تنقسم المناطق المأهولة بالسكان في كل من العراق وسوريا –وهما بلدان مازالا يشهدان نزاعا مسلحا عنيفا- إلى مناطق مدمرة بالكامل وخالية من سكانها، ومناطق نصف مدمرة وتكاد تخلو من سكانها، ومناطق معمورة فيها كثافة سكانية وحركة عمرانية!
فأما الأولى، فهي تلك المناطق التي شهدت نزاعا مسلحا وحُلت عسكريا بانتصار أحد أطراف النزاع. وأما الثانية فهي تلك المناطق التي حُلت سلميا عن طريق المصالحات الوطنية. وأما الثالثة فهي تلك التي لم تشهد قط نزاعا مسلحا وظل أهلها في كنف الدولة وحمايتها.
هذا يعني-منطقيا- أن البلدان كلما حصنت نفسها عن الصراعات الداخلية، استقر سكانها وأمنوا على أرواحهم وممتلكاتهم، والبلدان التي دخلت أتون النزاعات وتوغلت فيها، سواء بإرادتها أو رغما عنها، سادت فيها أجواء القلق والخوف والحرمان... ومع ذلك، فيمكن لتلك البلدان التي شهدت بعض مناطقها نزاعا مسلحا داخليا، أن تسترجع جزء من استقراها وأمنها عن طريق ما يُعرف اليوم بـ "المصالحات الوطنية".
لقد أضحت "المصالحة الوطنية" واحدة من أكثر المواضيع المدرجة في ميدان حل الصراعات في السنوات القليلة الماضية، كونها تساعد على تحويل اتفاق السلم المؤقت إلى نهاية دائمة للصراع، ومفهوم "المصالحة" مفهوم حديث نسبيا لم يكن له وجود قبل عام1995، ولكن بحلول عام 2001، أصبح المفهوم الأكثر شيوعا، كما أكدت الأمم المتحدة أهمية "المصالحة الوطنية" بعد انتهاء الصراع في بيان مجلس الامن الرئاسي في 26ينايرعام2004.
تشير إحدى الإحصائيات المتعلق بالمصالحات بعد النزاعات المسلحة، أن حوالي 64% من البلدان التي طبقت برامج المصالحة لم تعد للصراع مرة أخرى، بينما 9% فقط من البلدان التي لم تطبق برامج المصالحة لم تعد للصراع والحرب مجددا.
وهذه يدعم الفكرة القائلة بان المحاولات السياسية في المصالحة بعد الصراع الداخلي أمر أساسي في السعي من أجل السلم الأهلي. وقد سنت العديد من الدول مثل جنوب أفريقيا وتيمور الشرقية والعراق القوانين التي تعزز المصالحة من أجل علاج الانقسامات داخل هذه المجتمعات. كما أنشئت لجان المصالحة في غانا والمغرب والعراق وسوريا وغيرها من الدول للقيام بالإجراءات التنفيذية للمصالحة المجتمعية.
فما هو المقصود بـ "المصالحة الوطنية" في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة عنيفة؟ وما هي الأهداف المرجوة منها؟ وما هي وسائل تحقق تلك الأهداف؟ وما هي الآثار المجتمعية التي تترتب عليها؟
إن "المصالحة" مصطلح واسع، له أكثر من معنى، وله العديد من المرادفات: كالتوفيق بين الأطراف وإعادة العلاقات، وهو يرتبط عادة بالعديد من المفاهيم الأخرى مثل "الاعتذار" و"التسامح" و"العفو" و"بناء السلام" و"التعايش السلمي" و"العدالة التصالحية". والرأي الراجح في الفقه يقرر أن مصطلح "المصالحة" الوطنية نشأ من أصول دينية؛ فالآليات والمحفزات الأساسية للمصالحة وهي "التسامح والصفح والعفو" تجد أصولها في التعليم الدينية.
فعلى سبيل المثال، تزخر الشريعة الإسلامية بالعديد من النصوص التي تحض على العفو وتدعو إليه، وعلى التسامح وتحث عليه، وعلى الصلح وتشجع عليه، مثل قوله تعالى (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وأن الصلح والمصالحة مفاهيم متأصلة في الشريعة الإسلامية.
وقد عرفت الوكالة السويدية للتنمية الدولية المصالحة بأنها (عملية مجتمعية تتضمن اعترافا مشتركا بمعاناة الماضي وتغير السلوك الهدام إلى علاقة بناءة نحو سلام مستدام). كما عرفت الحكومة العراقية المصالحة بأنها: تسوية تاريخية عراقية تضمن الاتفاق والشراكة على الشكل النهائي لتوزيع السلطة والثروة وقضايا الأرض والإدارة، وتتجسد بمبادئ والتزامات متبادلة تلتزم بها أطراف التسوية، وتستند إلى أسس كالأمن الشامل مقابل المشاركة الشاملة والتسوية الشاملة وليس التنازل أحادي الجانب ومبدأ اللاغالب واللامغلوب وسلمية الصراع بما يضمن إسقاط العنف كورقة سياسية.
تأتي أهمية "المصالحة" من عمق الجراحات والآلام التي تتركها الحروب والصراعات في نفوس الأفراد والجماعات والشعوب، والتي قد تستغرق الكثير من الوقت لتضميدها وشفائها. وهذا يعني أن "المصالحة الوطنية" نتيجة حتمية في الدول التي عانت من خلافات جذرية أو صراعات داخلية، وهي قد تتم بين أطياف محددة من المجتمع أو بين المجتمع ونظام الحكم، وهي تعد من أهم مفردات أي تسوية سياسية تنشا على أساسها علاقة قائمة على التسامح والعدل بين الأطياف السياسية والمجتمعية، بهدف طي صفحة الماضي وتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة، وأن عدم تحقيقها قد يفشل هذه التسوية برمتها.
وفي الحقيقة، فان مفهوم "المصالحة" وثيق الصلة بمفهوم العدالة الانتقالية، فالمصالحة في حقيقة الأمر تشكل أحد أهم أهداف منظومة العدالة الانتقالية وغايتها النهائية، حيث تبتغي العدالة الانتقالية الوصول بالمجتمع إلى السلم الاجتماعي ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بتقصي جذور الخلاف والانقسام العميقة بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن تحقيقها بدون محاسبة حقيقية للجناة وقصاص عادل للشهداء وتطهير مؤسسات الدولة من المفسدين والمجرمين.
تسعى المصالحة الوطنية إلى تكريــس أجواء تبادل الثقة بين المواطنين، وتساهم بشــيوع روح المحبة والتسامح والألفة والود، وتقضي على الاحتقان الطائفي والعرقي، تفرز المصالحة الوطنية انعكاساتها على سلوكية المواطن باحترام القوانين والتشريعات وتطبيقاتها، وفقآ لمبدأ المواطنة ومستحقاتها.
وتأخذ المصالحة العديد من الأنماط والاتجاهات بحسب ظروف كل دولة، منها نمط المصارحة وكشف الحقائق والاتفاق على الثوابت الوطنية، وفقآ للموروث الروحي والقومي والإرث التاريخي والفكري، وصولا إلى المصالحة التي تضمن الحقوق وتصونها وتحدد الواجبات والالتزام بها. ونمط المحاكم للأفراد اللذين كانوا بحكم مسؤولياتهم قد اقترفوا تجاوزات ترتقي إلى مصاف جرائم الحرب بحق مواطنيهم والشعوب الأخرى. ونمط التعويضات للخسائر والضحايا الناجمة من إعمال العنف أو إدارة الحكم أو تجاوزات القانون.
ومن الوسائل التي اعتمدها العراق في برنامج المصالحة الوطنية، وبحسب لجنة متابعة وتنفيذ المصالحة الوطنية هي: برامج تلفزيونية حوارية توعوية تثقيفية لقيم وأهداف المصالحة، وأخبار ولقاءات وتغطيات وتقارير وأنشطة صحفية لتعزيز قيم وأهداف المصالحة الوطنية، وبرامج وأنشطة ثقافية كالأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأمسيات والندوات والمهرجانات والمعارض الفنية لترسيخ المصالحة المجتمعية، وبرامج إذاعية حوارية وتفاعلية لجعل المصالحة قضية مجتمعية، ومواقع الكترونية متخصصة للتبشير بقيم المصالحة والتعايش والسلام.
ومواقع التواصل الاجتماعي (الإعلام البديل) لخلق تفاعلية مجتمعية مع مشروع المصالحة. ومؤتمرات فكرية وثقافية تخصصية وعامة عن قيم المواطنة والتعددية والتسامح والتعايش والمصالحة المجتمعية لزج النخبة بمعترك المصالحة الوطنية. وفرق فنية ومهرجانات شعرية وفاعليات مجتمعية مناطقية لترسيخ الأواصر المجتمعية وتعزيز التضامن المجتمعي.
والخلاصة أن المصالحة الوطنية هي عملية طويلة وشاقة، تقوم على محورين أساسيين هما:
1- حتمية تغير العلاقات بين الخصوم السابقين بهدف الوصول إلى قدر من التعايش المشترك بينهم.
2- حتمية إقامة نوع جديد من العلاقات بين المواطنين والحكومة تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
...................................................
اضف تعليق