العلاقة بين الرئيس والمرؤوس في فكر الإمام تأخذ معنى أعمق من مجرد الأمر والتنفيذ بل تتعالى على ذلك ليكون الخضوع للقانون وليس للحاكم كون القاعدة القانونية سماوية وعادلة وضامنة للحقوق ومؤكدة للغايات التشريعية المتمثلة بالتمكين من الحياة الكريمة وما الرئيس أو الحاكم إلا مطبق ليس له من الأمر...
ان الخوض في الموروث التاريخي والحضاري الإسلامي أمر بغاية الصعوبة لاسيما ان تعلق الأمر بالإمام علي (عليه السلام) الذي يعد وبحق التجسيد الواقعي للفضيلة، فلو استعرضنا بعض ما ورد عنه سواء ما سطر في كتاب نهج البلاغة أو ما سواه لصعب توصيف تلك السيرة العطرة التي تعد وبحق سراج منير في التاريخ الإنساني والإسلامي، فقد حرص الإمام (عليه السلام) على وضع الأسس التي تخلص إلى التطبيق العملي للعدالة لتأخذ بعداً واقعياً، بل في سنوات حكمه أخذت الحقوق والحريات مفهوماً جديداً لم يكن معهوداً في الدولة الإسلامية، لا من قبله ولا من بعده، والفضل في ذلك يعود لعاملين أساسيين هما:
1- القواعد القانونية الإلهية التي سنت السنن ووضعت القواعد المتفقة مع الفطرة الإنسانية السليمة والتي خبرها الإمام علي.
2- نهج الإمام علي في فهم النصوص وتطبيقها والذي يكشف عن التربية السماوية التي تتلمذ الإمام عليها منذ ان بعث الله الرسول محمد والى يوم ارتحل والتحق بالرفيق الأعلى.
ومما يشار إليه أن الحقوق والحريات التي تبناها الإمام وأشار إليها في السنة الموروثة عنه سواءً القولية أو العملية أو حتى التقريرية تؤشر الآتي:
1- ان الحقوق والحريات تتسم بشرعية الوجود ووجوب التطبيق كونها تمثل الوحي السماوي فهي صادرة عن الله سبحانه ومن شأنها ان تلبي للإنسان متطلبات حياته وتحقق له الأمن القانوني الذي يبحث عنه.
2- ان القواعد التي قررت الحقوق والحريات أزلية كونها تتجاوز عنصر الزمان والمكان، إذ تصلح للمجتمعات كافة وبمختلف الأوقات لشمولها ولتنوعها ولقدرتها على التطور بما يوازي الحاجات المتجددة وتواجه الظروف المستجدة أياً كان نوعها.
3- قدرة هذه القواعد على استيعاب الحركات الاجتماعية والتنوع الإنساني، إذ حرص الإسلام على كفالة حقوق الفرد المسلم والذمي أي من لا يدين بدين الإسلام على حد سواء وتم تنظيم شؤون الجميع بنحو من الدقة والشمول ومنح الإمام علي لما تقدم زخماً حين دلت الوقائع التاريخية انه لم يميز بالعطاء وحرص على توسيع مظلة الحماية الاجتماعية لتشمل الذمي أسوة بالمسلم.
4- حرص الإمام علي عليه السلام على نبذ كل صور العنصرية والتعصب للطائفة أو العرق أو الدين ونظر بنحو من المساواة للجميع.
5- حرص الإمام علي عليه السلام على انتقاء القادة والولاة والقضاة والعلة فيما تقدم تكمن في إيمانه الراسخ بأن التطبيق العملي للحقوق والحريات في الإسلام لا يكون إلا ان عهد بالقيادة إلى أشخاص أخص صفاتهم الورع والعلم والبعد عن إتباع الهوى.
وتأكيداً لما أوردنا نشير إلى ما صرح به الإمام علي وهو في معرض الحديث عن المساواة بين الناس "أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ. أَلاَ وَإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ، وَهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَيُهِينُهُ عِنْدَ اللهِ، وَلَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اللهُ شُكْرَهُمْ وَكَانَ لِغَيْرِهِ وَدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وَالْأَمُ خَدِين".
ولو أخذنا نماذج من سيرة الإمام علي عليه السلام ولاحظنا مدى اهتمامه البالغ بتكريس الحقوق والحريات على المستوى الفردي والجماعي ألخصها بالآتي:
أولاً: الحق في الحياة: يؤكد أمير المؤمنين ان الحق في الحياة يمثل حرمة لا يمكن انتهاكها بحال من الأحوال بل الاعتداء عليه يمثل أشد الكبائر ويشير في عهده إلى عامله على مصر الصحابي مالك الأشتر حين ولاه أنه على الحاكم التحلي بأجلى صور التقديس للحياة فقال "إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها"
ثانياً: حرمة الحريات العامة والخاصة في نهج أمير المؤمنين: فقد حرص الإمام على الحث بالقول والعمل على أهمية ان يعيش الإنسان حراً وتصان لمصلحته الحريات التي من شأنها ان تشعره بالكرامة البشرية، فقد ورد عنه حظر استعباد الإنسان ويستشف ما تقدم من تتبع سيرته العطرة إذ دأب عليه السلام قبل تسنم مسؤولية الحاكم السياسي للأمة على عتق الرقاب وضمان الحرية لهم، وتوفير سبل العيش الكريم لهؤلاء بتمكينهم من العمل لكسب الرزق، ويؤكد عليه السلام على أهمية التخلص من كل صور العبودية والتبعية للغير لذا يوصي ولده الحسن عليه السلام "لا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً"، وفي ما تقدم يؤشر الدعوة إلى العيش المسؤول في الدولة الإسلامية بان يتحمل الفرد مسؤولية خياراته في الحياة بعيداً عن الإملاء أو الفرض أو الجبر، إذ كفلت له السماء حرية العقيدة والتفكير، والتنقل، والسفر، والعمل، وتكوين الأسرة.
ولعل السمع والطاعة للرئيس، أو العلاقة بين الرئيس والمرؤوس في فكر الإمام عليه السلام تأخذ معنى أعمق من مجرد الأمر والتنفيذ بل تتعالى على ذلك ليكون الخضوع للقانون وليس للحاكم كون القاعدة القانونية سماوية وعادلة وضامنة للحقوق ومؤكدة للغايات التشريعية المتمثلة بالتمكين من الحياة الكريمة وما الرئيس أو الحاكم إلا مطبق ليس له من الأمر شيئاً بل هو مسؤول عن قراراته ويمكن ان يخضع للمحاكمة وتطبق عليه القواعد الانضباطية ذات البعد الإسلامي.
وما قصة والي البصرة عنا ببعيد حين أرسل له الإمام علي كتاباً يعاتبه بشكل كبير كونه لم يحقق الغاية من القدوة الحسنة، فالحاكم الإسلامي ليس سيداً على الرقاب بل هو مجرد مخولاً بإدارة الحياة العامة بما يحقق الغاية الإلهية من الخلافة الإنسانية، أي لإقامة العدل والحرص على الأنصاف حيث يشير تعالى في محكم كتابة المجيد إلى "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ".
ولذا حرص الإمام على التذكير ان قبوله للحكم على المسلمين لا يساوي عنده شيئاً فيشير لنعل يلبسها لا تكاد تساوي شيئاً بأنها أهم لديه من الحرص على التصدي للحكم إلا لغاية عنده تتمثل في قوله لابن عباس حين دخل عليه بذي قار "وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ عليه السلام وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا".
ثالثاً: الحق في حفظ الكرامة الإنسانية للجميع: فما تقدم وبحق يعد الشغل الشاغل للإمام علي عليه السلام فقد حرص طوال سني عمره الشريف على تفقد الفقراء وتذكير الغني بمسؤوليته تجاه الفقير، ونصح الحاكم ان ينهض مسؤوليته تجاه الكافة في حفظ كرامة الفقراء، وأشار في وصيته للصحابي مالك الأشتر النخعي ان "وَاحْفَظْ للهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَـلاَّتِ صَوَافِي الإسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَد، فإِنَّ لِـلأقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِـلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ; فَـلاَ يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لاَ تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لأحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ".
وما تقدم إشارة واضحة لعامله على أهمية ان يلي أمور المسلمين بشعور بالمسؤولية لحمايتهم من كل أشكال المخاطر التي تتهددهم، لا سيما الفقر والبطالة والعوز واليتم والمرض والعجز بوصفها آفات اجتماعية من شأنها ان تنزع الفضيلة عن أفراد المجتمع وتدفع البعض منهم ممن لا يحمل الحصانة النفسية والدينية الكافية نحو الجريمة والانحراف الذي يمثل خطراً لا يمكن التنبؤ بعواقبه.
رابعاً: حق الرعية بالتواصل مع الحاكم: إذ يؤكد عليه السلام هذا الحق في أكثر من موطن أخصها ما ورد في عهده للصحابي مالك الأشتر حين يقول: "ولاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالأمُورِ; وَالاِحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ. وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأمُور".
خامساً: الحق بالقصاص من المخطئ: ان من دواعي استقرار الأمن واطمئنان الإنسان على ماله ونفسه ان يقوم الحاكم بتوقيع العقوبة على الجاني بغض النظر عمن كان الجاني بنحو من العدالة والمساواة، لذا روي ان أمير المؤمنين وضع قواعد قانونية صارمة لم يسبقه إليها أحد بغية استقامة المصلحة العامة، فقد حرص على تطهير المجتمع من الجريمة التي من شأنها ان تشيع الفوضى ويعم الاضطراب ويختل النظام العام، فعلى سبيل المثال جسد الإمام المساواة التامة في توقيع العقوبة في حال الاعتداء على حق الحياة، وورد في عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر قوله "إِيَّاكَ وَاَلدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنَقِمَةٍ وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَةٍ وَلاَ أَجْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَاِنْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ اَلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ اَلْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ اَلدِّمَاءِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اَللَّهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ اَلْعَمْدِ".
سادساً: كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: حرص أمير المؤمنين عليه السلام على كفالة الحقوق للناس جميعا بلا استثناء والزم ان يكون تحصيل الأموال بالطريق القانوني (الشرعي) لذا استرد بعض الأموال التي وهبت لغير المستحق في ظل حكم أسلافه، ولم يكن يقطع أو يمنح العطاء عن الناس لمجرد الرغبة بالمعاقبة لرأيهم السياسي أو الديني، فخصومته مع الأمويين والخوارج رغم انحراف الكثير منهم عن الصواب إلا أنه لم يمنعهم حقوقهم الاقتصادية، أو الاجتماعية لذا يروى ان الأمام علياً عليه السلام كان يرى ان للخوارج في (الفيء) حق شأنهم شأن بقية المسلمين ما لم يظهروا الخروج على الدين باستخدام السلاح ضد المسلمين بغير حق، وقالها في الكثير من احتجاجاته عليهم أن لكم عندنا ثلاث خصال (لا نمنعكم مساجد اللّه أن تصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدأكم بحرب حتى تبدؤونا).
اضف تعليق