من المهم على الإنسان أن يسعى نحو الارتقاء والتقدم، ولكن يجب اقتران هذا الارتقاء بالسمو المعنوي أولا، ومن ثم السعي نحو التكامل المادي، فلا توجد مشكلة في تطلعات الإنسان المادية، ولكن يجب أن لا تتقدم على الارتقاء المعنوي، لأن جوهر نجاح الإنسان في الدنيا وفي الآخرة أن يبني نفسه معنويا قبل كل شيء...
(لابد للإنسان أن يرتفع معنوياً أولاً، ثم يرتقي مادياً ثانياً) الإمام الشيرازي
من علامات ضمور الأمم وتراجعها إلى الخلف، انشغالها بأمراض العصر المادية، ولهاثها وراء الجوانب المادية واهتمامها بها على حساب الجوانب المعنوية والأخلاقية، فحين تنشغل الأمة والمجتمع وحتى الفرد بطبيعة المعيشة المادية، ويركز على هذا الجانب، ويجعل وقته وجهوده كلها هدفا لتحقيق العيس المادي المريح والمرفّه، حينئذ سكون التخلف حاضرا.
وهذا بالضبط ما حدث لأمة المسلمين حين تركوا الاهتمام والارتقاء بالجانب المعنوي، وانشغلوا تماما بصغائر الأمور التي تتعلق بالجانب المادي، وترك مبدأ التنظيم الأخلاقي والمجتمعي الكبير المتمثل ب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، في هذا التفضيل للارتقاء المادي جعل من المسلمين أمة متأخرة.
حيث أصبح كل همهم، وأكبر أهدافهم، الحصول على سيارة حديثة، وبناء بيت ضخم، وتناول الأطعمة المبالغ بأثمانها، وارتداء الألبسة الفخمة، وترك الأخلاق جانبا، وإهمال الابتكار والتجديد عبر الأفكار المتجددة وإعمال العقل في السمو بالجانب المعنوي للإنسان، كل هذه الأمور باتت سببا جوهريا من أسباب تراجع الأمة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (الطموح في حياة الإنسان والمجتمع):
(إن أغلب المسلمين اليوم فقدوا طموحهم وأملهم، وتقاعسوا على أثر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار أكبر طموحهم وأملهم هو نيل الراحة والرفاه، وقضاء الوطر بالمتع الدنيوية الدنية، ومباهجها الفانية، مثل: الحصول على بيت مناسب، وغذاء جيد، ومركب مريح، وزوجة جميلة، وإلى آخره).
بالطبع لا تواجد موانع أمام البناء المادي، ولا توضع عوائق أمام سعي الإنسان لاستثمار النِعَم الكبيرة التي حلّلها الله تعالى للإنسان، وجعلتها الأحكام الشرعية ممكنة ومتاحة للإنسان، فالأمور الحلال كثيرة جدا، حتى في الجانب المادي، والدين أتاح الفرصة لاستثمارها ونظم جميع الخطوات والسبل للاستفادة منها.
ولكن هناك أولويات من الأهمية بمكان أن نتنبه لها، وهذه الأولويات يمكن توضيحها بالشكل التالي، يجب الاهتمام أولا بالقضايا المعنوية التي تزيد من قوة شخصية الإنسان، ومن رجاحة عقله، ومن قوة إيمانه، ومن تعلقه الشديد بالأخلاقيات الحسنة، والقيم الصالحة.
السموّ المعنوي أولا
لذا من المهم أن يضاعف الإنسان من طموحه وإصراره لكي يرتقي معنويا أولا، ومن ثم سيأتي الاهتمام بالقضايا المادية بعد ذلك، فلا فائدة في إنسان تُقاس شخصيته وأهميته على شكله الظاهري فقط، وإنما يجب أن يكون ذا جوهر معنوي وفكري وأخلاقي متميز.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(و رغم أن هذا النوع من الطموح والأمل مباح ومشروع في الإسلام، وإن الإسلام لا يمنع أحداً من التمتع الحلال بالنعم الالهية التي خلقت له في هذه الحياة، ولكن ليس هذا هو كل شيء حتى ينحصر الطموح والأمل فيه، بل لابد للإنسان أن يرتفع معنوياً أولاً، ثم يرتقي مادياً ثانياً).
لماذا يجب أن نجعل من الارتقاء المعنوي أولا، ومن ثم الارتقاء المادي، لأن ذلك يجعلنا نهتم ونخطط للنجاح بضمان الفوز بالآخرة، ولهذا لابد أن نجعل من الدنيا نقطة أو محطة انطلاق جيدة تضمن لنا الوصول إلى الآخرة بنجاح، كيف يتم تحقيق هذا الهدف الكبير؟
إن الارتقاء المادي هو الذي يمكّن الإنسان من جعل الدنيا نقطة انطلاق جيدة ومناسبة لضمان النجاح في الآخرة، وذلك من خلال النجاح في اختبار الدنيا الذي يتعرض إليه الإنسان، فكيف ينجح في هذا الاختبار، وما الشيء الذي يضمن وصول الإنسان إلى نتيجة مضمونة في الآخرة، إن الجواب باختصار، حين ترتقي بنفسك معنويا فإنك سوف تضمن النجاح في الآخرة، لاسيما عندما تقوم بالإنفاق الدائم من أموالك في سبيل الله.
فكل ما تؤديه وما تقوم به من أعمال في دنياك، يجب أن يكون في إطار (مرضاة) الله تعالى، والارتقاء المعنوي يسهّل على الإنسان هذه المهمة، فمن يتعب في مجال تطوير نفسه معنويا، ويطور معرفته وعلمه وعقله، سوف يكون قادرا على الفرز بين ما هو مادي وضيع وسريع الزوال، وبين ما هو معنوي يدخل في صميم الخير وعمل الصالحات.
الإمام الشيرازي يوضح هذا الأمر فيقول:
(كن وأنت تعيش في الدنيا طموحاً إلى الآخرة، وذلك بأن تطلب فيما أعطاك الله في الدنيا من مال وجاه وقدرة وما أشبه لكسب الدار الآخرة بأن تنفقه في سبيل الله، وتضعه في مرضاة الله).
تحييد الحرام في كسب الأرزاق
تشير نصوص قرآنية كريمة إلى مشروعية الرزق الحلال، فالإنسان ليس ممنوعا من كسب الرزق، بل على العكس من ذلك هناك آيات مباركة تؤكد هذا الجانب، وتركز عليه، وتطالب الناس بأهمية أن يسعوا في تحصيل أرزاقهم، ولكن هناك سبل واضحة ومسموح بها لتحقيق هذا الهدف، والنقطة الأهم في هذا الجانب، هو تحييد الحرام في كسب الأرزاق.
ويمكن للإنسان أن يسعى نحو الزوجة الصالحة والاقتران بها وتكوين أسرة صالحة، وإنجاب ذرية تغذ السير وراء خطوات الأب والأم في الطريق الصحيح، فلكل إنسان نصيبه (الصالح) في الحياة، وعليه أن يسعى إليه، فهناك سبل توصل الناس إلى أرزاقهم المباركة المحلَّلة، وهذا هو جوهر الارتقاء المعنوي للإنسان.
لذا يرى الإمام الشيرازي:
(إن قول الله تعالى: (لا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، القصد منه هو أن لا تترك الطلب المشروع للرزق الحلال، وطلب الزوجة الصالحة، وطلب الأولاد الصالحين، وطلب المسكن الواسع، والمركب الفاره، وما إلى ذلك، مما احلّه الله تعالى للإنسان).
من هنا فإن الله تعالى يكره الإنسان الكسول، كما أن الدين والأنبياء والأئمة الأطهار طالبوا الناس بأهمية الحركة والبحث عن الرزق، وترك الخمول، وعدم اللجوء إلى العزلة بعيدا عن الناس، بل يجب عليهم البحث والحركة وكسب الرزق بالطرق الحلال التي تضمن لهم رزقا حلالا مباركا، يبتعد عن كل مفاصل الحرام، ولا ينبغي اللجوء إلى الكسل أو الخمول مطلقا. حيث يقول الإمام الشيرازي:
(إن الله سبحانه لا يحب للإنسان الرهبنة في الدنيا، وترك طلب المعاش الحلال، والركون إلى العزلة والخمول).
لا يوجد تناقض بين توفير الأب معيشة كريمة لأسرته، وبين الارتقاء المعنوي، بل على العكس من ذلك، الإنسان مطالب بأن يجدّ ويكدّ ويسعى حتى يوفر لأسرته وأولاده العيش الكريم، ولكن بشرط الابتعاد عن سبل الحرام والانحراف.
هناك تعاليم واضحة لأهل البيت عليهم السلام، توضح كيفية الموازنة بين تحصيل الرزق وتحقيق الارتقاء المعنوي والمادي معا، وهذه الموازنة تشترط في أهم ما تؤكد عليه أن يكون بلوغ الرزق عبر القنوات الحلال، والابتعاد عن السبل والطرائق المحرّمة، ويجب على الإنسان استثمار الحلال لتوفير الحياة الكريمة لأسرته ولنفسه.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(كما ينبغي للإنسان أن يعمل جاهداً على أن يوفر لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، عيشة هانئة ووديعة في الدنيا، فكذلك ينبغي له أن يعمل جاهداً على أن يحقق لنفسه ولأسرته ولمجتمعه آخرة منعمة وكريمة، ولا يتحقق ذلك إلا في ظل تعاليم أهل البيت عليهم السلام واتبّاع سيرتهم الطيبة، ومنهجهم السليم والمستقيم).
وهكذا من المهم على الإنسان أن يسعى نحو الارتقاء والتقدم، ولكن يجب اقتران هذا الارتقاء بالسمو المعنوي أولا، ومن ثم السعي نحو التكامل المادي، فلا توجد مشكلة في تطلعات الإنسان المادية، ولكن يجب أن لا تتقدم على الارتقاء المعنوي، لأن جوهر نجاح الإنسان في الدنيا وفي الآخرة أن يبني نفسه معنويا قبل كل شيء.
اضف تعليق