النضج الاجتماعي وحق الانتخاب

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

وجود ترابط حاسم بين النضج، وتطبيق حق الانتخاب وعدم التفريط به، من أجل التغيير السياسي الذي يجب أن يؤدي بالدولة والمجتمع نحو التقدم إلى أمام، فالتخلي عن حق الانتخاب واللجوء إلى معالجات بديلة منها العنف والتصادم سوف يجعلنا نفقد أهم مكسب حققه العراقيون متمثلا بالتداول السلمي للسلطة...

(إذا كان الناس لا يتمتعون بالنضج السياسي والثقافي في حق الانتخاب، سوف يفقدون فرصة التقدم) الإمام الشيرازي

غالبا ما تكون المحصّلات المهمة والمفيدة صعبة المنال، وتحتاج إلى جهود استثنائية للوصول إليها، ومن أهم هذه المحصلات (النضج)، ونعني بذلك نضج الإنسان بعد رحلة طويلة مع التجارب والتعلّم والاحتكاك مع الآخرين، ومواجهة المصاعب والمواقف والظروف العصيبة، فهذه كلها تصقل قدرات الإنسان وتمنحه الموعظة اللازمة وتجعله فاعلا وقادرا على النجاح في ترسيم وتحقيق مختلف الأهداف في حياته.

هل يمكن أن يرتبط النجاح بالنضج؟، هذا السؤال مهم للغاية، والإجابة عنه أكثر أهمية، كونها تحفّز كل إنسان على البحث عن أهمية النضج ولماذا هو ضروري للإنسان ومهم جدا لتحسين حياته، ذلك أن العقل غير الناضج لا يمكن أن يمنح صاحبه فرصا جيدة للنجاح في حياته، بل ينطبق هذا الأمر على الجماعات أو المجتمعات، فالمجتمع يحتاج إلى النضج كما هي الحال بالنسبة للأفراد، والنجاح الذي يبحث عنه المجتمع لا يمكن أن يتحقق من دون النضج.

بالطبع تحصيل النضج من الأهداف الصعبة، لكنه ليس مستحيلا، وهو يتعلق بنضج الأفكار لدى الإنسان، بمعنى إذا لم تكن أفكار البشر ناضجة فإن فرص التقدم تضمحل أمامه، وقد يفقدها دائما طالما أنه لم يسعَ إلى تطوير أفكاره التي كلما تحسَّنت وتميز تحسَّن وتميّزَ سلوكه، وبهذا سوف يحصل من خلال النضوج على الفكر الجيد والسلوك المستقيم.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (القطوف الدانية/ الجزء الرابع):

(من الأمور الصعبة والمهمة التي يلزم على الإنسان السعي وراءها وتحصيلها هو النضج، بمعنى أن يكون الإنسان ناضجاً في فكره وسلوكه). 

مواجهة الصعاب وعدم الهروب منها

لهذا السبب يوصَف النضج بأنه صعب المنال، وكل شيء أو هدف صعب يكون فاعلا في حياة البشر، على عكس الأهداف والأشياء سهلة المنال التي غالبا ما يكون دورها في تطوير حياة الناس ضعيفا إنْ لم تكن لا دور لها في تقدم الناس بل قد تشكل عامل تراجع وتأخير لهم، فأي شيء تحصل عليه بلا تعب وجهد ومثابرة لن يكون له دور في تقدمك. 

لهذا يرتبط تحصيل الأهداف المهمة والكبيرة بالجدّ والجهد والمثابرة والاحتكاك مع الصعاب ومواجهتها وعد التراجع أمامها أو الهروب منها، وهكذا سوف يرسخ النضج في أعماق الإنسان ويجعله من المتميزين بين البشر.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

( لصعوبة الوصول إلى مستوى النضج المطلوب، نرى أنه لا يستطيع كل شخص الوصول إليه، ولا يتمكن تحصيله بسهولة؛ إذ أن هذا المستوى الجيد من النضج يتحصل من أثر توالي الأحداث، وتقلب الأحوال، وممارسة الصعاب، وحفظ التجربة، وبهذه الأمور وأمثالها ينبت النضج في داخل الإنسان ويترعرع وينمو، وهناك النضج الاجتماعي العام أيضا).

الموعظة لها دورها الكبير في تشذيب النضج، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (العاقل من وعظته التجارب). وهذا الأمر لا ينحصر بالأفراد وحدهم، فالمجتمع أيضا يجب أن يلجأ إلى الموعظة ويستفيد منها، لاسيما في قضايا الفكر والسلوك، فالبصيرة الجمعية يمكنها أن تدفع بالمجتمع إلى أمام وتتيح له فرصا أكبر وأكثر للتقدم.

كذلك يجب أن يكون هناك دورا حاسما للعقل الجمعي من أجل أن يتطور ويتقدم المجتمع، وعكس ذلك لا يمكن أن تتوفر الفرص اللازمة للتقدم، فالنضج الاجتماعي وخصوصا في القضايا المصيرية يكون دوره حاسما لنقل المجتمع من حال إلى حال أفضل، كما يحدث في التجارب الانتخابية المفصلية التي يكون لها دور حاسم في تغيير مسارات الأمم والشعوب.

يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:

(من الواضح أن المجتمع الذي لا يتصرف في شؤونه العامة طبق البصيرة والنضج، ولا يحكم العقل والمنطق السليم في أموره سوف يتردى في الحياة، وتسوء أوضاعه يوماً بعد يوم).

ولهذا كان النضج ولا يزال وسيبقى مطلوبا من قبل الجميع، كونه الأداة الأساسية في تغيير حياتهم وتطويرها، فهو لا يخص الأفراد وحدهم، بل حتى الهيئات والمؤسسات والجماعات السياسية تكون في حاجة ماسة للنضج، حيث تشارك الأحزاب الناضجة في تطوير الحياة السياسية للمجتمع والدولة.

كذلك تحتاج التجمعات الأخرى إلى النضج لأنه يدفعها للبحث عن سبل التقدم والنهوض بالناس، ولهذا هناك تأكيد دائم على أهمية النضج سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع، كونه يضع أقدام الجميع على الجادة الصواب.

الوعي الجمعي والبصيرة الثاقبة

لهذا يجب أن نتمسك بحق الانتخاب، ولا نفرط به، كونه السبيل نحو التغيير الصحيح، ولكن هذا الوعي والتشبث بحق الانتخاب، لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان بسهولة، بل يجب أن يكون هنالك وعي جمعي وبصيرة نافذة وثاقبة تفتح آفاق النضج على مصراعيه، حتى يتمكن المجتمع من خوض تجربة التغيير عبر بوابة الانتخابات السياسية أو سواها حتى يتثقف الفرد والمجتمع على هذه الفعالية الاستشارية التي تقود الناس نحو الصواب دائما.

الإمام الشيرازي يؤكد رأيه في هذا الجانب فيقول:

حيث يقول الإمام الشيرازي:  

(إن النضج والوعي مسألة لا تخص أحداً دون أحد، بل تعم وتشمل حتى الهيئات والأحزاب والتجمعات المختلفة، وهو من العوامل الرئيسية لنجاح بعض الأحزاب أو الهيئات دون الأخرى؛ لأن موضوع النضج والاحتكام إلى العقل والبصيرة في السلوك من الأمور العامة التي تشمل الجميع).

ونظرا لأهمية النضج السياسي والثقافي والفكري بشكل عام، فإن المطلوب من الأفراد ومن الجماعات أيضا، أن يبذلوا ما يكفي من المحاولات الجادة التي تستند إلى البصيرة الثاقبة والفكر العميق المتميز المستخلَص من درجة النضج العالية، لكي توضع أقدامهم في الدروب التي تذهب بهم نحو النهايات السليمة.

ويمكن أن نجد في التجارب الأخرى للشعوب والأمم دروسا واضحة أهمها الإصرار والتعب والمثابرة والتشبث المصيري بتحسين الواقع، وهذا لن يتحقق إلا في التمسك بحق الانتخاب، وإزاحة الوجوه التي جربت خوض العمل السياسي وفشلت، لذا يجب استبدالها بوعي وإصرار عبر حق الانتخاب، كذلك يجب تطبيق النظام الاستشاري الانتخابي في جميع مرافق الحياة، حتى يصبح حق الانتخاب منهج حياة للجميع.

يقول الإمام الشيرازي مؤكدا على ان:

(النضج ليس بالأمر السهل والهين، وإنما بحاجة إلى التعب والجد والاجتهاد ليل نهار، وتحمل الكثير من الصعاب والمشاكل، حتى يحصل الإنسان على درجة من التعقل والنضج تكون على شكل ملَكة ثابتة في ذاته وكيانه، بحيث يستطيع أن يحل أكثر مشكلاته وأموره، ويتخذ مواقفه دائماً بالتي هي أحسن، وتحت ظل الحكمة والحنكة والذكاء).

بالنتيجة نلاحظ وجود ترابط حاسم بين النضج، وتطبيق حق الانتخاب وعدم التفريط به، من أجل التغيير السياسي الذي يجب أن يؤدي بالدولة والمجتمع نحو التقدم إلى أمام، فالتخلي عن حق الانتخاب واللجوء إلى معالجات بديلة منها العنف والتصادم سوف يجعلنا نفقد أهم مكسب حققه العراقيون متمثلا بالتداول السلمي للسلطة، الذي يعد الطريق الأصلح والأسرع للمجتمعات المتقدمة نحول التطور والتقدم إلى أمام.

اضف تعليق