ان المنظومة التشريعية العراقية تضم بين طياتها الاف التشريعات منذ تأسيس الدولة العراقية ولغاية الان، منها القانون الصريح ومنها القرار التشريعي والمرسوم التشريعي ولهما قوة القانون، بل حتى قبل ذلك لان الاحتلال البريطاني كان قد شرع قوانين خاصة بالعراق قبل تأسيس الدولة العراقية...
ان المنظومة التشريعية العراقية تضم بين طياتها الاف التشريعات منذ تأسيس الدولة العراقية ولغاية الان، منها القانون الصريح ومنها القرار التشريعي والمرسوم التشريعي ولهما قوة القانون، بل حتى قبل ذلك لان الاحتلال البريطاني كان قد شرع قوانين خاصة بالعراق قبل تأسيس الدولة العراقية، حيث اصدر اول تشريع يطبق في العراق عام 1915 يسمى (قانون المناطق العراقية المحتلة لسنة 1915).
وعند امعان النظر في هذه التشريعات نجد ان الغالب الاعم فيها شرع تنفيذاً لأفكار الأنظمة خلال فترة حكمها، وتهدف لحمايتها او لتطبيق إستراتيجيتها في الحكم، لكن هناك ثلاث تشريعات تكاد تكون مختلفة بشكل كامل عن بقية تلك التشريعات من حيث فترة اعداد مسودة تشريعها وآلية كتابتها والجهات التي أسهمت بها وطول فترة كتابتها منذ لحظة الشروع ولغاية الإصدار والتطبيق، وهذه التشريعات هي (1- القانون المدني رقم 40 لسنة 1951 2- قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 3- قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969)، وسأعرض لتميز هذه التشريعات باعتبارها تشريعات الوطن وليس تشريعات الأنظمة الحاكمة على وفق الاتي:
1- القانون المدني العراقي: ان هذا القانون استغرقت فترة كتابته فترة من الزمن ناهزت الثمانية عشر عام حيث شكلت اول لجنة لكتابته عام 1933 وكتبه رجال القانون بوصفهم المهني المستقل وكان من بينهم أساتذة القانون المختصون في القانون المدني وعلى رأسهم العلامة السنهوري ونوري القاضي ومنير القاضي وغيرهم ، وكبار الحكام في محكمة التمييز وكذلك كبار المحامين في العراق آنذاك واستمرت فترة كتابته من عام 1933 وانتهت بإقراره في مجلس النواب عام 1951، وخلال هذه الفترة مرت على العراق عدة حكومات، متباينة فيما بينها في الاتجاه والتوجه فضلا عن الانقلاب العسكري والأزمات الدستورية، الا ان مشروع القانون لم تتأثر كتابته باي منها واستمرت لجانه بالكتابة حتى انضاجه، والذي كان من بين افضل القوانين ليس في العراق وانما في الوطن العربي وعلى وفق ما أشار اليه فقهاء القانون العرب ومنهم احد أساتذة القانون الدكتور عبده جميل غصوب بان القانون المدني العراقي قد خطى خطوة متقدمة وأوسع مما جاء في القانون المدني المصري، الذي سبقه في الصدور في عام 1948، لأنه جمع بين القواعد الفقهية والنصوص القانونية الحديثة التي تضمنها القانون المدني المصري ، كما أشار الدكتور عبدالمجيد الحكيم إلى إن (القانون المدني العراقي أصبح النواة الممهدة لإصدار قانون عربي موحد لأنه استمد أحكامه من الفقه الإسلامي والفقه الغربي الحديث وآلف بينهما وحقق غرضين مهمين الأول : إفساح المجال لأحكام كلية تتركز فيها نظريات عامة، اخصها نظرية الالتزام ، والغرض الثاني : وهو الأهم التمهيد للقانون المدني العربي الموحد).
كما نقل الدكتور الحكيم عن السنهوري قوله (بان القانون المدني العراقي يتميز باتجاه خاص ينفرد به عن القانون المصري وعن سائر القوانين الحديثة فهو أول قانون مدني حديث يتلاقى فيه الفقه الإسلامي والقوانين الغربية الحديثة جنباً إلى جنب بقدرٍ متساوٍ في الكم والكيف، وتعتبر هذه التجربة من أخطر التجارب في تاريخ التقنين الحديث).
كذلك أشار العديد من أساتذة القانون في الوطن العربي إلى أهمية القانون المدني العراقي ومدى تطوره قياساً إلى القوانين النافذة، ومنهم الدكتور إبراهيم بيومي الغانم .
هذه الفترة الطويلة التي كتب فيها قد تمت خلالها دراسته دراسة محكمة، فانتج لنا قانون صمد بوجه المتغيرات السياسية والاجتماعية، وكان مستوعباً لكل التحولات وما زال يمثل العمود الفقري لكل القوانين وعلى درجة عالية من الكفاية التشريعية التي تمنع على المفسر أو المطبق ان يتوسع في الاجتهاد فيه، لان نصوصه تم ضبطها بأسلوب لغوي رصين وبألفاظٍ جزلة واضحة المعنى، بعيدة عن الغموض أو الميوعة التي انعكست ايجاباً على الاحكام القضائية، حيث نرى استقرارا قضائيا في التطبيق المتعلق بمواد القانون المدني، باستثناء بعض الحالات التي صدرت لأسباب لربما لا علاقة لها بنصوصه.
2. قانون الأحوال الشخصية : ان هذا القانون بداية محاولات كتابته كانت منذ عام 1925 وهو العام الذي صدر فيه اول دستور للعراق المسمى (القانون الأساسي)، ويشير المرحوم الدكتور صلاح الدين ناهي الى ان التفكير في اصدار قانون للأحوال الشخصية بدأ بشكل مبكر منذ تاريخ اصدار الدستور الأول للعراق في عام 1925 وليس بتاريخ لاحق عليه.
ثم تبلورت الفكرة واخذت خطاها العملية وتحمس لها وزير العدلية آنذاك احمد مختار بابان ومن بعده خلفة الوزير عمر نظمي، فاصدر امرا وزاريا بتشكيل لجنة لكتابة مدونة الأحوال الشخصية بموجب الامر الوزاري المرقم 135 في 29/1/1945، واستمر عمل هذه اللجنة لسنوات عدة.
وتشكلت لجنة أخرى في النظام الجمهوري في الجمهورية الأولى، حيث قامت وزارة العدل في حكومة العهد الجمهوري بموجب امرها المرقم (560) المؤرخ 7/2/1959 بتشكيل لجنة لإعداد مدونة قانون الأحوال الشخصية، واعتمدت في كتاباته على جهود اللجنة الأولى التي شكلها وزير العدل في العهد الملكي المشار اليها انفاً، وهذا ما أكده قانون الأحوال الشخصية النافذ في الأسباب الموجبة لتشريعه، حيث جاء فيها (وقد وجد ان في تعدد مصادر القضاء واختلاف الاحكام ما يجعل حياة العائلة غير مستقرة وحقوق الفرد غير مضمونة فكان هذا دافعا للتفكير بوضع قانون يجمع فيه اهم الاحكام الشرعية المتفق عليها. وقد تألفت لهذا الغرض لجان حاولت ان تجمع الاحكام الشرعية وتوحدها وتخرج منها بقانون يجمع المتفق عليه من الآراء الا ان تلك اللجان لم تتوصل الى نتيجة مقبولة في تحقيق هذا الغرض).
وخلال هذه الفترة التي ناهزت خمسٍ وثلاثين عاماً، وخلالها تولى الحكم في العراق حكومات متباينة في الاتجاه والاهداف والايدلوجيا وكان بين عهدين ملكي وجمهوري، ومع كل هذا لم يتأثر باتجاهات الأنظمة الحاكمة، مما أضاف عليه صفة امتياز باعتباره قانون للوطن وليس قانون لاي نظام حاكم.
3- قانون العقوبات : ان قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 كان قد صدر بتاريخ 19/تموز/1969 الا ان كتابته والشروع بتنظيم احكامه قد بدأت في عام 1929 أي بعد صدور دستور العراق الاول عام 1925، الا انه لم ينجز بسبب انتحار رئيس الوزراء عبدالمحسن السعدون، ثم اعيدت الكرة مرة أخرى وبمحاولة ثانية في عام 1933، واستمرت محاولات اكمال التشريع حيث تلتها محاولة سنة 1940 وكانت لجنة كتابته تالفت من كبار الحكام ورجال القانون من أساتذة الجامعات في الحقوق ومن كبار المحامين وبعض المختصين في علم الاجتماع والشريعة، ثم تكررت المحاولة عام 1955 واخر محاولة في ظل العهد الملكي كانت عام 1957 حيث تألفت لجنة كتابته برئاسة وزير العدل آنذاك ومجموعة من كبار الحكام ورجال القانون من المحامين وأساتذة الحقوق في الكليات، ويشير احد المؤرخين الى ان تلك اللجنة عقدت اكثر من ستة وعشرين جلسة وضعت فيها مسودة المشروع المؤلف من (376) ثلاثمائة وستة وسبعون مادة اغلبها اقتبست من المسودات التي كتبت فيما سبق، لكن لم يرى النور بسبب احداث 14 تموز عام 1958 وتغير نظام الحكم من الملكي الى جمهوري، الا ان وزارة العدل في العهد الجمهوري استمرت بأعمال اللجنة السابقة المشكلة بالعهد الملكي، واستمر تنقيح مشروع القانون لغاية صدوره عام 1969، وخلال هذه السنوات الطويلة منذ عام 1929 ولغاية 1969 والتي ناهزت الأربعين عام، فان مشروع القانون كتب في ظل اكثر من حكومة وفي العهدين الملكي والجمهوري وتحت ظل اكثر من جمهورية حيث شهد العراق للفترة من عام 1959 ولغاية 1969 ثلاث انقلابات ، وهذا اكسب القانون صفة الثبات والموضعية والرصانة في احكامه وابتعاده عن ان يكون قانون للأنظمة وانما قانون للوطن.
الخلاصة : ان هذه التشريعات تستحق ان نطلق عليها بانها قوانين للوطن وليس للأنظمة التي تصدرتها او توالت على الاشراف عليها، لإنها تميزت بطول فترة اعدادها وانضاجها، وكتبت من قبل المختصين المهنيين غير المؤدلجين او السياسيين ، واستمر عمل التنقيح والاعداد في ظل اكثر من حكومة من حكومات العهد الملكي، وكذلك في ظل العهدين الملكي والجمهوري، وفي ظل ثلاث انقلابات عسكرية، وهذا اضفى عليها صفة التجرد عن الالتصاق او الوسم بانها تمثل منهج وفكر نظام حكم من هذه الأنظمة المتعددة، ووجود اهل الاختصاص الذين اسهموا في كتابتها يعطينا تصورع بانها كتبت بأجواء بعيدة عن المناخ السياسي الملتهب والمصاب بادران التدليس والتحايل والدوافع والبواعث الشخصية والنفعية، ويحق لنا ان نسميها قوانين الوطن وليس قوانين الأنظمة.
اضف تعليق