوح بين 30 إلى 50%.
على أن الوقوف على جينات مفردة تلعب دورًا في الإصابة بالتوحُد ثبتت صعوبته. تعليقًا على هذا، يقول كرايج نيوشافر، الباحث في التوحُد من جامعة ولاية بنسلفانيا في حرم يونيفرسيتي بارك الجامعي: "الخصائص الوراثية للمرض نفسها شديدة التعقيد".
وقد سعى باحثون إلى الوقوف على الجينات المسببة له بمقارنة جينومات المصابين بالتوحد بغير المصابين به في عائلات وفي دراسات سكانية أوسع نطاقًا. هذه الدراسات أسهمت في تحديد مجموعة من التحورات الجينية النادرة (تغيرات في الحمض النووي) - تعزز بدرجة كبيرة نسبيًا احتمالية الإصابة بالتوحُد. وكثير من هذه الطفرات تكون مستحدثة، فتنشأ على الأرجح في حيوان منوي أو خلية بويضة، لتنتقل بعد ذلك إلى الجنين. ويُعتقد أن هذه الطفرات أو التحوُرات الجينية واسعة التأثير تلعب دورًا رئيسيًا في الإصابة بالتوحد لدى نسبة تقدر بما يتراوح بين 10 إلى 20% من المصابين بالتوحُد.
لكن "التركيبة الجينية لكل شخص تختلف عن غيره"، على حد تعبير توماس بورجيرون اختصاصي علم الوراثة الذي يدرس التوحُد في معهد باستور في باريس. كذلك وجد باحثون أن المئات بل ربما الآلاف من التحورات الجينية الشائعة تسهم كل على حدة بتأثير طفيف في المرض، ما يجعل من الصعب الوقوف بدقة على طبيعة دورها، غير أن تأثيرها مجتمعة يكون كبيرًا. وإن كان لدى شخص ما عدد كاف من هذه التحوُرات، فقد ينتهي المطاف به بأعراض للمرض وتشخيص به.
وبعد العوامل الجينية، يأتي دور العوامل البيئية التي "تشكل جزءًا صغيرًا من السبب"، بحسب ما توضح شيندِل، رغم أن هناك خلاف بين العلماء حول مقدار هذا الجزء. فيرى بعض الباحثين أن تأثير العوامل البيئية يكاد لا يذكر، وهو الرأي الذي لا يؤيدهم فيه بعضهم الآخر. وتشير غالبية الأبحاث إلى أن العوامل البيئية تمارس تأثيرها قبل الولادة، لكن بعض الدراسات برهنت بأدلة مقنعة على عدم وجود علاقة بين هذه العوامل والتطعيمات 8، 9.
أيضًا تشير دراسات عديدة إلى أن ارتفاع عمر الآباء أو الأمهات، يرتبط بتزايُد احتمالية إصابة أطفالهم بالتوحد 10. ووفقًا لباحثين، أخذ متوسط عمر النساء الحوامل يرتفع في العديد من الدول مرتفعة الدخل، ويُحتمل أن هذا يلعب دورًا صغيرًا في زيادة مستوى انتشار التوحُد. كذلك من الأسباب التي قد تفسر الإصابة بالتوحد تزايُد احتمالية نشوء طفرات مستحدثة بين أطفال الآباء الأكبر عمرًا، مقارنة بنظرائهم ذوي الآباء الأصغر عمرًا.
كذلك وجدت دراسات عديدة علاقة بين العدوى في الحمل وتزايُد احتمالية الإصابة بالتوحُد، فضلًا عن علاقة بين زيادة هذه الاحتمالية والتعرُض لملوثات الهواء قبل الولادة. على سبيل المثال، اكتشفت دراسة أمريكية نشرت في يونيو الماضي وشملت أكثر من 8 آلاف طفل وأمهاتهم أن التعرُض لمستويات أعلى من الأوزون قد ارتبط بزيادة احتمال الإصابة بالتوحُد بين هؤلاء الأطفال11.
لكن نيوشافر يضيف أن دراسات أخرى قد أسفرت عن نتائج مغايرة حول المواد الملوثة المسؤولة عن هذه العلاقة. ورغم أن الباحثين قد وجدوا علاقة بين تزايُد احتمالية الإصابة بالتوحُد وعدد من العوامل البيئية الأخرى10 — مثل الإصابة بداء السكري خلال الحمل والسمنة في الأمهات ومضادات الاكتئاب وتلقي عدد من الأدوية الأخرى خلال الحمل، ونقص حمض الفوليك، من جديد، جاءت النتائج في هذا الصدد متباينة. وهنا يقول نيوشافر إن الدراسات التي تتناول العوامل البيئية يشوبها قصور، ألا وهو "عدم ثبات نتائجها وعدم إمكان تكرار الحصول على هذه النتائج في تجارب مستقلة". وبتعبير نيوشافر، من شبه المؤكد أنه لا يوجد سبب بيئي واحد "له تأثير بالغ" في نشأة المرض، لكن البحث عن تأثيرات بيئية تحسم الإصابة بالمرض يبقى مما يستحق العناء.
ويُحتمل أن الاختلافات الكبيرة بين المصابين بالتوحُد تشكل التحدي الأكبر أمام العلماء الساعين إلى الوقوف على أسبابه. إذ يُرجح أنه نتاج مزيج من العوامل البيئية والجينية التي تتفاعل مع بعضها بعضًا بصورة معقدة. وحسبما يوضح نيوشافر: "عندما نخلط هذه العوامل بعضها ببعض، بنسب ومقادير متفاوتة في دراسات مختلفة، سنخرج بملاحظات مختلفة. فالتعقيد هو العقبة الكؤود هنا".
لهذا السبب، يسلك بعض الباحثين مقاربة مختلفة. وهؤلاء، يدرسون السمات المشتركة في التوحُد، مثل سمات الصحة الذهنية للمصابين به، أو الشعور باللمس والصوت لديهم، بدلًا من محاولة الوقوف على أسباب عامة له. وهذا مما تركز عليه دراسة ائتلاف «آيمز تو تريالز» AIMS-2-TRIALS، وهو ائتلاف بارز لأبحاث التوحُد، يمتد عمله من عام 2018 إلى عام 2026، ويمول الجزء الأكبر من أبحاثه الاتحاد الأوروبي والصناعات الدوائية، ويضم 50 مؤسسة بحثية وشركة ومنظمات أخرى على مستوى العالم.
فبوتس، على سبيل المثال، يدرس ما إذا كان اختلاف مستويات النواقل الكيميائية في الدماغ، مثل الجلوتامات، قد يكمن وراء سمات المعالجة الحسية الفريدة التي تميز المصابين بالتوحُد. ويعلل بوتس لنهجه هذا قائلًا إن الفكرة من ورائه تكمن في التوجُه إلى "مقاربة مواءِمة لكل مريض"، تُركز على تجارب المرضى وكيفية دعمهم.
ما الأبحاث المطلوبة؟
يرى نيوشافر أن «مبادرة علم بيانات التوحد» التابعة لهيئة معاهد الصحة الوطنية "لا تمثل خروجًا على الاتجاهات العلمية السائدة". بل تستهدف بدورها تقصي أسباب التوحُد ودراسة فاعلية التدخلات العلاجية الحالية، مستعينة بصفة أساسية بقواعد بيانات الصحة المتاحة وغيرها من موارد البيانات. ومن أهم أهدافها، وفقًا لبيان إعلان تمويلها، تحليل البيانات المتاحة عن المرض والدمج بينها، مثل البيانات حول العوامل الجينية والبيئية المسببة للتوحُد.
وهو ما يصب في تحقيق هدف بحثي أكبر هو دراسة الكيفية التي تسهم بها تفاعلات العوامل الجينية والبيئية في الإصابة بالتوحد. وهذا يتطلب من عدد كبير من الأشخاص رصد التأثيرات الطفيفة لهذه التفاعلات. لهذا، في الوقت الحالي، يسعى مشروع «شبكة جيرز لمراكز التميز المعنية بالتوحد» GEARS Autism Center of Excellence network، وهو مشروع بحثي أمريكي كبير لدراسة العوامل الجينية والبيئية للمرض معًا، إلى جمع معلومات حول 175 ألف شخص من 18 منطقة بالولايات المتحدة وكندا والدنمارك. وتشمل هذه المعلومات بيانات حول تلوث الهواء، وحالات العدوى بين آباء المصابين، والعديد من العوامل الأخرى.
في هذا الإطار، يقول ييجيه جينج، اختصاصي علم الأحياء من جامعة واشنطن في سياتل، إنه يُرحب بأي دعم إضافي للدراسات حول الأسباب البيئية للتوحُد. ويعلل لذلك قائلًا إن دعم جهات التمويل البحثية الخاصة والعامة لهذه الأبحاث "ظل لوقت طويل غير كاف" مقارنة بالدعم الذي تحظى به الأبحاث حول الأسباب الجينية، و«مبادرة علم بيانات التوحُد» قد تسعى إلى "ردم هذه الفجوة التمويلية التاريخية".
غير أن بعض العلماء الآخرين يتخوف من المبادرة بسبب تاريخ كينيدي المعارض للتطعيمات، وتصريحاته في المؤتمر الصحفي الذي عقده إبريل الماضي. فيقول نيوشافر: "هذا يهدد مصداقية البرنامج الذي تنبني عليه هذه المبادرة". من هنا، في إبريل الماضي، شكَّل أكثر من 250 باحثًا أمريكيًا (من بينهم تاجر-فلاسبيرج وشيندِل، وأمارال، وهالَداي ونيوشافر) ائتلاف «علماء التوحُد» للتعبير عن مخاوفهم إزاء تصريحات كينيدي حول التوحُد ولدعم الأبحاث المحكمة حول هذا المرض. كذلك أعرب باحثون ومنظمات لدعم المصابين بالمرض عن مخاوفهم فيما يتعلق بحماية خصوصية الأفراد المشاركين في قواعد البيانات المستخدمة في أبحاث المبادرة. في هذا السياق، يقول نيوشافر: "لا أحسب أننا سنقترب في نهاية هذه المبادرة من اكتشاف أسباب التوحُد".
أيضًا يتخوف باحثون وجماعات داعمة للمصابين بالتوحُد من أن خفض عدد من التمويلات وفرض إدارة الرئيس ترامب لعدد من السياسات سيفضيان في نهاية المطاف إلى انتكاس الأبحاث والدعم لمصابي التوحُد بصورة تفوق قدرة المبادرة على النهوض بهما. وقد وجد تحليل أجرته دورية Nature للمشروعات البحثية التي تمولها هيئة معاهد الصحة الوطنية بالاستعانة بأداة «ريبورتر» RePORTER أن أبحاث التوحد انخفض حجم التمويلات الممنوحة لها في النصف الأول من عام 2025 بمقدار 62 مليون دولار مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024 (هبطت قيمتها من 274 مليون دولار أمريكي إلى 212 مليون دولار أمريكي).
ووفقًا لتصريح أدلى به إلى دورية Nature متحدث باسم «الجمعية الأمريكية لعلاج التوحُد» Autism Society of America في مدينة روكفيل بولاية ميريلاند الأمريكية، فإن الاستثمار في «مبادرة علم بيانات التوحد»، "لا يمكنه أن يعوض التآكل الأوسع في حجم الدعم" الممنوح لمصابي التوحد والذي تأتى مع انخفاض المنح البحثية وتقليص التمويلات الموجهة لبرنامج «ميديكيد» (نظام التأمين على الصحة العامة الأمريكي لمحدودي الدخل) ولتمويل التعليم والخدمات الأخرى. فبتعبيره، "هذه الاقتطاعات تهدد البنية التحتية التي تدعم التقدم العلمي وجودة حياة المصابين بالتوحُد وأسرهم".
وقد تملص متحدث باسم وزارة الصحة والخدمات الإنسانية من الرد مباشرة على اتهام لإدارة ترامب بتقليص التمويلات المرصودة لأبحاث التوحد، لكنه رفض الادعاءات القائلة بأن كينيدي قد روج معلومات مضللة بشأن التوحُد وأسبابه. فجاء على لسان المتحدث أن "وزارة الصحة والخدمات الإنسانية تتخذ إجراءات بشأن التوحُد تتناسب مع خطورته باعتباره طارئة صحية عامة"، ومن ذلك إطلاق مبادرة علم بيانات التوحد، التي من شأنها "تعزيز فهمنا لهذه الحالة المرضية وتحسين جودة الرعاية الصحية الممنوحة للأشخاص ضمن طيف التوحُد والنهوض بجودة حياتهم". كذلك ذكر المتحدث أن جميع قواعد البيانات التي تديرها هيئة معاهد الصحة الوطنية تلتزم بأعلى معايير الأمان وحماية الخصوصية، وأن "هيئة معاهد الصحة الوطنية ملتزمة تمامًا ببذل قصارى جهودها في مواجهة هذا الوباء الكارثي، بالاستعانة فقط بأعلى المعايير والأبحاث المستندة إلى الأدلة".
في هذا السياق، يقول ديفيد أمارال، الباحث في التوحُد من معهد «الدراسات الطبية للاضطرابات العصبية النمائية» (اختصارًا معهد «مايند» MIND))، أنه إن أُعطي 50 مليون دولار أمريكي للوقوف على أسباب التوحُد، سيحشد أولًا مجموعة من الباحثين والأطباء الإكلينيكيين وجماعات دعم مصابي التوحُد والمصابين بهذا المرض. بعد ذلك، سيطلب منهم التوصُل إلى اتفاق بشأن المسائل العالقة بلا حل في هذا الإطار والمتعلقة بأسباب التوحد والمبحث الذي ينبغي طرقه للإجابة عن هذه الأسئلة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرًا من الباحثين والهيئات التمويلية يتعاونون بالفعل مع أعضاء مجتمع المصابين بالتوحد في التخطيط للأبحاث وإجرائها. على سبيل المثال، في الماضي، تلقت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية المشورة حول التوحُد، ومنها مشورة متعلقة باتجاهات الأبحاث حول هذا المرض، من «لجنة تنسيق التعاوُن المشترك بين وكالات دعم المصابين بالتوحد» Interagency Autism Coordinating Committee (اختصارًا IACC)، وهي منظمة فيدرالية تضم عاملين وباحثين وأعضاء من مجتمع المصابين بالتوحد.
غير أن بعض الباحثين يفيد بأن اللجنة لم تُعقد هذا العام، وبأنه لم تُبرم الكثير من المشاورات الخارجية مع الباحثين في التوحد والداعمين للمصابين بهذا المرض بشأن تطوير «مبادرة علم بيانات التوحد». ردًا على ذلك، صرح متحدث باسم وزارة الصحة والخدمات الإنسانية بأن هيئة معاهد الصحة الوطنية ملتزمة بالأخذ بمشورة مجتمع المصابين بالتوحُد وبمشورة الأطراف المعنية في المبادرات المرتبطة بالتوحُد، وبأن «مبادرة علم بيانات التوحُد» تتطلع إلى العمل مع اللجنة سالفة الذكر وإلى "طلب إرشاداتها فور انعقادها".
وقد أوعزت مشاورات أخرى بأن البحث عن أسباب المرض ليس أولوية لبعض المصابين بالتوحُد. على سبيل المثال، في عام 2016، طلبت منظمة «أوتيستيكا» ومجموعة من المنظمات الخيرية الأخرى المعنية بدعم المصابين بالتوحد المشورة من أكثر من 1000 من المصابين بهذا المرض ومن أسرهم، وطلبت إليهم وضع قائمة بأهم عشرة أسئلة يريدون أن تقدم الأبحاث إجابة عنها. فتضمنت القائمة من بين جملة احتياجات أخرى، اكتشاف سبل لتحسين ودعم التعليم والصحة النفسية للمصابين المرضى والنهوض بالتواصل معهم. ولم يرد اكتشاف أسباب التوحد إطلاقًا بين الأولويات المُدرجة على القائمة.
ختامًا، يقول كيوزاك، مثلًا، أنه يجد التطورات التي شهدتها الثلاثون عامًا الأخيرة في فهم التوحُد ووصفه وتوفير الدعم للمصابين به باعثة على التفاؤل والأمل. غير أن أكبر مخاوفه، بحسب ما يشير، هي أن كينيدي ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية "سيعلنان أسبابًا خاطئة للإصابة بالتوحُد، وهذا قد يقف عائقًا أمام الكثير من التقدُم المُحرز في هذا المجال".
اضف تعليق