ينشد الإنسان في كل بقاع العالم الحرية والتمتع بالحقوق كاملة دون انتقاص ويقوض من هذا الأمل الكبير مساعي السلطات العامة لاسيما التنفيذية منها إلى التوسع بسلطاتها ولو كان ذلك على حساب المبادئ الراسخة في الشرعة الوطنية والدولية نتيجة الطبيعة البشرية الميالة إلى التسلط والتوسع بالنفوذ ولو على حساب الآخرين، وان الحق في العدل والمساواة أمام الهيئات الإدارية والقضائية يعد واحداً من أهم الحقوق الطبيعية لأبناء الشعب العراقي وللبشرية جمعاء، وهو ضمانة مؤكدة لحقوق الإنسان الأخرى وحرياته التي لا غنى عنها، بل هو السبب المباشر لتكامل أسس الدولة القانونية ورسوخ المبدأ الديمقراطي في البلد، كونه يحقق سيادة القانون على الجميع ويضمن الموضوعية والمهنية والحيادية في العمل لاسيما القضائي منه بالتجرد عن كل النوازع البشرية التي تتقاطع مع العدل والإنصاف.
وتعد المحاكمة العادلة غاية يتطلع لها المتهم والمجتمع وأكدتها الصكوك والمعاهدات الدولية المعنية بكفالة حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة، وهي لا تتحقق إلا إذا توافرت لها المقدمات المناسبة التي تؤدي بشكل تلقائي إلى النتائج المرجوة ومن أخصها المساعدة القانونية للمحتاجين لها وبالخصوص أولئك الذين يواجهون تهماً بارتكاب جرائم معينة على درجة من الخطورة.
وقد سار المشرع الدستوري العراقي في العام 2005 على هذا النهج في المادة التاسعة عشرة والتي جاء فيها "إن القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون"، وبهذا يشير الدستور إلى المحاكمة العادلة التي تخلو من الضغوطات على القاضي وهو يفصل في المنازعات أو ينظر في الجرائم المزعومة فان وجد من الأدلة ما يؤيد الشك بوقوع الجريمة قضى بذلك وفرض العقوبة الملائمة بحق الجناة وبغير هذا يمتنع على القاضي أن يضع في السجن شخص لم تؤيد الأدلة الموضوعية المقنعة ارتكابه لجرم ما، اذ جرى النص الدستوري بان لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت اقترافه جريمة ولا يجوز تطبيق عقوبة أشد من العقوبة النافذة وقت ارتكاب الجريمة.
ولتتحقق المحاكمة العادلة لابد من كفالة حق الدفاع أصالة أو وكالة بواسطة محامٍ متخصص، بيد إن حق الدفاع قد يبقى مبدأً نظرياً إذا كان المتهم يجهل كيف يصوغ دفاعه أو يرتب أدلة نفي ارتكابه للجرم المنسوب إليه، وفي مثل هذه الحالة لابد من الاستعانة بمحامٍ متمرس ويقف حائلاً دون ذلك الوضع المالي للمتهم فقد لا يملك المال، ولهذه الحالة تنبه الدستور العراقي لعام 2005 وأقر مبدأ المساعدة القانونية المجانية للمتهم وجرى نص البند الحادي عشر من المادة التاسعة عشرة بالاتي "تنتدب المحكمة محامياً للدفاع عن المتهم بجناية أو جنحة لمن ليس له محامٍ يدافع عنه وعلى نفقة الدولة"، وهذه الفقرة تعد إضافة نوعية للدستور فقد أستقر الأمر قبل العام 2005 على إن المحكمة تنتدب المحامٍ للمتهم بجناية فقط وفق المادة (144) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1979 المعدل وهو الأمر الذي كان محل انتقاد الفقه الجنائي العراقي لكون المتهم بجنحة قد يحرم من حريته لمدة تصل إلى خمسة أعوام أو يعاقب بالغرامة وما سواها من التدابير الاحترازية والعقوبات التبعية والتكميلية أفلا يستحق الحرمان من هذه الحقوق والحريات أو الانتقاص منها أن تنتدب المحكمة له محامٍ يدافع عنه إن لم يملك أجرة ذلك.
وانتداب المحامٍ ليقدم المساعدة للمتهم أمر بغاية الأهمية لضمان عدم معاقبة شخص ما دون أن توفر له سبل الدفاع عن نفسه، والمحامٍ يملك من الخبرة نتيجة التكوين المهني والأكاديمي ما يمكنه من ترتيب أدلة الدفاع وسوق الطلبات التي تتضمن استعراض الحقائق بشكل موضوعي لنفي ارتكاب المتهم ما نسب إليه والثابت إن الاستعانة بمحامٍ حقاً قائماً بذاته من حقوق المواطن العراقي، وهو مقدمة لضمان حقوق أساسية أخرى ومنها الآتي:-
1- الحق بالأمن القانوني والشخصي: وكلاهما لابد منه لتحقيق المحاكمة العادلة لتعزيز ثقة المواطن العراقي بعدالة وحيادية وموضوعية عمل القضاة والمحاكم ودقة إجراءاتها وصحتها، وما تقدم لا يتحقق إلا بكفالة حق الدفاع وإتاحة الفرصة للمتهمين بان يستعينوا بمحامٍ متخصص.
2- الحيلولة دون تقييد حرية الأفراد: فالمساعدة القانونية عبر توكيل محامٍ تقف حائلاً دون توقيف الأفراد أو إلقاء القبض عليهم أو إصدار أوامر الاستقدام جبراً أمام الجهات التحقيقية لاسيما الشرطة أو القضاء نتيجة الشك والاشتباه، فالملاحظ إن مرحلة التحري وجمع الأدلة وفق القانون العراقي رغم ما تحمله من أهمية كبيرة إلا إن من ينهض بها هم رجال الشرطة وضباطها وهم بالغالب من غير المؤهلين للتعامل مع الجرائم المعقدة والخطيرة وبالغالب تشوب أعمالهم أخطاء مهنية قد تنطلي على القاضي أو المحقق فتكون سبباً لتقييد حرية مواطن أو الانتقاص منها قبل تبين حقيقة الأمر وثبوت براءة ذلك الفرد.
3- الحيلولة دون ارتكاب مخالفات بحق الموقوفين والمحتجزين: فزيارة المحامٍ للموقف أو السجن للاطلاع على أحوال موكله تمنع بعض الممارسات البوليسية المنافية لحقوق الإنسان كالتعذيب أو الإغراء أو الإغواء لانتزاع اعترافات من المتهمين بدون أدنى وجه للحق وبما يتناقض مع حقوق المتهم الراسخة في التزام الصمت لحين عرضه على القاضي المختص وبحضور من يساعده في بناء دفوعه بشكل فني.
4- المساعدة حق دستوري: إذ إن الدستور العراقي لعام 2005 أشار بالمادة التاسعة عشر في فقرتها الخامسة إلى إن حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وفي ذلك إلزام بانتداب محامٍ للمتهم من اليوم الأول لورود شكوى أو إخبار ضده بارتكاب جريمة من نوع الجناية أو الجنحة، إلا إن التطبيقات اليومية في مراكز الشرطة تشير إلى عكس ذلك فلا تقدم المساعدة القانونية للمتهم إلا عند سوقه إلى محكمة الجنايات أو محكمة الجنح وبهذا تم إفراغ الحق الدستوري بالمساعدة القانونية من محتواها، والمشرع العراقي عندما أقر مؤخراً قانون وزارة الداخلية رقم (20) لسنة 2016 لم يشر إلى هذا الواجب بل تضمنت المادة الثانية من القانون نصاً يشير إلى إن واجب الوزارة هو توطيد النظام العام في جمهورية العراق وحماية أرواح الناس وحرياتهم والأموال العامة والخاصة من أي خطر يهددها، وكان يعوز المشرع العراقي الانتباه إلى ضرورة النص صراحة على إلزام الوزارة وكجزء من واجبها في الحفاظ على حرية المواطنين ان تنتدب محامٍ للدفاع عن المتهم الذي يلقى القبض عليه تنفيذا للنص الدستوري فما تنتهي إليه أجهزة الشرطة من تحريات تربط بإضبارة الدعوى وتكون الأقرب إلى وقت الحادث والأكثر إقناعا للقاضي والأقرب للحقيقية فلا يجوز ان يهمل موضوع تقديم الدعم القانوني للمتهم في هذه المرحلة.
ومن جانب آخر يعد المحامٍ شريكاً للقاضي في تحقيق العدالة فينبغي عليه ان يبتغي العدل ويتجنب الميل والهوى والدفاع عن المجرمين بغية تحصيل الأموال، وهذا الواجب مشتق من ضرورة محافظته على كرامة المهنة وشرفها اذ يتوجب عليه التزام الصدق والأمانة مع موكليه وبذل ما بوسعه من جهد للدفاع عنهم بالوسائل القانونية المشروعة المتاحة، وابتغاء الحق والعدل طريقاً والتماس الاستقامة والاستقلالية والحيادية منهجاً، ونقصد باستقلاليتهم ان ينضم المحامون أمور مهنتهم بأنفسهم بعيداً عن التأثيرات الحكومية وغيرها والحيادية المرجوة منهم تقتضي ان يكونوا موضوعيين في أداء واجبات مهنتهم بالابتعاد عن كل ما من شأنه ان يعد طريقاً ملتوياً للالتفاف على الحق وإخفاء الحقيقة.
وينطوي الحق في المساعدة القانونية على مبدأ مهم هو المساواة في اللجوء للمحاكم للفصل في التهم الموجهة إزاء فرد أو أكثر أو للتوصل لإقرار حق أو التزام تجاه أحد الأفراد، إذ للعراقيين وغيرهم اللجوء إلى المحاكم العراقية لطلب الإنصاف فالتقاضي حق مصون ومكفول للجميع من نساء ورجال صغار وكبار مواطنين وأجانب وتوافر المساعدة القانونية سيكون المكمل له، وأحياناً لا يكون بمقدور الشخص الوصول للمحاكم أو السير بالإجراءات أمامها بسبب الفقر وقد التفت المشرع العراقي لهذا فمنح المحكمة سلطة إعفاء أطراف الدعوى من الرسوم القضائية أو تأجيل سدادها بطلب يقدم إلى المحكمة المختصة وفق المادة (48) من قانون المرافعات المدنية العراقي رقم (83) لسنة 1969 المعدل وهذا نمط خاص من المساعدة القانونية، ومن المحتمل انه لا يتمكن من توكيل محامٍ للدفاع عنه فيصار إلى انتداب احدهم بقرار صادر عن المحكمة، وقريب من هذا المعنى ما أقره العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 في المادة (14) والتي جاء فيها إن من حق المتهم ان يعطى من الوقت ومن التسهيلات ما يكفيه لإعداد دفاعه والاتصال بمحامٍ من اختياره وانتهى مؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في هافانا 1990 إلى ان لكل شخص الحق في طلب المساعدة من محامٍ يختاره بنفسه لحماية حقوقه وإثباتها والدفاع عنه في جميع مراحل الإجراءات الجنائية.
والمساعدة القانونية لا تكون وكأصل عام للشخص الذي يواجه إجراءات قضائية بل إننا نعتقد جازمين ان مقتضيات العدالة تتطلب تقديمها إلى فئات متعددة ومنها من يواجه بإجراءات إدارية معينة قد تنتهي إلى الانتقاص من حقوقه الطبيعية كمن تريد السلطات المختصة استملاك أرضه أو من يراد منعه من السفر أو من صدر بشأنه قرار إداري مؤثر بحقه في العمل والكسب كمن اتخذت السلطات الصحية بحقه قراراً بغلق محله أو مصادرة تجارته أو منعه من مزاولة مهنة الفندقية مثلا أو حرمان الصحفي من حقه في ممارسة مهنته بحرية في حدود ما رسمته المادة (38) من الدستور العراقي، وما إلى ذلك من التطبيقات.
نستنتج مما تقدم ان المساعدة القانونية واجب على السلطات القضائية والإدارية التي عليها الحرص على ان لا تتخذ إزاء الفرد إجراءات مؤثرة بحقوقه الأساسية إلا بعد اتصاله بمستشار قانوني ليتمكن من تحديد وضعه القانوني وله التزام الصمت تجاه أي إجراء أو سؤال لحين توفر المساعدة القانونية، وان أي اعتراف أو أقوال أو إمضاءه على أوراق تنتزع منه قبل توفير المساعد تكون باطلة بطلاناً مطلقاً ولا يجوز الاستناد عليها لإثبات الوقائع، بل نجد وبحق انها من الممكن ان تكون سبباً لمساءلة الموظف أو المحقق الذي خالف النصوص الدستورية والقانونية والاتفاقية الواضحة بخصوص المساعدة ووجوب تقديمها، فالأصل هو حرية الإنسان العراقي بالذهاب والرواح وفق ما ورد بالمادة الخامسة عشر من الدستور والمادة التاسعة عشرة في فقرتها الثانية عشر التي منعت الحجز والتي أوجبت كذلك عرض أوراق المتهم الذي القي القبض عليه على قاضي التحقيق خلال اربع وعشرون ساعة، وحرية العمل التي قررتها المادة الثانية والعشرون، وحرمة أمواله الخاصة وفق المادة الثالثة والعشرون وما شابه ذلك من حقوق وحريات.
وننوه إلى ان المساعدة القانونية ورغم غياب النص الصريح ليست حكراً على العراقيين بل على الجهات المختصة في العراق توفيرها لجميع الناس بغض النظر عن جنسيتهم وانتمائهم اذ على السلطة المختصة ان تسمح لمن القي القبض عليه في داخل إقليم العراق من غير المتهمين بالإرهاب والانتماء للجماعات المسلحة ان يتصل بمن يشاء بعد ان تعلمه السلطة المختصة بأسباب احتجازه أو اعتقاله وتوفر له المستلزمات الضرورية للعيش الكريم وبالخصوص لمن ألجأته ظروف المعيشة والفقر إلى التماس العمل في العراق فلابد من توفير المساعدة لهؤلاء بالشكل الآتي :
- تتاح لهم فرصة الاتصال بذويهم.
- تتاح لهم فرصة الاتصال بالسلطات الرسمية للدولة التي يحملون جنسيتها.
- تتاح لهم فرصة الاتصال بشكل مباشر بالمحامي الذي يرغبون بتوكيله أو المحامٍ الذي تنتدبه المحكمة للدفاع عنهم.
- إمكانية تنظيم زيارات لهم من قبل المنظمات المعنية بحقوق الإنسان وتقديم العون والدعم لهم.
- أن تكون ظروف احتجازهم مؤاتيه ومتفقة مع الشرعة الدولية وبخاصة الاطفال والنساء الذين يجب ان يعاملوا معاملة حسنة وتراعى خصوصية كل منهم وفق الاتفاقيات والقوانين الوطنية ذات العلاقة.
التوصيات :
1- ان يتاح للجميع مساعدة قانونية تمكنهم من ضمان مواجهة التدابير القانونية والإدارية والإجراءات القضائية بنحو من المساواة وضمان الحقوق وبالخصوص ضرورة إتاحة الفرصة لمن تقرر القوانين سلب حريته بالتوقيف أو الحبس والسجن في ان يتصل فوراً بمحامٍ للدفاع عنه ولا يجري استجوابه أو مساءلته إلا بحضور المحامٍ، وإذا لم يتمكن من توكيله تتولى الجهات المختصة ذلك نيابة عنه.
2- ان تكون المساعدة القانونية المقدمة للشخص بمعرفته ومن اختياره أي ان مسألة الانتداب لا تكون إسقاط فرض بجلب أي محامٍ ولو كان مبتدئ للدفاع أو لمجرد الحضور الشكلي أمام المحكمة بل حتى المحامٍ المنتدب يجب ان يكون من اختيار الشخص نفسه فهو من سيتولى مهمة الدفاع ومن سيطلع على المعلومات الخاصة بالتهمة ويجري اتصالاً سرياً بالمتهم.
3- ان يكون انتداب المحامٍ في كل مرحلة من مراحل التحقيق أو المحاكمة ونعني بذلك ان مرحلة التحري وجمع الأدلة التي تقودها أجهزة الشرطة ينبغي ان لا تخرج عن هذا المعنى بل نوصي ان لا يستقدم أي شخص للمساءلة الا ان ابلغ بموعد ومكان التحقيق وضرورة اصطحاب محامٍ معه على ان يتحمل هو تكاليف ذلك المحامٍ فان ثبت انه معسر ولا يملك دفع الأتعاب تكفلت الدولة بذلك.
4- ان تكون الاتصالات بين المحامٍ والمتهم بغاية السرية ولا تعمد الأجهزة الأمنية أو السلطات القضائية إلى التنصت عليها أو استراق السمع للاطلاع على ما يدور بينهما لأي سبب كان حتى يتمكن الاثنان من صياغة اللوائح التي يدفع بها المتهم التهمة عن نفسه ويسوغ ما بدر منه، وللمحكمة والأجهزة الساندة لها ان تثبت ارتكاب الجريمة باستعراض الأدلة الموضوعية المستقاة بوسائل علمية وقضائية معروفة ومشروعة.
5- ان يتاح للمتهم ومحاميه الحصول أو الإطلاع على جميع الأدلة والمعلومات المتوفرة ضده ليتمكن من أعداد دفاعه، وليتاح له الطعن بأي إجراء أو دليل يشعر انه مؤثر وحاسم بالدعوى ومن شأنه لو صح ان يؤدي لإدانته.
...................................................
اضف تعليق