شيعة باكستان اليوم، وجميع الشيعة في انحاء العالم يحتاجون الخيار الاخير الذي تحدث عنه المرجع الشيرازي الراحل، وجعله الربع الاخير بعد الخيارات الدبلوماسية، وهو "الحرب الدفاعية" لوقف نزيف الدم الشيعي، والتأكيد على أن استخدام السلاح يفترض ان يكون آخر الحلول لمعالجة المشاكل مع الطرف المقابل...

الشيعة في طليعة دعاة السلم واللاعنف والتسامح في العالم لاسباب ذاتية وأخرى موضوعية، فهم يحملون أخلاق وصفات رسول الله، والأئمة المعصومين من أهل بيته، كما أنهم لا يشعرون بما يشعر به الآخرون من الحاجة الى الحرب والعنف للحصول على ما يريدون، ففي منظومتهم الثقافية أن القوة المادية لن تحقق النصر الحقيقي على الأرض، وإن كان في العاجل، أما في الآجل، وضمن الرؤية الاستراتيجية فان قيم التضحية، والصمود، والشجاعة، هي التي تسجل الانتصار الحقيقي على الطرف المقابل، وهو ما أقرّ به العديد من العلماء والمفكرون من مذاهب عدّة في العالم خلال تصفحهم تاريخ السيرة النبوية، ثم تجربة حكم أمير المؤمنين، وبعدها؛ النهضة الحسينية، وصار واضحاً ما لهذه المنظومة التربوية والثقافية من تأثير على سلوك وثقافة الافراد والجماعات في البلاد ذات الكثافة الشيعية.

لماذا يُقتل الشيعة بالأساس؟!

الحروب الطائفية، وعمليات الإبادة على يد الحكام، عادة ما تندلع من أحد عاملين أو أكثر: النزاع على العقيدة، أو النزاع على الهيمنة والقرار السياسي، والاثنين كان الشيعة عبر التاريخ و مايزالون بعيدين عن هذه المنطلقات ما خلا بعض الحالات لمشاريع سياسية للحكم وظّف فيها الحكام التشيّع كواجهة شرعية لهم، لذا عندما أبيدت مملكتهم بقي التشيع على حاله مستمراً في مسيرته، كما أن الشيعة مستمرين في التمسك بالأصول والمبادئ والقيم، مع المطالبة بحقوقهم في حرية التعبير والانتماء، وممارسة شعائرهم والاحتكام الى قوانينهم، وهذا ما فهمه بعض الحكام في العصر الحديث والقديم على أن هذه المطالب لهذه الفئة من المجتمع الاسلامي ينذر بخطر تطور هذه الحقوق الى المطالبة بتغيير نظام الحكم، كما حصل مع نظام حزب البعث في العراق، الذي استبق الخطر وشنّ حملة دموية شعواء في بواكير وصوله الى الحكم، مسبباً بحراً من الدماء كان العامل الأساس في انهياره.

نفس الأمر ينطبق على الشيعة باكستان وافغانستان وشرق السعودية، وحتى في البحرين، وهم أكثرية فيها، لم يكونوا السبب المباشر في وقوع الاعمال الارهابية او اتخاذ القرارات الجائرة من الرياض والمنامة، وملء السجون بالشباب الشيعة لأنهم شكلوا مليشيات مسلحة –مثلاً- تقوّض الامن والاستقرار، او أنهم حرضوا على الكراهية ومهاجمة المخالفين لهم بالقول او الفعل، انما كانوا يطالبون –ومايزالون- بأبسط حقوقهم، ولعل أبرزها ان يحظوا بحقوق المواطنة أسوة بالآخرين، وأن تكون لهم حقوقهم وحرياتهم المشروعة.  

وفيما يتعلق بالاحداث المأساوية في باكستان، فان الصورة الوحيدة لشيعة باكستان أمام العالم في مقابل مشاهد الدماء والنزوح وموت الاطفال، هو التزامهم موقف السلم واللاعنف والاكتفاء بالاعتصامات تحت خيام ينصبونها في كراتشي وباتشنار وغيرها من المدن الباكستانية معلنين مطالبتهم الحكومة والعالم بأن ينصفوهم حقوقهم أمام هجمات التكفيريين، فالشيعة في باكستان ودعوا العام 2024 بسقوط حوالي 150شهيد وعشرات الجرحى طيلة ايام السنة في أعمال قتل وذبح بدم بارد في مناطق مختلفة، والسبب خلافات على ملكية أرض بين قبائل في منطقة كورام، تطور فيما بعد الى نزاع طائفي دموي كان للطرف المقابل اليد الطولى في استخدام البنادق والسكاكين لاثبات وجودهم في الساحة، وأكثر حدث فضاعة ما حصل على الطريق بين مدينة باتشنار وكراتشي عندما أوقف مسلحون حافلات للركاب وفتحوا عليهم نيران اسلحتهم الرشاشة لمدة اربعين دقيقة لتقع أبشع مجزرة خلال العام بحق الشيعة العزّل، ويقتل حوالي ثمانين شخصاً ويصاب العشرات بينهم نساء واطفال، وتقول المصادر أن الحافلات كانت مأمنة بعناصر الشرطة الباكستانية التي وجدت انها عاجزة أمام العناصر التفكيرية في مكان الحادث.

وثمة رأي عند البعض بأن على الشيعة في البلاد المأزومة "أن يكونوا أذكياء ولا يعطوا مبرراً للطرف المقابل بشن حملات ارهابية او اجراءات حكومية قمعية"، بمعنى أن لا يثيروا المخاوف والهواجس قدر الإمكان، من منطلق "اللاعنف" والدعوة الى السلم والتسامح! 

حتى هذا المنطق لم يسعف شيعة باكستان بأن يكونوا في مأمن من خطر الموت، فالحكومة الباكستانية اتخذت اضعف قرار لها بإغلاق الطريق الرئيسي الرابط بين باتشنار وكراتشي الذي شهد المجزرة بحجة عدم تكرار الاعمال الارهابية، بيد أن النتيجة كانت موت حوالي خمسين طفلاً خلال شهرين بسبب نقص الادوية والمستلزمات الطبية، الى جانب ازمات جديدة تعرض لها السكان الشيعة كضريبة اضافية عليهم في هذا النزاع الطائفي. 

إن اللين واللاعنف والتسامح لن يكون مفهوماً عند أحد وسط الدماء المسفوحة والتعصّب الأعمى، نعم؛ هذه المفاهيم السامية تجد مكانتها في القلوب والنفوس في ظروف طبيعية تترك أثرها في السلوك والثقافة على الجميع دون استثناء فتخلق واقعاً جديداً يضمن للناس قدراً من السلم المجتمعي والوئام والاحترام المتبادل. 

قوة الردع من صميم مبدأ السلام 

وحتى تكون القيم والمبادئ السامية مصداقية على الأرض لابد من وجود عوامل قوة تحميها وتجعلها واقعية، وهكذا كانت الرسالات الإلهية المسنودة من قوة السماء، ثم جاءت الرسالة الخاتمة لتضع منظومة الاحكام والقوانين كاملة بيد المسلمين ليكونوا هم حماتها والدعاة اليها الى العالم؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ}، وقد بسط الاسلام جناحيه في الآفاق بمنطق العقل والأخلاق واستثارة المشاعر الانسانية النبيلة فكان الدين الأول والأخير في العالم في سرعة الانتشار، وفي قوة التمسك به ايضاً، بيد أنه لم يكن آمناً من المعارضين والكائدين له لما يجدون فيه تهديداً لمصالحهم غير المشروعة، ولنزعاتهم ورغباتهم النفسية، ولذا جاء التشريع في القرآن الكريم باستخدام القوة لمعالجة حالات التمرّد على الحق فقط، والآيات كثيرة ومعروفة للقارئ اللبيب، ثم بادر علماء ومفكرون لبلورة مبدأ السلم واللاعنف في الإسلام ليجعلوه قاعدة اساس في الثقافة والسلوك، وفي مقدمتهم المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي الذي كتب وتحدث كثيراً حول هذه القضية، وفي نفس الوقت أشار الى عامل الردع لمواجهة البغي والعدوان مستشهداً بسيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على أن استخدام السلاح يفترض ان يكون آخر الحلول لمعالجة المشاكل مع الطرف المقابل، والتي عبّر عنها سماحته في كتابه "الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والسلام والحرية"، بأن حروب النبي مع المشركين كانت دفاعية، "فاذا انقطعت كل هذه الوسائل والسبل –الحياد، والعهد، والاسلام عن قناعة، والجزية- يأتي دور الحرب الدفاعية". 

شيعة باكستان اليوم، وجميع الشيعة في انحاء العالم ممن يعدون انفسهم الامتداد الطبيعي لرسالة النبي الأكرم، وللإسلام الحقيقي الكامل، يحتاجون الخيار الاخير الذي تحدث عنه المرجع الشيرازي الراحل لوقف نزيف الدم الشيعي، فهم على مسافة كالتي بين الارض والسماء مع ظروف الاسلام في ظل النبي الأكرم قبل اربعة عشر قرناً، ولاسباب معروفة باتوا اليوم مهددين بالإبادة والتصفية الجسدية، او التخلّي كاملة عما يؤمنون به، او الخيار الثالث الذي تحدث عنه سماحة المرجع الراحل في كتابه: "السبيل الى إنهاض المسلمين" عندما جعل حمل السلاح الجزء الرابع في دائرة الحلول المنطقية في الاسلام، والتي جعلها سماحته في إطار المساعي الدبلوماسية ونشر ثقافة اللاعنف والسلم والتسامح، وفي خطاب له للتنظيمات الاسلامية الساعية للتغيير وانقاذ شعوبها من الديكتاتوريات والانحرافات من خلال "جمع الانصار والتوعية والتنظيم، واذا اضطرت الى الحرب، ان لا تكون هي المبادرة حتى لايكون للمعتدي حجة عليها، وإن أمكن دفع الحرب بالطرق السلمية فذلك خير، واذا لم تنفع الطرق السلمية، تجعل العمل الحربي ربعاً للحرب، وثلاثة ارباع للحلول السلمية". 

إن كلام المرجع الراحل، وربما كثير من العلماء والفقهاء والمفكرين الحريصين على مصير الأمة ومستقبلها، صحيح ودقيق من حيث مبدأ السلم واللاعنف المتطابق مع فطرة الانسان المحبة للسلم والنافرة للحرب والدمار والموت، بيد أن تحولات الزمن جعلت الطرف المقابل يفكّر بطريقة أخرى يعد فيها الفكرة البسيطة، او عمل معين على أنه من مظاهر العنف لابد من مواجهته بدعوى أنه يدعو الى "الكراهية"، او "التطرّف" مما يعطيهم الحق بشن أعمال عدوانية بشكل مباشر او عبر وكلاء في المنطقة، ولا أجدني بحاجة الى سرد التفاصيل عن جرائم الارهابيين التكفيريين والمجازر المريعة التي وقعت خلال السنوات الماضية بحق الشيعة في البلاد الاسلامية.

وهذا يستدعي تفعيل جانب الردع كما يوصينا سماحة المرجع الشيرازي –طاب ثراه- بتعبئة الجهود الدبلوماسية والاعلامية من كل مكان لتوجيه الضغط على الحكومات المحلية وعلى الدول الكبرى المعنية بالاوضاع في الشرق الاوسط، الى جانب تشكيل مجموعات شبه عسكرية ضمن المنظومة الامنية والعسكرية الرسمية مهمتها حماية المناطق السكنية، وكل يتعلق بالمكون الشيعي من جامعات ومدارس، ومنشآت اقتصادية وخدمية، وايضاً؛ أماكن العبادة والمزارات المقدسة، على الأقل لحفظ أرواح المدنيين من الاطفال والنساء حتى لا تُراق دمائهم بهذه السهولة لأنهم مسلمون وشيعة يتبعون سيرة رسول الله والأئمة المعصومين من بعده.  

اضف تعليق