مع تصاعد القلق العالمي حول تأثيرات تغيّر المناخ على التنوع البيولوجي، تتزايد أهمية فهم أسباب تفاوت قدرة الأنواع الحية على التكيف. لطالما كان السؤال المحوري بالنسبة للعلماء: لماذا تستطيع بعض الأنواع التكيّف مع طيف واسع من المناخات، بينما تفشل أنواع أخرى رغم تمتعها بخصائص تبدو واعدة؟...
مع تصاعد القلق العالمي حول تأثيرات تغيّر المناخ على التنوع البيولوجي، تتزايد أهمية فهم أسباب تفاوت قدرة الأنواع الحية على التكيف. لطالما كان السؤال المحوري بالنسبة للعلماء: لماذا تستطيع بعض الأنواع التكيّف مع طيف واسع من المناخات، بينما تفشل أنواع أخرى رغم تمتعها بخصائص تبدو واعدة؟
الإجابة عن هذا السؤال لا تقتصر على الفضول العلمي فقط، بل تحمل آثارًا مباشرة على خطط الحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض وعلى استراتيجيات إدارة النظم البيئية. ومن هذا المنطلق، تأتي أهمية الدراسة التي نشرتها مجلة Nature Communications والتي سلطت الضوء على العلاقة بين توزيع الأنواع، حجم أدمغتها، ومدى تأقلمها مع التغيّرات المناخية.
ملخص الدراسة
أجرى الدراسة فريق من الباحثين بقيادة الدكتور كارلوس بوتيرو، أستاذ مشارك في علم الأحياء التكاملي بجامعة تكساس في أوستن، بالتعاون مع الباحث جواو فابريسيو موتا رودريغز. تناولت الدراسة تحليلاً دقيقًا لبيانات تخص حوالي 1500 نوع من الطيور من مختلف أنحاء العالم.
اعتمد الباحثون على خرائط التوزيع الجغرافي المُقدّرة بناءً على مئات الآلاف من الملاحظات الميدانية التي جمعها "علماء المواطن" عبر منصة eBird. هذا التعاون بين المتطوعين والعلماء مكّن الفريق من الحصول على تمثيل دقيق جدًا لنطاق تواجد الطيور في العالم.
نتائج مفاجئة
أظهرت الدراسة أن نطاق التوزيع الجغرافي الكبير لا يعني بالضرورة قدرة أكبر على التكيف المناخي. فعلى سبيل المثال، بعض الأنواع التي تعيش في مناطق شاسعة - مثل طائر الشمع البوهيمي في القطب الشمالي - لا تواجه بالضرورة تنوعًا مناخيًا كبيرًا. بل إن هذه الأنواع غالبًا ما تكون متكيفة مع مناخات ضيقة ومحددة، ما يجعلها أكثر عرضة للتأثر بتغير المناخ مما كان متوقعًا.
في المقابل، أظهر طائر السمان الضاحك ذو التاج الكستنائي، والذي يعيش في نطاق صغير في آسيا، قدرة على التأقلم مع مجموعة أوسع من الظروف المناخية. وهذا التباين بين الاتساع الجغرافي والتنويع المناخي يوضح أن الحجم الجغرافي وحده لا يُعتبر مؤشرًا كافيًا لقياس مرونة النوع.
حجم الدماغ والتكيف المناخي
من أبرز النتائج التي توصلت إليها الدراسة هي العلاقة بين حجم الدماغ (نسبة إلى حجم الجسم) ومدى التأقلم المناخي. الطيور ذات الأدمغة الأكبر، والتي يُفترض أنها تمتلك سلوكًا أكثر مرونة وقدرة على حل المشكلات، كانت في الواقع متخصصة مناخيًا بشكل مفاجئ. أي أنها تطورت لتناسب أنواعًا محددة جدًا من المناخات، ما يجعلها عرضة بشكل خاص لأي تغيرات مناخية خارجة عن هذا النطاق.
يقول الدكتور بوتيرو: "كنا نعتقد أن الدماغ الأكبر يعني قدرة أكبر على التكيّف، لكن يبدو أن العديد من هذه الطيور تعيش في بيئات مستقرة نسبيًا، ما يجعلها أقل استعدادًا للتغيرات المفاجئة في المناخ".
تصنيف "الفضاء المناخي"
طور فريق البحث طريقة جديدة لتحليل وتفسير التوزيع المناخي للأنواع، حيث قسّموا المناخ العالمي إلى فضاء ثنائي الأبعاد بناءً على عاملين رئيسيين:
1. قسوة درجة الحرارة: والتي تقيس مدى برودة المناخ وتقلباته وصعوبة التنبؤ به.
2. قسوة الجفاف: والتي تشير إلى مدى انخفاض هطول الأمطار ومدى تقلبه وصعوبة التنبؤ به.
أنشأ الفريق خريطة "الفضاء المناخي" التي تصنف المناطق المناخية حول العالم بحسب شدة العاملين المذكورين. ثم تم ربط كل نوع من الطيور بالمناخات التي يشغلها على هذه الخريطة. فكلما كانت "المساحة المناخية" التي يشغلها النوع أصغر وأكثر تطرفًا، زادت احتمالية تأثره بالتغير المناخي.
إعادة النظر في طرق تقييم المخاطر
سلطت الدراسة الضوء على محدودية الطرق التقليدية في تقييم خطر الانقراض، والتي تعتمد غالبًا على قوائم مرجعية لعوامل مثل نطاق التوزيع الجغرافي، أو حجم الجماعات، أو حجم الدماغ. يقول بوتيرو: "علينا التوقف عن النظر إلى عوامل الخطر الفردية بمعزل عن بعضها البعض، بل علينا فهم كيف تتفاعل هذه العوامل معًا. ففي كثير من الأحيان، تكون التفاعلات غير المتوقعة هي الأكثر تأثيرًا".
أهمية الدراسة وتطبيقاتها العملية
تُعد هذه النتائج بالغة الأهمية في زمن تتسارع فيه التغيرات المناخية، حيث يمكن أن تساهم في إعادة توجيه السياسات البيئية نحو أنواع كانت تُعتبر آمنة في السابق بسبب نطاقها الجغرافي الواسع. كما أنها تبرز أهمية الجمع بين البيانات الضخمة والتقنيات التحليلية الحديثة لفهم التعقيد البيئي الحقيقي.
تكشف هذه الدراسة عن حقيقة صادمة في علم البيئة: المرونة السلوكية أو الانتشار الواسع لا يكفيان دائمًا لحماية الأنواع من تغيّر المناخ. بل إن فهم العلاقات المعقدة بين الجغرافيا، والسلوك، والتكيف المناخي، هو المفتاح لتحديد الأولويات في جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي. وقد حان الوقت لإعادة تقييم استراتيجيات الحفاظ البيئي على ضوء هذه الرؤى الجديدة.
اضف تعليق