في الوقت الحالي، نشهد عصر استخدام الخلايا المناعية المُعدلة جينيًا للتصدي بفاعلية لطيف من أمراض المناعة الذاتية الموهِنة، مثل التهاب القولون التقرحي، والتهاب المفاصل الروماتويدي والذئبة. ويرى باحثون أن النتائج الإيجابية التي أظهرها هذا العلاج في نحو عشرات الدراسات على مدى العقود الثلاثة الماضية يشير إلى...
في الوقت الحالي، نشهد عصر استخدام الخلايا المناعية المُعدلة جينيًا للتصدي بفاعلية لطيف من أمراض المناعة الذاتية الموهِنة، مثل التهاب القولون التقرحي، والتهاب المفاصل الروماتويدي والذئبة. ويرى باحثون أن النتائج الإيجابية التي أظهرها هذا العلاج في نحو عشرات الدراسات على مدى العقود الثلاثة الماضية يشير إلى أن الخلايا التائية المنتجة لمستقبلات المستضدات الخيمرية (اختصارًا CAR-T) يُمكن أن تُستخدم في نهاية المطاف لعلاج أية أمراض يتعرض فيها الجسم لهجمات من قبل جهازه المناعي.
يُسخِّر العلاج بهذا النوع من الخلايا خلايا الجهاز المناعي التائية المسؤولة عن محاربة العدوى. وفيه، تُجمع هذه الخلايا التائية من جسم المريض وتُعدل جينيًا لإنتاج بروتينات تُسمى مستقبلات المستضدات الخيمرية. بعد ذلك، يُعاد إدخال هذه الخلايا إلى الجسم لتستهدف المستقبلات التي تُعبر عنها الخلايا البائية، وهي نوع آخر من الخلايا المناعية، يُنتِج - في أمراض المناعة الذاتية - أجسامًا مضادة تهاجم الخلايا السليمة للجسم.
وقد انتشر استخدام هذا العلاج للتصدي للاضطرابات المناعية منذ عام 2021، عندما اصبحت امرأة عانت من حالة شديدة من مرض الذئبة وبلغت من العمر آنذاك عشرين عامًا أول من يخضع لهذا العلاج للتغلب على أحد أمراض المناعة الذاتية1. ففي هذا الصدد، يخبرنا ديفيد سايمون، وهو طبيب إكلينيكي وباحث كان من ضمن الفريق المُعالج للمرأة سالفة الذكر2إن العلاج بخلايا CAR-T قد دخل منذ ذلك الحين في تجارب إكلينيكية من المرحلة الأولى والثانية ترمي إلى التصدي لبعض أمراض المناعة الذاتية، مثل التصلب الجهازي، والتهاب العضل والتهاب المفاصل الروماتويدي. وتجري حاليًا تجارب من المرحلة الثالثة لعلاج مرضي الذئبة والوهن العضلي الوبيل، وهو حالة مرضية تسبب ضعف العضلات المستخدمة في التنفس والبلع والرؤية.
ويضيف سايمون، الذي تركز أبحاثه على التهاب المفاصل الروماتويدي في «مستشفى تشاريتيه الجامعي» Charité University Hospital في برلين بألمانيا أن المشاركين في التجارب الرامية إلى علاج التهاب المفاصل الروماتويدي والذئبة بخلايا CAR-T يبدو أنهم "شُفوا"، بتعبيره. وهو ما أكده قائلًا: "فقد هؤلاء المرضى الأجسام المضادة المهاجمة لأنسجة الجسم المسببة للمرض، ولم تعد تظهر عليهم أية أعراض. وهذه نتيجة لم يسبق لنا قط رصدها".
يُذكر أيضًا أن العلاج بالخلايا CAR-T أصبح إجراءً معتادًا في علاج عدة أنواع من السرطان منذ اعتماده لأول مرة لعلاج الأورام السرطانية في عام 2017.
جبهة جديدة
يُعد التهاب القولون التقرحي (وهو اضطراب يصيب القولون ويسبب آلام البطن والقُرح والإسهال النزفي) من بين الأمراض التي ظهر مؤخرًا العلاج بخلايا CAR-T كإجراء واعد في التصدي لها.
على سبيل المثال، في سبتمبر الماضي، أفاد اختصاصي أمراض الجهاز الهضمي ماركوس نيوراث وفريقه البحثي من مستشفى إرلانجن الجامعي في ألمانيا باستخدام خلايا CAR-T لعلاج امرأة مصابة بهذا المرض، بلغت من العمر 21 عامًا 3. وبعد هذا العلاج، اختفت أعراض المرض لمدة 14 أسبوعًا لدى المريضة، التي لم تعد بحاجة إلى تلقي دواء للمرض، وأمكنها العودة إلى مزاولة عملها. تعقيبًا على ذلك، يقول نيوراث: "كانت هذه نتيجة مذهلة". ويعتزم مع فريقه البحثي اختبار فاعلية العلاج في عدد أكبر قليلًا من الأشخاص قبل البدء في خوض تجارب إكلينيكية ضابطة تضم العديد من المشاركين.
كذلك نشر بينج دو، اختصاصي علم المناعة من «جامعة شرق الصين لإعداد المُعلمين» في شنغهاي مع فريقه البحثي في وقت سابق من هذا العام نتائج دراسة تجريبية استخدمت خلايا CAR-T مناعية مٌتبرَع بها لعلاج حالات مرض الذئبة المقاوِمة للعقاقير4. فهذه الخلايا المستمدة من متبرعين، قد تخدم كنسخ "جاهزة" من خلايا CAR-T، يُمكن إنتاجها على نطاق واسع، مع تقليص الوقت والتكلفة اللازمين لذلك 5. أيضًا شارك دو العام الماضي في دراسة تُعد الأولى من نوعها لتحليل تأثير خلايا مناعية معدلة ومهندسة بيولوجيًا، مستمدة من متبرعين، في علاج اثنين من أمراض المناعة الذاتية النادرة والخطيرة 6.
في إطار هذه الدراسة الأخيرة، تلقّت أربع نساء مصابات بنوع من الذئبة، ضار بعدة أعضاء من الجسم، علاجًا كيميائيًا لخفض مستويات خلايا الدم البيضاء لديهن، تلاه تسريب وريدي لخلايا CAR-T جاءت من متبرّعين. وبعد ثلاثة أشهر من هذا العلاج، تلاشت لدى النساء بعض أعراض مرضهن، مثل التهاب المفاصل، وتورُم الأوعية الدموية وتساقط الشعر، وخمد المرض لدى إحداهن ولم تعد بحاجة إلى العلاج. أما النساء الثلاثة الأخريات، فتلقين جرعة منخفضة من الستيرويدات كعلاج وقائي ضد عودة الأعراض.
في هذا السياق، يفيد دو بأن نتائج التجربة جاءت "أفضل كثيرًا" مما تخيل فريقه. وقد يرجع السبب إلى أن خلايا CAR T تسببت في استنزاف كل الخلايا البائية التي اضطربت وظائفها وهاجمت أنسجة الجسم. وهو ما يوضحه دو بقوله: "كان على الجهاز المناعي ألا يكتفي بضبط الخلايا البائية فقط، بل أن يصحح أيضًا عمل سائر أجزائه"، ويُحتمل أنه سمح خلال تلك العملية بإحلال الخلايا البائية السليمة محل تلك التي أصابها الخلل.
كذلك تسعى فرق بحثية أخرى إلى تطوير أساليب يمكن من خلالها للمرضى إنتاج خلايا CAR T داخل أجسادهم، ما يغني عن الوقت والتكاليف اللذين تتطلبهما عملية إنتاج هذه الخلايا المُعدلة، ويُجنب خطر الإصابة بالعدوى والسمية المرتبط بالعلاج الكابت للمناعة الذي يخضع له المرضى قبل تلقي العلاج بهذه الخلايا. في هذا الإطار، يقول نيوراث: "كل هذه الأساليب المبتكرة لا تزال في مراحلها الأولى، لكنها تمثل بداية عصر جديد في الطب الإكلينيكي".
هل هو علاج شاف؟
يرى نيوراث أنه في غضون أعوام قليلة سينتشر استخدام العلاج بخلايا CAR T ليمتد إلى ساحات التصدي لأمراض مناعة ذاتية أخرى. فيقول: "فيما يخص داء الذئبة، أعتقد أن هذا العلاج سيصبح الإجراء المعتاد في التصدي لهذا المرض، لأن الكثير من التجارب تجري حاليًا، وكثير من الفرق البحثية المستقلة أفادت بأن نتائجه إيجابية إلى حد مذهل".
لكن رغم تعدد الشواهد على سكون أعراض المصابين بأمراض المناعة الذاتية عقب تلقيهم علاجًا بخلايا CAR T 7، يرى سايمون أنه من الصعب الجزم بما إذا كان هذا العلاج يحقق شفاءً دائمًا. فيقول: "فيما يخص داء الذئبة، ما رصدناه حتى الآن هو علاج محتمل قد يؤدي إلى شفاء، على الأقل في حال العديد من المرضى". غير أنه من السابق جدًا لأوانه الجزم بالمثل في حال الأمراض التي أُجريت عنها أبحاث أقل، مثل التهاب المفاصل الروماتويدي.



اضف تعليق