ترتبط حرية السفر بذات الإنسان وتعبر عن رغبته في اختيار الوجهة التي يرغب بالتوجه إليها، والثابت أن الفرد بإرادته الحرة المختارة يعيّن مواطن سفره وإقامته بلا إملاء عليه من أحد، لهذا تأخذ حرية السفر معنى عميقاً في الإفصاح عن إحدى أهم الحريات الفردية الملازمة للإنسان، وبدونها تتحول الكثير من الحريات إلى مجرد شعارات خاوية على عروشها وبلا معنى ومضمون حقيقي كحرية التجارة مثلاً، فما الطائل مثلاً من الاعتراف للمواطن بحرية العقيدة والتعبير عنها في الوقت الذي يمنع من السفر لممارسة شعائر دينه أو معتقده، وفي الوقت ذاته يبرز حق الإنسان في الهجرة واختيار وطن له ولأفراد أسرته ان كان يتعرض في بلده للاضطهاد أو مخاطر الاعتداء على نفسه أو ماله أو عرضه أو رغب هو بالسفر المؤقت إلى بلد ما والإقامة فيه بعض الوقت.
واليوم نحن بأمس الحاجة في العراق إلى تنظيم قانوني يكفل حرية السفر ويمنح الأفراد مكنة التعبير عن رغباتهم في تغيير مواطن إقامتهم بشكل مؤقت، وهو ما نجد أصوله العامة في الدستور العراقي لعام 2005 الذي كفل للعراقيين في المادة (15) الحق في الحياة والأمن والحرية ومنع بالمادة (19) الحجز الإداري بلا مسوغ أو الحبس والتوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك وفقاً للقوانين النافذة ذات الصلة، وأضاف بموجب المادة (37) قيداً بان لا يجوز التوقيف أو التحقيق مع أحد إلا بموجب قرار قضائي، وفي المادة (44) ضمن الدستور للعراقيين جميعاً حرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه، وأنه لا يجوز نفي العراقي أو إبعاده أو حرمانه من العودة للوطن كما كان الوضع إبان النظام الدكتاتوري السابق الذي اصدر جملة من التشريعات سيئة الصيت ومنها قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (666) لسنة 1980 الذي اسقط بموجبه الجنسية العراقية عن طيف كبير من الشعب العراقي وقام بمصادرة أموالهم وترحيلهم قسراً خارج الوطن ومنع عودتهم إليه، إلا أن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية ألغى القرار المذكور بالمادة (11/هـ).
والنصوص الدستورية أعلاه تعد الأساس القانوني لحرية السفر والتنقل في العراق إلا أنها تحتاج إلى ترجمة عملية على أرض الواقع لتبث فيها الحياة، وهو الأمر الذي يتحقق من خلال توفير الإمكانيات القانونية والمادية اللازمة لتتيح لجميع الأفراد التمتع بحرية السفر وقد نظم قانون جوازات السفر رقم (32) لسنة 1999 ونظام جوازات السفر رقم (2) لسنة 2011 حق العراقيين جميعاً بالحصول على جواز سفر والأوراق اللازمة لمغادرة البلد أو العودة إليه، وقبل أيام معدودة بادر مجلس النواب إلى إقرار قانون جوازات السفر الجديد المزمع نشره في الوقائع العراقية خلال الأيام القليلة القادمة.
ونجد إن حرية السفر مكفولة هي الأخرى بمقتضى المواثيق الدولية إذ ورد النص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 في المادة (13) إذ جاء فيه "لكل فرد الحق في حرية التنقل واختيار محل الإقامة داخل حدود الدولة، كما له الحق في مغادرة أي بلد بما فيه بلده الأصلي أو العودة إليه في أي وقت "وهو الأمر ذاته الذي أكده العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 في المواد 12و13 كما حملت إتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965 في مادتها الخامسة التأكيد على ذلك بعبارات مقاربة، وأشارت الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950 إلى هذه الحرية بالمادة (2) منها والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لعام 1969 بالمادة (22)، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان لعام 1986 بالمادة (2) منه وبالتالي تعد حرية السفر إحدى الحريات الأساسية التي لا غنى عنها في جميع البلدان وليس للسلطات العامة أن تحد منها أو تضيق من نطاقها إلا بالحدود التي تصون المصالح العليا للبلد.
فمثلاً وقبل أيام معدودة أصدرت الهيأة العليا للنزاهة قوائم رافقت حزم الإصلاحات التي تقدم بها رئيس مجلس الوزراء العراقي ووافق عليها البرلمان عرفت بـ"قوائم الممنوعين من السفر"، ونحن بدورنا نتساءل عن دستورية هذه القوائم ومدى قانونيتها، وهل تعد اعتداء على حرية المواطن العراقي في السفر المكفولة وطنياً ودولياً كما لاحظنا أم أنها تعد مشروعة ودستورية ؟.
الأصل الثابت إن كل من يحمل جنسية الدولة يتمتع بحرية التنقل داخل وخارج إقليمها ويحدد وجهة سفره وإقامته بإرادته الحرة المختارة، ويحظر منعه من السفر كون ذلك اعتداء سافر على حرياته الأساسية، إلا إننا وبالرجوع لقوائم الممنوعين من السفر نجد أنهم من الموظفين والوزراء السابقين والحاليين وأعضاء المجالس البلدية والمحلية ورؤساء الوحدات الإدارية، بعبارة أخرى كلهم من الموظفين أو المكلفين بخدمة عامة، ولا يجوز الانتقاص من حرياتهم إلا وفق أحكام القانون النافذ بعد إدانتهم بجريمة معينة وفق قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 أو عند وجود دلائل موثقة تؤيد ارتكابهم إحدى الجرائم الواردة في القانون المذكور.
ولفهم الموضوع أكثر لابد من التمييز بين المتهم منهم والمدان فالأول من صدر بحقه حكم قضائي حاز درجة البتات فلا يجوز أن يسافر خارج البلد لضرورة تنفيذ حكم القضاء والقانون في حقه وفق القوانين النافذة، وهذا المنع يوافق الدستور والقانون ولا يمكن التذرع بأنه يمس حرية السفر لكون المادة (44/و46) أجازتا تنظيم حرية السفر بقانون والحد منها هنا جاء موافقاً لروح الدستور، إلا إن الفئة الثانية وهم المتهمون والذين لم يصدر بحقهم حكم قضائي فلا يجوز المساس بحريتهم بالسفر إلا أن كان قانون الخدمة المدنية أو العسكرية الذي ينظم علاقتهم بالدولة يمنع ذلك خشية التأثير على أسرار الدولة لاسيما العسكرية منها وبخلاف ذلك لا تملك هيأة النزاهة وفق قانونها رقم (30) لسنة 2011 أن تصدر قرار المنع بل عليها أن تعرض الأمر على قاضي التحقيق المختص الذي له أن يقرر ذلك وهنا يتدخل الاختصاص المكاني والنوعي في تحديد القاضي صاحب الاختصاص، فالهيأة جهة تحقيقية لا تملك اختصاصات قضائية من شأنها الحد من حرية الأشخاص وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971، والأمر منوط بالقضاء فقط.
ومما يشار إليه إن القوانين العراقية النافذة أجازت المنع من السفر إلا إنها قيدت ذلك بقيود مغلظة لمنع التعسف باستعمال هذه السلطة الممنوحة أصلاً للقضاء فقط ومن هذه الموارد.
1- وفق أحكام قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المادة (142) يجوز للمدعي أن يستصدر قرار من القضاء المستعجل لمنع المدعى عليه من السفر إذا قامت أسباب جدية ترجح سفره بقصد الفرار وهنا يبرز دور دوائر الدولة المتضررة من الفساد المنسوب لموظفيها، وهيأة النزاهة بوصفها طرف في كل دعوى فساد إداري أو مالي أن تطلب من القاضي منع شخص ما من السفر إن قامت أدلة ترجح سفره بقصد الفرار إلا أن الكلمة الفصل للقضاء.
2- وورد في قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971 منع المتهم بجريمة عقوبتها الإعدام من السفر أن كان هارباً من وجه العدالة وفق أحكام المادة (143) وهذه السلطة ممنوحة لقاض التحقيق المختص حصراً أو محكمة الموضوع.
ومن جانب آخر تضج دائرة جوازات السفر والمطارات والمنافذ الحدودية في العراق بمئات العراقيين الراغبين بالحصول على أوراق السفر اللازمة لمغادرة البلد أو العودة اليه، وبالمقابل يتفنن بعض منتسبي دوائر الدولة المختصة بالإساءة لهم وسوء معاملتهم، كما يلحظ المسافر في المطارات والمعابر الحدودية المعاملة الطيبة من موظفي الدول الأخرى لمواطنيهم والاحترام اللازم الذي يظهرونه لمن يحمل جنسية الدولة لهذا يسارع بعض العراقيين ممن يحملون جواز سفر غير عراقي إلى استعماله للتخلص من الروتين والاضطرار للوقوف لساعات طوال في طوابير مملة للحصول على تأشيرة المغادرة من العراق أو تأشيرة الدخول إلى بلد أجنبي، وهذه السلوكيات الفردية انتهاك صارخ لحقوق وحريات المواطن العراقي وتحدٍ سافر لنصوص الدستور لا سيما المادة (44)، ومع الاعتراف إن ظروف الدولة ليست على وتيرة فمرة تكون طبيعية وأخرى استثنائية يصار إلى وضع قيود على حرية السفر، لاضطرار السلطة التنفيذية لإغلاق الحدود أو المطارات ومحطات سكك الحديد والموانئ، إلا أن كل هذه الإجراءات هي خلاف المعتاد وهي تتنافى مع الدولة المدنية التي تتبنى احترام القانون وتعلو فيها حقوق الأفراد وحرياتهم على كل الاعتبارات وتكرس فيها إمكانيات الدولة المادية والبشرية لإسعاد الإنسان، ليحيى أبناء الشعب في ظل حكم ديمقراطي ومدني متحضر.
ومن كل ما تقدم نستشف بعض الضمانات التي تكفل حرية السفر وهي كالآتي :
1- إنها حرية مقررة بموجب الدستور العراقي والمواثيق الدولية لذا تعد ملزمة للسلطات كافة ولا يجوز النيل أو الانتقاص منها وكل إجراء أو قرار يتخذ بهذا الصدد يوسم بمخالفته للدستور والقانون ويكون معدوم الأثر قانوناً بل قد يثير مسؤولية الشخص الذي اتخذه سواء أكانت مسؤولية سياسية أمام ممثلي الشعب أم مسؤولية جزائية أو إدارية.
2- يمكن الطعن بقرار منع السفر أمام المحاكم المختصة لاسيما محاكم القضاء الإداري كون الحرمان من منح أوراق السفر أو الامتناع من تأشير المغادرة هي قرارات إدارية قابلة للطعن بها وفق أحكام القانون.
3- لا يجوز تقييد حرية السفر إلا بموجب قرار قضائي صادر وفق أحكام القانون لسبب جنائي أو مدني مع التأكيد الالتزام بما ورد في المادة (6) من قانون جوازات السفر.
4- إن كل من يعتدي على حرية الأفراد بالتنقل والسفر يكون مرتكباً لجريمة تنطبق وأحكام قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 وفق أحكام المواد (324/421) عند الاحتجاز بلا سند شرعي أو يكون متهماً باستغلال السلطة والتعسف باستعمالها.
...................................................
اضف تعليق