اذا خرجنا قليلاً عن أجواء التنديد والاحتجاج على تنفيذ حكم الاعداء بسماحة آية الله الشيخ نمر باقر النمر، وأردفنا التظاهرات الاحتجاجية والمواقف الحازمة، بمفهوم رديف، للشهادة والتضحية من اجل القضية العادلة، فاننا سنصل قطعاً الى الطريق الذي يأخذ الناس جميعاً، ليس في السعودية فقط، وإنما في جميع البلدان التي تشهد انتهاكات للحقوق الانسانية، الى حيث الاسهام في التغيير الجذري للواقع الفاسد الذي يعيشونه.
إن التوتر السياسي والتصعيد الأمني وخلق أجواء الاضطراب واللااستقرار، لا يصدر من جماهير الشعب المطالبة بحقوقها، إنما من اختصاص الحكومات والانظمة السياسية التي ترى الخطر المحدق يأتي من تلكم الحقوق ومن صيحات المطالبة بالتغيير والإصلاح والبناء الذي يوفر للناس جميعاً الحياة الكريمة في اطار تحكيم قيم العدل والحرية. وهل رأينا قديماً وحديثاً؛ أن شعباً أشعل حرب أهلية، او تسبب باضطرابات سياسية او أمنية...؟!
لقد كان الشهيد الشيخ النمر ذكياً عندما ورّط – إن صحّت العبارة- النظام السعودي بالمواجهة العنيفة، فيما هو بقي مع شعبه على جبهة المواجهة السلمية، ومنذ البداية انتزع فتيل الانفجار الذي كان يتوقعه السعوديون لكسب الشرعية لأي إجراء قمعي ضد الشيعة في المنطقة الشرقية، فخاب ظنهم بكلمة ذات دلالة أطلقها الشهيد النمر: "سلاح الكلمة أقوى من أزيز الرصاص". وفي مناسبة أخرى أكد بأننا "لا نقبل مواجهة الرصاص بالرصاص، فهذا ليس منهجنا...".
لذا كانت الكلمات التي يلقيها في المساجد والحسينيات في صلاة الجمعة، أو مناسبات أخرى، تحمل مشروع إصلاح وبناء، فهو يترصّد حالات الفساد الاداري والاستئثار بالسلطة والمال العام وفقدان العدالة في فرص العمل وتقسيم الثروة والامكانات على جميع ابناء الشعب. هذه الثقافة كانت حاضرة في كلماته وخطاباته، يقول في احدى خطاباته: "اذا لم يرد الحكم بناء دولهم على اساس التقوى، نحن نبني كياناتنا وشخصياتنا وتجمعاتنا ومجتمعنا على أساس التقوى والرضوان. نبني مساجدنا وكل المؤسسات الاجتماعية على اساس التقوى".
إن الشجاعة والجرأة والحزم الذي تميّز به الشهيد الشيخ النمر، مقدمة لمشروعه الإصلاحي والتغييري في بلده، لذا أكد أن من "حق المجتمع أن يطالب بحقوقه، لكن الافضل أن يحتاج الى لثام وقناع وما شابه... ومن يرد المطالبة بحقوقه، يعلنها بوجه مكشوف، ثم عليه أن يتحمل الاعتقال والسجن والتعذيب لان السلطة لن تسكت ولن تدعك، وهذا هو الطريق".
إنشاء بنية تحتية للمجتمع المدني
منذ أواسط التسعينات، احتاجت السلطات السعودية الى استتباب الوضع الداخلي بإعطاء هامش من الحرية للشعائر والفعاليات الدينية الخاصة بالشيعة في المنطقة الشرقية، وذلك بدوافع وغايات سياسية، على الصعيد الاقليمي والدولي لسنا بوارد الخوض فيها. فقد تم تشييد المساجد والحسينيات والحوزات والمراكز الثقافية في المدن الرئيسية التي تعد مهد العلماء والخطباء والمثقفين وفي مقدمتها "العوامية" مسقط رأس الشهيد النمر، و "سيهات" وجزيرة "تاروت" في محافظة القطيف، الى جانب مدن ومناطق اخرى في الاحساء. هذه الفرصة لم تكن عند الشيخ النمر للبحث عن دور وتحقيق وجاهة خاصة ومصلحة ذاتية، إنما عكف على مشروعه الحضاري في وضع البنية التحتية للمجتمع القائم على القيم والمبادئ، وإنشاء جيل يتحمل بشجاعة مسؤولية التغيير والإصلاح في الحاضر والمستقبل. فكانت مبادراته المميزة في مشاريع عديدة منها:
1- إقامة المحاضرات والندوات والملتقيات لتحفيز الآراء والافكار وتنشيط الحركة الثقافية في اوساط الشباب وجميع فئات المجتمع.
2- نشاطه في جانب النشر موجهاً خطابه بالدرجة الاولى الى الشباب، حيث أصدر نشرة "الشباب والشبائب"، أصدر منها (30) عدداً وقد تناولت موضوعات متنوعة عن الثقافة والتربية باسلوب عصري.
3- إنشاء حوزة علمية باسم "المعهد الاسلامي" عام 2001، ضمت الرجال والنساء، كما لم ينس النشء الصغير، حيث استحدث فيما بعد قسم للناشئين من بنين وبنات.
4- وكان للمرأة حصتها في مشاريع الشهيد النمر، حيث قدم الصورة النموذجية للمرأة المسلمة، من خلال التشجيع على حضور صلاة الجماعة، ثم اشراكها في في النشاطات الدينية والاجتماعية، فكانت الثمرة تخرّج عدد كبير من الاخوات من مدرسته في مجال الخطابة والكتابة والادارة، ليشاركن بقوة في عديد النشاطات الاجتماعية والثقافية.
5- وقد توّج خطواته ومشاريعه الحضارية بتوثيق حقوق الشيعة في عريضة قدمها عام 2007، الى نائب امير المنطقة الشرقية، ضمت معظم المطالب المشروعة، وقد أثنى – في حينها- المراقبون داخل السعودية، على هذه الخطوة واصفين العريضة بالنموذجية والشجاعة والصريحة، وانها تمثل اسلوباً يقتدى به في المطالبة بالحقوق المشروعة.
صحيح إن السلطات الحاكمة لم تعط الآذان الصاغية لتلكم المطاليب مهما كانت مشروعة وحقيقية ومنطقية، ومنها المطالبة بإعادة بناء البقيع التي سعى لها الشهيد النمر، وغيرها كثير من المطالب، بيد أن المائز في هذا الحراك السلمي، الشجاعة في المتابعة والحزم في القرار والإرادة النابعة من صميم المكون الشيعي في السعودية. وهذا ما كان يدفع الشهيد النمر، لأن يكون المثال والنموذج الذي يُحتذى به في جميع البلاد التي تشهد سياسات إقصائية وقمعية مماثلة، فقد كان قوي الحجة، شديد الخطاب، كما كان في الوقت نفسه، ليّن الاسلوب، وهذا ما حيّر السلطات طيلة السنوات الماضية، فهي لم تجد المبرر لاعتقاله او التضييق عليه، سوى السكوت عنه وتجاهله، إلا بعد حصول التطورات المتلاحقة في المنطقة، فيما يسمى بـ"الربيع العربي" وهبوب نسمات التغيير على جميع البلاد العربية، فكانت لهجة التصعيد في خطابات الشهيد النمر ضد شخصيات حاكمة بعينها، ومنها وزير الداخلية السابق والشخصية البارزة آنذاك، نايف بن عبد العزيز، حيث أعرب عن فرحه وسروره، في خطاب جماهيري، بعد الإعلان عن موته، لاتهامه إياه بالمسؤولية عن أعمال القمع الدموية التي شهدتها المدن الشيعية في بدايات الحراك الجماهيري في البلاد العربية.
الشهيد والرد الجماهيري
إن الموقف السياسي لحكام السعودية في أضعف حالاته، وأقل ما يوصف أنه في "عنق الزجاجة" لان قرار إعدام الشيخ النمر، أو الافراج عنه وإلغاء حكم الاعدام، كلاهما كانا خيارين شديدي المرارة عليهم، ومن خلال هذا القرار والجريمة يبحثون عن خلاص من المأزق مع حفظ ماء الوجه. وقد ثبت لنا خلال السنوات الاخيرة أن بعض الحكام، ومن اجل يتخلصوا من أزمة، فانهم يلجأون لخلق "أزمة ثانوية" او حتى اختلاق ازمة ما، لمشاغلة الرأي العام الداخلي والعالمي عن الازمة الحقيقية والكبرى لديهم، مثل مستقبل الحكم وطبيعة العلاقات مع القوى الكبرى وغيرها. وهذه فرصة كبيرة تستدعي الموقف الذكي من المعنيين بأمر الشيعة في السعودية بأن يحافظوا على مكانتهم وما تركه لهم الشهيد النمر، من جبهة قوية تمثل جزءاً من الحل أمام الواقع الفاسد الذي يتخبط به حكام الرياض الذين يريدون إشراك الآخرين في هذا الواقع حتى لايكونوا الوحيدين المسؤولين عن انهيار الوضع السياسي والأمني والاقتصادي في البلاد يوماً ما. لاسيما اذا تابعنا الاعلام العربي والاجنبي الممول سعودياً، وهو لا يبرح عن وضع الشيعة في السعودية وفي الخليج بصورة عامة في موقع رد الفعل والتوتر بسبب الممارسات القمعية التي يتعرضون لها. لذا فان أي تحرك سلبي يصدر منهم يتحول الى صورة كبيرة في الاعلام العالمي على أنهم وراء عدم الاستقرار في المنطقة، وهو من شأنه ان يشكل رأياً عاماً يعطي مسوغاً لصانعي القرار في الغرب بأن يتجاهلوا القضية العادلة والحقيقية لهذه الشعوب، ويبقوا على الحكام فترة أطول على مسرح الاحداث.
ولا ننسى أن رسالة الشهيد النمر في الإصلاح والتغيير التي ضحى من أجلها بدمه، لم تكن ذات طابع طائفي ضيق بحدود جغرافية، وإنما تشمل مصير ابناء الشعب الذي يعيش تحت هيمنة نظام قبلي وراثي، يهدد الجيل الحاضر، والاجيال القادمة بالانهيار الاقتصادي والحرمان بسبب الهدر الفظيع في الثروة والسياسات الاقتصادية الفاشلة في الداخل. وقد جاء هذا في عديد خطاباته وكلماته عن حاضر هذا الشعب ومستقبله وكيف يجب ان يصنعه بنفسه.
من هنا فان "الثمن الباهظ" الذي تحدث البعض عن أنه السعوديون سيدفعونه لقاء ما فعلوه، فانه بالحقيقة يجب أن يدفعونه للشيعة في السعودية، عندما يواصلون نهج الشهيد النمر، بالمطالبة بحقوقهم بشجاعة وبالطريقة التي يربحون فيها النزال، لا أن يخسرون أمام السلطات الحاكمة، وذلك عندما يكسبون الرأي العام الاسلامي والعالمي، وكشف حقيقة النظام السعودي للشعب السعودي أولاً، ثم لجميع المسلمين وللعالم بأنه نظام قائم على الدموية والارهاب والتضليل، ولا مستقبل له في البلاد، فهو ليس فقط خطراً على شعبه، إنما يمتد بفيروساته الى جميع البلاد الاسلامية والعالم بأسره، كما يشهد العالم اليوم ويلمسه بكل حواسه.
اضف تعليق