تلسكوب يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء، استغرق بناؤه نحو 30 عاماً و40 مليون ساعة عمل، بكلفة بلغت 10 مليارات دولار. ويستطيع هذا التلسكوب ــــ نظرياً ــــ تتبّع الأثر الحراري لطنين نحلة على القمر من الأرض. فما أهمية هذا المنظار العظيم وبمَ يختلف عن مقراب «هابل»؟ والأهم من ذلك كله...
«لقد أحببت النجوم باعتزاز شديد، إلى درجة أنّني لا أخاف الليل»
غاليليو غاليلي
انطلق صاروخ «آريان 5» الفرنسي، السبت الماضي، من الساحل الشمالي الشرقي لأميركا الجنوبية نحو الفضاء، وعلى متنه حمولة غير عادية. تحفة هندسية بالغة التعقيد والأهمية، فخر ما أنتجه العقل البشري خلال عقود. تلسكوب يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء، استغرق بناؤه نحو 30 عاماً و40 مليون ساعة عمل، بكلفة بلغت 10 مليارات دولار. ويستطيع هذا التلسكوب ــــ نظرياً ــــ تتبّع الأثر الحراري لطنين نحلة على القمر من الأرض. فما أهمية هذا المنظار العظيم وبمَ يختلف عن مقراب «هابل»؟ والأهم من ذلك كله، لمَ أطلق عليه لقب «آلة زمن»؟
بروكسيما سنتوري، أقرب نجم إلى عيون البشر (غير الشمس)، يبعد عن كوكب الأرض حوالي 4,2 سنوات ضوئية. أي أنه في حال استطاعت البشرية أن تنتج سفينة فضائية تسبر الفضاء بسرعة الضوء (300 ألف كلم في الثانية)، ستستغرق الرحلة أكثر من 4 سنوات بقليل. وبسبب ضخامة المسافة التي يقطعها الضوء المنبعث من بروكسيما سنتوري، فإننا نشاهد صورة النجم في الماضي، قبل 4.2 سنوات ضوئية. فعلى سبيل المثال، يستغرق شعاع الشمس نحو 500 ثانية أو 8,3 دقائق للوصول إلى الأرض، أي أنه في كل لحظة ينظر فيها شخص ما إلى الشمس، يرى ما كانت عليه قبل 8,3 دقائق. وإذا افترضنا أن الشمس انطفأت الآن، فلن يعلم سكان الأرض بذلك إلا بعد مرور تلك الدقائق.
من هنا، ولسخرية القدر، هناك احتمال كبير بأن يكون أحد النجوم التي ننظر إليها ليلاً، قد انفجر قبل ذلك. وإن كان ذا كتلة كبيرة، سيكون قد انفجر بشكل يطلق عليه «سوبر نوفا»، المستعر الأعظم، وهناك احتمال كبير بأن يكون قد تحوّل إلى ثقبٍ أسود.
تلسكوب «جيمس ويب»، سمّي كذلك نسبةً إلى مدير «ناسا» خلال الستينيات، الذي قاد الوكالة عندما كانت تستعد لهبوط الإنسان على القمر. والتلسكوب هو مشروع تعاوني بين وكالات الفضاء في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. ويختلف عن سلفه الشهير، تلسكوب «هابل» الفضائي، في أمورٍ عدة.
الأخير أطلق في مدار كوكب الأرض عام 1990، على بعد 547 كلم، ليرسل صوراً مذهلة للنجوم والمجرّات ألهمت البشرية، على عكس أي شيء رأيناه من قبل. لكنه تلسكوب «تقليدي» نوعاً ما. ورغم أن عدسته كبيرة الحجم (2.5 متر)، إلا أنه مثلنا يستطيع رؤية الشعاع المنظور فقط. في حين أن منظار «جيمس ويب»، لا يملك عدسة مثل التلسكوبات المعروفة.
إذ لديه 18 مرآة سداسية الشكل، مطلية بالذهب، ومنفصلة بعضها عن بعض. وقطر جمعها 6,5 أمتار. وستقوم تلك المرايا بتجميع جزيئات الضوء المنبعث من النجوم والمجرات وتحويلها إلى صور يمكننا رؤيتها. ولأنه منظار يستخدم الأشعة ما تحت الحمراء، سيستطيع العلماء رؤية النجوم والمجرات والكواكب الموجودة خلف سحابات الغبار الكوني (وهو أمر لا يمكنهم فعله اليوم). وخلال فترة حياته المقدرة من 5 إلى 10 سنوات، سيحاول العلماء عبر هذه التحفة الهندسية، تحديد شكل الكون ورؤية كيف تشكّل بعد «الانفجار الكبير» (بيغ بانغ).
المنظار الجديد سيحتاج إلى شهر كامل كي يصل إلى مداره، نقطة لاغرانج 2 (L2 lagrange point). وسيكون موجوداً خلف كوكب الأرض على بعد مليون ونصف مليون كلم، وسيدور حول الشمس. وكونه تلسكوب يتأثر بالحرارة، فهو مبني فوق 5 طبقات من المواد العازلة للحرارة توازي مساحتها ملعب كرة يد، ستعمل بمثابة جهاز تبريد وحماية من أشعة الشمس. وسيحتاج إلى حوالى 6 أشهر كي يبرد.
الجهة التي تحوي المرايا ستكون في حرارة ناقص 233 درجة مئوية. في حين أن ظهره المقابل للشمس سيكون بحرارة 85 درجة مئوية. أي أن التلسكوب لن يدخل الخدمة فعلياً قبل منتصف العام المقبل. ولزيادة الطين بلة، وبحسب مهندسي «ناسا»، هناك 300 طريقة يمكن أن يفشل بها التلسكوب ولا يمكن لأي رائد فضاء أن يذهب إليه لمحاولة إصلاحه بسبب بعد المسافة التي يوجد فيها، كما يتم إصلاح تلسكوب «هابل» (أقصى مسافة قطعها البشر في الفضاء كانت عام 1970، وبلغت 400,171 كلم، حين حملت مركبة «أبولو 13» رواد فضاء إلى الجانب المظلم من القمر).
بعد «الانفجار الكبير» (قبل 13,5 مليار سنة) بـ 400 ألف سنة، بحسب العلماء، ساد الكون ظلام دامس استمر مئات الملايين من السنين. وسمّيت هذه الفترة بالعصر المظلم للكون. كان الأخير فارغاً بحق؛ لا مجرّات، لا نجوم، لا كواكب ولا حياة، فقط ضباب من ذرات الهيدروجين التي شكّلها الانفجار العظيم وتُركت لتخترق الظلام. بعد هذه الفترة، بدأ الكون في التشكّل. ولأنه في حالة توسّع دائم، فإن الشعاع الضوئي الذي خلّفته كل تلك الأشياء والتي يمكننا رؤيتها، انزاحت نحو اللون الأحمر بسبب المسافات الهائلة للكون. لهذا، تم تصميم التلسكوب خصيصاً لالتقاط الأشعة ما تحت الحمراء. وسيستطيع «جيمس ويب» العودة بالزمن إلى لحظة انتهاء العصر المظلم للكون، لحظة تشكّل كل شيء. وأن التلسكوب قادر على تمييز الأضواء الاصطناعية، أي الأضواء التي يمكن أن تكون نتاج فعل كائنات وحضارات موجودة في مجراتٍ بعيدة أو في أنظمة شمسية داخل درب التبانة!
لكن، مع الأسف، لا يمكن «جيمس ويب» رؤية ما حدث عند لحظة الانفجار العظيم، إذ لم يكن هناك ضوء في حينها. الأثر الحراري الذي سيلتقطه التلسكوب لا يمكننا رؤيته عبر العين المجردة. ونحتاج إلى الأشعة ما تحت الحمراء. لكن يمكن للبشر الإحساس بذلك الأثر. وعلى سبيل المثال، يمكننا الإحساس بحرارة موقدة من على مسافة على الجلد من دون رؤيتها.
ويقدّر العلماء وجود أكثر من 100 مليار نجم في مجرّة درب التبانة. المجرة التي يوجد في داخلها نظامنا الشمسي. في حين أن الكون، تلك المساحة السحيقة من الظلام الدامس، يحوي أكثر من 2 تريليون مجرّة! مع ما في داخلها من نجوم وكواكب تدور في مدارها. فعلياً، المخيلة تعجز عن تصوّر حجم الكون. لكن، إذا جرت الأمور كلّها بالشكل المناسب، واستطاع «جيمس ويب» أن يفرد أجزاءه كلها بشكل تام في المقبل من الأيام، فستكون البشرية قد دخلت مرحلة جديدة من رحلة استكشاف الكون.
بدأ تطوير تلسكوب «جيمس ويب» عام 1996. وكان التقدير يومها أن إطلاقه نحو الفضاء سيكون عام 2007 بميزانية قدرها 500 مليون دولار.
لكن المشروع مرّ في عدة مراحل من التأجيل وتجاوز للتكاليف. كما خضع لعملية إعادة تصميم كبيرة عام 2005، واحتاج «جيمس ويب» إلى اختراعات وانجازات وجدت لأجله فقط. ليعود ويتم الانتهاء من إنشائه أواخر سنة 2016 بكلفة ناهزت 10 مليارات دولار. وبعد ذلك بدأت مرحلة الاختبارات المكثَّفة. وفي آذار 2018، أجَّلت وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» إطلاق التلسكوب بعدما تمزّق درع الشمس خلال تجربة نشره. وتم تأجيل الإطلاق مرة أخرى في حزيران 2018 إثر توصيات من مجلس مراجعة مستقل. ومن ثم تم تعليق العمل على دمج واختبار التلسكوب في آذار 2020 بسبب جائحة كورونا، ما أدى إلى مزيد من التأخير. وبعد استئناف العمل، أعلنت «ناسا» أن موعد الإطلاق تأجل إلى 31 تشرين الأول 2021. إلا أن مشاكل متعلقة بمركبة الإطلاق الصاروخ «أريان 5»، أدت إلى تأخير موعد الإطلاق. ليعود ويتم إطلاقه بنجاح في 25 من الشهر الجاري.
أعمدة الخلق، تظهر في إحدى صور تلسكوب «هابل» الفضائي لمنطقة غنية بالغاز والغبار الكوني في «سديم النسر». في المقابل، صورة للأعمدة ذاتها ولكن مع رؤية أفضل للنجوم حولها عبر استعمال منظار يعمل عبر الأشعة ما تحت الحمراء.
اضف تعليق