حالتان تتسع فيهما الهوة بين المثقف والمجتمع، أولهما: حين يكون المثقف جزءا من السلطة وأداة بيدها، فيتحول الى كرباج تجلد به السلطة ظهر الرعية، وثانيهما: حين يترفع فيها المثقف على المجتمع او يتعالى عليه ليس من باب الرفض او اتخاذ موقف نقدي مما يعانيه المجتمع ويعيشه...
جاء في الحديث الشريف (إذا رأيتم العلماء على أبواب الملوك فبئس العلماء وبئس الملوك، وإذا رأيتم الملوك على أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الملوك) وجاء (الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك) وقال مظفر النواب (ان أرضنا حفلت بنواطير شجعان كثيرين منحوا حياتهم لحراسة الارض والتاريخ والناس، ولكن هناك نواطير جلسوا في احضان اللصوص، اللصوص الذين سرقوا كذلك الارض والتاريخ والناس) والنواطير هنا هم القائمون على عقل المجتمع وقيمه وقادة الرأي العام فيه، فتواطأ بعضهم مع الدكتاتور وخان شرف الكلمة وحافظ عليها وصانها البعض الاخر.
حالتان تتسع فيهما الهوة بين المثقف والمجتمع، أولهما: حين يكون المثقف جزءا من السلطة وأداة بيدها، فيتحول الى كرباج تجلد به السلطة ظهر الرعية، وثانيهما: حين يترفع فيها المثقف على المجتمع او يتعالى عليه ليس من باب الرفض او اتخاذ موقف نقدي مما يعانيه المجتمع ويعيشه ويتبناه من قيم وعادات وتقاليد بل من باب الترفع المتنكب للغرور.
المثقف كائن نقدي لايحده او يؤطره حد معين، بل هو للجميع ومع الجميع، حامل آلام المجتمع وآلامه ولايردد مع صاموئيل بيكت(لست ساعي بريد حتى احمل رسالة). لان المجتمع بحاجة اليه، ليتبنى قضاياه ويؤسس لثقافته ويصحح مسارات بنيته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
كثيرا ما يكتب بعض المثقفين والادباء عن الزملاء الذين اندرجوا في ماكنة النظام السابق الاعلامية والثقافية، اذ يملؤون الدنيا صخبا كله لوم وتقريع، وفي الجانب الآخر نرى هؤلاء الزملاء يعضون اصابع الندم وقد أفلسوا من الامتيازات التي كان يغدقها صدام على مروجي خطابه الاعلامي ومتبني ثقافته والذابين عن سياساته.
المشكلة الاساسية التي مازلنا نعاني منها ان الدولة مازالت مهيمنة على كل السلطة والثروة، وهي التي تمتلك الاعناق والارزاق، فهي الآخذ والمعطي والمنعم والمغني، لاشريك لها في كل هذا فاصبح المجتمع تابعا لها، بل شحاذا يقف على بابها، يحتاجها ولاتحتاجه، بعد ان ابتلعت كل شيء.
عليك ان تصدق حين يقال لك ان فلانا كان في الصباح على مائدة السياسي الاسلامي، او في مقر حزبه يسرد صولاته ضد النظام السابق ضمن الحركة الاسلامية، ومساء عند القائد الليبرالي يتحدث عن المجتمع المدني والليبرالية وكيف كان شوكة في عين النظام ورموزه مدعيا تبني قيم الديمقراطية والمجتمع المدني.
وحال هذا المثقف الممسوخ هو حال من يصلي خلف الامام علي ويفضل مائدة معاوية، وحين يحمى الوطيس ويجد الجد ويصطدم الطرفان نراه في منطقة اللاموقف.
مسخ كهذا لايمكن ان تنطبق عليه صفات المثقف، فهو حين يكتب مثلا، لايكتب الا مالا ينفع ولايضر، ولايقترب مما يوجع الرأس ويسبب الصداع..مايسمى بالمثقف هو مواطن كغيره له حقوق وعليه واجبات ومتى ماأخل بواجباته، لابد ان يحرم من هذه الحقوق، فكفتي الحقوق والواجبات لابد ان تتوازنا، وعكس هذا يعد اعتداء على حقوق الآخرين. وهذه الحقوق لاتستجدى من احد، بل نظمتها التشريعات والدستور.
السلطة دائما تسعى الى تدجين المثقف بالتلويح له بجزرتها، فهل استطاعت ان تجعله ينبح كما نبحت نمور زكريا تامر؟ نعم استطاعت ان تحول البعض الى ابواق ومهرجين، يتم من خلالهم تسلية السلطان، لان السلطة دائما بحاجة الى مهرجين يرفهون عن رموزها او ابواقا تردد مقولاتها او تدبج لها المدائح وتبرر اعمالها وليست بحاجة الى المثقف صاحب الموقف النقدي.
والشعراء اثبتوا وبكل جدارة انهم اهل للعب دور البوق والمهرج في جميع الازمان لهذا تقربهم السلطة وتقيم لهم المهرجانات.
يروي د.غازي القصيبي في كتابه (عن قبيلتي احدثكم) اضطر الشعراء إلى التنقل بين الدويلات لعرض خدماتهم على حكام هذه الدويلات، وظهر "شعراء الكدية أو التسّول، بل هناك من يبتزون بشعرهم فيمدحوا وإن لم يعطوا قاموا بالهجاء المقزز - وأصبح الشعراء لا يكتبون إلا بمقابل, وقد نظم المتنبي قصيدة مديح حصل بمقابلها على دينار ولذلك تمت تسميتها بـ "القصيدة الدينارية.
بعض المثقفين في العراق اغوتهم قبائلهم وطوائفهم او احزابهم فتخلوا عن الوطن والمجتمع ولم يضعوا في اجنتدهم ما يعانيه وطنهم او شعبهم فتهافتوا على موائد السحت الحرام كما يتهافت الذباب.
اضف تعليق